تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير سورة البقرة

[ذكر ما ورد في فضلها]

قال الإمام أحمد حدثنا عارم حدثنا معتمر عن أبيه عن رجل عن أبيه عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «البقرة سنام القرآن وذروته. نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا واستخرجت (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) من تحت العرش فوصلت بها أو فوصلت بسورة البقرة ، ويس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له واقرءوها على موتاكم» (١) انفرد به أحمد. وقد رواه أحمد أيضا عن عارم عن عبد الله بن المبارك عن سليمان التيمي عن أبي عثمان ـ وليس بالنهدي ـ عن أبيه عن معقل بن يسار قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اقرءوها على موتاكم» يعني يس ـ فقد تبين بهذا الإسناد معرفة المبهم في الرواية الأولى. وقد أخرج هذا الحديث على هذه الصفة في الرواية الثانية أبو داود والنسائي وابن ماجة ، وقد روى الترمذي من حديث حكيم بن جبير وفيه ضعف عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي» (٢) وفي مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا تجعلوا بيوتكم قبورا فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان» (٣) وقال الترمذي : حسن صحيح وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثني ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه» (٤) سنان بن سعد ويقال بالعكس ، وثقه ابن معين ، واستنكر حديثه أحمد بن حنبل وغيره. وقال أبو عبيد : حدّثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن أبي الأحوص عن عبد الله ـ يعني ابن مسعود ـ رضي الله عنه قال : إن الشيطان يفرّ من البيت يسمع فيه سورة البقرة. ورواه النسائي في «اليوم والليلة» وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث شعبة ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن كامل حدثنا أبو

__________________

(١) المسند ج ٧ ص ٢٨٦.

(٢) الترمذي ، ثواب القرآن باب ٢.

(٣) هذا لفظ الترمذي. ولفظ أحمد في المسند (ج ٣ ص ١٢٨) : «لا تجعلوا بيوتكم مقابر ، فإن الشيطان يفرّ من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة».

(٤) الدر المنثور ١ / ٤٩.

٦١

إسماعيل الترمذي حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال حدثني أبو بكر بن أبي أويس عن سليمان بن بلال عن محمد بن عجلان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا ألفين أحدكم يضع إحدى رجليه على الأخرى يتغنى (١) ويدع سورة البقرة يقرؤها فإن الشيطان يفر من البيت تقرأ فيه سورة البقرة وإن أصفر (٢) البيوت الجوف الصفر من كتاب الله» (٣) وهكذا رواه النسائي في «اليوم والليلة» عن محمد بن نصر عن أيوب بن سليمان به. وروى الدارمي في مسنده عن ابن مسعود قال : ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط (٤). وقال إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة وإن لكل شيء لبابا وإن لباب القرآن المفصل. وروى أيضا من طريق الشعبي قال : قال عبد الله بن مسعود : من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة ، أربع من أولها وآية الكرسي ، وآيتان بعدها ، وثلاث آيات من آخرها ، وفي رواية : لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ، ولا شيء يكرهه ، ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق. وعن سهل بن سعد قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن البقرة وإن من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام» رواه أبو القاسم الطبراني وأبو حاتم وابن حبان في صحيحه وابن مردويه من حديث الأزرق بن علي حدثنا حسان بن إبراهيم حدثنا خالد بن سعيد المدني عن أبي حازم عن سهل به. وقد روى الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث عبد الحميد بن جعفر عن سعيد المقبري عن عطاء مولى أبي أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثا وهم ذوو عدد فاستقرأهم فاستقرأ كل واحد منهم ما معه من القرآن فأتى على رجل من أحدثهم سنا فقال : ما معك يا فلان؟ فقال : معي كذا وكذا وسورة البقرة. فقال : أمعك سورة البقرة؟ قال نعم قال : اذهب فأنت أميرهم» فقال رجل من أشرافهم : والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا أني خشيت أن لا أقوم بها. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «تعلموا القرآن فاقرأوه وأقرئوه فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب محشو مسكا يفوح ريحه في كل مكان ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه كمثل جراب وكىء على مسك» هذا لفظ رواية الترمذي (٥) ثم قال هذا حديث حسن ثم رواه من

__________________

(١) في الدر المنثور «يتعنّى» بالعين المهملة وهو الصواب.

(٢) أصفر البيوت : أخلاها. وبيت صفر : خال. وصفر اليدين : خالي اليدين.

(٣) وفي الدر المنثور : أخرجه ابن الضريس والنسائي وابن الأنباري في المصاحف والطبراني في الأوسط والصغير وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان بسند ضعيف عن ابن مسعود.

(٤) ورواه السيوطي بأطول من هذا وباختلاف يسير ، قال : وأخرجه الدارمي ومحمد بن نصر وابن الضريس والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان.

(٥) الترمذي (ثواب القرآن ، باب ٢). وقوله : وكىء أي ربط. وأصل الوكاء : خيط يربط به في القربة بعد ملئها.

٦٢

حديث الليث عن سعيد عن عطاء مولى أبي أحمد مرسلا (١) فالله أعلم. قال البخاري : وقال الليث حدثني يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال : بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة ـ وفرسه مربوطة عنده ـ إذ جالت الفرس ، فسكت فسكنت ، فقرأ فجالت الفرس ، فسكت فسكنت ثم قرأ فجالت الفرس ، فانصرف ، وكان ابنه يحيى قريبا منها ـ فأشفق أن تصيبه فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها ، فلما أصبح حدّث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اقرأ يا ابن حضير» قال : قد أشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريبا فرفعت رأسي وانصرفت إليه فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها قال «وتدري ما ذاك؟» قال لا قال «تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم» وهكذا رواه الإمام العالم أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن عن عبد الله بن صالح ، ويحيى بن بكير عن الليث به. وقد روي من وجه آخر عن أسيد بن حضير كما تقدم والله أعلم. وقد وقع نحو من هذا لثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه وذلك فيما رواه أبو عبيد حدثنا عباد بن عباد عن جرير بن حازم عن عمه جرير بن يزيد أن أشياخ أهل المدينة حدّثوه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل له : ألم تر ثابت بن قيس بن شماس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح قال «فلعله قرأ سورة البقرة» قال : فسألت ثابتا فقال : قرأت سورة البقرة» وهذا إسناد جيد إلا أن فيه إبهاما ثم هو مرسل والله أعلم.

(ذكر ما ورد في فضلها مع آل عمران)

قال الإمام أحمد : حدّثنا أبو نعيم حدّثنا بشر بن مهاجر حدّثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : كنت جالسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسمعته يقول «تعلموا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة» (٢) قال : ثم سكت (٣) ساعة ثم قال «تعلموا سورة البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان (٤) يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان (٥) أو فرقان من طير صوّاف (٦) وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول له : هل تعرفني؟ فيقول : ما أعرفك فيقول : أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك ، وإن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة ، فيعطى الملك بيمينه

__________________

(١) وزاد الترمذي هنا أن الليث «لم يذكر فيه عن أبي هريرة».

(٢) لا يستطيعها البطلة : لا يقدر على تحصيلها المبطلون أو أهل الباطل. وفي صحيح مسلم : قال معاوية ابن سلام : بلغني أن البطلة السحرة.

(٣) مسند أحمد «مكث» وهو الصواب.

(٤) سميتا الزهراوين لنورهما وهدايتها وعظيم أجرهما.

(٥) الغمامة والغياية بمعنى. وهما كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة وغبره وغيرهما.

(٦) الفرقان : الجماعتان أو القطيعان ، واحدهما فرق. وقوله : من طير صوّاف ، جمع صافة وهي من الطيور ما يبسط أجنحته في الهواء.

٦٣

والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار ويكسى والداه حلّتين لا يقوم لهما أهل الدنيا فيقولان: بم كسينا هذا؟ فيقال : بأخذ ولدكما القرآن ، ثم يقال له : اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها فهو في صعود ما دام يقرأ هذّا كان (١) أو ترتيلا» (٢) وروى ابن ماجة من حديث بشر بن المهاجر بعضه (٣) ، وهذا إسناد حسن على شرط مسلم فإن بشرا هذا خرج له مسلم ووثقه ابن معين وقال النسائي : ما به بأس ، إلا أن الإمام أحمد قال فيه : هو منكر الحديث قد اعتبرت أحاديثه فإذا هي تأتي بالعجب. وقال البخاري : يخالف في بعض حديثه. وقال أبو حاتم الرازي : يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن عدي : روى ما لا يتابع عليه. وقال الدارقطني : ليس بالقوي. (قلت) ولكن لبعضه شواهد فمن ذلك حديث أبي أمامة الباهلي. قال الإمام أحمد : حدّثنا عبد الملك بن عمرو حدّثنا هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلام عن أبي أمامة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «اقرءوا القرآن فإنه شافع لأهله يوم القيامة اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أهلهما» يوم القيامة ثم قال «اقرءوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة» (٤) وقد رواه مسلم في الصلاة من حديث معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام عن جده أبي سلام ممطور الحبشي عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي به الزهراوان : المنيرتان ، والغياية : ما أظلك من فوقك ، والفرق : القطعة من الشيء ، والصواف المصطفة المتضامة ، والبطلة السحرة ، ومعنى لا تستطيعها أي لا يمكنهم حفظها وقيل لا تستطيع النفوذ في قارئها والله أعلم. ومن ذلك حديث النواس بن سمعان قال الإمام أحمد (٥) : حدّثنا يزيد بن عبد ربه حدّثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير قال : سمعت النواس بن سمعان الكلابي يقول سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمهم سورة البقرة وآل عمران» وضرب لهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال «كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق (٦) كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما» ورواه مسلم (٧) عن

__________________

(١) هذّ القرآن : أسرع في قراءته ، وهو غير محمود.

(٢) الحديث رواه أحمد في المسند (ج ٩ ص ٩)

(٣) وروى مسلم بعضه من حديث أبي أمامة الباهلي مرفوعا (صحيح مسلم ، كتاب صلاة المسافرين حديث ٢٥٢)

(٤) مسند أحمد (ج ٨ ص ٢٧٠)

(٥) المسند (ج ٦ ص ٢٠٠)

(٦) شرق ، بفتح الراء وإسكانها : ضياء ونور.

(٧) صحيح مسلم (صلاة المسافرين حديث ٢٥٣)

٦٤

إسحاق بن منصور عن يزيد بن عبد ربه به ، والترمذي (١) من حديث الوليد بن عبد الرحمن الجرشي به وقال : حسن غريب ، وقال أبو عبيد : حدّثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن عبد الملك بن عمير قال : قال حماد أحسبه عن أبي منيب عن عمه أن رجلا قرأ البقرة وآل عمران فلما قضى صلاته قال له كعب : أقرأت البقرة وآل عمران؟ قال : نعم قال : فو الذي نفسي بيده إن فيهما اسم الله الذي إذا دعي به استجاب. قال : فأخبرني به قال : لا والله لا أخبرك به ولو أخبرتك به لأوشكت أن تدعوه بدعوة أهلك فيها أنا وأنت ، وحدّثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن سليم بن عامر أنه سمع أبا أمامة يقول : إن أخا لكم أري في المنام أن الناس يسلكون في صدع جبل وعر طويل وعلى رأس الجبل شجرتان خضراوان يهتفان هل فيكم قارئ يقرأ سورة البقرة؟ وهل فيكم قارئ يقرأ سورة آل عمران؟ قال : فإذا قال الرجل نعم دنتا منه بأعذاقهما (٢) حتى يتعلق بهما فيخطران به الجبل ، وحدّثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن أبي عمران أنه سمع أم الدرداء تقول : إن رجلا ممن قرأ القرآن أغار على جار له فقتله وإنه أقيد به فقتل فما زال القرآن ينسل منه سورة سورة حتى بقيت البقرة وآل عمران جمعة ثم إن آل عمران انسلت منه وأقامت البقرة جمعة فقيل لها (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق : ٢٩] قال فخرجت كأنها السحابة العظيمة. قال أبو عبيد : أراه يعنى أنهما كانتا معه في قبره يدفعان عنه ويؤنسانه فكانتا من آخر ما بقي معه من القرآن. وقال أيضا : حدثنا أبو مسهر الغسّاني عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي أن يزيد بن الأسود الجرشي كان يحدث أنه من قرأ البقرة وآل عمران في يوم برئ من النفاق حتى يمسي ومن قرأهما في ليلة برئ من النفاق حتى يصبح قال : فكان يقرأهما كل يوم وليلة سوى جزئه. وحدّثنا يزيد عن ورقاء بن إياس عن سعيد بن جبير قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان ـ أو كتب ـ من القانتين. فيه انقطاع ولكن ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بهما في ركعة واحدة.

ذكر ما ورد في فضل السبع الطوال

قال أبو عبيد : حدّثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي عن محمد بن شعيب عن سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي المليح عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطيت السبع الطوال مكان التوراة وأعطيت المئين مكان الإنجيل وأعطيت المثاني مكان الزبور وفضلت بالمفصل» (٣) هذا حديث غريب وسعيد بن أبي بشير فيه لين. وقد رواه أبو عبيد عن عبد الله بن صالح عن الليث عن سعيد بن أبي هلال قال : بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فذكره والله أعلم ثم قال : حدّثنا إسماعيل بن

__________________

(١) الترمذي (ثواب القرآن ، باب ٥)

(٢) العذق : عرجون النخل بما فيه من الشماريخ.

(٣) وأخرجه أحمد في المسند (ج / ٦ ص ٤٤)

٦٥

جعفر عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب عن حبيب بن هند الأسلمي عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من أخذ السبع فهو حبر» وهذا أيضا غريب وحبيب بن هند بن أسماء بن هند بن حارثة الأسلمي وروى عنه عمرو بن عمرو وعبد الله بن أبي بكرة وذكره أبو حاتم الرازي ولم يذكر فيه جرحا فالله أعلم. وقد رواه الإمام أحمد (١) عن سليمان بن داود وحسين كلاهما عن إسماعيل بن جعفر به ، ورواه أيضا عن أبي سعيد عن سليمان بن بلال عن حبيب بن هند عن عائشة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من أخذ السبع الأول من القرآن فهو حبر» قال أحمد : وحدّثنا حسين حدثنا ابن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله قال عبد الله بن أحمد : وهذا أرى أن فيه عن أبيه عن الأعرج ولكن كذا كان في الكتاب فلا أدري أغفله أبي أو كذا هو مرسل. وروى الترمذي عن أبي هريرة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث بعثا وهم ذوو عدد وقدم عليهم أحدثهم سنا لحفظه سورة البقرة وقال له : «اذهب فأنت أميرهم» وصححه الترمذي ثم قال أبو عبيد : حدّثنا هشيم أنبأ أبو بشر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) قال هي السبع الطوال البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس ، قال : وقال مجاهد : هي السبع الطوال ، وهكذا قال مكحول وعطية بن قيس وأبو محمد الفارسي وشداد بن أوس ويحيى بن الحارث الذماري في تفسير الآية بذلك وفي تعدادها وإنّ يونس هي السابعة.

فصل ـ [البقرة نزلت بالمدينة]

والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف وهي من أوائل ما نزل بها ، لكن قوله تعالى فيه (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) الآية يقال إنها آخر ما نزل من القرآن ويحتمل أن تكون منها ، وكذلك آيات الربا من آخر ما نزل. وكان خالد بن معدان يسمي البقرة فسطاط القرآن. قال بعض العلماء وهي مشتملة على ألف خبر وألف أمر وألف نهي. وقال العادّون آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات وكلماتها ستة آلاف كلمة ومائتان وإحدى وعشرون كلمة وحروفها خمسة وعشرون ألفا وخمسمائة حرف فالله أعلم. قال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس : نزلت بالمدينة سورة البقرة. وقال خصيف عن مجاهد عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت بالمدينة سورة البقرة. وقال الواقدي : حدّثني الضحاك بن عثمان عن أبي الزناد عن خارجة بن ثابت عن أبيه قال : نزلت البقرة بالمدينة. وهكذا قال غير واحد من الأئمة والعلماء والمفسرين ولا خلاف فيه. وقال ابن مردويه : حدّثنا محمد بن معمر حدّثنا الحسن بن علي بن الوليد الفارسي حدّثنا خلف بن هشام وحدّثنا عيسى بن ميمون عن موسى بن أنس بن مالك عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تقولوا

__________________

(١) المسند (ج ٩ ص ٣٤٧)

٦٦

سورة البقرة ولا سورة ال عمران ولا سورة النساء وكذا القرآن كله ولكن قولوا السورة التي يذكر فيها البقرة والتي يذكر فيها آل عمران وكذا القرآن كله» هذا حديث غريب لا يصح رفعه وعيسى بن ميمون هذا هو أبو سلمة الخواص وهو ضعيف الرواية لا يحتج به وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه رمى الجمرة من بطن الوادي فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ثم قال هذا المقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة. أخرجاه. وروى ابن مردويه من حديث شعبة عن عقيل بن طلحة عن عتبة بن مرثد قال : رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أصحابه تأخرا فقال «يا أصحاب سورة البقرة» وأظن هذا كان يوم حنين يوم ولوا مدبرين أمر العباس فناداهم «يا أصحاب الشجرة» يعني أهل بيعة الرضوان وفي رواية «يا أصحاب سورة البقرة» لينشطهم بذلك فجعلوا يقبلون من كل وجه ، وكذلك يوم اليمامة مع أصحاب مسيلمة جعل الصحابة يفرون لكثافة حشر بني حنيفة فجعل المهاجرون والأنصار يتنادون يا أصحاب سورة البقرة ، حتى فتح الله عليهم ، رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم) (١)

قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور فمنهم من قال : هي مما استأثر الله بعلمه ، فردّوا علمها إلى الله ولم يفسروها ، حكاه القرطبي (١) في تفسيره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين ، وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خيثم واختاره أبو حاتم بن حبان. ومنهم من فسرها واختلف هؤلاء في معناها فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم إنما هي أسماء السور. قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره : وعليه إطباق الأكثر ، ونقل عن سيبويه أنه نص عليه ، ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة (الم) السجدة و (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) ، وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال : الم ، وحم ، والمص ، وص. فواتح افتتح الله بها القرآن ، وكذا قال غيره عن مجاهد ، وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود عن شبل عن ابن أبي نجيح عنه أنه قال : الم اسم من أسماء القرآن. وهكذا قال قتادة وزيد بن أسلم ، ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه اسم من أسماء السورة فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن ، فإنه يبعد أن يكون المص اسما للقرآن كله لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول : قرأت المص إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن والله أعلم.

__________________

(١) تفسير القرطبي ١ / ١٥٤.

٦٧

وقيل هي اسم من أسماء الله تعالى ، فقال الشعبي : فواتح السور من أسماء الله تعالى. وكذلك قال سالم بن عبد الله وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير وقال شعبة عن السدي : بلغني أن ابن عباس قال : الم اسم من أسماء الله الأعظم. هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن شعبة قال : سألت السدي عن حم وطس والم فقال ابن عباس : هي اسم الله الأعظم. وقال ابن جرير (١) : وحدثنا محمد بن المثنى حدّثنا أبو النعمان حدّثنا شعبة عن إسماعيل السدي عن مرة الهمداني قال : قال عبد الله فذكر نحوه. وحكى مثله عن علي وابن عباس. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هو قسم أقسم الله به ، وهو من أسماء الله تعالى. وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن علية عن خالد الحذاء عن عكرمة أنه قال: الم قسم (٢). ورويا أيضا من حديث شريك بن عبد الله عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس ، الم قال : أنا الله أعلم (٣) ، وكذا قال سعيد بن جبير وقال السدي عن أبي مالك. وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الم قال : أما الم فهي حروف استفتحت (٤) من حروف هجاء أسماء الله تعالى. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى الم قال : هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفا دارت فيها الألسن كلها ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه ، وليس منها حرف إلا وهو من آلائه ، وبلائه : وليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم. قال عيسى ابن مريم عليه‌السلام وعجب فقال : أعجب أنهم ينطقون بأسمائه ويعيشون في رزقه فكيف يكفرون به ، فالألف مفتاح اسم الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد فالألف آلاء الله واللام لطف الله والميم مجد الله ، الألف سنة واللام ثلاثون سنة والميم أربعون سنة.

هذا لفظ ابن أبي حاتم. ونحوه رواه ابن جرير ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال ويوفق بينها وأنه لا منافاة بين كل واحد منها وبين الآخر وأن الجمع ممكن فهي أسماء للسور ومن أسماء الله تعالى يفتتح بها السور فكل حرف منها دل على اسم من أسمائه وصفة من صفاته كما افتتح سورا كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه ، قال : ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله وعلى صفة من صفاته وعلى مدة وغير ذلك كما ذكره الربيع بن أنس عن أبي العالية لأن الكلمة الواحدة تطلق على معاني كثيرة كلفظة الأمة فإنها تطلق ويراد بها الدين كقوله تعالى (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) [الزخرف : ٢٢] وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله كقوله تعالى (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل : ١٢٠] وتطلق ويراد بها الجماعة كقوله تعالى (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) [القصص : ٢٣] وقوله تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ١١٩.

(٢) في الدر المنثور «اشتقّت».

٦٨

أُمَّةٍ رَسُولاً)تطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله تعالى (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [يوسف : ٤٥] أي بعد حين على أصح القولين قال فكذلك هذا.

هذا حاصل كلامه (١) موجها ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية فإن أبا العالية زعم أن الحرف دل على هذا وعلى هذا معا ، ولفظة الأمة وما أشبهها من الألفاظ المشتركة في الاصطلاح إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين علماء الأوصل ليس هذا موضع البحث فيها والله أعلم.

ثم إن لفظة الأمة تدل على كل من معانيها في سياق الكلام بدلالة الوضع فأما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أولى من الآخر في التقدير أو الإضمار بوضع ولا بغيره فهذا مما لا يفهم إلا بتوقيف ، والمسألة مختلف فيها وليس فيها إجماع حتى يحكم به. وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة فإن في السياق ما يدل على ما حذف بخلاف هذا كما قال الشاعر : [الرجز]

قلنا لها قفي لنا فقالت قاف

لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف (٢)

تعني وقفت. وقال الآخر : [الرجز]

ما للظليم عال (٣) كيف لا يا

ينقد عنه جلده إذا يا (٤)

فقال ابن جرير كأنه أراد أن يقول إذا يفعل كذا وكذا فاكتفى بالياء من يفعل. وقال الآخر:[الرجز]

بالخير خيرات وإن شرافا

ولا أريد الشر إلا أن تا (٥)

يقول : وإن شرا فشرا ولا أريد الشر إلا أن تشاء ، فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ١٢٠ ـ ١٢٩.

(٢) الرجز للوليد بن عتبة في الأغاني ٥ / ١٣١ ؛ وشرح شواهد الشافية في ٢٧١ ؛ ومشكل القرآن ص ٢٣٨ ؛ وبلا نسبة في لسان العرب (وقف) ؛ والطبري ١ / ١٢٢ ؛ وتهذيب اللغة ١٥ / ٦٧٩ ؛ وتاج العروس (سين). والإيجاف : حث الدابة على سرعة السير ، وهو الوجيف.

(٣) كذا أيضا برواية الطبري. وقوله عال : دعاء عليه ، من قولهم : عال عوله أي ثكلته أمه ، فاختصر. و «يا» في البيت الأول كأنه أراد أن يقول «ينقد عنه ...» فوقف ، ثم عاد يقول «ينقد». و «يا» في الآخر : أي إذا يعدو هذا العدو. وفي رواية اللسان : «عاك» في موضع «عال». قال ابن سيده : عاك عيكانا : مشى وحرّك منكبيه. (اللسان : عيك)

(٤) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (يا) ؛ وتهذيب اللغة ١٥ / ٦٧٠ ؛ وتاج العروس (يا) ؛ وشرح شواهد الشافية ص ٢٦٧ ؛ والطبري ١ / ١٢٣.

(٥) البيت بلا نسبة في الطبري ١ / ١٢٣ ؛ والكتاب ٢ / ٦٢ ؛ والكامل للمبرد ١ / ٢٤٠ ؛ والموشح للمرزباني ص ١٢٠ ؛ وشرح شواهد الشافية ص ٢٦٢. ونسب في شرح شواهد الشافية ص ٢٦٤ للقيم بن أوس. وهو منسوب إلى زهير بن أبي سلمى في القرطبي ١ / ١٥٥.

٦٩

بقيتهما ، ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام والله أعلم.

قال القرطبي : وفي الحديث «من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة» الحديث قالشقيق(١) هو أن يقول في اقتل «اق» ، [كما قال عليه‌السلام : «كفى بالسيف شا» معناه : شافيا] (٢). وقال خصيف عن مجاهد أنه قال : فواتح السور كلها (ق وص وحم وطسم والر) وغير ذلك هجاء موضوع (٣). وقال بعض أهل العربية : هي حروف من حروف المعجم استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفا كما يقول القائل: ابني يكتب في ـ ا ب ت ث ـ أي في حروف المعجم الثمانية والعشرين فيستغنى بذكر بعضها عن مجموعها حكاه ابن جرير (٤).

قلت مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفا وهي ـ ا ل م ص ر ك ه ي ع ط س ح ق ن ـ يجمها قولك : نص حكيم قاطع له سر. وهي نصف الحروف عددا والمذكور منها أشرف من المتروك وبيان ذلك من صناعة التصريف. قال الزمخشري : وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة ، ومن الرخوة والشديدة ، ومن المطبقة والمفتوحة ومن المستعلية والمنخفضة ، ومن حروف القلقلة. وقد سردها مفصلة ثم قال : فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته. وهذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله ومن هاهنا لحظ بعضهم في هذا المقام كلاما فقال : لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثا ولا سدى ، ومن قال من الجهلة إن في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلية فقد أخطأ خطأ كبيرا ، فتعين أن لها معنى في نفس الأمر ، فإن صح لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به وإلا وقفنا حيث وقفنا وقلنا (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين وإنما اختلفوا فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه وإلا فالوقف حتى يتبين. هذا مقام.

المقام الآخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ما هي؟ مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها ، فقال بعضهم : إنما ذكرت ليعرف بها أوائل السور ، حكاه ابن جرير وهذا ضعيف لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه وفيما ذكرت فيه البسملة تلاوة وكتابة. وقال آخرون بل ابتدئ بها لتفتح لاستماعها أسماع المشركين إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن حتى إذا استمعوا له تلي عليهم المؤلف منه حكاه ابن جرير أيضا وهو ضعيف لأنه لو كان

__________________

(١) في الأصل : «سفيان». وما أثبتناه عن القرطبي ١ / ١٥٦.

(٢) الزيادة من القرطبي.

(٣) الطبري ١ / ١٢٠.

(٤) روى ابن جرير أربعة أحاديث بهذا المعنى عن مجاهد (تفسير الطبري ١ / ١١٨ ـ ١١٩)

٧٠

كذلك لكان ذلك في جميع السور لا يكون في بعضها بل غالبها وليس كذلك ، ولو كان كذلك أيضا لا نبغى الابتداء بها في أوائل الكلام معهم سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك ثم إن هذه السورة والتي تليها أعني البقرة وآل عمران مدنيتان ليستا خطابا للمشركين فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه. وقال آخرون بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها ، وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين ، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا ، وقرره الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر ، وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد أبو العجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية.

قال الزمخشري : ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت كما كررت قصص كثيرة وكرر التحدي بالصريح في أماكن ، قال : وجاء منها على حرف واحد كقوله ـ (ص ن ق) ـ وحرفين مثل (حم) وثلاثة مثل (الم) وأربعة مثل (المر) و (المص) وخمسة مثل (كهيعص) ـ و ـ (حم عسق) لأن أساليب كلامهم على هذا من الكلمات ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك (قلت) ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته ، وهذا معلوم بالاستقراء وهو الواقع في تسع وعشرين سورة ولهذا يقول تعالى (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ١ ـ ٢] (الم. اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) [آل عمران : ١ ـ ٣] (المص. كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) [الأعراف : ١ ـ ٢] (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) [إبراهيم : ١] (الم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [السجدة : ١ ـ ٢] (حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [فصلت : ١ ـ ٢] (حم. عسق. كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الشورى : ١ ـ ٣] وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر والله أعلم.

وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم فقد ادعى ما ليس له ، وطار في غير مطاره ، وقد ورد في ذلك حديث ضعيف وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته (١) وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي : حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن

__________________

(١) وقال الطبري أيضا : «قال بعضهم : هي حروف من حساب الجمّل ـ كرهنا ذكر الذي حكي ذلك عنه ، إذ كان الذي رواه ممن لا يعتمد على روايته ونقله». يقصد محمد بن السائب الكلبي. وقد روي الطبري حديثين نظير ذلك عن الربيع بن أنس. (تفسير الطبري ١ / ١٢٠)

٧١

عبد الله بن رئاب قال : مر أبو ياسر بن أخطب من رجال من يهود برسول الله وهو يتلو فاتحة سورة البقرة (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال : تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله تعالى عليه (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) فقال : أنت سمعته؟ قال نعم. قال : فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا يا محمد ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل الله عليك (الم. ذلِكَ الْكِتابُ)؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بلى» فقالوا جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال «نعم» قالوا لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بيّن لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقام حيي بن أخطب وأقبل على من كان معه فقال لهم الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد هل مع هذا غيره؟ فقال : نعم ، قال : ما ذاك؟ قال : «المص» قال : هذا أثقل وأطول ، الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد سبعون فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. فهل مع هذا يا محمد غيره؟ قال : نعم ، قال ما ذاك؟ قال : الر. قال : هذا أثقل وأطول ، الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. فهل مع هذا يا محمد غيره؟ قال «نعم» قال : ماذا؟ قال «المر» قال : هذه أثقل وأطول ، الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان فهذه إحدى وسبعون ومائتان ثم قال : لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا. ثم قال قوموا عنه ، ثم قال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار : ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وثلاثون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان فذلك سبعمائة وأربع سنين؟ فقالوا : لقد تشابه علينا أمره ، فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [آل عمران : ٧] فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي وهو ممن لا يحتج بما انفرد به ، ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها وذلك يبلغ منه جملة كثيرة وإن حسبت مع التكرر فأطمّ (١) وأعظم والله أعلم.

(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٢)

قال ابن جريج قال ابن عباس ذلك الكتاب ، أي هذا الكتاب وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم وابن جريج أن ذلك بمعنى هذا ، والعرب تقارض (٢) بين اسمي الإشارة [هذين] فيستعملون كلا منهما مكان الآخر وهذا معروف

__________________

(١) الطامّ : الشيء العظيم. وأطمّ وأعظم بمعنى واحد.

(٢) تقارضا الشيء أو الأمر : تبادلاه.

٧٢

في كلامهم. وقد حكاه البخاري عن معمر بن المثنى عن أبي عبيدة وقال الزمخشري : ذلك إشارة إلى (الم) كما قال تعالى (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨] وقال تعالى (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) [الممتحنة : ١٠] وقال (ذلِكُمُ اللهُ) [غافر : ٦٢] وأمثال ذلك مما أشير به إلى ما تقدم ذكره والله أعلم. وقد ذهب بعض المفسرين فيما حكاه القرطبي (١) وغيره أن ذلك إشارة إلى القرآن الذي وعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنزاله عليه أو التوراة أو الإنجيل أو نحو ذلك في أقوال عشرة. وقد ضعف هذا المذهب كثيرون والله أعلم.

والكتاب : القرآن. ومن قال : إن المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التوراة والإنجيل كما حكاه ابن جرير (٢) وغيره فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع وتكلف ما لا علم له به. والريب : الشك. قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا رَيْبَ فِيهِ) : لا شك فيه ، وقال أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد وقال ابن أبي حاتم : لا أعلم في هذه خلافا. وقد يستعمل الريب في التهمة قال جميل : [الطويل]

بثينة قالت يا جميل أربتني

فقلت كلانا يا بثين مريب (٣)

واستعمل أيضا في الحاجة كما قال بعضهم : [الوافر]

قضينا من تهامة كل ريب

وخيبر ثم أجمعنا السيوفا (٤)

ومعنى الكلام هنا أن هذا الكتاب هو القرآن لا شك فيه أنه نزل من عند الله كما قال تعالى في السجدة (الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الآية : ٢] وقال بعضهم : هدى خبر ، ومعناه النهي أي لا ترتابوا فيه. ومن القراء من يقف على قوله تعالى (لا رَيْبَ) ويبتدئ بقوله تعالى (فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) والوقف على قوله تعالى (لا رَيْبَ فِيهِ) أولى للآية التي ذكرناها ولأنه يصير قوله تعالى (هُدىً) صفة للقرآن وذلك أبلغ من كون فيه هدى. وهدى يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعا على النعت ومنصوبا على الحال. وخصت الهداية للمتقين كما قال (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤] (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء : ٨٢] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع

__________________

(١) تفسير القرطبي ١ / ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٢) تفسير الطبري ١ / ١٢٩.

(٣) رواه أيضا القرطبي (١ / ١٥٩) شاهدا على هذا المعنى.

(٤) البيت لكعب بن مالك الأنصاري في ديوانه ص ٢٣٤ ؛ ولسان العرب (ريب) ؛ وتاج العروس (ريب) ؛ وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٢ / ١٦٤ ؛ ومجمل اللغة ٢ / ٤٤٠ ؛ والقرطبي ١ / ١١٥٩.

٧٣

بالقرآن لأنه هو في نفسه هدى ولكن لا يناله إلا الأبرار كما قال تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس : ٥٧] وقد قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) يعني نورا للمتقين. وقال أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس قال : هدى للمتقين قال : هم المؤمنون الذين يتقون الشرك بي ويعملون بطاعتي. وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس (لِلْمُتَّقِينَ) قال : الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به. وقال سفيان الثوري عن رجل عن الحسن البصري : قوله تعالى للمتقين قال : اتقوا ما حرم الله عليهم وأدّوا ما افترض عليهم. وقال أبو بكر بن عياش : سألني الأعمش عن المتقين قال : فأجبته فقال لي : سل عنها الكلبي ، فسألته فقال : الذين يجتنبون كبائر الإثم قال : فرجعت إلى الأعمش فقال : يرى أنه كذلك ولم ينكره. وقال قتادة : للمتقين هم الذين نعتهم الله بقوله (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) الآية والتي بعدها (١) ، واختيار ابن جرير أن الآية تعم ذلك كله وهو كما قال (٢). وقد روى الترمذي وابن ماجة من رواية أبي عقيل عن عبد الله بن يزيد عن ربيعة بن يزيد وعطية بن قيس عن عطية السعدي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس» ثم قال الترمذي : حسن غريب. وقال ابن أبي حاتم : حدّثنا أبي حدّثنا عبد الله بن عمران عن إسحاق بن سليمان يعني الرازي عن المغيرة بن مسلم عن ميمون أبي حمزة قال : كنت جالسا عند أبي وائل فدخل علينا رجل يقال له أبو عفيف من أصحاب معاذ فقال له شقيق بن سلمة : يا أبا عفيف ألا تحدّثنا عن معاذ بن جبل؟ قال : بلى ، سمعته يقول : يحبس الناس يوم القيامة في بقيع واحد فينادي مناد أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت : من المتقون؟ قال : قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة فيمرون إلى الجنة. ويطلق الهدى ويراد به ما يقرّ في القلب من الإيمان وهذا لا يقدر على خلقه في قلوب العباد إلا الله عزوجل قال الله تعالى (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص : ٥٦] وقال (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) [البقرة : ٢٧٢] وقال (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) [الأعراف : ١٨٦] وقال (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [الإسراء : ٩٧] إلى غير ذلك من الآيات ويطلق ويراد به بيان الحق وتوضيحه والدلالة عليه والإرشاد قال الله تعالى (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢] وقال (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [الرعد : ٧] وقال

__________________

(١) أي الآية التي بعد (ذلِكَ الْكِتابُ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) فهي تفسر ما قبلها ، وهو تفسير القرآن بالقرآن ، وهو الأكثر اعتبارا في مذاهب التأويل.

(٢) تفسير الطبري ١ / ١٣٢.

٧٤

تعالى (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧] وقال (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد : ١٠] على تفسير من قال المراد بهما الخير والشر وهو الأرجح والله أعلم ، وأصل التقوى التوقي مما يكره لأن أصلها وقوى من الوقاية قال النابغة : [الكامل]

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه

فتناولته واتقتنا باليد (١)

وقال الآخر : [الطويل]

فألقت قناعا دونه الشمس واتقت

بأحسن موصولين كف ومعصم (٢)

وقد قيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له : أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال بلى ، قال : فما عملت؟ قال : شمرت واجتهدت (٣) ، قال : فذلك التقوى. وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال : [مجزوء الكامل]

خل الذنوب صغيرها

وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماش فوق أرض

الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة

إنّ الجبال من الحصى (٤)

وأنشد أبو الدرداء يوما : [الوافر]

يريد المرء أن يؤتى مناه

ويأبى الله إلا ما أرادا

يقول المرء فائدتي ومالي

وتقوى الله أفضل ما استفادا (٥)

وفي سنن ابن ماجة عن أبي أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة إن نظر إليها سرته ، وإن أمرها أطاعته ، وإن أقسم عليها أبرته ، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله» (٦).

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)

__________________

(١) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص ٩٣ ؛ والشعر والشعراء ١ / ١٧٦ ؛ والمقاصد النحوية ٣ / ١٠٢ ؛ ولسان العرب (نصف) ؛ والقرطبي ١ / ١٦١ ؛ وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ٢٥٩. والنصيف : هو كل ما غطى الرأس من خمار أو عمامة. والنابغة هنا يصف المتجردة زوجة النعمان بن المنذر.

(٢) البيت بلا نسبة أيضا في القرطبي ١ / ١٦١.

(٣) في رواية القرطبي : «تشمّرت وحذرت» وهو أوضح في المقام.

(٤) الأبيات الثلاثة في القرطبي ١ / ١٦٢.

(٥) البيتان في القرطبي ١ / ١٦٢. وقد أوردهما القرطبي شاهدا على أن «التقوى فيها جماع الخير كله وهي وصية الله في الأولين والآخرين». قال : كما قال أبو الدرداء وقد قيل له : إن أصحابك يقولون الشعر وأنت ما أحفظ عنك شيء ، فقال ...

(٦) ابن ماجة (نكاح ، باب ٥)

٧٥

قال أبو جعفر الرازي عن العلاء بن المسيب بن رافع عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : الإيمان التصديق ، وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما :

يؤمنون : يصدّقون. وقال معمر عن الزهري : الإيمان العمل ، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس يؤمنون : يخشون.

قال ابن جرير : والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولا وعملا واعتقادا قال : وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل ، والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل (قلت) أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض وقد يستعمل في القرآن والمراد به ذلك كما قال تعالى (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) [التوبة : ٦١] وكما قال إخوة يوسف لأبيهم (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) [يوسف : ١٧] وكذلك إذا استعمل مقرونا مع الأعمال كقوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [الشعراء : ٢٢٧] فأما إذا استعمل مطلقا فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادا وقولا وعملا. هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيدة وغير واحد إجماعا : أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أفردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنّة. ومنهم من فسره بالخشية كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [الملك : ١٢] وقوله : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) [ق : ٣٣] والخشية خلاصة الإيمان والعلم كما قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] وقال بعضهم : يؤمنون بالغيب كما يؤمنون بالشهادة ، وليسوا كما قال تعالى عن المنافقين (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤] وقال : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١] فعلى هذا يكون قوله بالغيب حالا أي في حال كونهم غيبا عن الناس.

وأما الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد ، قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) قال : ويؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث ، فهذا غيب كله. وكذا قال قتادة بن دعامة. وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار وما ذكر في القرآن. وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : (بالغيب) قال : بما جاء منه ـ يعني من الله تعالى ـ وقال سفيان الثوري. عن عاصم عن

٧٦

زر (١) قال : الغيب القرآن وقال عطاء بن أبي رباح : من آمن بالله فقد آمن بالغيب. وقال إسماعيل بن أبي خالد : يؤمنون بالغيب قال : بغيب الإسلام. وقال زيد بن أسلم : الذين يؤمنون بالغيب قال : بالقدر. فكل هذه متقاربة في معنى واحد لأن جميع المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به.

وقال سعيد بن منصور : حدّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال : كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا فذكرنا أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما سبقونا به فقال عبد الله : إن أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بيّنا لمن رآه ؛ والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ (الم ، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ـ إلى قوله ـ (الْمُفْلِحُونَ) وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طرق عن الأعمش به. وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وفي معنى هذا الحديث الذي رواه أحمد (٢) : حدثنا أبو المغيرة حدثنا الأوزاعي حدّثني أسيد بن عبد الرحمن عن خالد بن دريك عن ابن محيريز قال : قلت لأبي جمعة [رجل من الصحابة] : حدّثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : نعم أحدّثك حديثا جيّدا : تغذينا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال : يا رسول الله هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك. قال «نعم قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني» : طريق أخرى. قال أبو بكر بن مردويه في تفسيره : حدّثنا عبد الله بن جعفر حدّثنا إسماعيل عن عبد الله بن مسعود حدّثنا عبد الله بن صالح حدّثنا معاوية بن صالح عن صالح بن جبير قال : قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيت المقدس ليصلي فيه ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة رضي الله عنه فلما انصرف خرجنا نشيعه ، فلما أراد الانصراف قال : إن لكم جائزة وحقا ، أحدّثكم بحديث سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قلنا : هات رحمك الله قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة فقلنا : يا رسول الله هل من قوم أعظم منّا أجرا؟ آمنا بالله واتبعناك ، قال : «ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء بل قوم من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجرا مرتين» ثم رواه من حديث ضمرة بن ربيعة عن مرزوق بن نافع عن صالح بن جبير عن أبي جمعة بنحوه. وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة (٣) التي اختلف فيها أهل الحديث كما قررته في أول شرح البخاري لأنه مدحهم على

__________________

(١) بالزاي المكسورة وراء مشدّدة. وهو زرّ بن جيش بن حباشة بن أوس الأسدي الكوفي الغاضري ، أبو مريم ، المتوفى نحو ٨١ ه‍. ثقة جليل ، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.

(موسوعة رجال الكتب التسعة ١ / ٥١٨)

(٢) مسند أحمد (ج ٦ ص ٤٣)

(٣) الوجادة (في اصطلاح المحدّثين) : اسم لما أخذ من العلم من صحيفة ، من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة.

٧٧

ذلك وذكر أنهم أعظم أجرا من هذه الحيثية لا مطلقا ، وكذا الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي ، حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي عن المغيرة بن قيس التميمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أي الخلق أعجب إليكم إيمانا؟ قالوا الملائكة قال «وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم»؟ قالوا فالنبيون قال «وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟ قالوا : فنحن قال : «وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم»؟ قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا إن أعجب الخلق إليّ إيمانا لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيها» قال أبو حاتم الرازي : المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث (قلت) ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده وابن مردويه في تفسيره والحاكم في مستدركه من حديث محمد بن أبي حميد ـ وفيه ضعف ـ عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثله أو نحوه. وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقد روى نحوه عن أنس بن مالك مرفوعا والله أعلم ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن محمد المسندي حدثنا إسحاق بن إدريس أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاري أخبرني جعفر بن محمود عن جدته نويلة بنت أسلم قالت : صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد إيلياء (١) فصلينا سجدتين ثم جاءنا من يخبرنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام. قال إبراهيم : فحدثني رجال من بني حارثة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بلغه ذلك قال : «أولئك قوم آمنوا بالغيب» هذا حديث غريب من هذا الوجه.

(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣)

قال ابن عباس : ويقيمون الصلاة أي يقيمون الصلاة بفروضها. وقال الضحاك عن ابن عباس : إقامة الصلاة إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها. وقال قتادة إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها. وقال مقاتل بن حيان : إقامتها المحافظة على مواقيتها وإسباغ الطهور بها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها والتشهد والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهذا إقامتها.

وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) قال : زكاة أموالهم ، وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) قال : نفقة الرجل على أهله وهذا قبل أن تنزل الزكاة. وقال جويبر عن الضحاك كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم وجهدهم حتى نزلت فرائض الصدقات سبع آيات في سورة براءة مما يذكر فيهنّ الصدقات هن

__________________

(١) هو المسجد الأقصى في بيت المقدس ، وهو أولى القبيلتين.

٧٨

الناسخات المثبتات. وقال قتادة (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) فأنفقوا مما أعطاكم الله ، هذه الأموال عوار (١) وودائع عندك يا ابن آدم يوشك أن تفارقها.

واختار ابن جرير أنّ الآية عامة في الزكاة والنفقات فإنه قال (٢) : وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مؤدين ـ زكاة كان ذلك أو نفقة من لزمته نفقته من أهل أو عيال وغيرهم ممن يجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك ، لأن الله تعالى عم وصفهم ومدحهم بذلك ، وكل من الإنفاق والزكاة ممدوح به محمود عليه (قلت) كثيرا ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال ، فإن الصلاة حق الله وعبادته وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه وتمجيده والابتهال إليه ودعائه والتوكل عليه ، والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم ، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك ، ثم الأجانب ، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ولهذا ثبت في الصحيحين (٣) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت» والأحاديث في هذا كثيرة وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء. قال الأعشى : [الطويل]

لها حارس لا يبرح الدهر بيتها

وإن ذبحت صلّى عليها وزمزما (٤)

وقال أيضا : [المتقارب]

وقابلها الريح في دنّها

وصلّى على دنّها وارتسم (٥)

أنشدهما ابن جرير مستشهدا على ذلك. وقال الآخر ، وهو الأعشى أيضا : [البسيط]

تقول بنتي وقد قربت مرتحلا

يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي

نوما فإن لجنب المرء مضطجعا (٦)

__________________

(١) العواري : جمع عارية ، وهي ما تعيره إلى غيرك ثم تستردّه.

(٢) تفسير الطبري ١ / ١٣٧. وابن كثير ينقل ما يأتي باختصار وبعض تصرّف.

(٣) البخاري (إيمان باب ١ و ٢ ؛ وتفسير سورة ٢ باب ٣) ومسلم (إيمان حديث ١٩ ـ ٢٢)

(٤) البيت من شواهد الطبري (١ / ١٣٧). والكلام يدور على دنّ الخمر. ذبحت الدنّ : أزيل ختمها. وزمزم المجوسيّ عند الأكل أو الشرب : رطن وهو مطبق فاه وصوت بصوت مبهم يديره في خيشومه وحلقه لا يحرك فيه لسانا ولا شفة.

(٥) البيت للأعشى في ديوانه ص ٨٥ ؛ ولسان العرب (رسم ، صلا) ؛ والمخصص ١٣ / ٨٥ ؛ ومقاييس اللغة ٣ / ٣٠٠ ؛ وتهذيب اللغة ٩ / ١٦٦ ؛ وجمهرة اللغة ص ١١٥ ؛ وتاج العروس (رسم). وارتسم الرجل : كبّر ودعا (الصحاح). ورواية الديوان : «وارتشم».

(٦) البيت للأعشى في ديوانه ص ١٥١ ؛ ومقاييس اللغة ٣ / ٣٠٠ ؛ وتاج العروس (شفع) ؛ والقرطبي ١ / ١٦٨.

٧٩

يقول : عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي ، وهذا ظاهر. ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة بشروطها المعروفة وصفاتها وأنواعها المشهورة. قال ابن جرير : وأرى أن الصلاة [المفروضة] (١) سميت صلاة لأن المصلي يتعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله بعلمه مع ما يسأل ربه من حاجاته [تعرّض الداعي بدعائه ربّه استنجاح حاجاته وسؤله] (٢) وقيل : هي مشتقة من الصلوين إذا تحركا في الصلاة عند الركوع والسجود ، وهما عرقان يمتدان من الظهر حتى يكتنفان عجب الذنب ومنه سمي المصلي وهو التالي للسابق في حلبة الخيل ، وفيه نظر. وقيل هي مشتقة من الصلى وهو الملازمة للشيء من قوله تعالى : (لا يَصْلاها) أي لا يلزمها ويدوم فيها (إِلَّا الْأَشْقَى) [الليل : ١٥] وقيل مشتقة من تصلية الخشبة في النار لتقوم كما أن المصلي يقوم عوجه بالصلاة (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت : ٤٥] واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر والله أعلم.

وأما الزكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه إن شاء الله تعالى.

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٤)

قال ابن عباس : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) أي يصدّقون بما جئت به من الله وما جاء به من قبلك من المرسلين لا يفرّقون بينهم ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم ، وبالآخرة هم يوقنون : أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان ؛ وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا. وقد اختلفت المفسرون في الموصوفين هنا ، هل هم الموصوفون بما تقدّم من قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ومن هم؟ على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير (٣) ، أحدها : أن الموصوفين أولا هم الموصوفون ثانيا وهم كل مؤمن ، مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم ، قاله مجاهد وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة. والثاني : هما واحد وهم مؤمنو أهل الكتاب ؛ وعلى هذين تكون الواو عاطفة على صفات كما قال تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى. فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) [الأعلى : ١ ـ ٥] وكما قال الشاعر : [المتقارب]

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم (٤)

فعطف الصفات بعضها على بعض والموصوف واحد والثالث أن الموصوفين أوّلا مؤمنو العرب والموصوفون ثانيا بقوله (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ

__________________

(١) الزيادة من الطبري ١ / ١٣٧.

(٢) تفسير الطبري ١ / ١٣٩.

(٣) البيت بلا نسبة في الإنصاف ٢ / ٤٦٩ ؛ وخزانة الأدب ١ / ٤٥١ ، وشرح قطر الندى ص ٢٩٥.

٨٠