تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

يُوقِنُونَ) لمؤمني أهل الكتاب ، نقله السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة واختاره ابن جرير رحمه‌الله ويستشهد لما قال بقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ) [آل عمران : ١٩٩] وبقوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [القصص : ٥٢ ـ ٥٤] وبما ثبت في الصحيحين من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بي ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها» (١) وأما ابن جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة وهي أن الله وصف في أول هذه السورة المؤمنين والكافرين ، فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين كافر ومنافق فكذلك المؤمنون صنّفهم إلى عربي وكتابي.

(قلت) والظاهر قول مجاهد فيما رواه الثوري عن رجل عن مجاهد ورواه غير واحد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال : أربع آيات من أوّل سورة البقرة في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاثة عشر في المنافقين فهذه الآيات الأربع عامات في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي وكتابي من إنسي وجني وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها ، فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والزكاة إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به من قبله من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والإيقان بالآخرة ، كما أنّ هذا لا يصح إلا بذاك وقد أمر الله المؤمنين بذلك كما قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) [النساء : ١٣٦] وقال تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ) [العنكبوت: ٤٦] وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) [النساء : ٤٧] وقال تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [المائدة : ٦٨] وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك فقال تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ١٨٥] وقال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) [النساء : ١٥٢] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على جميع أمر المؤمنين بالإيمان بالله ورسله وكتبه ، لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية وذلك أنهم يؤمنون بما بأيديهم مفصلا فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا به مفصلا كان لهم على ذلك الأجر مرتين ، وأما غيرهم فإنما يحصل له الإيمان بما تقدّم مجملا كما جاء في

__________________

(١) البخاري (علم باب ٣١) ومسلم (إيمان حديث ٢٤١)

٨١

الصحيح «إذا حدّثكم أهل الكتاب فلا تكذبوهم ولا تصدّقوهم ولكن قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم» ولكن قد يكون إيمان كثير من العرب بالإسلام الذي بعث به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتم وأكمل وأعم وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثية فغيرهم يحصل له من التصديق ما ينيف ثوابه على الأجرين اللذين حصلا لهم والله أعلم.

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥)

يقول الله تعالى : (أُولئِكَ) أي المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق من الذي رزقهم الله والإيمان بما أنزل إلى الرسول ومن قبله من الرسل والإيقان بالدار الآخرة ، وهو مستلزم الاستعداد لها من الأعمال الصالحة وترك المحرمات (عَلى هُدىً) أي على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي في الدنيا والآخرة ، وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) أي على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم به (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا. وقال ابن جرير : وأما معنى قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) فإن معنى ذلك فإنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديده إياهم وتوفيقه لهم وتأويل قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله من الفوز بالثواب ، والخلود في الجنات والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب (١). وقد حكى ابن جرير قولا عن بعضهم أنه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) إلى مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الآية ، على ما تقدم من الخلاف ، وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) منقطعا مما قبله وأن يكون مرفوعا على الابتداء وخبره (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) واختار أنه عائد إلى جميع من تقدم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب لما رواه السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما الذين يؤمنون بالغيب فهم المؤمنون من العرب ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم المؤمنون من أهل الكتاب ، ثم جمع الفريقين فقال : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢) وقد تقدم من الترجيح أن ذلك صفة للمؤمنين عامة والإشارة عائدة عليهم والله أعلم.

وقد نقل هذا عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة رحمهم‌الله ، وقال ابن أبي حاتم :

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ١٤٠.

(٢) تفسير الطبري ١ / ١٣٩.

٨٢

حدثنا أبي حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري حدثنا أبي حدثنا ابن لهيعة حدثني عبيد الله ابن المغيرة عن أبي الهيثم واسمه سليمان بن عمرو عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل له : يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجوا ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيأس أو كما قال ، فقال : «أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار ، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ـ إلى قوله ـ (الْمُفْلِحُونَ) هؤلاء أهل الجنة ، قالوا : إنا نرجو أن نكون هؤلاء ثم قال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ) ـ إلى قوله ـ (عَظِيمٌ) هؤلاء أهل النار قالوا : لسنا هم يا رسول الله ، قال : «أجل».

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦)

يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي غطوا الحق وستروه وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك سواء عليهم إنذارك وعدمه فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به. كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦] وقال تعالى في حق المعاندين من أهل الكتاب : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) [البقرة : ١٤٥] ، أي إن من كتب الله عليه الشقاوة فلا مسعد له ومن أضله فلا هادي له ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وبلغهم الرسالة ، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يهمنك ذلك (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد : ٤٠] (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [هود : ١٢] وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول (١). وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بما أنزل إليك وإن قالوا إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق وقد كفروا بما جاءك وبما عندهم مما جاءهم به غيرك فكيف يسمعون منك إنذارا وتحذيرا وقد كفروا بما عندهم من علمك. قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال : نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب وهم الذين قال الله فيهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) [إبراهيم : ٢٨ ـ ٢٩] والمعنى الذي ذكرناه أولا وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة أظهر ، ويفسر ببقية الآيات التي في

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (١ / ٦٥). قال : وأخرجه ابن جريج وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير في السنة وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.

٨٣

معناها ، والله أعلم.

وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثا فقال : حدثنا أبي حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري حدثنا ابن لهيعة حدثني عبد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم عن عبد الله بن عمرو وقال : قيل يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ فنكاد أن نيأس فقال : «ألا أخبركم» ثم قال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) «هؤلاء أهل النار» قالوا : لسنا منهم يا رسول الله ، قال «أجل». وقوله تعالى : (لا يُؤْمِنُونَ) محله من الإعراب أنه جملة مؤكدة للتي قبلها (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) أي هم كفار في كلا الحالين فلهذا أكد ذلك بقوله تعالى : (لا يُؤْمِنُونَ) ويحتمل أن يكون لا يؤمنون خبرا لأن تقديره إن الذين كفروا لا يؤمنون ويكون قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) جملة معترضة ، والله أعلم.

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٧)

قال السدي : ختم الله أي طبع الله وقال قتادة في هذه الآية : استحوذ عليهم الشيطان إذ أطاعوه فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون. وقال ابن جريج : قال مجاهد : ختم الله على قلوبهم قال : الطبع ، ثبتت الذنوب على القلب فحفت به من كل نواحيه حتى تلتقي عليه فالتقاؤها عليه الطبع والطبع الختم. قال ابن جريج : الختم على القلب والسمع. قال ابن جريج : وحدثني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : الران أيسر من الطبع ، والطبع أيسر من الإقفال ، والإقفال أشد ذلك كله. وقال الأعمش : أرانا مجاهد بيده فقال : كانوا يرون أن القلب في مثل هذه ـ يعني الكف ـ فإذا أذنب العبد ذنبا ضمّ منه ـ وقال بإصبعه الخنصر (١) هكذا ـ فإذا أذنب ضم ـ وقال بإصبع أخرى ـ فإذا أذنب ضم ـ وقال بإصبع أخرى هكذا ـ حتى ضم أصابعه كلها ثم قال : يطبع عليه بطابع. وقال مجاهد : كانوا يرون أن ذلك الرين (٢). ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن الأعمش عن مجاهد بنحوه (٣) ، قال ابن جرير : وقال بعضهم إنما معنى قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) إخبار من الله عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق كما يقال إن فلانا أصم عن هذا الكلام إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبرا. قال : وهذا لا يصح لأن الله تعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم (قلت) وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير هاهنا وتأول الآية من خمسة أوجه وكلها ضعيفة جدا ، وما جرأه على ذلك إلا اعتزاله ، لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده

__________________

(١) قال بلسانه : تكلم. وقال بيده وإصبعه : أشار. وكذا بعينه وقدمه إلخ.

(٢) الرّين والران : الغطاء والحجاب الكثيف. وهو أيضا الصدأ يعلو الشيء الجليّ. والدنس. وما غطّى على القلب وركبه من القسوة للذنب بعد الذنب.

(٣) تفسير الطبري ١ / ١٤٥.

٨٤

يتعالى الله عنه في اعتقاده ، ولو فهم قوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : ٥] وقوله : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام : ١١٠] وما أشبه من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاء وفاقا على تماديهم في الباطل وتركهم الحق ، وهذا عدل منه تعالى حسن وليس بقبيح ، فلو أحاط علما بهذا لما قال ما قال والله أعلم.

قال القرطبي (١) : وأجمعت الأمة على أن الله عزوجل قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) [النساء : ١٥٥] وذكر حديث تقليب القلوب «اللهمّ يا مثبّت القلوب ثبت قلوبنا على دينك» وذكر حديث حذيفة الذي في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ، والآخر أسود مرباد (٢) كالكوز مجخيا (٣) لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا» الحديث (٤) ، قال ابن جرير : والحق عندي في ذلك ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ما حدثنا به محمد بن بشار حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا ابن عجلان عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر (٥) صقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى تعلو (٦) قلبه فذلك الران الذي قال الله تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٧). وهذا الحديث من هذا الوجه قد رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة والليث بن سعد وابن ماجة عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد بن مسلم ثلاثتهم عن محمد بن عجلان به. وقال الترمذي : حسن صحيح. ثم قال ابن جرير : فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع فلا يكون للإيمان إليها مسلك ، ولا للكفر عنها مخلص فذلك هو الختم والطبع الذي ذكر في قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) نظير الختم والطبع على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها فكذلك

__________________

(١) تفسير القرطبي ١ / ١٨٧.

(٢) أي اختلط سواده بكدرة.

(٣) مجخّيا : مائلا.

(٤) تفسير القرطبي ١ / ١٨٩ ، وصحيح مسلم (إيمان حديث ٢٣١)

(٥) في الأصل «واستعتب». وما أثبتناه عن الطبري.

(٦) في الطبري «تغلق».

(٧) سورة المطففين ، الآية : ١٤. والحديث في تفسير الطبري ١ / ١٤٥. ورواه أحمد في المسند (ج ٣ ص ١٥٤) عن صفوان بن عيسى بهذا الإسناد.

٨٥

لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلا بعد فض خاتمه وحل رباطه عنها.

واعلم أن الوقف التام على قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) وقوله : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) جملة تامة فإن الطبع يكون على القلب وعلى السمع ، والغشاوة وهي الغطاء تكون على البصر كما قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) يقول : فلا يعقلون ولا يسمعون يقول : وجعل على أبصارهم غشاوة يقول : على أعينهم فلا يبصرون ، وقال ابن جرير (١) : حدثني محمد بن سعد حدثنا أبي حدثني عمي الحسين بن الحسن عن أبيه عن جده عن ابن عباس : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) والغشاوة على أبصارهم. قال : وحدثنا القاسم حدثنا الحسين ، يعني ابن داود وهو سنيد (٢) ، حدثني حجاج ، وهو ابن محمد الأعور ، حدثني ابن جريج قال : الختم على القلب والسمع ، والغشاوة على البصر قال الله تعالى : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) [الشورى : ٢٤] وقال : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) [الجاثية : ٢٣] قال ابن جرير : ومن نصب غشاوة من قوله تعالى (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره : وجعل على أبصارهم غشاوة ويحتمل أن يكون نصبها على الإتباع على محل (وَعَلى سَمْعِهِمْ) كقوله تعالى : (وَحُورٌ عِينٌ) [سورة الواقعة : ٢٢] وقول الشاعر : [الرجز]

علفتها تبنا وماء باردا

حتى شتت همّالة عيناها (٣)

وقال الآخر : [مجزوء الكامل]

ورأيت زوجك في الوغى

متقلدا سيفا ورمحا (٤)

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ١٤٧.

(٢) هو سنيد بن داود ، أبو علي المحتسب المصيصي المدائني المتوفى سنة ١٢٦ ه‍. من الطبقة العاشرة.

أخرج له ابن ماجة. ضعيف. (موسوعة رجال الكتب التسعة ٢ / ١١٣)

(٣) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (زجج ، قلد ، علف) ؛ والأشباه والنظائر ٢ / ١٠٨ ؛ وأمالي المرتضى ٢ / ٢٥٩ ؛ والإنصاف ٢ / ٦١٢ ؛ وأوضح المسالك ٢ / ٢٤٥ ؛ والخصائص ٢ / ٤٣١ ؛ والدرر ٦ / ٧٩ ؛ وشرح الأشموني ١ / ٢٢٦ ؛ وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١١٤٧ ؛ وشرح شذور الذهب ص ٣١٢ ؛ وشرح شواهد المغني ١ / ٥٨ ؛ وهمع الهوامع ٢ / ١٣٠ ؛ وتاج العروس (علف) ؛ والطبري ١ / ١٤٧.

(٤) ويروي أيضا : «يا ليت زوجك قد غدا». والبيت بلا نسبة في الطبري ١ / ١٤٧ ؛ والأشباه والنظائر ٢ / ١٠٨ ؛ وأمالي المرتضى ١ / ٥٤ ؛ والإنصاف ١ / ٥٤ ؛ وخزانة الأدب ٢ / ٢٣١ ؛ والخصائص ٢ / ٤٣١ ؛ وشرح شواهد الإيضاح ص ١٨٢ ؛ وشرح المفصل ٢ / ٥٠ ؛ ولسان العرب (رغب ، زجج) ، مسح ، قلد ، جدع ، جمع ، هدى) ؛ والمقتضب ٢ / ٥١.

٨٦

تقديره وسقيتها ماء باردا ومعتقلا رمحا. لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات ثم عرّف حال الكافرين بهاتين الآيتين ، شرع تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة كل منها نفاق ، كما أنزل سورة براءة فيهم ، وسورة المنافقين فيهم ، وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور تعريفا لأحوالهم لتجتنب ويجتنب من تلبس بها أيضا فقال تعالى :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٩)

النفاق هو إظهار الخير وإسرار الشر ، وهو أنواع : اعتقادي ، وهو الذي يخلد صاحبه في النار. وعملي وهو من أكبر الذنوب كما سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى ، وهذا كما قال ابن جريج : المنافق يخالف قوله فعله ، وسره علانيته ، ومدخله مخرجه ، ومشهده مغيبه ، وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية لأن مكة لم يكن فيها نفاق بل كان خلافه ، من الناس من كان يظهر الكفر مستكرها وهو في الباطن مؤمن ، فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب ، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم وكانوا ثلاث قبائل : بنو قينقاع حلفاء الخزرج ، بنو النضير وبنو قريظة حلفاء الأوس ، فلما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج وقلّ من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف ، بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادع اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة فلما كانت وقعة بدر وأظهر الله كلمته وأعز الإسلام وأهله قال عبد الله بن أبي بن سلول وكان رأسا في المدينة وهو من الخزرج وكان سيد الطائفتين في الجاهلية ، وكانوا قد عزموا على أن يملكوه عليهم فجاءهم الخير وأسلموا واشتغلوا عنه فبقي في نفسه من الإسلام وأهله ، فلما كانت وقعة بدر قال : هذا أمر الله قد توجه (١). فأظهر الدخول في الإسلام ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته وآخرون من أهل الكتاب ، فمن ثم وجد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد نافق لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرها بل يهاجر فيترك ماله وولده وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة.

قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم. وكذا فسرها بالمنافقين من الأوس والخزرج أبو العالية والحسن

__________________

(١) أي أن ملكه قد تولى وانقضى.

٨٧

وقتادة والسدي ولهذا نبه الله سبحانه على صفات المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر ، وهذا من المحذورات الكبار أن يظن بأهل الفجور خير فقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) أي يقولون ذلك قولا ليس وراءه شيء آخر كما قال تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) [المنافقون : ١] أي إنما يقولون ذلك إذا جاءوك فقط لا في نفس الأمر ، ولهذا يؤكدون في الشهادة بإن ولام التأكيد في خبرها. كما أكدوا أمرهم قالوا : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وليس الأمر كذلك ، كما كذبهم الله في شهادتهم وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم بقوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١] وبقوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ).

وقوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر ، يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك ، وأن ذلك نافعهم عنده ، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين كما قال تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) [المجادلة : ١٨] ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) يقول : وما يغرون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون بذلك من أنفسهم كما قال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢] ومن القراء من قرأ (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد (١). وقال ابن جرير : فإن قال قائل : كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟ قيل : لا تمتنع العرب من أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي هو في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف مخادعا ، فكذلك المنافق سمي مخادعا لله وللمؤمنين بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية مما تخلّص به من القتل والسبي والعذاب العاجل وهو لغير ما أظهره مستبطن وذلك من فعله ، وإن كان خداعا للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع ، لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها ويسقيها كأس سرورها ، وهو موردها به حياض عطبها ، ومجرعها به كأس عذابها ، ومزيرها (٢) من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به ، فذلك خديعته نفسه ظنا منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن كما قال تعالى : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) إعلاما منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم عليها ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم

__________________

(١) اختار الطبري قراءة (وما يخدعون). قال : ومن الدلالة أيضا على أن هذه القراءة أولى بالصحة أن الله جلّ ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يخادعون الله والمؤمنين في أول الآية ، فمحال أن ينفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه ، لأن ذلك تضاد في المعنى ، وذلك غير جائز من الله عزوجل. (تفسير الطبري ١ / ١٥٣)

(٢) جعلها زيارة ، وهي هلاك ، سخرية بهم واستهزاء.

٨٨

غير شاعرين ولا دارين ، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون. وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا علي بن المبارك فيما كتب إليّ حدثنا زيد بن المبارك حدثنا محمد بن ثور عن ابن جريج في قوله تعالى : يخادعون الله قال : يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وفي أنفسهم غير ذلك. وقال سعيد عن قتادة (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) نعت المنافق عند كثير : خنع الأخلاق يصدق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله ويصبح على حال ويمسي على غيره ، ويمسي على حال ويصبح على غيره ، ويتكفأ (١) تكفؤ السفينة كلما هبت ريح هبت معها.

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (١٠)

قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الآية (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال : شك (فزادهم الله مرضا) قال : شكا. وقال ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس (في قلوبهم مرض) قال : شكا. وكذلك قال مجاهد وعكرمة والحسن البصري وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة. وعن عكرمة وطاوس (في قلوبهم مرض) يعني الرياء. وقال الضحاك عن ابن عباس (في قلوبهم مرض) قال : نفاق. (فزادهم الله مرضا) قال : نفاقا وهذا كالأول. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (في قلوبهم مرض) قال : هذا مرض في الدين وليس مرضا في الأجساد وهم المنافقون. والمرض الشك الذي دخلهم في الإسلام (فزادهم الله مرضا) قال : زادهم رجسا ، وقرأ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥]. قال : شرا إلى شرهم وضلالة إلى ضلالتهم. وهذا الذي قاله عبد الرحمن رحمه‌الله حسن وهو الجزاء من جنس العمل وكذلك قاله الأولون وهو نظير قوله تعالى أيضا (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد : ١٧] وقوله (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) وقرئ يكذّبون ، وقد كانوا متصفين بهذا وهذا ، فإنهم كانوا كذبة ويكذبون بالغيب يجمعون بين هذا وهذا. وقد سئل القرطبي وغيره من المفسرين عن حكمة كفه عليه الصلاة والسلام عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم (٢) وذكروا أجوبة عن ذلك منها ما ثبت في الصحيحين أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمر رضي الله عنه «أكره أن يتحدث العرب أن محمدا يقتل أصحابه» (٣) ومعنى هذا خشية أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام ولا يعلمون حكمة قتله لهم وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر فإنهم إنما

__________________

(١) تكفّأ : تمايل وتبختر.

(٢) المراد : مع علمه بنفاقهم ، كما في القرطبي ١ / ١٩٨.

(٣) في القرطبي : «معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي» قال : أخرجه البخاري ومسلم.

٨٩

يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم فيقولون : إن محمدا يقتل أصحابه ، قال القرطبي : وهذا قول علمائنا وغيرهم كما كان يعطي المؤلفة قلوبهم مع علمه بسوء اعتقادهم ، قال ابن عطية (١) : وهي طريقة أصحاب مالك ، نص على هذا محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وعن ابن الماجشون. ومنها ما قال مالك : إنما كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه قال القرطبي : وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه وإن اختلفوا في سائر الأحكام ، قال : ومنها ما قال الشافعي إنما منع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم لأن ما يظهرونه يجبّ (٢) ما قبله. ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المجمع على صحته في الصحيحين وغيرهما «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عزوجل» (٣) ومعنى هذا أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهرا فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة وإن لم يعتقدها لم ينفعه جريان الحكم عليه في الدنيا وكونه كان خليط أهل الإيمان (يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى ، وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ ، وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) [الحديد : ١٤] فهم يخالطونهم في بعض المحشر فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) [سبأ : ٥٤] ولم يمكنهم أن يسجدوا معهم كما نطقت بذلك الأحاديث ومنها ما قاله بعضهم أنه إنما لم يقتلهم لأنه لا يخاف من شرهم مع وجوده صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرهم يتلو عليهم آيات مبينات فأما بعده فيقتلون إذا أظهروا النفاق وعلمه المسلمون ، قال مالك : المنافق في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الزنديق اليوم (٤) (قلت) وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر هل يستتاب أم لا ، أو يفرق بين أن يكون داعية أم لا ، أو يتكرر منه ارتداده أم لا ، أو يكون إسلامه ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه؟ على أقوال متعددة موضع بسطها وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام.

[تنبيه] قول من قال : كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين ، إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقا في غزوة تبوك الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك ، عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها ، فأوحى الله إليه أمرهم ، فأطلع على ذلك حذيفة ولعل الكف عن قتلهم كان لمدرك من هذه

__________________

(١) ما يأتي من قول ابن عطية ومالك والشافعي هو أيضا نقل عن القرطبي في تفسيره ١ / ١٩٩.

(٢) جبّ الشيء : قطعه. ومنه الحديث : «إن الإسلام يجبّ ما قبله».

(٣) أخرجه البخاري (إيمان باب ١٧؟ وزكاة باب ١ ؛ وصلاة باب ٢٨ ؛ واستتابة باب ٣) ومسلم (إيمان حديث ٣٢ ؛ وزكاة حديث ١ ؛ وجهاد حديث ١) والترمذي (إيمان باب ١ و ٢ ؛ وتفسير سورة ٨٨) والنسائي (زكاة باب ٣ ؛ وإيمان باب ١٥) وابن ماجة (مقدمة باب ٩ ؛ وفتن باب ١)

(٤) عبارة القرطبي : قال مالك : النفاق في عهد رسول الله هو الزندقة فينا اليوم ؛ فيقتل الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة ؛ وهو أحد قولي الشافعي.

٩٠

المدارك أو لغيرها والله أعلم.

فأما غير هؤلاء فقد قال الله تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) [التوبة : ١٠١] ، وقال تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً. مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) [الأحزاب : ٦٠ ـ ٦١] ففيها دليل على أنه لم يغربهم ولم يدرك على أعيانهم وإنما كان تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم كما قال تعالى (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ. وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد : ٣٠] وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول ، وقد شهد عليه زيد بن أرقم بذلك الكلام الذي سبق في صفات المنافقين ومع هذا لما مات صلّى عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشهد دفنه كما يفعل ببقية المسلمين ، وقد عاتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه فقال : «إني أكره أن تتحدث العرب أن محمدا يقتل أصحابه» وفي رواية في الصحيح «إني خيرت فاخترت» وفي رواية «لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر له لزدت».

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (١٢)

قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الطيب الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) قال : هم المنافقون. أما (لا تفسدوا في الأرض) قال : الفساد هو الكفر والعمل بالمعصية. وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) قال : يعني لا تعصوا في الأرض وكان فسادهم ذلك معصية الله لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته فقد أفسد في الأرض لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة (١). وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة. وقال ابن جريج عن مجاهد (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) قال : إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم لا تفعلوا كذا وكذا قالوا : إنما نحن على الهدى مصلحون (٢) ، وقال وكيع وعيسى بن يونس وعثمان بن علي عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأزدي عن سلمان الفارسي (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) قال سلمان : لم يجئ أهل هذه الآية بعد. وقال ابن جرير (٣) حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم حدثنا عبد الرحمن بن شريك حدثني أبي عن الأعمش عن زيد بن وهب وغيره عن سلمان الفارسي في هذه الآية قال : ما جاء هؤلاء بعد؟ قال ابن جرير :

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ١٥٩.

(٢) تفسير الطبري ١ / ١٦٠.

٩١

يحتمل أن سلمان رضي الله عنه أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادا من الذين كانوا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد ، قال ابن جرير : فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه وتضييعهم فرائضه وشكهم في دينه الذي لا يقبل من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا فذلك إفساد المنافقين في الأرض ، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها. وهذا الذي قاله حسن ، فإن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء كما قال تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال : ٧٣] فقطع الله الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) ثم قال (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) [النساء : ١٤٤ ـ ١٤٥] فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين ، فكأن الفساد من جهة المنافق حاصل لأنه هو الذي غر المؤمنين ، بقوله الذي لا حقيقة له ووالى الكافرين على المؤمنين ، ولو أنه استمر على حاله الأول لكان شره أخف ، ولو أخلص العمل لله وتطابق قوله وعمله لأفلح ونجح ، ولهذا قال تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء كما قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب (١). يقول الله (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) يقول : ألا إن هذا الذي يعتمدونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فسادا.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣)

يقول تعالى وإذا قيل للمنافقين : آمنوا كما آمن الناس أي كإيمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنة والنار وغير ذلك مما أخبر المؤمنين به وعنه ، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر (قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) يعنون ـ لعنهم الله ـ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضي الله عنهم ، قاله أبو العالية والسدي في تفسيره بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة ، وبه يقول الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن

__________________

(١) بهذا الإسناد أخرجه الطبري في تفسيره ١ / ١٦٠.

٩٢

أسلم (١) ، وغيرهم يقولون : أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء؟ والسفهاء جمع سفيه كما أن الحكماء جمع حكيم والحلماء جمع حليم ، والسفيه هو الجاهل الضعيف الرأي القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار ، ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) [النساء : ٥] قال عامة علماء التفسير : هم النساء والصبيان ، وقد تولى الله سبحانه جوابهم في هذه المواطن كلها فقال (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) فأكد وحصر السفاهة فيهم (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) يعني : ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى والبعد عن الهدى.

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٥)

يقول تعالى وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا : آمنا ، وأظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة غرورا منهم للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية ، وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) يعني إذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم ، فضمن (خلوا) معنى انصرفوا لتعديته بإلى ليدل على الفعل المضمر والفعل الملفوظ به. ومنهم من قال «إلى» هنا بمعنى «مع» والأول أحسن ، وعليه يدور كلام ابن جرير (٢). وقال السدي عن أبي مالك : خلوا يعني مضوا ، وشياطينهم : سادتهم وكبراؤهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين. قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) : يعني هم رؤساؤهم في الكفر. وقال الضحاك عن ابن عباس : وإذا خلوا إلى أصحابهم وهم شياطينهم. وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال مجاهد : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين. وقال قتادة (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) قال : إلى رؤوسهم وقادتهم في الشرك والشر ، وبنحو ذلك فسره أبو

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ١٦٢ ؛ والدر المنثور ١ / ٦٨ ـ ٦٩.

(٢) قال ابن جرير : وأما بعض نحويي أهل الكوفة فإنه كان يتأول أن ذلك بمعنى : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا صرفوا خلاءهم إلى شياطينهم ... إلخ. فيزعم أن الجالب «إلى» المعنى الذي دل عليه الكلام : من انصراف المنافقين عن لقاء المؤمنين إلى شياطينهم خالين بهم ، لا قوله «خلوا». وعلى هذا التأويل لا يصلح في موضع «إلى» غيرها ، لتغير الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها. قال : وهذا القول عندي أولى بالصواب ، لأن لكل حرف من حروف المعاني وجها هو به أولى من غيره. (تفسير الطبري ١ / ١٦٥)

٩٣

مالك وأبو العالية والسدي والربيع بن أنس. قال ابن جرير : وشياطين كل شيء مردته ، ويكون الشيطان من الإنس والجن كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [الأنعام : ١١٢] وفي المسند (١) عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «[يا أبا ذرّ] (٢) تعوّذ بالله من شياطين الإنس والجن» فقلت يا رسول أو للإنس شياطين؟ قال «نعم» وقوله (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس : أي إنا على مثل ما أنتم عليه (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) أي إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم (٣). وقال الضحاك عن ابن عباس : قالوا إنما نحن مستهزئون ساخرون بأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك قال الربيع بن أنس وقتادة.

وقوله تعالى جوابا لهم ومقابلة على صنيعهم (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) قال ابن جرير : أخبر تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة في قوله تعالى (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) [الحديد : ١٣] وقوله تعالى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران : ١٧٨] قال : فهذا وما أشبهه من استهزاء الله تعالى ذكره وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به عند قائل هذا القول ومتأول هذا التأويل قال : وقال آخرون بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه والكفر به. قال : وقال آخرون هذا وأمثاله على سبيل الجواب كقول الرجل لمن يخدعه إذا ظفر به : أنا الذي خدعتك ، ولم يكن منه خديعة ولكن قال ذلك إذا صار الأمر إليه. قالوا : وكذلك قوله تعالى (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [آل عمران : ٥٤] و (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) على الجواب ، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء. والمعنى أن المكر والهزء حاق بهم ، وقال آخرون : قوله تعالى (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) وقوله (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢] وقوله (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) [التوبة : ٧٩] و (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] وما أشبه ذلك إخبار من الله تعالى أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء ومعاقبهم عقوبة الخداع ، فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [الشورى : ٤٠] وقوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) فالأول ظلم والثاني عدل ، فهما وإن اتفق لفظهما فقد اختلف معناهما. قال : وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك.

__________________

(١) مسند أحمد ، ج ٥ ص ١٧٨ و ١٧٩ و ٢٦٥.

(٢) الزيادة من المسند.

(٣) الدر المنثور ١ / ٦٩ ؛ والطبري ١ / ١٦٥.

٩٤

قال : وقال آخرون إن معنى ذلك أن الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا خلوا إلى مردتهم قالوا إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به ، وإنما نحن بما نظهر لهم من قولنا لهم [صدقنا بمحمد عليه‌السلام وما جاء به] (١) مستهزئون ، فأخبر تعالى أنه يستهزئ بهم فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا يعني من عصمة دمائهم وأموالهم خلاف الذي لهم عنده في الآخرة يعني من العذاب والنكال. ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله عزوجل بالإجماع ، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك. قال: وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس : حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان حدثنا بشر عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) قال : يسخر بهم للنقمة منهم. وقوله تعالى (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يمدهم يملي لهم. وقال مجاهد : يزيدهم. وقال تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون : ٥٥ ـ ٥٦] وقال : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [الأعراف : ١٨٢ ؛ والقلم : ٤٤] قال بعضهم : كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم نعمة وهي في الحقيقة نقمة وقال تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الأنعام : ٤٤ ـ ٤٥] قال ابن جرير : والصواب نزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم كما قال تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام : ١١٠] والطغيان : هو المجاوزة في الشيء كما قال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) [الحاقة : ١١] وقال الضحّاك عن ابن عباس : في طغيانهم يعمهون في كفرهم يترددون. وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة وبه يقول أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس ومجاهد وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد : في كفرهم وضلالتهم. قال ابن جرير : والعمه : الضلال. يقال : عمه فلان يعمه عمها وعموها إذا ضل ، قال : وقوله (في طغيانهم يعمهون) في ضلالهم وكفرهم الذي غمرهم دنسه وعلاهم رجسه يترددون حيارى ضلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلا (٢). وقال بعضهم : العمى في العين والعمه في القلب ، وقد يستعمل العمى في القلب أيضا قال تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] وتقول عمه الرجل يعمه عموها فهو عمه وعامه وجمعه عمه ، وذهبت إبله العمهاء إذا لم يدر

__________________

(١) الزيادة من الطبري ١ / ١٦٦.

(٢) الطبري ١ / ١٧٠.

٩٥

أين ذهبت.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١٦)

قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) قال : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى ، وقال ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أي الكفر بالإيمان (١) ، وقال مجاهد : آمنوا ثم كفروا وقال قتادة : استحبوا الضلالة على الهدى (٢) ، وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧] وحاصل قول المفسرين فيما تقدم أن المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضلال واعتاضوا عن الهدى بالضلالة وهو معنى قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أي بذلوا الهدى ثمنا للضلالة ، وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الايمان ثم رجع عنه إلى الكفر كما قال تعالى فيهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) [المنافقون : ٣] أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى كما يكون حال فريق آخر منهم فإنهم أنواع وأقسام ولهذا قال تعالى (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أي ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة وما كانوا مهتدين أي راشدين في صنيعهم ذلك. وقال ابن جرير : حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ومن الجماعة إلى الفرقة ومن الأمن إلى الخوف ومن السنة إلى البدعة (٣) ، وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة بمثله سواء (٤).

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١٨)

يقال : مثل ومثل ومثيل أيضا والجمع أمثال ، قال الله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣] وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى ، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى ، بمن استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله وتأنس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي ، وهو مع هذا أصم لا يسمع أبكم لا ينطق أعمى لو كان ضياء لما

__________________

(١) الطبري ١ / ١٧١ ؛ والدر المنثور ١ / ٧٠.

(٢) الدر المنثور ١ / ٧١.

(٣) الطبري ١ / ١٧٢.

(٤) الدر المنثور ١ / ٧١.

٩٦

أبصر ، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك ، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضا عن الهدى واستحبابهم الغي على الرشد. وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع ، والله أعلم.

وقد حكى هذا الذي قلناه الرازي في تفسيره عن السدي ، ثم قال : والتشبيه هاهنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.

وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات واحتج بقوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٨] ، والصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم ، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ثم سلبوه وطبع على قلوبهم ، ولم يستحضر ابن جرير هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) [المنافقون : ٣] فلهذا وجه هذا المثل بأنهم استضاءوا بما أظهروه من كلمة الإيمان أي في الدنيا ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة. قال (١) : وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد ، كما قال (رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [الأحزاب : ١٩] أي كدوران الذي يغشى عليه من الموت ، وقال تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان : ٢٨] وقال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة : ٥] وقال بعضهم : تقدير الكلام : مثل قصتهم كقصة الذين استوقدوا نارا ، وقال بعضهم : المستوقد واحد لجماعة معه. وقال آخرون : الذي هاهنا بمعنى الذين كما قال الشاعر : [الطويل]

وإن الذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد (٢)

قلت : وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع في قوله تعالى : (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) وهذا أفصح في الكلام وأبلغ في الظلام ، وقوله تعالى (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) أي ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور وأبقى لهم ما يضرهم وهو الإحراق والدخان (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق (لا يُبْصِرُونَ) لا يهتدون إلى سبيل خير ولا يعرفونها وهم مع ذلك (صُمٌ) لا يسمعون خيرا (بُكْمٌ) لا يتكلمون بما ينفعهم (عُمْيٌ) في ضلالة وعماية

__________________

(١) الطبري ١ / ١٧٥.

(٢) البيت للأشهب بن رميلة في خزانة الأدب ٦ / ٧ ؛ وشرح شواهد المغني ٢ / ٥١٧ ؛ والكتاب ١ / ١٨٧ ؛ ولسان العرب (فلج ، لذا) ؛ والمؤتلف والمختلف ص ٣٣ ؛ والمحتسب ١ / ١٨٥ ؛ ومعجم ما استعجم ص ١٠٢٨ ؛ والمقاصد النحوية ١ / ٤٨٢ ؛ والمقتضب ٤ / ١٤٦ ؛ والمنصف ١ / ٦٧. وللأشهب أو لحريث بن مخفض في الدرر ١ / ١٤٨ ، وبلا نسبة في الأزهية ص ٩٩ ؛ ورصف المباني ص ٣٤٢.

٩٧

البصيرة كما قال تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة.

ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه

قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة في قوله تعالى (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) زعم أن ناسا دخلوا في الإسلام مقدم نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ثم إنهم نافقوا وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فلما أضاءت ما حوله من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقي منه فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى ، فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال والحرام والخير والشر فبينا هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر (١). وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : أما النور فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك (٢). وقال مجاهد : (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى. وقال عطاء الخراساني في قوله تعالى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) قال : هذا مثل المنافق يبصر أحيانا ويعرف أحيانا ثم يدركه عمى القلب. وقال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو قول عطاء الخراساني. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) إلى آخر الآية ، قال: هذه صفة المنافقين كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا نارا ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون (٣).

وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) قال : هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) فإنما ضوء النار ما أوقدتها ، فإذا خمدت ذهب نورها ، وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص بلا إله إلا الله أضاء له ، فإذا شك وقع في الظلمة. وقال الضحاك : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به. وقال عبد الرزاق عن معمر عن

__________________

(١) الدر المنثور ١ / ٧١ ؛ والطبري ١ / ١٧٦.

(٢) الطبري ١ / ١٧٦.

(٣) الطبري ١ / ١٧٧.

٩٨

قتادة : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) فهي لا إله إلا الله أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وآمنوا في الدنيا ونكحوا النساء وحقنوا دمائهم حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية : إن المعنى أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له في الدنيا فناكح بها المسلمين وغازاهم بها ووارثهم بها وحقن بها دمه وماله فلما كان عند الموت سلبها المنافق لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) يقول : في عذاب إذا ماتوا. وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) أي يبصرون الحق ويقولون به حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفؤوه بكفرهم ونفاقهم فيه ، فتركهم في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى ، ولا يستقيمون على حق. وقال السدي في تفسيره بسنده : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) فكانت الظلمة نفاقهم. وقال الحسن البصري : وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، فذلك حين يموت المنافق فيظلم عليه عمله عمل السوء فلا يجد له عملا من خير عمل به يصدق به قوله لا إله إلا الله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) قال السدي بسنده : صم بكم عمي فهم خرس عمي ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) يقول لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ، ولا يعقلونه ، وكذا قال أبو العالية وقتادة بن دعامة : (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) قال ابن عباس : أي لا يرجعون إلى هدى ، وكذا قال الربيع بن أنس. وقال السدي بسنده (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) إلى الإسلام. وقال قتادة : فهم لا يرجعون ، أي لا يتوبون ولا هم يذكرون ،

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٠)

هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين ، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أخرى فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم (كَصَيِّبٍ) ، والصيب المطر ، قاله ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وقتادة وعطية العوفي وعطاء الخراساني والسدي والربيع بن أنس. وقال الضحاك : هو السحاب. والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات ، وهي الشكوك والكفر والنفاق (ورعد) وهو ما يزعج القلوب من الخوف ، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع كما قال تعالى : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) [المنافقون : ٤] وقال : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ. لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) [التوبة : ٥٦ ـ ٥٧] و (الْبَرْقُ) هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من

٩٩

المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان ولهذا قال (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) أي ولا يجدي عنهم حذرهم شيئا لأن الله محيط بقدرته وهم تحت مشيئته وإرادته كما قال : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) [البروج : ١٧ ـ ٢٠] بهم ثم قال : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) أي لشدته وقوته في نفسه ، وضعف بصائرهم وعدم ثباتها للإيمان.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) يقول : يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين وقال ابن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) أي لشدة ضوء الحق كلما أضاء لهم مشوا فيه (وإذا أظلم عليهم قاموا) أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه وتارة تعرض لهم الشكوك أظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (كلما أضاء لهم مشوا فيه) يقول : كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه وإذا أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) [الحج : ١١] وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) أي يعرفون الحق ويتكلمون به ، فهم في قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر (قاموا) أي متحيرين ، وهكذا قال أبو العالية والحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس والسدي بسنده عن الصحابة وهو أصح وأظهر والله أعلم. وهكذا يكونون يوم القيامة عند ما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم ، فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ وأكثر من ذلك وأقل من ذلك ، ومنهم من يطفأ نوره تارة ويضيء له أخرى ، فيمشي على الصراط تارة ويقف أخرى ، ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخلص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) [الحديد : ١٣] وقال في حق المؤمنين (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [الحديد : ١٢] ، وقال تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم : ٨].

ذكر الحديث الوارد في ذلك

قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) الآية ، ذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن ، أبين

١٠٠