تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ترجمة ابن كثير

هو الإمام الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضو بن كثير بن درع القرشي من بني حصلة. ولد سنة إحدى وسبعمائة كما ذكر هو نفسه في البداية والنهاية (١) ، في قرية «مجدل» من أعمال «بصرى» ، وقد ورد اسمها في البداية والنهاية (٢) : «مجيدل» ولعل ذلك وقع تصحيفا. وتوفي والده الخطيب شهاب الدين في قرية المجدل سنة ٧٠٣ ه‍ ـ كما ذكر المؤلف في البداية والنهاية ضمن ترجمة مستفيضة لوالده (٣). وقد نشأ الإمام بعد وفاة والده في رعاية شقيقه الأكبر الذي قال عنه : «كان لنا شقيقا ، وبنا رفيقا شفوقا» (٤). وقد شهد القرن الثامن الهجري أحداثا عظيمة في ظل دولة المماليك تمثلت بهجوم التتار والمجاعات الكثيرة المتواترة والأوبئة التي حصدت الملايين من الناس ، كما شهد الحروب مع الصليبيين وكثرة المؤامرات والفتن بين الأمراء والوزراء. ومع ذلك كان يسود هذا العصر نشاط علمي بارز تمثل في كثرة المدارس وكثرة التآليف وخاصة التآليف الموسوعية منها.

شيوخه :

درس الإمام ابن كثير على أيدي المئات من الشيوخ ، نذكر منهم : القاسم بن محمد البرزالي مؤرخ الشام (ت ٧٣٩ ه‍) ، والشيخ يوسف بن عبد الرحمن المزي (ت ٧٤٤ ه‍) ، والحافظ ابن القلانسي (ت ٧٢٩ ه‍) ، وإبراهيم بن عبد الرحمن الفزاري (ت ٧٢٩ ه‍) ، ونجم الدين ابن العسقلاني ، وابن الشحنة شهاب الدين الحجار (ت ٧٣٠ ه‍) ، وكمال الدين ابن قاضي شهبة ، والشيخ نجم الدين موسى بن علي بن محمد الجيلي ثم الدمشقي المعروف بابن البصيص (ت ٧١٦ ه‍) ، والحافظ شمس الدين الذهبي (ت ٧٤٨ ه‍) ؛ كما أخذ عن القاسم ابن عساكر وابن الشيرازي وإسحاق الآمدي وغيرهم كثير.

وفاته :

توفي ابن كثير في يوم الخميس ٢٦ شعبان من سنة ٧٧٤ ه‍ ، وخرجت بدمشق

__________________

(١) البداية والنهاية (١٤ / ٢٢)

(٢) البداية والنهاية (١٤ / ٣٢)

(٣) البداية والنهاية (١٤ / ٣٣)

(٤) البداية والنهاية (١٤ / ٤٨)

٣

جموع غفيرة لتشييع جنازته ؛ ودفن بمقرّ الصوفية خارج باب النصر من دمشق حسب وصيّته رحمه‌الله.

مصنّفاته

ترك الحافظ ابن كثير عشرات المؤلفات في شتّى الميادين العلمية ، وبشكل خاص في التاريخ والتفسير والحديث. وإليك أهم مؤلفاته المطبوعة والمخطوطة والمفقودة :

أ ـ المؤلفات المطبوعة :

١ ـ تفسير القرآن الكريم ، وهو الكتاب الذي بين أيدينا : طبع أولا ببولاق على هامش فتح البيان للقنوجي في عشرة أجزاء ، ثم طبع سنة ١٣٠٠ ه‍ في حواشي كتاب «مجمع البيان في مقاصد القرآن» للسيد أبي الطيب صديق بن حسن خان ، وطبع بمطبعة المنار بمصر سنة ١٣٤٣ ه‍ بأمر من السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إمام نجد ، وبهامشه تفسير البغوي. وأعيد طبعه مختصرا باسم «عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير» سنة ١٣٧٥ ه‍ ، في خمسة أجزاء ، عن مخطوطة نفيسة في المكتبة الأزهرية.

وقد اعتمد الحافظ في تفسيره العظيم هذا أسلوب تفسير القرآن بالقرآن ، ثم بالحديث ، وابتعد عن الإسرائيليات وانتقد الاعتماد عليها إلا فيما سمح به الشرع. وفي هذا يقول : «وهذا عندي وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم ، يكبسون به على الناس أمر دينهم» (١). وفي موضع آخر يقول : «والذي نسلكه في هذا التفسير الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية لما فيها من تضييع الزمان ولما اشتمل عليه من الكذب المروّج عليهم» (٢).

٢ ـ البداية والنهاية : مؤلف كبير في التاريخ طبع عدة طبعات ، ولعل أقدم طبعة منه كانت سنة ١٣٤٨ ه‍ بمساعدة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ، بمطبعة كردستان العلمية عن مخطوطة مصورة في مكتبة ولي الدين بالآستانة.

٣ ـ جامع المسانيد والسنن : كتاب ضخم ، طبع لأول مرة في دار الكتب العلمية في بيروت في ٣٨ مجلدا.

٤ ـ الاجتهاد في طلب الجهاد : طبع أولا بمطبعة أبي الهول سنة ١٣٤٧ ه‍ طبعة غير محققة ، ثم طبع سنة ١٤٠١ ه‍ ببيروت بتحقيق عبد الله عبد الرحيم عسيلان.

٥ ـ اختصار علوم الحديث : طبع بمكة سنة ١٣٥٣ ه‍ ، بتصحيح الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة. وطبع بمصر سنة ١٣٥٥ بتحقيق أحمد شاكر ، ثم أعاد شاكر طبعه سنة

__________________

(١) ابن كثير ، عمدة التفسير (ص ١٧)

(٢) ابن كثير ، عمدة التفسير (ص ١٧)

٤

١٣٧٠ مع زيادات في الشرح.

٦ ـ أحاديث التوحيد والردّ على الشرك : ذكره بروكلمان في ملحق تاريخ الأدب العربي (٢ / ٤٨) وأشار إلى أنه طبع في دلهي سنة ١٢٩٧ ه‍.

ب ـ المؤلفات المخطوطة :

٧ ـ طبقات الشافعية : منه نسخة خطية مصورة بمعهد المخطوطات بالقاهرة تحت رقم (٧٨٩) صورت عن نسخة الكتاني بالرباط ، وهناك مخطوطة أخرى في شستربتي رقمها (٣٣٩٠).

ج ـ المؤلفات المفقودة :

٨ ـ التكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل : ورد ذكره في كشف الظنون (١ / ٤٧١) وطبقات المفسرين للداودي (١ / ١١٠) وذيل تذكرة الحافظ للسيوطي (ص ٨٥).

٩ ـ الكواكب الدراري في التاريخ : ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون (٢ / ١٥٢١).

١٠ ـ سيرة الشيخين : ورد ذكره في البداية والنهاية (٧ / ١٨) وذيل تذكرة الحفاظ للسيوطي (ص ٣٦١).

١١ ـ الواضح النفيس في مناقب الإمام محمد بن إدريس : ذكر في كشف الظنون (٢ / ١٨٤٠) وطبقات المفسرين (١ / ١١١).

١٢ ـ كتاب الأحكام : وهو كتاب كبير لم يكمله وصل فيه إلى الحجّ ؛ وقد ورد ذكره باسم «الأحكام الصغرى في الحديث» في كشف الظنون (١ / ٥٥٠).

١٣ ـ الأحكام الكبيرة : ذكر في البداية والنهاية (٣ / ٢٥٣) وطبقات المفسرين (١ / ١١٠).

١٤ ـ تخريج أحاديث أدلة التنبيه في فروع الشافعية : ذكره ابن كثير في البداية والنهاية (٢ / ١٢٥) والبغدادي في هدية العارفين (١ / ٢١٥).

١٥ ـ اختصار كتاب المدخل إلى كتاب السنن للبيهقي : ورد ذكره في اختصار علوم الحديث لابن كثير (ص ٤).

١٦ ـ شرح صحيح البخاري : لم يتمه ؛ ذكر في البداية والنهاية (٣ / ٣ ، ١١ / ٣٦) ، وكشف الظنون (١ / ٥٥٠) وطبقات المفسرين (١ / ١١٠).

١٧ ـ السماع : ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون (٢ / ١٠٠٢).

٥
٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[مقدمة المؤلف]

(قال الشيخ الإمام الأوحد ، البارع الحافظ المتقن ، عماد الدين أبو الفداء : إسماعيل ابن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير ، الشافعي ، رحمه‌الله تعالى ورضي عنه).

الحمد لله الذي افتتح كتابه بالحمد فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٢ ـ ٤] وقال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً. وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) [الكهف : ١ ـ ٥] وافتتح خلقه بالحمد فقال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١] واختتمه بالحمد فقال بعد ما ذكر مآل أهل الجنة وأهل النار (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الزمر : ٧٥] ولهذا قال تعالى : (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص : ٧٠] كما قال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [سبأ : ١] فله الحمد في الأولى والآخرة أي في جميع ما خلق وما هو خالق ، هو المحمود في ذلك كله كما يقول المصلي «اللهم ربنا لك الحمد ، ملء السموات وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد» ولهذا يلهم أهل الجنة تسبيحه وتحميده كما يلهمون النفس أي يسبحونه ويحمدونه عدد أنفاسهم ، لما يرون من عظيم نعمه عليهم ، وكمال قدرته وعظيم سلطانه وتوالي مننه ودوام إحسانه إليهم كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ٩ ، ١٠].

والحمد لله الذي أرسل رسله (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥] وختمهم بالنبي الأمي العربي المكي الهادي لأوضح السبل ، أرسله إلى جميع خلقه من الإنس والجن من لدن بعثته إلى قيام الساعة كما قال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ

٧

وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف : ١٥٨] وقال تعالى : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام : ١٩] فمن بلغه هذا القرآن من عرب وعجم وأسود وأحمر وإنس وجان فهو نذير له ، ولهذا قال تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود : ١٧] فمن كفر بالقرآن ممن ذكرنا فالنار موعده بنص الله تعالى كما قال تعالى : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ) [القلم : ٤٤] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت إلى الأحمر والأسود» قال مجاهد يعني الأنس والجن. فهو صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن مبلغا لهم عن الله تعالى ما أوحاه إليه من هذا الكتاب العزيز الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢] وقد أعلمهم فيه عن الله تعالى أنه ندبهم إلى تفهّمه فقال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] وقال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩] وقال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤].

فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله وتفسير ذلك وطلبه من مظانه وتعلم ذلك وتعليمه كما قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) [آل عمران : ١٨٧] وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران : ٧٧] فذم الله تعالى أهل الكتاب قبلنا بإعراضهم عن كتاب الله المنزل إليهم وإقبالهم على الدنيا وجمعها واشتغالهم بغير ما أمروا به من اتباع كتاب الله.

فعلينا أيها المسلمون أن ننتهي عما ذمهم الله تعالى به ، وأن نأتمر بما أمرنا به من تعلم كتاب الله المنزل إلينا وتعليمه ، وتفهمه ، وتفهيمه ، قال تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ. اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الحديد : ١٦ ـ ١٧] ففي ذكره تعالى لهذه الآية بعد التي قبلها تنبيه على أنه تعالى كما يحيي الأرض بعد موتها كذلك يلين القلوب بالإيمان والهدى بعد قسوتها من الذنوب والمعاصي ، والله المؤمل المسؤول أن يفعل بنا هذا إنه جواد كريم.

فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له ، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه‌الله تعالى : كل ما حكم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو مما فهمه من القرآن. قال الله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ

٨

الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) [النساء : ١٠٥] وقال تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النحل : ٦٤] وقال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل : ٤٤] ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» يعني السنة. والسنة أيضا تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن وقد استدل الإمام الشافعي رحمه‌الله تعالى وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك.

والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه ، فإن لم تجده فمن السنة كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : «فبم تحكم؟ قال : بكتاب الله. قال : فإن لم تجد؟ قال : بسنة رسول الله ، قال : فإن لم تجد؟ قال : أجتهد رأيي ، قال : فضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صدري وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله» (١) وهذا الحديث في المساند والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه. وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين ، والأئمة المهديين ، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا جابر بن نوح حدثنا الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال : قال عبد الله يعني ابن مسعود : والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت ، وأين نزلت. ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته (٢). وقال الأعمش أيضا عن أبي وائل عن ابن مسعود قال : كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن. وقال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل فتعلمنا القرآن والعمل جميعا.

ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وترجمان القرآن ببركة دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له حيث قال : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار وحدثنا وكيع حدثنا سفيان عن الأعمش عن مسلم قال : قال عبد الله يعني ابن مسعود : نعم ترجمان القرآن ابن عباس. ثم رواه عن يحيي بن داود عن إسحاق الأزرق عن سفيان عن الأعمش عن مسلم بن صبيح أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود أنه قال : نعم الترجمان للقرآن (٣) ابن عباس. ثم رواه عن بندار عن جعفر بن عون عن الأعمش به

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند (ج ٥ ص ٢٣٠ ، ٢٣٦ ، ٢٤٢) من حديث معاذ بن جبل.

(٢) تفسير الطبري ١ / ٦٠. وفيه «فيم نزلت» في موضع «فيمن نزلت».

(٣) في الطبري ١ / ٦٥ : «نعم ترجمان القرآن» أي بنص الحديث الذي قبله.

٩

كذلك (١). فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة. وقد مات ابن مسعود رضي الله عنه في سنة اثنتين وثلاثين على الصحيح وعمر بعده عبد الله بن عباس ستا وثلاثين سنة ، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود. وقال الأعمش عن أبي وائل : استخلف عليّ عبد الله بن عباس على الموسم فخطب الناس فقرأ في خطبته سورة البقرة وفي رواية سورة النور ففسرها تفسيرا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا (٢).

ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره عن هذين الرجلين ابن مسعود وابن عباس ، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» رواه البخاري (٣) عن عبد الله بن عمرو لهذا كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قد أصاب يوم اليرموك زاملتين (٤) من كتب أهل الكتاب ، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك.

ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتضاد فإنها على ثلاثة أقسام : أحدها ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح والثاني ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه والثالث ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل فلا نؤمن به ولا نكذبه ويجوز حكايته لما تقدم ، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني. ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في هذا كثيرا. ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك ، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف ، ولون كلبهم ، وعددهم ، وعصا موسى من أي الشجر كانت ، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم ، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة ، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى ، إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دينهم ولا دنياهم. ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز كما قال تعالى : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ، وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ، قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) [الكهف : ٢٢] فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام وتعليم ما ينبغي في مثل هذا ، فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال ضعّف القولين الأولين وسكت عن الثالث ، فدل على صحته إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما ثم أرشد على أن الاطلاع

__________________

(١) في الطبري ١ / ٦٥ : «وحدثني محمد بن بشار ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : حدثنا الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، بنحوه».

(٢) قارن بالطبري : ١ / ٦٠.

(٣) صحيح البخاري (علم باب ٣٨ ؛ جنائز باب ٢٢ ؛ مناقب باب ٥ ؛ أنبياء باب ٥٠ ؛ أدب باب ١٠٩)

(٤) الزاملة : ما يحمل عليه من الإبل وغيرها.

١٠

على عدتهم لا طائل تحته فقال في مثل هذا (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) فإنه ما يعلم ذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه فلهذا قال : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) أي لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب. فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف : أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام وأن تنبه على الصحيح منها وتبطل الباطل وتذكر فائدة الخلاف وثمرته لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته ، فتشتغل به عن الأهم فالأهم. فأما من حكى خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص إذ قد يكون الصواب في الذي تركه ، أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضا ، فإن صحح غير الصحيح عامدا فقد تعمد الكذب ، أو جاهلا فقد أخطأ ، وكذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته أو حكى أقوالا متعددة لفظا ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى فقد ضيع الزمان وتكثر بما ليس بصحيح فهو كلابس ثوبي زور ، والله الموفق للصواب.

[فصل] إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة ، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر فإنه كان آية في التفسير كما قال محمد بن إسحاق : حدثنا أبان بن صالح عن مجاهد قال : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها. وقال ابن جرير (١) : حدثنا أبو كريب حدثنا طلق بن غنام عن عثمان المكي عن ابن أبي مليكة قال : رأيت مجاهدا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه قال : فيقول له ابن عباس : اكتب ، حتى سأله عن التفسير كله. ولهذا كان سفيان الثوري يقول : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به ، وكسعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري ومسروق بن الأجدع وسعيد بن المسيب وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة والضحاك بن مزاحم وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم فتذكر أقوالهم في الآية فيقع في عبارتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافا فيحكيها أقوالا ، وليس كذلك فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو بنظيره ، ومنهم من ينص على الشيء بعينه ، والكل بمعنى واحد في أكثر الأماكن فليتفطن اللبيب لذلك والله الهادي. وقال شعبه بن الحجاج وغيره : أقوال التابعين في الفروع ليست حجة فكيف تكون حجة في التفسير؟ يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم وهذا صحيح. أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة ، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على قول بعض ولا على من بعدهم ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة في ذلك.

فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام لما رواه محمد بن جرير رحمه‌الله تعالى حيث قال :

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٦٥.

١١

حدثنا محمد بن بشار ثنا يحيى بن سعيد ثنا سفيان حدثني عبد الأعلى وهو ابن عامر الثعلبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار» (١) وهكذا أخرجه الترمذي (٢) والنسائي من طرق عن سفيان الثوري ، به. ورواه أبو داود عن مسدد عن أبي عوانة عن عبد الأعلى به مرفوعا. وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، وهكذا رواه ابن جرير أيضا عن يحيى بن طلحة اليربوعي عن شريك عن عبد الأعلى به مرفوعا(٣) ولكن رواه عن محمد بن حميد عن الحكم بن بشير عن عمرو بن قيس الملائي عن عبد الأعلى عن سعيد عن ابن عباس فوقفه (٤) ، وعن محمد بن حميد عن جرير عن ليث عن بكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس من قوله (٥) فالله أعلم ، وقال ابن جرير (٦) : حدثنا العباس بن عبد العظيم العنبري ثنا حبان بن هلال ثنا سهيل أخو حزم ثنا أبو عمران الجوني عن جندب أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ» (٧) وقد روى هذا الحديث أبو داود والترمذي والنسائي من حديث سهيل بن أبي حزم القطعي وقال الترمذي : غريب وقد تكلم بعض أهل العلم في سهيل (٨). وفي لفظ لهم «من قال في كتاب الله برأيه فأصاب فقد أخطأ» أي لأنه قد تكلف ما لا علم له به وسلك غير ما أمر به فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ لأنه لم يأت الأمر من بابه كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار ، وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر ، لكن يكون أخف جرما ممن أخطأ والله أعلم. وهكذا سمى الله القذفة كاذبين فقال : (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) [النور : ١٣] فالقاذف كاذب ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به ولو كان أخبر بما يعلم لأنه تكلف ما لا علم له به والله أعلم. ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به كما روى شعبة عن سليمان عن عبد الله بن مرة عن أبي معمر قال : قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : أي أرض تقلني ، وأي سماء تظلني ، إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : ثنا محمد بن يزيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس : ٣١] فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم. منقطع ، وقال أبو عبيد أيضا : ثنا يزيد عن حميد عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) فقال : هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأبّ؟ ثم رجع إلى

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٥٨.

(٢) سنن الترمذي ، كتاب التفسير ، باب ١.

(٣) أي من قول ابن عباس موقوفا.

(٤) تفسير الطبري ١ / ٥٩.

(٥) في الطبري : «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ». وكذا في الترمذي ، كتاب التفسير ، باب ١.

(٦) عبارة الترمذي : «وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم» هذا ولم نقع على حكمه بأن هذا الحديث غريب.

١٢

نفسه فقال : إن هذا لهو التكلف يا عمر. وقال عبد بن حميد : ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال : كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي ظهر قميصه أربع رقاع فقرأ (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) فقال فما الأب ثم قال : هو التكلف فما عليك أن لا تدريه؟ وهذا كله محمول على أنهما رضي الله عنهما إنما أرادا استكشاف علم كيفية الأب وإلا فكونه نبتا من الأرض ظاهر لا يجهل كقوله تعالى : (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً) [عبس : ٢٨] وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن أيوب عن ابن أبي مليكة أنّ ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها فأبى أن يقول فيها (١) ، إسناده صحيح ، وقال أبو عبيد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن ابن أبي مليكة قال : سأل رجل ابن عباس عن (يوم كان مقداره ألف سنة) فقال له ابن عباس : فما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال له الرجل : إنما سألتك لتحدثني ، فقال ابن عباس : هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما ، فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم.

وقال ابن جرير أيضا : حدثني يعقوب يعني ابن إبراهيم حدثنا ابن علية عن مهدي بن ميمون عن الوليد بن مسلم قال : جاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله فسأله عن آية من القرآن؟ فقال : أحرج عليك إن كنت مسلما إلا ما قمت عني ـ أو قال : أن تجالسني (٢) ـ وقال مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال : إنا لا نقول في القرآن شيئا (٣). وقال الليث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن (٤) وقال شعبة عن عمرو بن مرة قال : سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن فقال : لا تسألني عن القرآن وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شيء يعني عكرمة (٥). وقال ابن شوذب حدثني يزيد بن أبي يزيد قال : كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحرام والحلال وكان أعلم الناس فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع (٦). وقال ابن جرير : حدثني أحمد بن عبدة الضبي حدثنا حماد بن زيد حدثنا عبيد الله بن عمر قال : لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون (٧) القول في التفسير منهم سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وسعيد بن المسيب ونافع. وقال أبو عبيد حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن هشام بن عروة قال : ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله قط. وقال أيوب وابن عون وهشام الدستوائي عن محمد بن سيرين : سألت عبيدة يعني السلماني عن آية من القرآن فقال : ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أنزل

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٦٢.

(٢) تفسير الطبري ١ / ٦٣.

(٣) في الطبري : «أنا لا أقول في القرآن شيئا».

(٤) تفسير الطبري ١ / ٦٢.

(٥) في الطبري : «وإنهم ليغلظون القول في التفسير ... إلخ».

١٣

القرآن ، فاتق الله وعليك بالسداد. وقال أبو عبيد : حدثنا معاذ عن ابن عون عن عبد الله بن مسلم بن يسار عن أبيه قال : إذا حدثت عن الله حديثا فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده. حدثنا هشيم عن مغيرة عن ابراهيم قال : كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه. وقال شعبة عن عبد الله بن أبي السفر قال : قال الشعبي : والله ما من آية إلا وقد سألت عنها ولكنها الرواية عن الله عزوجل. وقال أبو عبيد : حدثنا هشيم حدثنا عمرو بن أبي زائدة عن الشعبي عن مسروق قال : اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله.

فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم فيه. فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه ، ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ، ولا منافاة لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه ، وهذا هو الواجب على كل أحد ، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه لقوله تعالى : (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : ١٨٧] ولما جاء في الحديث الذي روي من طرق : «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيام بلجام من نار». وأما الحديث الذي رواه أبو جعفر بن جرير : حدثنا عباس بن عبد العظيم حدثنا محمد بن خالد بن عثمة حدثنا أبو جعفر بن محمد الزبيري حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : ما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفسر شيئا من القرآن إلا آيا تعدّ (١) ، علمهن إياه جبريل عليه‌السلام ، ثم رواه عن أبي بكر محمد بن يزيد الطرسوسي عن معن بن عيسى عن جعفر بن خالد عن هشام به ، فإنه حديث منكر غريب ، وجعفر هذا هو ابن محمد بن خالد بن الزبير بن العوام القرشي الزبيري قال البخاري : لا يتابع في حديثه. وقال الحافظ أبو الفتح الأزدي : منكر الحديث ، وتكلم عليه الإمام أبو جعفر بما حاصله أن هذه الآيات مما لا يعلم إلا بالتوقيف عن الله تعالى مما وقفه عليها جبرائيل ، وهذا تأويل صحيح لو صح الحديث ، فإن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه ، ومنه ما يعلمه العلماء ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها ، ومنه ما لا يعذر أحد في جهله كما صرح بذلك ابن عباس فيما قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن أبي الزناد قال : قال ابن عباس : التفسير على أربعة أوجه : وجه تعرفه العرب من كلامها ، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه أحد إلا الله. قال ابن جرير : وقد روي نحوه في حديث في إسناده نظر (٢)! حدثني يونس عن عبد الأعلى الصدفي أنبأنا ابن وهب قال : سمعت عمرو بن الحارث يحدث عن الكلبي عن أبي صالح مولى أم هانئ عن ابن عباس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنزل القرآن على أربعة أحرف حلال وحرام ـ لا يعذر أحد بالجهالة به ،

__________________

(١) في الطبري : «إلا آيا بعدد».

(٢) عبارة ابن جرير (تفسير الطبري ١ / ٥٧) : «وقد روي بنحو ما قلنا في ذلك أيضا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خبر في إسناده نظر» وهو حديث يونس الصدفي.

١٤

وتفسير تفسره العرب وتفسير تفسره العلماء ، ومتشابه لا يعلمه إلا الله عزوجل ، ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب» والنظر الذي أشار إليه في إسناده هو من جهة محمد بن السائب الكلبي فإنه متروك الحديث ، لكن قد يكون إنما وهم في رفعه ، ولعله من كلام ابن عباس كما تقدم والله أعلم بالصواب.

مقدمة مفيدة تذكر في أول التفسير قبل الفاتحة

قال أبو بكر بن الأنباري : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن منهال حدثنا همام عن قتادة قال : نزل في المدينة من القرآن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وبراءة والرعد والنحل والحج والنور والأحزاب ومحمد والفتح والحجرات والرحمن والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة والمنافقون والتغابن والطلاق و (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ) [سورة التحريم] إلى رأس العشر وإذا زلزلت و (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) هؤلاء السور نزلت بالمدينة وسائر السور بمكة.

فأما عدد آيات القرآن العظيم فستة آلاف آية ثم اختلف فيما زاد على ذلك على أقوال : فمنهم من لم يزد على ذلك ، ومنهم من قال ومائتي آية وأربع آيات ، وقيل وأربع عشرة آية. وقيل: ومائتان وتسع عشرة آية وقيل : ومائتان وخمس وعشرون آية ، أو ست وعشرون آية ، وقيل : ومائتان وست وثلاثون ، حكى ذلك أبو عمرو الداني في كتابه «البيان». وأما كلماته فقال الفضل بن شاذان عن عطاء بن يسار : سبع وسبعون ألف كلمة وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة. وأما حروفه فقال عبد الله بن كثير عن مجاهد : هذا ما أحصيناه من القرآن وهو ثلاثمائة ألف حرف وأحد وعشرون ألف حرف ومائة وثمانون حرفا ، وقال الفضل بن عطاء بن يسار : ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون ألفا وخمسة عشر حرفا. وقال سلام أبو محمد الحماني أن الحجاج جمع القراء والحفاظ والكتاب فقال : أخبروني عن القرآن كله كم من حرف هو؟ قال : فحسبنا فأجمعوا أنه ثلاثمائة ألف وأربعون ألفا وسبعمائة وأربعون حرفا ، قال : فأخبروني عن نصفه فإذا هو إلى الفاء من قوله في الكهف (وَلْيَتَلَطَّفْ) وثلثه الأول عند رأس مائة آية من براءة والثاني على رأس مائة أو إحدى ومائة من الشعراء ، والثالث إلى آخره ، وسبعه الأول إلى الدال من قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ) [النساء : ٥٥] والسبع الثاني إلى التاء من قوله تعالى في سورة الأعراف : (حَبِطَتْ) (١) والثالث إلى الألف الثاني من قوله تعالى في الرعد : (أُكُلُها) [الرعد : ٣٥] والرابع إلى الألف في الحج من قوله : (جَعَلْنا

__________________

(١) لم يرد في سورة الأعراف لفظ «أولئك حبطت» وإنما السياق التالي من دون «أولئك : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) [الأعراف : ١٤٧]. أما «أولئك حبطت» فقد وردت في سورة التوبة ، الآية : ١٧ و ٦٩.

١٥

مَنْسَكاً) (١) والخامس إلى الهاء من قوله في الأحزاب : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) [الأحزاب : ٣٦] والسادس إلى الواو من قوله تعالى في الفتح : (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) [الفتح : ٦] والسابع إلى آخر القرآن. قال سلام أبو محمد : علمنا ذلك في أربعة أشهر ، قالوا وكان الحجاج يقرأ في كل ليلة ربع القرآن ، فالأول إلى آخر الأنعام والثاني إلى (وَلْيَتَلَطَّفْ) من سورة الكهف ، والثالث إلى آخر الزمر ، والرابع إلى آخر القرآن وقد حكى الشيخ أبو عمرو الداني في كتابه (البيان) خلافا في هذا كله فالله أعلم.

وأما (التحزيب والتجزئة) فقد اشتهرت الأجزاء من ثلاثين كما في الربعات بالمدارس وغيرها وقد ذكرنا فيما تقدم الحديث الوارد في تحزيب الصحابة للقرآن والحديث في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجة وغيرهم عن أوس بن حذيفة أنه سأل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته كيف تحزبون القرآن؟ قالوا ثلث وخمس وسبع وتسع وأحد عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل حتى تختم.

[فصل] واختلف في معنى السورة مما هي مشتقة فقيل من الإبانة والارتفاع قال النابغة : [الطويل]

ألم تر أن الله أعطاك سورة

ترى كل ملك دونها يتذبذب (٢)

فكأن القارئ ينتقل بها من منزلة إلى منزلة. وقيل لشرفها وارتفاعها كسور البلدان ، وقيل : سميت سورة لكونها قطعة من القرآن وجزءا منه مأخوذ من أسآر الإناء وهو البقية. وعلى هذا فيكون أصلها مهموزا. وإنما خففت الهمزة فأبدلت الهمزة واوا لانضمام ما قبلها ، وقيل لتمامها وكمالها لأن العرب يسمون الناقة التامة سورة (قلت) ويحتمل أن يكون من الجمع والإحاطة لآياتها كما يسمى سور البلد لإحاطته بمنازله ودوره. وجمع السورة سور بفتح الواو ، وقد يجمع على سورات وسورات ، وأما الآية فمن العلامة على انقطاع الكلام الذي قبلها عن الذي بعدها وانفصالها أي هي بائنة عن أختها ومنفردة قال الله تعالى : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ) [البقرة : ٢٤٨] وقال النابغة : [الطويل]

توهمت آيات لها فعرفتها

لستة أعوام وذا العام سابع (٣)

وقيل لأنها جماعة حروف من القرآن وطائفة منه كما يقال : خرج القوم بآياتهم أي بجماعاتهم. قال الشاعر : [الطويل]

__________________

(١) اللفظ «جعلنا منسكا» ورد مرتين في سورة الحج ، في الآية ٣٤ والآية ٦٧.

(٢) البيت للنابغة في ديوانه ص ٧٣ ؛ ولسان العرب (سور) ؛ وتهذيب اللغة ١٣ / ٤٩ ؛ وجمهرة اللغة ص ١٧٤ ، وديوان المعاني ١ / ١٥ ؛ وتاج العروس (سور)

(٣) البيت للنابغة في ديوانه ص ٣١ ؛ وخزانة الأدب ٢ / ٤٥٣ ؛ وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٤٧ ؛ والصاحبي في فقه اللغة ص ١١٣ ؛ والكتاب ٢ / ٨٦ ؛ ولسان العرب (عشر) ؛ والمقاصد النحوية ٣ / ٤٠٦.

١٦

خرجنا من النقبين لا حيّ مثلنا

بآيتنا نزجي اللّقاح المطافلا (١)

وقيل سميت آية لأنها عجب يعجز البشر عن التكلم بمثلها قال سيبويه : وأصلها أيية مثل أكمة وشجرة ، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا فصارت آية بهمزة بعدها مدة وقال الكسائي أصلها آيية على وزن آمنة فقلبت ألفا ثم حذفت لالتباسها وقال الفراء : أصلها أيية بتشديد الياء الأولى فقلبت ألفا كراهية التشديد فصارت آية وجمعها آي وآيات وآياي. وأما الكلمة فهي اللفظة الواحدة وقد تكون على حرفين مثل ما ولا ونحو ذلك. وقد تكون أكثر ، وأكثر ما تكون عشرة أحرف مثل (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) و (أَنُلْزِمُكُمُوها فَأَسْقَيْناكُمُوهُ). وقد تكون الكلمة الواحدة آية مثل والفجر والضحى والعصر وكذلك ألم وطه ويس وحم في قول الكوفيين وحم عسق عندهم كلمتان وغيرهم لا يسمي هذه آيات بل يقول هذه فواتح السور وقال أبو عمرو الداني لا أعلم كلمة هي وحدها آية إلا قوله تعالى : (مُدْهامَّتانِ) بسورة الرحمن.

[فصل] قال القرطبي : أجمعوا على أنه ليس في القرآن شيء من التراكيب الأعجمية ، وأجمعوا أن فيه أعلاما من الأعجمية كإبراهيم ونوح ولوط واختلفوا هل فيه شيء من غير ذلك بالأعجمية فأنكر ذلك الباقلاني والطبري وقالا : ما وقع فيه مما يوافق الأعجمية فهو من باب ما توافقت فيه اللغات.

__________________

(١) البيت لبرج بن مسهر الطائي في لسان العرب (أيا) ؛ ومقاييس اللغة ١ / ١٦٩ ؛ وتاج العروس (أيي) ؛ وللبرجمي في لسان العرب (قفف) ؛ وتاجر العروس (قفف)

١٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الفاتحة

يقال لها الفاتحة أي فاتحة الكتاب خطا وبها تفتتح القراءة في الصلوات ، ويقال لها أيضا أم الكتاب عند الجمهور ، ذكره أنس ، والحسن وابن سيرين كرها تسميتها بذلك ، قال الحسن وابن سيرين : إنما ذلك اللوح المحفوظ ، وقال الحسن : الآيات المحكمات هن أم الكتاب ، ولذا كرها أيضا أن يقال لها أم القرآن وقد ثبت في الصحيح عند الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم» ويقال لها (الحمد) ويقال لها (الصلاة) لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ربه «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله : حمدني عبدي» الحديث. فسميت الفاتحة صلاة لأنها شرط فيها ويقال لها (الشفاء) لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعا «فاتحة الكتاب شفاء من كل سم» ويقال لها (الرقية) لحديث أبي سعيد في الصحيح حين رقى بها الرجل السليم فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وما يدريك أنها رقية»؟ وروى الشعبي عن ابن عباس أن سماها (أساس القرآن) قال : وأساسها بسم الله الرحمن الرحيم وسماها سفيان بن عيينة (بالواقية) وسماها يحيى بن أبي كثير (الكافية) لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة «أم القرآن عوض من غيرها وليس من غيرها عوض منها» ويقال لها سورة الصلاة والكنز ، ذكرهما الزمخشري في كشافه.

وهي مكية قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية ، وقيل مدنية قاله أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري ويقال نزلت مرتين : مرة بمكة ومرة بالمدينة ، والأول أشبه لقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) [الحجر : ٨٧] والله تعالى أعلم. وحكى أبو الليث السمرقندي أن نصفها نزل بمكة ونصفها الآخر نزل بالمدينة وهو غريب جدا ، نقله القرطبي عنه ، وهي سبع آيات بلا خلاف ، وقال عمرو بن عبيد : ثمان ، وقال حسين الجعفي : ستة ، وهذان القولان شاذان وإنما اختلفوا في البسملة هل هي آية مستقلة من أولها كما هو عند جمهور قراء الكوفة وقول جماعة من الصحابة والتابعين وخلق من الخلف أو بعض آية أو لا تعد من أولها بالكلية كما هو قول أهل المدينة من القراء والفقهاء على ثلاثة أقوال كما سيأتي تقريرها في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

قالوا : وكلماتها خمس وعشرون كلمة ، وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفا. قال البخاري في أول كتاب التفسير وسميت أم الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف ويبدأ بقراءتها في الصلاة ،

١٨

وقيل : إنما سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته. قال ابن جرير : والعرب تسمي كل جامع أمرا أو مقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع : أمّا ، فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ أم الرأس ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أمّا ، واستشهد بقول ذي الرمة [الطويل].

على رأسه أمّ لنا نقتدي بها

جماع أمور لا نعاصي لها أمرا (١)

 ـ يعني الرمح ـ قال : وسميت مكة أم القرى لتقدمها أمام جميعها وجمعها ما سواها ، وقيل لأن الأرض دحيت من تحتها. ويقال لها أيضا : الفاتحة لأنها تفتتح بها القراءة وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الإمام (٢) وصح تسميتها بالسبع المثاني ، قالوا : لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة ، وإن كان للمثاني معنى آخر كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا ابن أبي ذئب وهاشم بن هاشم (٤) عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في أم القرآن : «هي أم القرآن وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم» ثم رواه عن إسماعيل بن عمر عن ابن أبي ذئب به. وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (٥) : حدثني يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني» وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد حدثنا محمد بن غالب بن حارث ، حدثنا إسحاق بن عبد الواحد الموصلي ، حدثنا المعافى بن عمران عن عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الحمد لله رب العالمين سبع آيات : بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن ، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم ، وهي أم الكتاب ، وفاتحة الكتاب» وقد رواه الدارقطني أيضا عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه ، أو مثله ، وقال : كلهم ثقات. وروى البيهقي عن علي وابن عباس وأبي هريرة أنهم فسروا قوله تعالى (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) بالفاتحة وأن البسملة هي الآية السابعة منها وسيأتي تمام هذا عند البسملة. وقد روى الأعمش عن إبراهيم قال : قيل لابن مسعود : لم لم تكتب الفاتحة في مصحفك؟ فقال : لو كتبتها لكتبتها

__________________

(١) الطبري ١ / ٧٤. وقد روى ثلاثة أبيات هي :

وأسمر قوّام إذا نام صحبتي

خفيف الثياب لا تواري له أزرا

على رأسه أم لنا نقتدي بها

جماع أمور لا نعاصي لها أمرا

إذا نزلت قيل أنزلوا وإذا غدت

غدت ذات بزريق ننال بها فخرا

(٢) المصحف الإمام هو مصحف عثمان رضي الله عنه.

(٣) المسند ج ٣ ص ٤٥٩.

(٤) في المسند : «هاشم بن القاسم».

(٥) تفسير الطبري ١ / ٧٤.

١٩

في أول كل سورة ، قال أبو بكر بن أبي داود : يعني حيث يقرأ في الصلاة ، قال : واكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها وقد قيل : إن الفاتحة أول شيء أنزل من القرآن كما ورد في حديث رواه البيهقي في دلائل النبوة ونقله الباقلاني أحد أقوال ثلاثة وقيل : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) كما في حديث جابر في الصحيح وقيل : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) وهذ هو الصحيح كما سيأتي تقريره في موضعه والله المستعان.

ذكر ما ورد في فضل الفاتحة

قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه‌الله تعالى في مسنده (١) حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال : كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم أجبه حتى صليت ، قال : فأتيته فقال : «ما منعك أن تأتيني»؟ قال : قلت : يا رسول الله إني كنت أصلي قال : ألم يقل الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) [الأنفال : ٢٤] ثم قال : «لأعلمنك (٢) أعظم سورة في القرآن قيل أن تخرج من المسجد» قال : فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت : يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قال : «نعم (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» وهكذا رواه البخاري عن مسدد وعلي بن المديني ، كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان به ، ورواه في موضع آخر من التفسير ، وأبو داوود والنسائي وابن ماجة من طرق عن شعبة به ، ورواه الواقدي عن محمد بن معاذ الأنصاري عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى عن أبيّ بن كعب فذكر نحوه. وقد وقع في الموطأ (٣) للإمام مالك بن أنس رحمه‌الله ما ينبغي التنبيه عليه فإنه رواه مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي : أن أبا سعيد مولى عامر بن كريز أخبرهم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي في المسجد فلما فرغ من صلاته لحقه قال فوضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على يدي وهو يريد أن يخرج من باب المسجد ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأرجو أن لا تخرج من باب المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها» قال أبي رضي الله عنه : فجعلت أبطئ في المشي رجاء ذلك ثم قلت : يا رسول الله ما السورة التي وعدتني؟ قال : «كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال : فقرأت عليه (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) حتى أتيت على آخرها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هي هذه السورة وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت» فأبو سعيد هذا ليس بأبي سعيد بن المعلى كما اعتقده ابن الأثير في

__________________

(١) المسند ج ٥ ص ٣٣٤.

(٢) المراد : لأعلمنك من أمرها ما لم تكن تعلمه قبل ذلك ، وإلا فقد كان عالما بالسورة وحافظا لها.

(٣) الموطأ ، كتاب الصلاة ، حديث ٣٧ (باب ما جاء في أم القرآن)

٢٠