تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

وقوله : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) أي بالقسط والحق ولا يجر في كتابته على أحد ، ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه من غير زيادة ولا نقصان. وقوله (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ) أي ولا يمتنع من يعرف الكتابة إذا سئل أن يكتب للناس ولا ضرورة عليه في ذلك ، فكما علمه الله ما لم يكن يعلم ، فليتصدق على غيره ممن لا يحسن الكتابة وليكتب ، كما جاء في الحديث «إن من الصدقة أن تعين صانعا أو تصنع لأخرق» وفي الحديث الآخر «من كتم علما يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» وقال مجاهد وعطاء : واجب على الكاتب أن يكتب ، وقوله : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) أي وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين وليتق الله في ذلك (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) أي لا يكتم منه شيئا (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) محجورا عليه بتبذير ونحوه (أَوْ ضَعِيفاً) أي صغيرا ، أو مجنونا (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) إما لعي أو جهل بموضع صواب ذلك من خطئه (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ).

وقوله : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) أمر بالإشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) وهذا إنما يكون في الأموال ، وما يقصد به المال ، وإنما أقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة ، كما قال مسلم في صحيحه : حدثنا قتيبة ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال «يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار ، فإني رأيتكن أكثر أهل النار» فقالت امرأة منهن جزلة (١) : وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال : «تكثرن اللعن ، وتكفرن العشير ، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن» قالت : يا رسول الله ما نقصان العقل والدين؟ قال «أما نقصان عقلها ، فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل ، فهذا نقصان العقل ، وتمكث الليالي لا تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين».

وقوله : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) فيه دلالة على اشتراط العدالة في الشهود ، وهذا مقيد حكم به الشافعي على كل مطلق في القرآن من الأمر بالإشهاد من غير اشتراط وقد استدل من رد المستور بهذه الآية الدالة على أن يكون الشاهد عدلا مرضيا. وقوله : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) يعني المرأتين إذا نسيت الشهادة (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) أي يحصل لها ذكر بما وقع به من الإشهاد ، وبهذا قرأ آخرون فتذكر بالتشديد من التذكار ، ومن قال : إن شهادتها معها تجعلها كشهادة ذكر فقد أبعد. والصحيح الأول ، والله أعلم.

وقوله : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) قيل : معناه إذا دعوا للتحمل فعليهم الإجابة ، وهو قول قتادة والربيع بن أنس ، وهذا كقوله : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ) ومن هاهنا استفيد أن تحمل الشهادة فرض كفاية ، وقيل مذهب الجمهور ، والمراد بقوله : (وَلا يَأْبَ

__________________

(١) المرأة الجزلة : القوية التامة الخلق.

٥٦١

الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) للأداء ، لحقيقة قوله الشهداء ، والشاهد حقيقة فيمن تحمل ، فإذا دعي لأدائها فعليه الإجابة إذا تعينت وإلا فهو فرض كفاية ، والله أعلم ، وقال مجاهد وأبو مجلز وغير واحد : إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار ، وإذا شهدت فدعيت فأجب ، وقد ثبت في صحيح مسلم والسنن من طريق مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن زيد بن خالد ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» فأما الحديث الآخر في الصحيحين «ألا أخبركم بشر الشهداء؟ الذين يشهدون قبل أن يستشهدوا» وكذا قوله : «ثم يأتي قوم تسبق أيمانهم شهادتهم ، وتسبق شهادتهم أيمانهم» وفي رواية «ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون» وهؤلاء شهود الزور ، وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري أنها تعم الحالين التحمل ، والأداء.

وقوله : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) هذا من تمام الإرشاد وهو الأمر بكتابة الحق صغيرا كان أو كبيرا ، فقال : ولا تسأموا أي لا تملوا أن تكتبوا الحق على أي حال كان من القلة والكثرة إلى أجله ، وقوله : (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) أي هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلا هو أقسط عند الله ، أي أعدل وأقوم للشهادة ، أي أثبت للشاهد إذا وضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة ، لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه ، كما هو الواقع غالبا (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) وأقرب إلى عدم الريبة بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه فيفصل بينكم بلا ريبة.

وقوله : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) أي إذا كان البيع بالحاضر يدا بيد ، فلا بأس بعدم الكتابة لانتفاء المحذور في تركها.

فأما الإشهاد على البيع فقد قال تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثني يحيى بن عبد الله بن بكر ، حدثني ابن لهيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، في قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) يعني أشهدوا على حقكم إذا كان في أجل أو لم يكن فيه أجل ، فأشهدوا على حقكم على كل حال ، قال وروي عن جابر بن زيد ومجاهد وعطاء والضحاك نحو ذلك ، وقال الشعبي والحسن : هذا الأمر منسوخ بقوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب لا على الوجوب ، والدليل على ذلك حديث خزيمة بن ثابت الأنصاري ، وقد رواه الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب عن الزهري ، حدثني عمارة بن خزيمة الأنصاري أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ابتاع فرسا من أعرابي ،

__________________

(١) المسند (ج ٥ ص ٢١٣)

٥٦٢

فاستتبعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقضيه ثمن فرسه ، فأسرع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبطأ الأعرابي ، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس ، ولا يشعرون أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتاعه حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنادى الأعرابي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه وإلا بعته ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سمع نداء الأعرابي ، قال : أو ليس قد ابتعته منك؟ قال الأعرابي : لا والله ما بعتك ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بل قد ابتعته منك» فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأعرابي ، وهما يتراجعان فطفق الأعرابي يقول : هلم شهيدا يشهد أني بايعتك ، فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي : ويلك إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يقول إلا حقا حتى جاء خزيمة فاستمع لمراجعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومراجعة الأعرابي يقول : هلم شهيدا يشهد أني بايعتك ، قال خزيمة : أنا أشهد أنك قد بايعته ، فأقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خزيمة فقال «بم تشهد»؟ فقال : بتصديقك يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين ، وهكذا رواه أبو داود من حديث شعيب والنسائي من رواية محمد بن الوليد الزبيدي ، وكلاهما عن الزهري به نحوه ، ولكن الاحتياط هو الإرشاد لما رواه الإمامان الحافظ أبو بكر بن مردويه ، والحاكم في مستدركه من رواية معاذ بن معاذ العنبري ، عن فراس ، عن الشعبي ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم : رجل له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ، ورجل دفع مال يتيم قبل أن يبلغ ، ورجل أقرض رجلا مالا فلم يشهد» ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد على شرط الشيخين ، قال : ولم يخرجاه لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث على أبي موسى ، وإنما أجمعوا على سند حديث شعبة بهذا الإسناد «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين».

وقوله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) قيل : معناه لا يضارّ الكاتب ولا الشاهد ، فيكتب هذا خلاف ما يملي ، ويشهد هذا بخلاف ما سمع أو يكتمها بالكلية ، وهو قول الحسن وقتادة وغيرهما. وقيل : معناه لا يضربهما ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا أسيد بن عاصم ، حدثنا الحسين يعني ابن حفص ، حدثنا سفيان عن يزيد بن أبي زيادة ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، في هذه الآية (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) قال : يأتي الرجل فيدعوهما إلى الكتاب والشهادة ، فيقولان : إنا على حاجة ، فيقول إنكما قد أمرتما أن تجيبا ، فليس له أن يضارهما ، قال : وروي عن عكرمة ومجاهد وطاوس وسعيد بن جبير والضحاك وعطية ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك ، وقوله : (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) أي إن خالفتم ما أمرتم به أو فعلتم ما نهيتم عنه ، فإنه فسق كائن بكم ، أي لازم لكم لا تحيدون عنه ولا تنفكون عنه ، وقوله (وَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوه وراقبوه واتبعوا أمره واتركوا زجره (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) كقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) وكقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) وقوله : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي هو عالم بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها فلا يخفى عليه شيء من الأشياء بل علمه محيط بجميع

٥٦٣

الكائنات.

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (٢٨٣)

يقول تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) أي مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) يكتب لكم ، قال ابن عباس : أو وجدوه ولم يجدوا قرطاسا أو دواة أو قلما ، فرهان مقبوضة ، أي فليكن بدل الكتابة رهان مقبوضة أي في يد صاحب الحق ، وقد استدل بقوله : (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض كما هو مذهب الشافعي والجمهور ، واستدل بها آخرون على أنه لا بد أن يكون الرهن مقبوضا في يد المرتهن ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وذهب إليه طائفة ، واستدل آخرون من السلف بهذه الآية ، على أنه لا يكون الرهن مشروعا إلا في السفر ، قاله مجاهد وغيره ، وقد ثبت في الصحيحين (١) عن أنس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، توفي ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقا من شعير رهنها قوتا لأهله ، وفي رواية: من يهود المدينة. وفي رواية الشافعي عند أبي الشحم اليهودي ، وتقرير هذه المسائل في كتاب الأحكام الكبير ، ولله الحمد والمنة ، وبه المستعان.

وقوله (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) روى ابن أبي حاتم بإسناد جيد عن أبي سعيد الخدري أنه قال : هذه نسخت ما قبلها. وقال الشعبي : إذا ائتمن بعضكم بعضا فلا بأس أن لا تكتبوا أو لا تشهدوا : وقوله : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) يعني المؤتمن كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من رواية قتادة ، عن الحسن عن سمرة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «على اليد ما أخذت حتى تؤديه».

قوله : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) أي لا تخفوها وتغلوها ، ولا تظهروها. قال ابن عباس وغيره : شهادة الزور من أكبر الكبائر وكتمانها كذلك ، ولهذا قال (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) قال السدي : يعني فاجر قلبه ، وهذه كقوله تعالى : (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) [المائدة ١٠٦] وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [النساء : ١٣٥] وهكذا قال هاهنا (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).

__________________

(١) صحيح البخاري (جهاد باب ٨٩ ، ومغازي باب ٨٦) والترمذي (بيوع باب ٧) والنسائي (بيوع باب ٥٨) وابن ماجة (رهون باب ١)

٥٦٤

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٨٤)

يخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض وما فيهن وما بينهن ، وأنه المطلع على ما فيهن ، لا تخفى عليه الظواهر ولا السرائر والضمائر وإن دقت وخفيت ، وأخبر أنه سيحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم ، كما قال تعالى : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران : ٢٩] وقال (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه : ٧] والآيات في ذلك كثيرة جدا ، وقد أخبر في هذه بمزيد على العلم وهو المحاسبة على ذلك ، ولهذا لما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على الصحابة رضي الله عنهم ، وخافوا منها ، ومن محاسبة الله لهم على جليل الأعمال وحقيرها ، وهذا من شدة إيمانهم وإيقانهم.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثني أبو عبد الرحمن يعني العلاء عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : لما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم جثوا على الركب وقالوا : يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق ، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ، ولا نطيقها. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا وإليك المصير» فلما أقر بها القوم وزلت بها ألسنتهم ، أنزل الله في أثرها (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ، وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) إلى آخره. ورواه مسلم منفردا به من حديث يزيد بن زريع ، عن روح بن القاسم ، عن العلاء ، عن أبيه عن أبي هريرة ، فذكر مثله ولفظه ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله ، فأنزل الله (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ، رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) قال : نعم ، (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) قال : نعم (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) قال : نعم (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) قال : نعم.

__________________

(١) المسند (ج ٢ ص ٤١٢)

٥٦٥

حديث ابن عباس في ذلك : قال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان عن آدم بن سليمان ، سمعت سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت هذه الآية (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) قال دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء ، قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا» فألقى الله الإيمان في قلوبهم ، فأنزل الله (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) إلى قوله (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شبية وأبي كريب وإسحاق بن إبراهيم ، ثلاثتهم عن وكيع به ، وزاد (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) قال : قد فعلت (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) قال : قد فعلت (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) قال : قد فعلت (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) قال : قد فعلت.

طريق أخرى عن ابن عباس. قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، قال : دخلت على ابن عباس ، فقلت : يا أبا عباس ، كنت عند ابن عمر فقرأ هذه الآية فبكى ، قال : أية آية؟ قلت (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) قال ابن عباس : إن هذه الآية حين أنزلت ، غمت أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غما شديدا وغاظتهم غيظا شديدا ، وقالوا : يا رسول الله هلكنا إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا وبما نعمل ، فأما قلوبنا فليست بأيدينا ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا سمعنا وأطعنا» فقالوا سمعنا وأطعنا ، قال : فنسختها هذه الآية (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) إلى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) فتجوز لهم عن حديث النفس وأخذوا بالأعمال.

طريق أخرى عنه (٣). قال ابن جرير (٤) : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن مرجانة ، سمعه يحدث : أنه بينما هو جالس سمع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) الآية ، فقال : والله لئن وأخذنا الله بهذا لنهلكن ، ثم بكى ابن عمر حتى سمع نشيجه ، قال ابن مرجانة : فقمت حتى أتيت ابن عباس ، فذكرت له ما قال ابن عمر وما فعل حين تلاها ، فقال ابن عباس : يغفر الله لأبي عبد الرحمن لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر ، فأنزل الله بعدها (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إلى آخر السورة. قال ابن عباس : فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها ،

__________________

(١) المسند (ج ١ ص ٢٣٣) وصحيح مسلم (إيمان حديث ١٩٩ ، ٢٠٠)

(٢) المسند (ج ١ ص ٣٣٢)

(٣) أي عن ابن عباس.

(٤) تفسير الطبري ٣ / ١٤٤.

٥٦٦

وصار الأمر إلى أن قضى الله عزوجل أن للنفس ما اكتسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل. طريق أخرى قال ابن جرير (١) : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن سالم ، أن أباه قرأ (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) فدمعت عيناه ، فبلغ صنيعه ابن عباس فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن لقد صنع كما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أنزلت ، فنسختها الآية التي بعدها (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) فهذه طرق صحيحة عن ابن عباس ، وقد ثبت عن ابن عمر كما ثبت عن ابن عباس قال البخاري (٢) : حدثنا إسحاق ، حدثنا روح ، حدثنا شعبة عن خالد الحذاء ، عن مروان الأصفر ، عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحسبه ابن عمر (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) قال : نسختها الآية التي بعدها ، وهكذا روي عن عليّ وابن مسعود وكعب الأحبار والشعبي والنخعي ومحمد بن كعب القرظي وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة ، أنها منسوخة بالتي بعدها ، وقد ثبت بما رواه الجماعة في كتبهم الستة من طريق قتادة ، عن زرارة بن أبي أوفى عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل».

وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قال الله : إذا همّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه ، فإن عملها فاكتبوها سيئة ، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ، فإن عملها فاكتبوها عشرا» لفظ مسلم وهو في إفراده من طريق إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء ، عن أبي هريرة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «قال الله : إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة ، فإن عملها كتبتها له عشر حسنات ، إلى سبعمائة ضعف ، وإذا هم بسيئة فلم يعملها لم أكتبها عليه ، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة». وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن همام بن منبه ، قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «قال الله : إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل ، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها ، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها ، فإن عملها فأنا أكتبها له بمثلها». وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «قالت الملائكة : رب وذاك أن عبدك ، يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال : ارقبوه ، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها ، وإن تركها فاكتبوها له حسنة ، وإنما تركها من جراي». وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا أحسن أحد إسلامه ، فإن له بكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وكل سيئة تكتب بمثلها حتى يلقى الله عزوجل» تفرد به مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق بهذا السياق واللفظ ، وبعضه في صحيح البخاري.

وقال مسلم (٣) أيضا : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن هشام ، عن ابن سيرين ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ١٤٥.

(٢) صحيح البخاري (تفسير سورة باب ٢٢)

(٣) صحيح مسلم (إيمان حديث ٢٠٦)

٥٦٧

عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ضعف ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب له ، وإن عملها كتبت» تفرد به مسلم دون غيره من أصحاب الكتب. وقال مسلم (١) أيضا : حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا عبد الوارث عن الجعد أبي عثمان ، حدثنا أبو رجاء العطاردي عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يروي عن ربه تعالى ، قال «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك ، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة ، وإن همّ بها فعملها ، كتبها الله عنده سيئة واحدة» ثم رواه مسلم عن يحيى بن يحيى ، عن جعفر بن سليمان ، عن الجعد أبي عثمان في هذا الإسناد بمعنى حديث عبد الرزاق (٢). زاد «ومحاها الله ولا يهلك على الله إلا هالك» وفي حديث سهيل (٣) عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألوه فقالوا : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به ، قال «وقد وجدتموه؟» قالوا : نعم ، قال «ذاك صريح الإيمان» لفظ مسلم ، وهو عند مسلم أيضا من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ، وروى مسلم أيضا من حديث مغيرة ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عبد الله ، قال : سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الوسوسة ، قال «تلك صريح الإيمان».

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) فإنها لم تنسخ ، ولكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول : إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي ، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم ، وهو قوله (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) يقول : يخبركم ، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب ، وهو قوله (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) وهو قوله (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أي من الشك والنفاق. وقد روى العوفي والضحاك عنه قريبا من هذا.

وروى ابن جرير عن مجاهد والضحاك نحوه ، وعن الحسن البصري أنه قال : هي محكمة لم تنسخ ، واختار ابن جرير ذلك واحتج على أنه لا يلزم من المحاسبة المعاقبة ، وأنه تعالى قد يحاسب ويغفر ، وقد يحاسب ويعاقب ، بالحديث الذي رواه عند هذه الآية قائلا : حدثنا (٤) ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد وهشام (ح) وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ،

__________________

(١) صحيح مسلم (إيمان حديث ٢٠٧)

(٢) في صحيح مسلم : «بمعنى حديث عبد الوارث» وهو الصواب.

(٣) صحيح مسلم (إيمان حديث ٢٠٩)

(٤) تفسير الطبري ٣ / ١٥٠.

المسند (ج ٤ ص ١١٨)

٥٦٨

حدثنا ابن هشام ، قالا جميعا في حديثهما عن قتادة عن صفوان بن محرز ، قال : بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف ، إذ عرض له رجل فقال : يا ابن عمر ، ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في النجوى ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «يدنو المؤمن من ربه عزوجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول له : هل تعرف كذا؟ فيقول : رب اغفر ، مرتين ، حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ ، قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم ، قال : فيعطى صحيفة حسناته أو كتابه بيمينه ، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود : ١٨] وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة عن قتادة به.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد ، عن أبيه ، قال : سألت عائشة عن هذه الآية (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) قالت : ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها ، فقالت : هذه مبايعة الله العبد وما يصيبه من الحمى والنكبة ، والبضاعة يضعها في يد كمه فيفقدها ، فيفزع لها ثم يجدها في ضبنته حتى أن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر ، وكذا رواه الترمذي وابن جرير من طريق حماد بن سلمة به ، وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديثه. (قلت) وشيخه علي بن جدعان ضعيف يغرب في رواياته ، وهو يروي هذا الحديث عن امرأة أبيه أم محمد أمية بنت عبد الله ، عن عائشة ، وليس لها عنها في الكتب سواه.

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٢٨٦)

ذكر الأحاديث الواردة في فضل هاتين الآيتين الكريمتين نفعنا الله بهما

الحديث الأول ـ قال البخاري : حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا شعبة عن سليمان ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «من قرأ الآيتين» وحدثنا أبو نعيم : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن أبي مسعود ، قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ بالآيتين ـ من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» وقد أخرجه بقية الجماعة عن طريق سليمان بن مهران الأعمش بإسناده مثله وهو في الصحيحين من طريق الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن عنه به ، وهو في الصحيحين أيضا عن عبد الرحمن ، عن

٥٦٩

علقمة ، عن ابن مسعود ، قال عبد الرحمن : ثم لقيت أبا مسعود فحدثني به ، وهكذا رواه أحمد بن حنبل (١) ، حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا شريك ، عن عاصم ، عن المسيب بن رافع ، عن علقمة ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلته كفتاه».

الحديث الثاني ـ قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا حسين ، حدثنا شيبان ، عن منصور ، عن ربعي ، عن خرشة بن الحر ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي» قد رواه ابن مردويه من حديث الأشجعي ، عن الثوري ، عن منصور ، عن ربعي ، عن زيد بن ظبيان ، عن أبي ذر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش».

الحديث الثالث ـ قال مسلم (٣) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا مالك بن مغول (ح) وحدثنا ابن نمير وزهير بن حرب ، جميعا عن عبد الله بن نمير ، وألفاظهم متقاربة ، قال ابن نمير : حدثنا أبي ، حدثنا مالك ابن مغول عن الزبير بن عدي ، عن طلحة ، عن مرة ، عن عبد الله ، قال : لما أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انتهي به إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السادسة ، إليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط له من فوقها فيقبض منها ، قال (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) [النجم : ١٦] قال : فراش من ذهب ، قال : أعطي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثا : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات (٤).

الحديث الرابع قال أحمد (٥) حدثنا إسحاق بن إبراهيم الرازي حدثنا سلمة بن الفضل حدثني محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن عقبة بن عامر الجهني قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة فإني أعطيتهما من كنز تحت العرش» هذا إسناد حسن ولم يخرجوه في كتبهم.

الحديث الخامس ـ قال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي ، أخبرنا مروان ، أنبأنا ابن عوانة عن أبي مالك ، عن ربعي ، عن حذيفة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضلنا على الناس بثلاث أوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من بيت كنز تحت العرش ، لم يعطها أحد قبلي ، ولا يعطاها أحد بعدي» ثم رواه من حديث نعيم بن أبي هند

__________________

(١) المسند (ج ٥ ص ١١٨)

(٢) المسند (ج ٥ ص ١٥١)

(٣) صحيح مسلم (إيمان حديث ٢١٠)

(٤) المقحمات : الذنوب العظام الكبائر التي تهلك أصحابها وتوردهم النار.

(٥) المسند (ج ٤ ص ١٤٧)

٥٧٠

عن ربعي عن حذيفة بنحوه.

الحديث السادس ـ قال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي بن نافع ، أنبأنا إسماعيل بن الفضل ، أخبرنا محمد بن بزيع ، أخبرنا جعفر بن عون عن مالك بن مغول ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، قال : لا أرى أحدا عقل الإسلام ينام حتى يقرأ خواتيم سورة البقرة ، فإنها من كنز أعطيه نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تحت العرش ، ورواه وكيع في تفسيره عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمير بن عمرو المخارقي ، عن علي ، قال : ما أرى أحدا يعقل ، بلغه الإسلام ، ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة ، فإنها من كنز تحت العرش.

الحديث السابع ـ قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا بندار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا حماد بن سلمة عن أشعث بن عبد الرحمن الجرمي ، عن أبي قلابة ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن النعمان بن بشير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «٧ ن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام ، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ، ولا يقرأ بهن في دار ثلاث ليال فيقر بها شيطان» ثم قال : هذا حديث غريب ، وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث حماد بن سلمة به وقال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه.

الحديث الثامن قال ابن مردويه : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن مدين ، أخبرنا الحسن بن الجهم ، أخبرنا إسماعيل بن عمرو ، أخبرنا ابن مريم ، حدثني يوسف بن أبي الحجاج ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأ سورة البقرة وآية الكرسي ضحك وقال : «إنهما من كنز الرحمن تحت العرش» وإذا قرأ (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) استرجع واستكان.

الحديث التاسع قال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن محمد بن كوفي ، حدثنا أحمد بن يحيى بن حمزة ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله بن أبي حميد ، عن أبي مليح ، عن معقل بن يسار ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش والمفصل نافلة».

الحديث العاشر ـ قد تقدم في فضائل الفاتحة من رواية عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضا فوقه ، فرفع جبريل بصره إلى السماء ، فقال له : أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته. رواه مسلم والنسائي وهذا لفظه.

فقوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) إخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، قال ابن

٥٧١

جرير (١) : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال لما نزلت عليه هذه الآية «ويحق له أن يؤمن» وقد روى الحاكم في مستدركه (٢) : حدثنا أبو النضر الفقيه ، حدثنا معاذ بن نجدة القرشي ، حدثنا خلاد بن يحيى ، حدثنا أبو عقيل عن يحيى بن أبي كثير ، عن أنس بن مالك ، قال : لما نزلت هذه الآية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حق له أن يؤمن» ، ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وقوله (وَالْمُؤْمِنُونَ) عطف على الرسول ، ثم أخبر عن الجميع فقال (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد ، فرد صمد ، لا إله غيره ، ولا رب سواه. ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء ، لا يفرقون بين أحد منهم ، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، بل الجميع عندهم صادقون بارّون راشدون مهديون هادون إلى سبيل الخير ، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله حتى نسخ الجميع بشرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خاتم الأنبياء والمرسلين ، الذي تقوم الساعة على شريعته ، ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين ، وقوله (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي سمعنا قولك يا ربنا وفهمناه ، وقمنا به وامتثلنا العمل بمقتضاه ، (غُفْرانَكَ رَبَّنا) سؤال للمغفرة والرحمة واللطف ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا ابن فضل عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قول الله (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) ـ إلى قوله ـ (غُفْرانَكَ رَبَّنا) قال : قد غفرت لكم (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي المرجع والمآب يوم الحساب. قال ابن جرير (٣) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير عن بيان ، عن حكيم ، بن جابر ، قال : لما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) قال جبريل : إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه ، فسأل (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إلى آخر هذه الآية ، وقوله (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي لا يكلف أحدا فوق طاقته ، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم ، وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة في قوله (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) أي هو وإن حاسب وسأل ، لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه ، فأما مالا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها ، فهذا لا يكلف به الإنسان ، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان ، وقوله (لَها ما كَسَبَتْ) أي من خير (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) أي من شر وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف.

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ١٥٢.

(٢) انظر الدر المنثور ١ / ٦٦٤.

(٣) تفسير الطبري ٣ / ١٥٤.

٥٧٢

ثم قال تعالى مرشدا عباده إلى سؤاله ، وقد تكلف لهم بالإجابة كما أرشدهم وعلمهم أن يقولوا (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) أي إن تركنا فرضا على جهة النسيان ، أو فعلنا حراما كذلك ، أو أخطأنا أي الصواب في العمل جهلا منا بوجهه الشرعي. وقد تقدم في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ، قال «قال الله : نعم» ولحديث ابن عباس ، قال الله «قد فعلت».

وروى ابن ماجة (١) في سننه وابن حبان في صحيحه من حديث أبي عمرو الأوزاعي ، عن عطاء ؛ قال ابن ماجة في روايته عن ابن عباس ، وقال الطبراني وابن حبان ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وقد روي من طريق آخر وأعله أحمد وأبو حاتم ، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن شهر ، عن أم الدرداء ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث : عن الخطأ والنسيان ، والاستكراه» قال أبو بكر : فذكرت ذلك للحسن ، فقال : أجل ، أما تقرأ بذلك قرآنا (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا).

وقوله (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) أي لا تكلفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم ، التي بعثت نبيك محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به من الدين الحنيف السهل السمح ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «قال الله : نعم» وعن ابن عباس ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «قال الله قد فعلت». وجاء في الحديث من طرق عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «بعثت بالحنيفية السمحة».

وقوله (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) أي من التكليف والمصائب والبلاء لا تبتلنا بما لا قبل لنا به ، وقد قال مكحول في قوله (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) قال : الغربة والغلمة ، [والإنعاظ] (٢) رواه ابن أبي حاتم ، قال الله : نعم ، وفي الحديث الآخر : قال الله : قد فعلت.

وقوله (وَاعْفُ عَنَّا) أي فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا (وَاغْفِرْ لَنا) أي فيما بيننا وبين عبادك فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة (وَارْحَمْنا) أي فيما يستقبل فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر ، ولهذا قالوا : إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء : أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه ، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم ، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره. وقد تقدم في الحديث أن الله قال : نعم ، وفي الحديث الآخر : قال الله : قد فعلت.

__________________

(١) سنن ابن ماجة (طلاق باب ١٦)

(٢) الزيادة من الدر المنثور (١ / ٦٦٧) من إخراج ابن أبي حاتم عن مكحول.

٥٧٣

وقوله (أَنْتَ مَوْلانا) أي أنت ولينا وناصرنا ، وعليك توكلنا ، وأنت المستعان ، وعليك التكلان ، ولا حول لنا ولا قوة إلا بك ، (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي الذين جحدوا دينك ، وأنكروا وحدانيتك ورسالة نبيك ، وعبدوا غيرك وأشركوا معك من عبادك ، فانصرنا عليهم ، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة ، قال الله : نعم. وفي الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس ، قال الله : قد فعلت. وقال ابن جرير (١) : حدثني المثنى بن إبراهيم ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق أن معاذا رضي الله عنه ، كان إذا فرغ من هذه السورة (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) قال : آمين. ورواه وكيع عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن رجل ، عن معاذ بن جبل ، أنه كان إذا ختم البقرة قال : آمين (٢).

تم الجزء الأول ، ويليه الجزء الثاني

وأوله : «تفسير سورة آل عمران»

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ١٦١.

(٢) قال في الدر المنثور (١ / ٦٦٨) : وأخرجه أبو عبيد وابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر عن معاذ بن جبل.

٥٧٤

فهرس محتويات

الجزء الأول

من

تفسير ابن كثير

٥٧٥
٥٧٦

فهرس المحتويات

مقدمة.......................................................................... ٣

مقدمة المؤلف.................................................................... ٧

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة................................................................... ١٨

ذكر ما ورد في فضل الفاتحة...................................................... ٢٠

الكلام على ما يتعلق بهذا الحديث مما يختص بالفاتحة من وجوه........................ ٢٤

الكلام على تفسير الاستعاذة..................................................... ٢٦

[بسم الله الرحمن الرحيم]........................................................ ٣١

فصل في فضلها................................................................ ٣٣

الآية : ٢...................................................................... ٤٢

الآيتان : ٣ و ٤............................................................... ٤٦

الآية : ٥...................................................................... ٤٨

الآية : ٦...................................................................... ٥٠

الآية : ٧...................................................................... ٥٣

تفسير سورة البقرة

ذكر ما ورد في فضلها........................................................... ٦١

ذكر ما ورد في فضلها مع آل عمران............................................... ٦٣

ذكر ما ورد في فضل السبع الطوال................................................ ٦٥

فصل : البقرة نزلت بالمدينة...................................................... ٦٦

الآية : ١...................................................................... ٦٧

٥٧٧

الآية : ٢...................................................................... ٧٢

الآية : ٣...................................................................... ٧٥

الآية : ٤...................................................................... ٨٠

الآية : ٥...................................................................... ٨٢

الآية : ٦...................................................................... ٨٣

الآية : ٧...................................................................... ٨٤

الآيتان : ٨ و ٩............................................................... ٨٧

الآية : ١٠.................................................................... ٨٩

الآيتان : ١١ و ١٢............................................................ ٩١

الآية : ١٣.................................................................... ٩٢

الآيتان : ١٤ و ١٥............................................................ ٩٣

الآيات : ١٦ ـ ١٨............................................................. ٩٦

الآيتان : ١٩ و ٢٠............................................................ ٩٩

الآيتان : ٢١ و ٢٢.......................................................... ١٠٣

الآيتان : ٢٣ و ٢٤.......................................................... ١٠٧

الآية : ٢٥.................................................................. ١١٢

الآيتان : ٢٦ و ٢٧.......................................................... ١١٤

الآية : ٢٨.................................................................. ١٢٠

الآية : ٢٩.................................................................. ١٢١

الآية : ٣٠.................................................................. ١٢٣

الآيات : ٣١ ـ ٣٣........................................................... ١٣٠

الآية : ٣٤.................................................................. ١٣٤

الآيتان : ٣٥ و ٣٦.......................................................... ١٤٠

الآية : ٣٧.................................................................. ١٤٥

الآيتان : ٣٨ و ٣٩.......................................................... ١٤٦

٥٧٨

الآيتان : ٤٠ و ٤١.......................................................... ١٤٧

الآيتان : ٤٢ و ٤٣.......................................................... ١٥٠

الآية : ٤٤.................................................................. ١٥١

الآيتان : ٤٥ و ٤٦.......................................................... ١٥٤

الآيتان : ٤٧ و ٤٨.......................................................... ١٥٨

الآيتان : ٤٩ و ٥٠.......................................................... ١٦٠

الآيات : ٥١ ـ ٥٣........................................................... ١٦٣

الآية : ٥٤.................................................................. ١٦٤

الآيتان : ٥٥ و ٥٦.......................................................... ١٦٦

الآية : ٥٧.................................................................. ١٦٨

الآيتان : ٥٨ و ٥٩.......................................................... ١٧٤

الآية : ٦٠.................................................................. ١٧٧

الآية : ٦١.................................................................. ١٧٩

الآية : ٦٢.................................................................. ١٨٢

الآيات : ٦٣ ـ ٦٦........................................................... ١٨٥

الآية : ٦٧.................................................................. ١٩٠

الآيات : ٦٨ ـ ٧١........................................................... ١٩٣

الآيتان : ٧٢ و ٧٣.......................................................... ١٩٦

الآية : ٧٤.................................................................. ١٩٨

الآيات : ٧٥ ـ ٧٧........................................................... ٢٠١

الآيتان : ٧٨ و ٧٩.......................................................... ٢٠٣

الآية : ٨٠.................................................................. ٢٠٦

الآيتان : ٨١ و ٨٢.......................................................... ٢٠٧

الآية : ٨٣.................................................................. ٢٠٨

الآيات : ٨٤ ـ ٨٦........................................................... ٢١٠

٥٧٩

الآية : ٨٧.................................................................. ٢١٢

الآية : ٨٨.................................................................. ٢١٥

الآية : ٨٩.................................................................. ٢١٦

الآية : ٩٠.................................................................. ٢١٧

الآيتان : ٩١ و ٩٢.......................................................... ٢١٨

الآية : ٩٣.................................................................. ٢١٩

الآيات : ٩٤ ـ ٩٦........................................................... ٢٢٠

الآيتان : ٩٧ و ٩٨.......................................................... ٢٢٤

الآيات : ٩٩ ـ ١٠٣......................................................... ٢٣١

الآيتان : ١٠٤ و ١٠٥....................................................... ٢٥٦

الآيتان : ١٠٦ و ١٠٧....................................................... ٢٥٨

الآية : ١٠٨................................................................. ٢٦٢

الآيتان : ١٠٩ و ١١٠....................................................... ٢٦٤

الآيات : ١١١ ـ ١١٣........................................................ ٢٦٦

الآية : ١١٤................................................................. ٢٦٩

الآية : ١١٥................................................................. ٢٧١

الآيتان : ١١٦ و ١١٧....................................................... ٢٧٥

الآية : ١١٨................................................................. ٢٧٨

الآية : ١١٩................................................................. ٢٧٩

الآيتان : ١٢٠ و ١٢١....................................................... ٢٨١

الآيات : ١٢٢ ـ ١٢٤........................................................ ٢٨٣

الآية : ١٢٥................................................................. ٢٨٩

الآيات : ١٢٦ ـ ١٢٨........................................................ ٢٩٥

الآية : ١٢٩................................................................. ٣١٦

الآيات : ١٣٠ ـ ١٣٢........................................................ ٣١٨

٥٨٠