تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

خلفت لهم نصف مالي ، وأما أبو بكر فجاء بماله كله يكاد أن يخفيه من نفسه ، حتى دفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له النبي : «ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر؟» فقال : عدة الله وعدة رسوله ، فبكى عمر رضي الله عنه وقال : بأبي أنت وأمي يا أبا بكر ، والله ما استبقنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقا ، وهذا الحديث روي من وجه آخر عن عمر رضي الله عنه ، وإنما أوردناه هاهنا لقول الشعبي : إن الآية نزلت في ذلك ، ثم إن الآية عامة في أن إخفاء الصدقة أفضل ، سواء كانت مفروضة أو مندوبة ، لكن روى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسيره هذه الآية ، قال : جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها فقال بسبعين ضعفا ، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها فقال بخمسة وعشرين ضعفا.

وقوله : (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) أي بدل الصدقات ولا سيما إذا كانت سرا ، يحصل لكم الخير في رفع الدرجات ويكفر عنكم السيئات. وقد قرئ ويكفر بالجزم عطفا على محل جواب الشرط وهو قوله : (فَنِعِمَّا هِيَ) كقوله : (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) [المنافقون : ١٠] وقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي لا يخفى عليه من ذلك شيء وسيجزيكم عليه.

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢٧٤)

قال أبو عبد الرحمن النسائي : أنبأنا محمد بن عبد السلام بن عبد الرحيم ، أنبأنا الفريابي حدثنا سفيان عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين ، فسألوا فرخص لهم ، فنزلت هذه الآية (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ ، وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ). وكذا رواه أبو حذيفة وابن المبارك وأبو أحمد الزبيدي وأبو داود الحضرمي عن سفيان ، وهو الثوري به ، وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن يعني الدشتكي ، حدثني أبي عن أبيه ، حدثنا أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يأمر بأن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام ، حتى نزلت هذه الآية (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) إلى آخرها ، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين ، وسيأتي عند قوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) [الممتحنة :

٥٤١

٨] ، حديث أسماء بنت الصديق في ذلك.

وقوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) كقوله (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) [فصلت : ٤٦ ؛ والجاثية : ١٥] ونظائرها في القرآن كثيرة.

وقوله (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) قال الحسن البصري : نفقة المؤمن لنفسه ولا ينفق المؤمن إذا أنفق إلا ابتغاء وجه الله ، وقال عطاء الخراساني : يعني إذا عطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله. وهذا معنى حسن وحاصله أن المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه الله ، فقد وقع أجره على الله ، ولا عليه في نفس الأمر لمن أصاب البرّ أو فاجر أو مستحق أو غيره ، وهو مثاب على قصده ، ومستند هذا تمام الآية (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) والحديث المخرج في الصحيحين (١) من طريق أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قال رجل لأتصدقنّ الليلة بصدقة ، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية ، فأصبح الناس يتحدثون : تصدق على زانية ، فقال : اللهم لك الحمد على زانية ، لأتصدقن الليلة بصدقة فوضعها في يد غني ، فأصبحوا يتحدثون : تصدق الليلة على غني ، قال : اللهم لك الحمد على غني ، لأتصدقن الليلة بصدقة ، فخرج فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون : تصدق الليلة على سارق ، فقال : اللهم لك الحمد على زانية وعلى غني وعلى سارق ، فأتي فقيل له : أما صدقتك فقد قبلت ، وأما الزانية فلعلها أن تستعفّ بها عن زناها ، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله ، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته».

وقوله (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) يعني المهاجرين الذين انقطعوا إلى الله وإلى رسوله وسكنوا المدينة ، وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم و (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) يعني سفرا للتسبب في طلب المعاش والضرب في الأرض هو السفر ، قال الله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) [النساء : ١٠١] وقال تعالى : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [المزمل : ٢٠].

وقوله (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أي الجاهل بأمرهم وحالهم يحسبهم أغنياء من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم ، وفي هذا المعنى الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان ، واللقمة واللقمتان ، والأكلة والأكلتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس شيئا». رواه أحمد (٢) من حديث ابن مسعود أيضا.

__________________

(١) أخرجه مسلم (زكاة حديث ٧٨) والنسائي (زكاة باب ٤٧) وأحمد في المسند (ج ٢ ص ٣٢٢)

(٢) المسند (ج ٢ ص ٣١٦)

٥٤٢

وقوله (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) أي بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم ، كما قال تعالى : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) [الفتح : ٢٩] وقال (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد : ٣٠] وفي الحديث الذي في السنن «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) [الحجر : ٧٥].

وقوله : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) أي لا يلحون في المسألة ويكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه ، فإن سأل وله ما يغنيه عن المسألة ، فقد ألحف في المسألة ، قال البخاري (١) : حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شريك بن أبي نمر أن عطاء بن يسار وعبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري ، قالا : سمعنا أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ، ولا اللقمة واللقمتان ، إنما المسكين الذي يتعفف ، اقرؤا إن شئتم يعني قوله (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) وقد رواه مسلم من حديث إسماعيل بن جعفر المديني ، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن عطاء بن يسار وحده ، عن أبي هريرة به ، وقال أبو عبد الرحمن النسائي (٢) : أخبرنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل ، أخبرنا شريك وهو ابن أبي نمر عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة به ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ، واللقمة واللقمتان ، إنما المسكين المتعفف ، اقرءوا إن شئتم (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) وروى البخاري من حديث شعبة ، عن محمد بن أبي زياد ، عن أبي هريرة ، عن النبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوه.

وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي ذئب ، عن أبي الوليد ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ليس المسكين بالطواف عليكم فتطعمونه لقمة لقمة ، إنما المسكين المتعفف الذي لا يسأل الناس إلحافا».

وقال ابن جرير : حدثني معتمر عن الحسن بن ماتك ، عن صالح بن سويد ، عن أبي هريرة ، قال : ليس المسكين بالطوّاف الذي ترده الأكلة والأكلتان ، ولكن المسكين المتعفف في بيته لا يسأل الناس شيئا تصيبه الحاجة ، اقرءوا إن شئتم (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً).

وقال الإمام أحمد (٣) أيضا : حدثنا أبو بكر الحنفي ، حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن أبيه ، عن رجل من مزينة أنه قالت له أمه : ألا تنطلق فتسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يسأله الناس؟ فانطلقت أسأله فوجدته قائما يخطب ، وهو يقول «ومن استعف أعفه الله ، ومن استغنى أغناه الله ، ومن يسأل الناس وله عدل خمس أواق ، فقد سأل الناس إلحافا» فقلت بيني وبين نفسي : لناقة لي خير

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة ، باب ٤٨)

(٢) سنن النسائي (زكاة باب ٢٤)

(٣) المسند (ج ٤ ص ١٣٨)

٥٤٣

من خمس أواق ، ولغلامه ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق ، فرجعت ولم أسأل.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال عن عمارة بن غزية ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبيه ، قال : سرحتني أمي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسأله ، فأتيته فقعدت ، قال : فاستقبلني فقال «من استغنى أغناه الله ، ومن استعف أعفه الله ، ومن استكف كفاه الله ، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف ، قال : فقلت ناقتي الياقوتة خير من أوقية ، فرجعت فلم أسأله. وهكذا رواه أبو داود والنسائي عن قتيبة ، زاد أبو داود : وهشام بن عمار كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي الرجال بإسناده نحوه.

وقال ابن أبي حاتم ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو الجماهر ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال ، عن عمارة بن غزية ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، قال : قال أبو سعيد الخدري ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من سأل وله قيمة أوقية فهو ملحف». والأوقية أربعون درهما.

وقال أحمد (٢) : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن رجل من بني أسد ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن سأل أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا ، وقال الإمام أحمد (٣) أيضا : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان عن حكيم بن جبير ، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من سأل وله ما يغنيه ، جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا أو كدوحا في وجهه» قالوا : يا رسول الله وما غناه؟ قال «خمسون درهما أو حسابها من الذهب». وقد رواه أهل السنن الأربعة من حديث حكيم بن جبير الأسدي الكوفي ، وقد تركه شعبة بن الحجاج ، وضعفه غير واحد من الأئمة من جراء هذا الحديث.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا أبو حسين عبد الله بن أحمد بن يونس ، حدثني أبي ، حدثنا أبو بكر بن عياش عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، قال : بلغ الحارث رجلا كان بالشام من قريش ، أن أبا ذر كان به عوز فبعث إليه ثلاثمائة دينار ، فقال : ما وجد عبد الله رجلا أهون عليه مني ، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من سأل وله أربعون فقد ألحف» ولآل أبي ذر أربعون درهما وأربعون شاة وماهنان ، قال أبو بكر بن عياش ، يعني خادمين.

وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، أخبرنا إبراهيم بن محمد ، أنبأنا عبد الجبار ، أخبرنا سفيان عن داود بن سابور ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «من سأل وله أربعون درهما فهو ملحف وهو مثل سف الملة» يعني الرمل ، ورواه

__________________

(١) المسند (ج ٣ ص ٩)

(٢) المسند (ج ٤ ص ٣٦)

(٣) المسند (ج ١ ص ٣٨٨)

٥٤٤

النسائي عن أحمد بن سليمان ، عن أحمد بن آدم ، عن سفيان وهو ابن عيينة بإسناده نحوه.

قوله (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي لا يخفى عليه شيء منه وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة أحوج ما يكون إليه.

وقوله (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) هذا مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله وابتغاء مرضاته في جميع الأوقات من ليل ونهار ، والأحوال من سر وجهر ، حتى أن النفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضا ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لسعد بن أبي وقاص حين عاده مريضا عام الفتح ، وفي رواية عام حجة الوداع «وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة حتى ما تجعل في فيّ أمرأتك».

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن جعفر وبهز ، قال : حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت ، قال : سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاري يحدث عن أبي مسعود رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال «إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة» ، أخرجاه من حديث شعبة به.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن ، حدثنا محمد بن شعيب ، قال : سمعت سعيد بن يسار عن يزيد بن عبد الله بن عريب المليكي ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : نزلت هذه الآية (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) في أصحاب الخيل.

وقال حبش الصنعاني عن ابن شهاب ، عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : هم الذين يعلفون الخيل في سبيل الله ، رواه ابن أبي حاتم ثم قال : وكذا روي عن أبي أمامة وسعيد بن المسيب ومكحول.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، أخبرنا يحيى بن يمان عن عبد الوهاب بن مجاهد ، عن ابن جبير ، عن أبيه ، قال : كان لعلي أربعة دراهم ، فأنفق درهما ليلا ودرهما نهارا ودرهما سرا ودرهما علانية ، فنزلت (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) ، وكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الوهاب بن مجاهد ، وهو ضعيف ، ولكن رواه ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس ، أنها نزلت في علي بن أبي طالب.

وقوله (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي يوم القيامة على ما فعلوا من الإنفاق في الطاعات (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) تقدم تفسيره.

__________________

(١) المسند (ج ٤ ص ١٢٢)

٥٤٥

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٧٥)

لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات ، المخرجين الزكوات ، المتفضلين بالبر والصدقات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والأوقات ، شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات ، فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها ، إلى بعثهم ونشورهم ، فقال (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) ، أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه ، وتخبط الشيطان له ، وذلك أنه يقوم قياما منكرا. وقال ابن عباس : آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق ، رواه ابن أبي حاتم ، قال : وروي عن عوف بن مالك وسعيد بن جبير والسدي والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان نحو ذلك.

وحكي عن عبد الله بن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان أنهم قالوا في قوله (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) يعني لا يقومون يوم القيامة ، وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد والضحاك وابن زيد ، وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حنيف ، عن أبي عبد الله بن مسعود ، عن أبيه ، أنه كان يقرأ «الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يوم القيامة».

وقال ابن جرير (١) : حدثني المثنى ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا ربيعة بن كلثوم ، حدثنا أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب ، وقرأ (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) وذلك حين يقوم من قبره.

وفي حديث أبي سعيد في الإسراء ، كما هو مذكور في سورة سبحان ، أنه عليه‌السلام مر ليلتئذ بقوم لهم أجواف مثل البيوت ، فسأل عنهم ، فقيل : هؤلاء أكلة الربا. رواه البيهقي مطولا ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي الصلت ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات تجري من خارج بطونهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء أكلة الربا». ورواه الإمام أحمد ، عن حسن وعفان وكلاهما عن حماد بن سلمه به ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ١٠٢.

٥٤٦

وفي إسناده ضعف. وقد روى البخاري عن سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل : فأتينا على نهر ، حسبت أنه كان يقول : أحمر مثل الدم ، وإذا في النهر رجل سابح يسبح ، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة ، وإذا ذلك السابح يسبح ، ثم يأتي الذي قد جمع الحجارة عنده ، فيفغر له فاه فيلقمه حجرا ، وذكر في تفسيره أنه آكل الربا.

وقوله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا ، وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) ، أي إنما جوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه ، وليس هذا قياسا منهم للربا على البيع ، لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن ولو كان هذا من باب القياس لقالوا : إنما الربا مثل البيع ، وإنما قالوا : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أي هو نظيره ، فلم حرم هذا وأبيح هذا؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع ، أي هذا مثل هذا ، وقد أحل هذا وحرم هذا.

وقوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) يحتمل أن يكون من تمام الكلام ردا عليهم ، أي على ما قالوه من الاعتراض ، مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكما ، وهو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها وما ينفع عباده فيبيحه لهم ، وما يضرهم ينهاهم عنه ، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل ، ولهذا قال : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) أي من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه ، فله ما سلف من المعاملة ، لقوله : (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) [المائدة : ٩٥] وكما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة (١) «وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدميّ هاتين ، وأول ربا أضع ربا العباس» ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف ، كما قال تعالى : (فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) قال سعيد بن جبير والسدي : فله ما سلف ما كان أكل من الربا قبل التحريم.

وقال ابن أبي حاتم : قرئ على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني جرير بن حازم ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن أم يونس يعني امرأته العالية بنت أيفع ، أن عائشة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت لها أم محبة أم ولد لزيد بن أرقم : يا أم المؤمنين أتعرفين زيد بن أرقم؟

قالت : نعم ، قالت : فإني بعته عبدا إلى العطاء بثمانمائة ، فأحتاج إلى ثمنه ، فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة ، فقالت : بئس ما شريت وبئس ما اشتريت ، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إن لم يتب ، قالت : فقلت أرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة؟ قالت : نعم (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ) وهذا الأثر مشهور وهو دليل لمن حرم مسألة العينة ، مع ما جاء فيها من الأحاديث المذكورة المقررة في كتاب الأحكام ، ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) في سيرة ابن هشام (٢ / ٦٠٣) ومسند أحمد (ج ٥ ص ٧٣) أنه كان في خطبة الوداع وليس يوم فتح مكة.

٥٤٧

ثم قال تعالى : (وَمَنْ عادَ) أي إلى الربا ففعله بعد بلوغه نهي الله عنه ، فقد استوجب العقوبة ، وقامت عليه الحجة ، ولهذا قال : (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وقد قال أبو داود (١) : حدثنا يحيى بن معين ، أخبرنا عبد الله بن رجاء المكي ، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : لما نزلت (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من لم يذر المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله» ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن خثيم ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه.

وإنما حرمت المخابرة وهي المزارعة ببعض (٢) ما يخرج من الأرض والمزابنة : وهي اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض ، والمحاقلة وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض ، إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسما لمادة الربا ، لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف ، ولهذا قال الفقهاء : الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة ، ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه ، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم ، وقد قال تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ).

وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم ، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ثلاث وددت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه : الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا (٣) ـ يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا ـ والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله ، لأن ما أفضى إلى الحرام حرام ، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الحلال بين والحرام بين ، وبين ذلك أمور مشتبهات ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه» وفي السنن عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وفي الحديث الآخر : «الإثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس» وفي رواية «استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك».

وقال الثوري عن عاصم ، عن الشعبي ، عن ابن عباس ، قال : آخر ما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) سنن أبي داود (بيوع باب ٣٣)

(٢) أي أن يعطي المالك الفلاح أرضا يزرعها على بعض ما يخرج منها كالثلث أو الربع.

(٣) رواه البخاري (أشربة باب ٥) ومسلم (تفسير حديث ٣٣) وأبو داود (أشربة باب ١)

٥٤٨

آية الربا ، رواه البخاري عن قبيصة عنه ، وقال أحمد (١) عن يحيى عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة عن سعيد بن المسيب ، أن عمر قال : من آخر ما نزل ، آية الربا ، وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا ، فدعوا الربا والريبة ، رواه ابن ماجة وابن مردويه وروى ابن مردويه من طريق هياج بن بسطام ، عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري ، قال : خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : إني لعلّي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم ، وآمركم بأشياء لا تصلح لكم ، وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا ، وإنه قد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبينه لنا ، فدعوا ما يريبكم ، إلى ما لا يريبكم ، وقد قال ابن أبي عدي بالإسناد موقوفا ، فذكره ورده الحاكم في مستدركه.

وقد قال ابن ماجة (٢) ، حدثنا عمرو بن علي الصيرفي ، حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن زبيد عن إبراهيم عن مسروق عن عبد الله ، هو ابن مسعود ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الربا ثلاثة وسبعون بابا» ورواه الحاكم في مستدركه : من حديث عمرو بن علي الفلاس بإسناده مثله ، وزاد «أيسرها أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم» وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه. وقال ابن ماجة (٣) : حدثنا عبد الله بن سعيد ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن أبي معشر عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الربا سبعون حوبا (٤) ، أيسرها أن ينكح الرجل أمه».

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا هشيم عن عباد بن راشد ، عن سعيد بن أبي خيرة ، حدثنا الحسن منذ نحو أربعين أو خمسين سنة ، عن أبي هريرة أن رسول الله. صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا» ، قال : قيل له : الناس كلهم؟ قال «من لم يأكله منهم ناله من غباره» ، وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة ، من غير وجه ، عن سعيد بن أبي خيرة ، عن الحسن به ، ومن هذا القبيل وهو تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات ، الحديث الذي رواه الإمام أحمد (٦) ، حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش ، عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عائشة ، قالت : لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المسجد فقرأهن ، فحرم التجارة في الخمر ، وقد أخرجه الجماعة ، سوى الترمذي ، من طرق من الأعمش به ، وهكذا لفظ رواية البخاري عند تفسير هذه الآية ، فحرم التجارة ، وفي لفظ له عن عائشة ، قالت : لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا ، قرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الناس ، ثم حرم التجارة في الخمر.

__________________

(١) المسند (ج ١ ص ٣٦)

(٢) سنن ابن ماجة (تجارات باب ٥٨)

(٣) في الأصول «جزءا» وما أثبتناه من سنن ابن ماجة. والحوب : الإثم.

(٤) المسند (ج ٢ ص ٤٩٤)

(٥) المسند (ج ٦ ص ٤٦)

٥٤٩

قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة : لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك ، كما قال عليه‌السلام في الحديث المتفق عليه : «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها» وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما ، عند لعن المحلّل في تفسير قوله : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه» ، قالوا : وما يشهد عليه ويكتب إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي ، ويكون داخله فاسدا ، فالاعتبار بمعناه لا بصورته ، لأن الأعمال بالنيات ، وفي الصحيح : «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم ، وأعمالكم» وقد صنف الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية ، كتابا في إبطال التحليل ، تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل ، وقد كفى في ذلك ، وشفى ، فرحمه‌الله ، ورضي عنه.

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢٧٧)

يخبر الله تعالى أنه يمحق الربا ، أي يذهبه إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه ، أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به ، بل يعدمه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة ، كما قال تعالى : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [المائدة : ١٠٠] وقال تعالى : (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ ، فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) [الأنفال : ٣٧] وقال (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) [الروم : ٣٩] ، وقال ابن جرير (١) : في قوله (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل.

وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد (٢) في مسنده ، فقال : حدثنا حجاج. حدثنا شريك ، عن الركين بن الربيع عن أبيه ، عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل».

وقد رواه ابن ماجة : عن العباس بن جعفر عن عمرو بن عون ، عن يحيى بن زائدة عن إسرائيل عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري ، عن أبيه عن ابن مسعود عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال «ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قل» ، وهذا من باب المعاملة ، بنقيض المقصود ، كما قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا الهيثم بن رافع الطاطري ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ١٠٥.

(٢) المسند (ج ١ ص ٣٩٥)

(٣) المسند (ج ١ ص ٢١)

٥٥٠

حدثني أبو يحيى رجل من أهل مكة ، عن فروخ مولى عثمان ، أن عمر وهو يومئذ أمير المؤمنين ، خرج من المسجد فرأى طعاما منشورا ، فقال : ما هذا الطعام؟ فقالوا : طعام جلب إلينا ، قال : بارك الله فيه وفيمن جلبه ، قيل : يا أمير المؤمنين إنه قد احتكر ، قال : من احتكره؟ قالوا : فروخ مولى عثمان وفلان مولى عمر ، فأرسل إليهما ، فقال : ما حملكما على احتكار طعام المسلمين؟ قالا : يا أمير المؤمنين نشتري بأموالنا ونبيع ، فقال عمر : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالإفلاس أو بجذام» ، فقال فروخ عند ذلك : أعاهد الله وأعاهدك أن لا أعود في طعام أبدا ، وأما مولى عمر فقال : إنما نشتري بأموالنا ونبيع ، قال أبو يحيى : فلقد رأيت مولى عمر مجذوما ، ورواه ابن ماجة من حديث الهيثم بن رافع به ، ولفظه «من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالإفلاس والجذام» (١).

وقوله (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) قرئ بضم الياء والتخفيف ، من ربا الشيء يربو وأرباه يربيه ، أي كثره ونماه ينميه ، وقرئ يربي بالضم والتشديد من التربية ، كما قال البخاري : حدثنا عبد الله بن كثير ، أخبرنا كثير سمع أبا النصر ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه ، حتى يكون مثل الجبل» كذا رواه في كتاب الزكاة (٢) ، وقال في كتاب التوحيد : وقال خالد بن مخلد بن سليمان بن بلال ، عن عبد الله بن دينار فذكره بإسناده نحوه ، وقد رواه مسلم في الزكاة (٣) ، عن أحمد بن عثمان بن حكيم ، عن خالد بن مخلد ، فذكره ، قال البخاري ورواه مسلم بن أبي مريم ، وزيد بن أسلم ، وسهيل ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قلت : أما رواية مسلم بن أبي مريم ، فقد تفرد البخاري بذكرها ، وأما طريق زيد بن أسلم ، فرواها مسلم في صحيحه ، عن أبي الطاهر بن السرح عن أبي وهب ، عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم به ، وأما حديث سهيل ، فرواه مسلم عن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن عن سهيل به ، والله أعلم.

قال البخاري : وقال ورقاء عن ابن دينار عن سعيد بن يسار ، عن أبي هريرة ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أسند هذا الحديث من هذا الوجه الحافظ أبو بكر البيهقي ، عن الحاكم وغيره ، عن الأصم ، عن العباس المروزي ، عن أبي النضر ، هاشم بن القاسم ، عن ورقاء وهو ابن عمر اليشكري ، عن عبد الله بن دينار ، عن سعيد بن يسار ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب ، فإن الله يقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها

__________________

(١) سنن ابن ماجة (تجارات باب ٦)

(٢) صحيح البخاري (زكاة باب ٨)

(٣) صحيح مسلم (زكاة حديث ٦٤)

٥٥١

كما يربي أحدكم فلوه ، حتى يكون مثل أحد» وهكذا روى هذا الحديث مسلم والترمذي والنسائي جميعا ، عن قتيبة ، عن الليث بن سعد ، عن سعد المقبري ، وأخرجه النسائي من رواية مالك ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، ومن طريق يحيى القطان ، عن محمد بن عجلان ، ثلاثتهم عن سعيد بن يسار أبي الحباب المدني ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكره.

وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر ، فقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي ، حدثنا وكيع ، عن عباد بن منصور ، حدثنا القاسم بن محمد قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول ، الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله عزوجل يقبل الصدقة ، ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه ، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد» وتصديق ذلك في كتاب الله (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) وكذا رواه أحمد (١) ، عن وكيع ، وهو في تفسير وكيع ، ورواه الترمذي ، عن أبي كريب عن وكيع به ، وقال : حسن صحيح ، وكذا رواه الثوري عن عباد بن منصور به ، ورواه أحمد أيضا عن خلف بن الوليد ، عن ابن المبارك ، عن عبد الواحد بن ضمرة وعباد بن منصور ، كلاهما عن أبي نضرة ، عن القاسم به.

وقد رواه ابن جرير (٢) ، عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن القاسم بن محمد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن العبد إذا تصدق من طيب تقبّلها الله منه ، فيأخذها بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله ، وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله ، أو قال في كف الله حتى تكون مثل أحد ، فتصدقوا» وهكذا رواه أحمد : عن عبد الرزاق ، وهذا طريق غريب صحيح الإسناد ، ولكن لفظه عجيب ، والمحفوظ ما تقدم.

وروي عن عائشة أم المؤمنين ، فقال الإمام أحمد (٣) ، حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد عن ثابت ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يكون مثل أحد» تفرد به أحمد من هذا الوجه.

وقال البزار حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور حدثنا إسماعيل حدثني أبي عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن الضحاك بن عثمان عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الطيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، فيتلقاها الرحمن بيده ، فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو وصيفه» أو قال فصيله ، ثم قال : لا نعلم أحدا رواه عن يحيى بن سعيد عن عمرة إلا أبا أويس.

__________________

(١) المسند (ج ٢ ص ٤٧١)

(٢) تفسير الطبري ٣ / ١٠٦.

(٣) المسند (ج ٦ ص ٢٥١)

٥٥٢

وقوله (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) ، أي لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل ، ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة ، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال ، ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح ، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل ، بأنواع المكاسب الخبيثة ، فهو جحود لما عليه من النعمة ، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل ـ ثم قال تعالى مادحا للمؤمنين بربهم ، المطيعين أمره المؤدين شكره ، المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، مخبرا عما أعد لهم من الكرامة ، وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ(٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٨١)

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه ، ناهيا لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه ، فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال ، بعد هذا الإنذار (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك ، وقد ذكر زيد بن أسلم ، وابن جريج ومقاتل بن حيان والسدي ، أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف ، وبني المغيرة من بني مخزوم ، كان بينهم ربا في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه ، طلبت ثقيف أن تأخذه منهم ، فتشاورا وقالت بنو المغيرة لا نؤدي الربا في الإسلام ، فكتب في ذلك عتاب بن أسيد ، نائب مكة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية ، فكتب بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) فقالوا نتوب إلى الله ، ونذر ما بقي من الربا فتركوه كلهم ، وهذا تهديد ووعيد أكيد ، لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار قال ابن جريج : قال ابن عباس : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ) ، أي استيقنوا بحرب من الله ورسوله ، وتقدم من رواية ربيعة بن كلثوم ، عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب ، ثم قرأ (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ).

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه ، كان حقا على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع وإلا ضرب عنقه.

٥٥٣

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا هشام بن حسان ، عن الحسن وابن سيرين ، أنهما قالا : والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا ، وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله ، ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم ، فإن تابوا وإلا وضع فيه السلاح.

وقال قتادة : أوعدهم الله بالقتل كما يسمعون ، وجعلهم بهرجا أين ما أتوا ، فإياكم ومخالطة هذه البيوع من الربا ، فإن الله قد أوسع الحلال وطابه ، فلا يلجئنكم إلى معصيته فاقة. رواه ابن أبي حاتم ، وقال الربيع بن أنس : أوعد الله آكل الربا بالقتل ، رواه ابن جرير ، وقال السهيلي : ولهذا قالت عائشة لأم محبة مولاة زيد بن أرقم في مسألة العينة : أخبريه أن جهاده مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بطل إلا أن يتوب ، فخصت الجهاد لأنه ضد قوله : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) قال : وهذا المعنى ذكره كثير ، قال : ولكن هذا إسناده إلى عائشة ضعيف.

ثم قال تعالى : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ) أي بأخذ الزيادة (وَلا تُظْلَمُونَ) أي بوضع رؤوس الأموال أيضا ، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الحسين بن أشكاب ، حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان ، عن شبيب بن غرقدة البارقي ، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص ، عن أبيه ، قال : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع ، فقال «ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله ، لكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب ، موضوع كله» وكذا وجدته : سليمان بن الأحوص ، وقال ابن مردويه : حدثنا الشافعي ، حدثنا معاذ بن المثنى ، أخبرنا مسدد ، أخبرنا أبو الأحوص ، حدثنا شبيب بن غرقدة ، عن سليمان بن عمرو ، عن أبيه ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «ألا إن كلّ ربا من ربا الجاهلية موضوع ، فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون» وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد ، عن أبي حمزة الرقاشي عن عمر وهو ابن خارجة ، فذكره.

وقوله (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء ، فقال (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين : إما أن تقضي وإما أن تربي ، ثم يندب إلى الوضع عنه ، ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل ، فقال : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين ، وقد وردت الأحاديث من طرق متعددة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك.

فالحديث الأول عن أبي أمامة أسعد بن زرارة. قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن محمد بن شعيب الرجاني ، حدثنا يحيى بن حكيم المقوم ، حدثنا محمد بن بكر البرساني ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد ، حدثني عاصم بن عبيد الله ، عن أبي أمامة أسعد بن زرارة ، قال : قال

٥٥٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله ، فلييسر على معسر أو ليضع عنه».

حديث آخر عن بريدة. قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا محمد بن جحادة ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة» قال : ثم سمعته يقول : «من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة» قلت : سمعتك يا رسول الله تقول «من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة». ثم سمعتك تقول «من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة» ، قال : «له لكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين ، فإذا حل الدين فأنظره ، فله بكل يوم مثلاه صدقة».

حديث آخر عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري. قال أحمد (٢) : حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا أبو جعفر الخطمي ، عن محمد بن كعب القرظي ، أن أبا قتادة كان له دين على رجل ، وكان يأتيه يتقاضاه فيختبئ منه ، فجاء ذات يوم فخرج صبي ، فسأله عنه ، فقال : نعم هو في البيت يأكل خزيرة (٣) ، فناداه ، فقال : يا فلان ، أخرج فقد أخبرت أنك هاهنا ، فخرج إليه ، فقال : ما يغيبك عني؟ فقال إني معسر وليس عندي شيء ، قال : آلله أنك معسر؟ قال : نعم ، فبكى أبو قتادة ، ثم قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من نفس عن غريمه ، أو محا عنه ، كان في ظل العرش يوم القيامة» ، ورواه مسلم في صحيحه.

حديث آخر عن حذيفة بن اليمان ، قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا الأخنس أحمد بن عمران ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا أبو مالك الأشجعي ، عن ربعي بن خراش ، عن حذيفة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال : ماذا عملت في الدنيا؟ فقال : ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها ـ قالها ثلاث مرات ـ قال العبد عند آخرها : يا رب إنك كنت أعطيتني فضل مال ، وكنت رجلا أبايع الناس ، وكان من خلقي الجواز ، فكنت أيسر على الموسر وأنظر المعسر ، قال : فيقول الله عزوجل : أنا أحق من ييسر ، ادخل الجنة». وقد أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة من طرق عن ربعي بن حراش ، عن حذيفة ، زاد مسلم : وعقبة بن عامر وأبي مسعود البدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه ، ولفظ البخاري : حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا يحيى بن حمزة ، حدثنا الزهري عن عبد الله بن عبد الله ، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «كان تاجر يداين الناس ، فإذا رأى معسرا قال لفتيانه : تجاوزا عنه لعل الله يتجاوز عنا ، فتجاوز الله عنه» (٤).

__________________

(١) المسند (ج ٥ ص ٣٦٠)

(٢) المسند (ج ٥ ص ٣٠٨)

(٣) الخزيرة : لحم يقطع قطعا صغارا ثم يطبخ بماء كثير وملح ، فإذا اكتمل نضجه ذرّ عليه الدقيق وعصد به ثم أدم بإدام ما.

(٤) صحيح البخاري (أنبياء باب ٥٤ ؛ وبيوع باب ١٨)

٥٥٥

حديث آخر عن سهل بن حنيف ، قال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب ، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى ، حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك ، حدثنا عمرو بن ثابت ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن عبد الله بن سهل بن حنيف ، أن سهلا حدثه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «من أعان مجاهدا في سبيل الله أو غازيا أو غارما في عسرته أو مكاتبا في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

حديث آخر عن عبد الله بن عمر ، قال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن عبيد ، عن يوسف بن صهيب ، عن زيد العمى عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته ، فليفرج عن معسر». انفرد به أحمد.

حديث آخر عن أبي مسعود عقبة بن عمرو. قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا أبو مالك عن ربعي بن حراش ، عن حذيفة ، أن رجلا أتى به الله عزوجل ، فقال : ماذا عملت في الدنيا؟ فقال له الرجل : ما عملت مثقال ذرة من خير ، فقال ثلاثا ، وقال في الثالثة :

إني كنت أعطيتني فضلا من المال في الدنيا ، فكنت أبايع الناس ، فكنت أيسر على الموسر ، وأنظر المعسر. فقال تبارك وتعالى : نحن أولى بذلك منك ، تجاوزوا عن عبدي ، فغفر له. قال أبو مسعود : هكذا سمعت من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهكذا رواه مسلم من حديث أبي مالك سعد بن طارق به.

حديث آخر عن عمران بن حصين. قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا أبو بكر ، عن الأعمش ، عن أبي دواد ، عن عمران بن حصين قال ، قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان له على رجل حق فأخره ، كان له بكل يوم صدقة» ، غريب من هذا الوجه ، وقد تقدم عن بريدة نحوه.

حديث آخر عن أبي اليسر كعب بن عمرو. قال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا زائدة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ربعي ، قال : حدثنا أبو اليسر ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «من أنظر معسرا أو وضع عنه ، أظله الله عزوجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله». وقد أخرجه مسلم في صحيحه ومن وجه آخر من حديث عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت ، قال : خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا ، فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعه غلام له معه ضمامة من صحف ، وعلى أبي اليسر بردة ومعافري (٤) ، وعلى غلامة بردة ومعافري ، فقال له أبي : يا عم ، إني أرى في وجهك سفعة من غضب ، قال : أجل

__________________

(١) المسند (ج ٢ ص ٢٣)

(٢) المسند (ج ٤ ص ١١٨)

(٣) المسند (ج ٤ ص ٤٤٢)

(٤) المعافري والمعافرية : ثياب تنسب إلى معافر ـ حيّ من همدان.

٥٥٦

كان لي على فلان بن فلان ـ الحرامي ـ مال ، فأتيت أهله ، فسلمت فقلت : أثم هو؟ قالوا : لا ، فخرج عليّ ابن له جفر (١) ، فقلت : أين أبوك؟ فقال : سمع صوتك فدخل أريكة أمي ، فقلت : اخرج إلي فقد علمت أين أنت ، فخرج ، فقلت ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال : أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك ، خشيت والله أن أحدثك فأكذبك أو أعدك فأخلفك ، وكنت صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكنت والله معسرا. قال : قلت : آلله. قال : قلت : آلله؟ قال : الله. قلت : الله ثم قال : فأتى بصحيفته فمحاها بيده ، ثم قال : فإن وجدت قضاء فاقضني وإلا فأنت في حل ، فأشهد بصر عينيّ هاتين ـ ووضع إصبعيه على عينيه ـ وسمع أذنيّ هاتين ، ووعاه قلبي ـ وأشار إلى مناط قلبه ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول : من أنظر معسرا أو وضع عنه ، أظله الله في ظله. وذكر تمام الحديث.

حديث آخر عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثني أبو يحيى البزاز محمد بن عبد الرحمن ، حدثنا الحسن بن أسد بن سالم الكوفي ، حدثنا العباس بن الفضل الأنصاري ، عن هشام بن زياد القرشي ، عن أبيه ، عن محجن مولى عثمان ، عن عثمان ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «أظل الله عينا في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، من أنظر معسرا ، أو ترك لغارم».

حديث آخر عن ابن عباس. قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا نوح بن جعونة السلمي الخراساني ، عن مقاتل بن حيان ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المسجد وهو يقول بيده : هكذا ، وأومأ عبد الرحمن بيده إلى الأرض «من أنظر معسرا أو وضع عنه ، وقاه الله من فيح جهنم ألا إن عمل الجنة حزن بربوة ـ ثلاثا ـ ألا إن عمل النار سهل بسهوة ، والسعيد من وقي الفتن ، وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ، ما كظمها عبد الله إلا ملأ الله جوفه إيمانا» تفرد به أحمد.

طريق آخر قال الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد البوراني قاضي الحديبية من ديار ربيعة ، حدثنا الحسن بن علي الصدائي ، حدثنا الحكم بن الجارود ، حدثنا ابن أبي المتئد خال ابن عيينة ، عن أبيه ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أنظر معسرا إلى ميسرته أنظره الله بذنبه إلى توبته».

ثم قال تعالى يعظ عباده ، ويذكرهم زوال الدنيا ، وفناء ما فيها من الأموال وغيرها ، وإتيان الآخرة ، والرجوع إليه تعالى ، ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا ، ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر ، ويحذرهم عقوبته ، فقال : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ

__________________

(١) الجفر : الصبي انتفخ لحمه وصار له كرش.

(٢) المسند (ج ١ ص ٣٢٧)

٥٥٧

ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ، وقد روي أن هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن العظيم ، فقال ابن لهيعة : حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير قال : آخر ما نزل من القرآن كله (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ، وعاش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول هذه الآية تسع ليال ، ثم مات يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول ، رواه ابن أبي حاتم ، وقد رواه ابن مردويه من حديث المسعودي عن حبيب ابن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : آخر آية نزلت (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) وقد رواه النسائي من حديث يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن عبد الله بن عباس ، قال : آخر شيء نزل من القرآن (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ، وكذا رواه الضحاك والعوفي عن ابن عباس ، وروى الثوري عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : آخر آية نزلت (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) فكان بين نزولها وموت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم واحد وثلاثون يوما ، وقال ابن جريج : يقولون : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاش بعدها تسع ليال وبدء يوم السبت ومات يوم الإثنين ، رواه ابن جرير ، ورواه ابن عطية عن أبي سعيد ، قال آخر آية نزلت (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٨٢)

هذه الآية الكريمة أطول آية في القرآن العظيم ، وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس عن ابن شهاب ، قال حدثني سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين. وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس أنه قال لما نزلت آية الدين : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أول من جحد آدم عليه‌السلام ، إن الله لما خلق آدم مسح ظهره ، فأخرج منه

__________________

(١) المسند (ج ١ ص ٢٥١ ـ ٢٥٢)

٥٥٨

ما هو ذارئ إلى يوم القيامة ، فجعل يعرض ذريته عليه فرأى فيهم رجلا يزهر (١) ، فقال : أي رب من هذا؟ قال : هو ابنك داود ، قال : أي رب ، كم عمره ، قال ستون عاما ، قال : رب زد في عمره ، قال : لا إلا أن أزيده من عمرك ، وكان عمر آدم ألف سنة ، فزاده أربعين عاما ، فكتب عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة ، فلما احتضر آدم وأتته الملائكة ، قال : إنه بقي من عمري أربعون عاما ، فقيل له : إنك وهبتها لابنك داود ، قال : ما فعلت ، فأبرز الله عليه الكتاب وأشهد عليه الملائكة». وحدثنا أسود بن عامر ، عن حماد بن سلمة ، فذكره وزاد فيه «فأتمها الله لداود مائة وأتمها لآدم ألف سنة». وكذا رواه ابن أبي حاتم عن يوسف بن أبي حبيب ، عن أبي داود الطيالسي ، عن حماد بن سلمة : هذا حديث غريب جدا ، وعلي بن زيد بن جدعان في أحاديثه نكارة ، وقد رواه الحاكم في مستدركه بنحوه من حديث الحارث بن عبد الرحمن بن أبي وثاب عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، ومن رواية أبي داود بن أبي هند ، عن الشعبي عن أبي هريرة ، ومن طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، ومن حديث تمام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكره بنحوه.

فقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ، ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها ، وقد نبه على هذا في آخر الآية حيث قال : (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) وقال سفيان الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) قال : أنزلت في السلم (٢) إلى أجل غير معلوم ، وقال قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس ، قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله وأذن فيه ، ثم قرأ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ، رواه البخاري ، وثبت في الصحيحين من رواية سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح ، عن عبد الله بن كثير ، عن أبي المنهال ، عن ابن عباس ، قال قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، إلى أجل معلوم» (٣).

وقوله : (فَاكْتُبُوهُ) أمر منه تعالى بالكتابة للتوثقة والحفظ ، فإن قيل : فقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» فما الجمع بينه وبين الأمر بالكتابة؟ فالجواب أن الدين من حيث هو غير مفتقر إلى كتابة أصلا ، لأن كتاب الله

__________________

(١) يزهر : يضيء.

(٢) السّلم : بيع شيء موصوف في الذمة بثمن عاجل.

(٣) أخرجه البخاري (سلم باب ١ ، ٧٢) ومسلم) مساقاة حديث ١٢٨ وأبو داود (بيوع باب ٥٥) والترمذي (بيوع باب ٦٨). والنسائي (بيوع باب ٦٣) وابن ماجة (تجارات باب ٥٩)

٥٥٩

قد سهل الله ويسر حفظه على الناس ، والسنن أيضا محفوظة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والذي أمر الله بكتابته إنما هو أشياء جزئية تقع بين الناس ، فأمروا أمر إرشاد لا أمر إيجاب كما ذهب إليه بعضهم ، قال ابن جريج : من ادّان فليكتب ، ومن ابتاع فليشهد.

وقال قتادة : ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشي كان رجلا صحب كعبا ، فقال ذات يوم لأصحابه : هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له؟ فقالوا : وكيف يكون ذلك؟ قال : رجل باع بيعا إلى أجل فلم يشهد ولم يكتب فلما حل ماله جحده صاحبه ، فدعا ربه فلم يستجب له ، لأنه قد عصى ربه ، وقال أبو سعيد والشعبي والربيع بن أنس والحسن وابن جريج وابن زيد وغيرهم : كان ذلك واجبا ، ثم نسخ بقوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) [البقرة : ٢٨٣] والدليل على ذلك أيضا الحديث الذي حكي عن شرع من قبلنا مقررا في شرعنا ولم ينكر عدم الكتابة والإشهاد.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا ليث عن جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه ذكر أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار ، فقال : ائتني بشهداء أشهدهم. قال : كفى بالله شهيدا ، قال ائتني بكفيل قال : كفى بالله كفيلا. قال : صدقت ، فدفعها إلى أجل مسمى فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبا يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركبا فأخذ خشبة فنقرها ، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها ، ثم زجج (٢) موضعها ، ثم أتى بها البحر ، ثم قال : اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلانا ألف دينار ، فسألني كفيلا فقلت : كفى بالله كفيلا ، فرضي بذلك ؛ وسألني شهيدا ، فرضي بذلك ؛ وإني قد جهدت أن أجد مركبا أبعث بها إليه بالذي أعطاني فلم أجد مركبا وإني استودعتكها ، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ، ثم انصرف وهو في ذلك يطلب مركبا إلى بلده ، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا يجيئه بماله ، فإذا بالخشبة التي فيها المال ، فأخذها لأهله حطبا ، فلما كسرها وجد المال والصحيفة ، ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه ، فأتاه بألف دينار وقال : والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه قال : هل كنت بعثت إليّ بشيء؟ قال : ألم أخبرك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه؟ قال : فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة ، فانصرف بإلفك راشدا ، وهذا إسناد صحيح وقد رواه البخاري في سبعة مواضع من طرق صحيحة معلقا بصيغة الجزم ، فقال وقال الليث بن سعيد فذكره ، ويقال إنه في بعضها عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عنه.

__________________

(١) المسند (ج ٢ ص ٤٨)

(٢) زجج موضعها : سوى موضع النقر وأصلحه.

٥٦٠