تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

والصحيح أن الكرسي غير العرش ، والعرش أكبر منه ، كما دلت على ذلك الآثار والأخبار ، وقد اعتمد ابن جرير على حديث عبد الله بن خليفة عن عمر في ذلك ، وعندي في صحته نظر ، والله أعلم.

وقوله : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) أي لا يثقله ولا يكرثه حفظ السموات والأرض ، وما فيهما ، ومن بينهما ، بل ذلك سهل عليه ، يسير لديه ، وهو القائم على كل نفس بما كسبت ، الرقيب على جميع الأشياء ، فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شيء ، والأشياء كلها حقيرة بين يديه ، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وهو القاهر لكل شيء ، الحسيب على كل شيء ، الرقيب العلي العظيم ، لا إله غيره ، ولا رب سواه ، فقوله : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) كقوله : (الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) [الرعد : ٩] وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح ، إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه.

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٥٦)

يقول تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام ، فإنه بيّن واضح ، جلي دلائله وبراهينه ، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه ، بل من هداه الله للإسلام ، وشرح صدره ، ونور بصيرته ، دخل فيه علي بينة ، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره ، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا ، وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار ، وإن كان حكمها عاما.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كانت المرأة [من الأنصار] (٢) تكون مقلاتا (٣) ، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده ، فلما أجليت بنو النضير ، كان فيهم من أبناء الأنصار ، فقالوا : لا ندع أبناءنا ، فأنزل الله عزوجل (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) ، وقد رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بندار به ، ومن وجوه أخر عن شعبة به نحوه. وقد رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به ، وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم ، أنها نزلت في ذلك.

وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد الحرشي مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة أو عن سعيد ، عن ابن عباس قوله : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) قال : نزلت في رجل من الأنصار من

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ١٥.

(٢) الزيادة من الطبري.

(٣) المقلات : التي لا يعيش لها ولد.

٥٢١

بني سالم بن عوف ، يقال له الحصيني ، كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلا مسلما ، فقال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا استكرههما ، فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ، فأنزل الله فيه ذلك ، رواه ابن جرير. وروى السدي نحو ذلك ، وزاد : وكانا قد تنصرا على يدي تجار قدموا من الشام يحملون زيتا ، فلما عزما على الذهاب معهم ، أراد أبوهما أن يستكرههما ، وطلب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبعث في آثارهما ، فنزلت هذه الآية.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن عوف ، أخبرنا شريك عن أبي هلال عن أسق ، قال : كنت في دينهم مملوكا نصرانيا لعمر بن الخطاب ، فكان يعرض علي الإسلام ، فآبى ، فيقول (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ويقول : يا أسق ، لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين.

وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء ، أن هذه محمولة على أهل الكتاب ، ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية ، وقال آخرون : بل هي منسوخة بآية القتال ، وإنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف ، دين الإسلام ، فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ، ولم ينقد له أو يبذل الجزية ، قوتل حتى يقتل ، وهذا معنى الإكراه ، قال الله تعالى (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦] وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٩٣] وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة : ١٢٣] وفي الصحيح «عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل» يعني الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثائق والأغلال والقيود والأكبال ، ثم بعد ذلك يسلمون ، وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد (١) : حدثنا يحيى عن حميد عن أنس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل «أسلم» ، قال : إني أجدني كارها ، قال : «وإن كنت كارها» فإنه ثلاثي صحيح ، ولكن ليس من هذا القبيل ، فإنه لم يكرهه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإسلام ، بل دعاه إليه ، فأخبره أن نفسه ليست قابلة له ، بل هي كارهة ، فقال له : أسلم وإن كنت كارها ، فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص.

وقوله : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي من خلع الأنداد والأوثان ، وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله ، ووحد الله فعبده وحده ، وشهد أنه لا إله إلا هو (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي فقد ثبت في أمره ، واستقام على الطريق المثلى ، والصراط المستقيم ، قال أبو قاسم البغوي : حدثنا أبو روح البلدي ، حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم ، عن أبي إسحاق عن حسان ، هو ابن

__________________

(١) المسند (ج ١ ص ١٨١)

٥٢٢

قائد العبسي قال : قال عمر رضي الله عنه : إن الجبت السحر ، والطاغوت الشيطان ، وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال ، يقاتل الشجاع عمن لا يعرف ، ويفر الجبان من أمه ، وإن كرم الرجل دينه ، وحسبه خلقه ، وإن كان فارسيا أو نبطيا. وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث الثوري ، عن أبي إسحاق عن حسان بن قائد العبسي عن عمر ، فذكره ، ومعنى قوله في الطاغوت : إنه الشيطان ، قوي جدا ، فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان والتحاكم إليها ، والاستنصار بها.

وقوله : (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها) أي فقد استمسك من الدين بأقوى سبب ، وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم ، هي في نفسها محكمة مبرمة قوية وربطها قوي شديد ، ولهذا قال (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها) الآية ، قال مجاهد : العروة الوثقى يعني الإيمان ، وقال السدي : هو الإسلام ، وقال سعيد بن جبير والضحاك : يعني لا إله إلا الله ، وعن أنس بن مالك : العروة الوثقى القرآن. وعن سالم بن أبي الجعد قال : هو الحب في الله ، والبغض في الله ، وكل هذه الأقوال صحيحة ، ولا تنافي بينها. وقال معاذ بن جبل في قوله : (لَا انْفِصامَ لَها) دون دخول الجنة ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها) ثم قرأ (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١].

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا إسحاق بن يوسف ، حدثنا ابن عوف عن محمد بن قيس بن عباد ، قال : كنت في المسجد ، فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع ، فصلى ركعتين أوجز فيهما ، فقال القوم : هذا رجل من أهل الجنة ، فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله ، فدخلت معه فحدثته ، فلما استأنس ، قلت له : إن القوم لما دخلت المسجد ، قالوا : كذا وكذا ، قال : سبحان الله ، ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم ، وسأحدثك لم ، إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قصصتها عليه ، رأيت كأني في روضة خضراء. قال ابن عون فذكر من خضرتها وسعتها ـ وفي وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء ، في أعلى عروة ، فقيل لي اصعد عليه ، فقلت : لا أستطيع ، فجاءني منصف ـ قال ابن عون هو الوصيف ـ فرفع ثيابي من خلفي ، فقال : اصعد ، فصعدت حتى أخذت بالعروة ، فقال : استمسك بالعروة ، فاستيقظت وإنها لفي يدي ، فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقصصتها عليه فقال «أما الروضة ، فروضة الإسلام ، وأما العمود فعمود الإسلام ، وأما العروة فهي العروة الوثقى ، أنت على الإسلام حتى تموت» قال : وهو عبد الله بن سلام. أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الله بن عون. وأخرجه البخاري من وجه آخر ، عن محمد بن سيرين به.

طريق أخرى وسياق آخر قال الإمام أحمد (٢) : أنبأنا حسن بن موسى وعثمان ، قالا : أنبأنا

__________________

(١) المسند (ج ٥ ص ٤٥٢)

(٢) المسند (ج ٥ ص ٤٥٢ ، ٤٥٣)

٥٢٣

حماد بن سلمة ، عن عاصم بن بهدلة ، عن المسيب بن رافع ، عن خرشة بن الحر ، قال قدمت المدينة فجلست إلى مشيخة في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء شيخ يتوكأ على عصا له ، فقال القوم : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة ، فلينظر إلى هذا. فقام خلف سارية فصلى ركعتين ، فقلت له : قال بعض القوم : كذا وكذا ، فقال : الجنة لله ، يدخلها من يشاء ، وإني رأيت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رؤيا : كأن رجلا أتاني فقال : انطلق ، فذهبت معه فسلك بي منهجا عظيما ، فعرضت لي طريق عن يساري ، فأردت أن أسلكها ، فقال : إنك لست من أهلها ، ثم عرضت لي طريق عن يميني ، فسلكتها حتى انتهيت إلى جبل زلق ، فأخذ بيدي فزجل (١) بي فإذا أنا على ذروته ، فلا أتقارّ ولا أتماسك ، فإذا عمود من حديد في ذروته حلقة من ذهب ، فأخذ بيدي فزجل بي حتى أخذت بالعروة ، فقال : استمسك ، فقلت : نعم ، فضرب العمود برجله ، فاستمسكت بالعروة ، فقصصتها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «رأيت خيرا ، أما المنهج العظيم فالمحشر ، وأما الطريق التي عرضت عن يسارك فطريق أهل النار ، ولست من أهلها ، وأما الطريق التي عرضت عن يمينك فطريق أهل الجنة ، وأما الجبل الزلق فمنزل الشهداء ، وأما العروة التي استمسكت بها فعروة الإسلام ، فاستمسك بها حتى تموت» قال : فإنما أرجو أن أكون من أهل الجنة ، قال : وإذا هو عبد الله بن سلام ، وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن سليمان عن عفان ، وابن ماجة عن أبي شيبة عن الحسن بن موسى الأشيب ، كلاهما عن حماد بن سلمة به نحوه ، وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش ، عن سليمان بن مسهر ، عن خرشة بن الحر الفزاري به.

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥٧)

يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام ، فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير ، وأن الكافرين إنما وليهم الشياطين ، تزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات ، ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ولهذا وحد تعالى لفظ النور ، وجمع الظلمات ، لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة ولكنها باطلة ، كما قال (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام : ١٥٣] وقال تعالى (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] وقال تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) [النحل : ٤٨] إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق وانتشار الباطل وتفرده وتشعبه. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن ميسرة ، حدثنا عبد العزيز بن أبي عثمان ، عن موسى بن عبيدة ، عن أيوب بن خالد ، قال : يبعث أهل الأهواء ،

__________________

(١) زجل به : دفعه.

٥٢٤

أو قال : تبعث أهل الفتن ، فمن كان هواه الإيمان ، كانت فتنته بيضاء مضيئة ، ومن كان هواه الكفر ، كانت فتنته سوداء مظلمة ، ثم قرأ هذه الآية (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٥٨)

هذا الذي حاج إبراهيم في ربه هو ملك بابل نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ويقال نمرود بن فالخ بن عبار بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ، والأول قول مجاهد وغيره ، قال مجاهد : وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة : مؤمنان وكافران ، فالمؤمنان سليمان بن داود ، وذو القرنين ، والكافران : نمرود وبختنصر ، والله أعلم.

ومعنى قوله : (أَلَمْ تَرَ) أي بقلبك يا محمد (إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) ، أي وجود ربه ، وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره ، كما قال بعده فرعون لملئه (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨]. وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة ، إلا تجبره ، وطول مدته في الملك ، وذلك أنه يقال : أنه مكث أربعمائة سنة في ملكه ، ولهذا قال : (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) وكان طلب من إبراهيم دليلا ، على وجود الرب الذي يدعوا إليه ، فقال إبراهيم (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي إنما الدليل على وجوده ، حدوث هذه الأشياء ، المشاهدة بعد عدمها ، وعدمها بعد وجودها ، وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ، ضرورة ، لأنها لم تحدث بنفسها ، فلا بد لها من موجد أوجدها ، وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له. فعند ذلك قال المحاج ـ وهو النمرود ـ (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ). قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي ، وغير واحد : وذلك أني أوتى بالرجلين ، قد استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما ـ فيقتل ، وآمر بالعفو عن الآخر فلا يقتل ، فذلك معنى الإحياء والإماتة ـ والظاهر والله أعلم ـ أنه ما أراد هذا لأنه ليس جوابا لما قال إبراهيم ، ولا في معناه لأنه غير مانع لوجود الصانع ، وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عنادا ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك ، وأنه هو الذي يحيي ويميت ، كما اقتدى به فرعون في قوله (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) ولهذا قال له إبراهيم ، لما ادعى هذه المكابرة : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) أي إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت ، فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته ، فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق ، فإن كنت إلها كما ادعيت تحيي وتميت ، فأت بها من المغرب؟ فلما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا

٥٢٥

المقام ، بهت ، أي أخرس ، فلا يتكلم ، وقامت عليه الحجة.

قال الله تعالى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا يلهمهم حجة ولا برهانا ، بل حجتهم داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ، ولهم عذاب شديد ، وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين ، أن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى أوضح منه ، ومنهم من قد يطلق عبارة رديّة ترديه وليس كما قالوه ، بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني ، ويبين بطلان ما ادعاه نمرود في الأول والثاني ، ولله الحمد والمنة.

وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمرود بعد خروج إبراهيم من النار ، ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة. وروى عبد الرزاق عن معمر ، عن زيد بن أسلم أن النمرود كان عنده طعام وكان الناس يغدون إليه للميرة ، فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة ، فكان بينهما هذه المناظرة ، ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس ، بل خرج وليس معه شيء من الطعام ، فلما قرب من أهله ، عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه ، وقال : أشغل أهلي عني إذا قدمت عليهم ، فلما قدم وضع رحاله ، وجاء فاتكأ فنام ، فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعاما طيبا ، فعملت طعاما ، فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه ، فقال : أنى لك هذا؟ قالت : من الذي جئت به ، فعلم أنه رزق رزقهم الله عزوجل. قال زيد بن أسلم : وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكا ، يأمره بالإيمان بالله ، فأبى عليه ، ثم دعاه الثانية فأبى ثم الثالثة فأبى ، وقال : اجمع جموعك وأجمع جموعي ، فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس ، وأرسل الله عليهم بابا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس ، وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم ، وتركتهم عظاما بادية ، ودخلت واحدة منها في منخري الملك ، فمكثت في منخري الملك أربعمائة سنة ، عذبه الله بها ، فكان يضرب برأسه بالمرازب في هذه المدة ، حتى أهلكه الله بها.

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٥٩)

تقدم قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) وهو في قوة قوله : هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه ، ولهذا عطف عليه بقوله (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) اختلفوا في هذا المار من هو ، فروى ابن أبي حاتم ، عن عصام بن رواد ، عن آدم بن أبي إياس ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن ناجية بن كعب ، عن علي بن أبي طالب ، أنه

٥٢٦

قال : هو عزير. ورواه ابن جرير عن ناجية نفسه ، وحكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وسليمان بن بريدة ، وهذا القول هو المشهور وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد ، هو أرميا بن حلقيا. قال محمد بن إسحاق ، عمن لا يتهم عن وهب بن منبه ، أنه قال : هو اسم الخضر عليه‌السلام. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي قال : سمعت سليمان بن محمد اليساري الجاري من أهل الجار (١) ابن عم مطرف ، قال سمعت سلمان يقول : إن رجلا من أهل الشام يقول : إن الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه اسمه حزقيل بن بوار. وقال مجاهد بن جبر : هو رجل من بني إسرائيل ، وأما القرية فالمشهور أنها بيت المقدس ، مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها (وَهِيَ خاوِيَةٌ) أي ليس فيها أحد ، من قولهم خوت الدار تخوي خويا.

قوله (عَلى عُرُوشِها) أي ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها ، فوقف متفكرا فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة ، وقال (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها؟) وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه ، قال الله تعالى : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) قال : وعمرت البلاد بعد مضي سبعين سنة من موته ، وتكامل ساكنوها ، وتراجع بنو إسرائيل إليها ، فلما بعثه الله عزوجل بعد موته ، كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه : كيف يحي بدنه ، فلما استقل سويا (قال) الله له ، أي بواسطة الملك : (كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قال : وذلك أنه مات أول النهار ، ثم بعثه الله في آخر النهار ، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم ، فقال (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) وذلك أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير ، فوجده كما تقدم لم يتغير منه شيء ، لا العصير استحال ، ولا التين حمض ولا أنتن ، ولا العنب نقص (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) أي كيف يحييه الله عزوجل ، وأنت تنظر (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) أي دليلا على المعاد (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) أي نرفعها ، فيركب بعضها على بعض. وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث نافع بن أبي نعيم عن إسماعيل بن حكيم ، عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : (كَيْفَ نُنْشِزُها) بالزاي ثم قال : صحيح الإسناد. ولم يخرجاه. وقرئ «ننشرها» أي نحييها ، قاله مجاهد (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً). وقال السدي وغيره تفرقت عظام حماره حوله يمينا ويسارا ، فنظر إليها وهي تلوح من بياضها ، فبعث الله ريحا فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة ، ثم ركب كل عظم في موضعه حتى صار حمارا قائما من عظام لا لحم عليها ، ثم كساها الله لحما وعصبا وعروقا وجلدا ، وبعث الله ملكا فنفخ في منخري الحمار ، فنهق بإذن الله عزوجل ، وذلك كله بمرأى من العزيز ، فعند ذلك لما تبين له هذا كله (قالَ أَعْلَمُ

__________________

(١) الجار : مدينة على ساحل البحر الأحمر. كانت على مسافة عشرين يوما جنوبي أيلة وثلاثة أيام من الجحفة. وقد ظلت موجودة إلى نهاية القرون الوسطى فحلّت محلها مدينة ينبع صوب الشمال. (دائرة المعارف الإسلامية ١٠ / ٣٩١) ..

٥٢٧

أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي أنا عالم بهذا ، وقد رأيته عيانا ، فأنا أعلم أهل زماني بذلك ، وقرأ آخرون «قال اعلم» على أنه أمر له بالعلم.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٦٠)

ذكروا لسؤال إبراهيم عليه‌السلام ، أسبابا منها أنه لما قال لنمرود (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أحب أن يترقى من علم اليقين بذلك ، إلى عين اليقين ، وأن يرى ذلك مشاهدة ، فقال (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ : أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ : بَلى ، وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) فأما الحديث الذي رواه البخاري عند هذه الآية : حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني يونس عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، وسعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى ، قال : أو لم تؤمن؟ قال : بلى ، ولكن ليطمئن قلبي». وكذا رواه مسلم عن حرملة بن يحيى ، عن وهب به ، فليس المراد هاهنا بالشك ، ما قد يفهمه من لا علم عنده بلا خلاف ، وقد أجيب عن هذا الحديث بأجوبة أحدها (١).

وقوله (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) اختلف المفسرون في هذه الأربعة ما هي ، وإن كان لا طائل تحت تعيينها ، إذ لو كان في ذلك مهم لنص عليه القرآن ، فروي عن ابن عباس ، أنه قال هي الغرنوق والطاوس والديك والحمامة ، وعنه أيضا أنه أخذ وزا ورألا وهو فرخ النعام ، وديكا وطاوسا. وقال مجاهد وعكرمة : كانت حمامة وديكا وطاوسا وغرابا. وقوله (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي : قطعهن ، قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو مالك وأبو الأسود الدؤلي ووهب بن منبه والحسن والسدي وغيرهم. وقال العوفي عن ابن عباس (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أوثقهن ، فلما أوثقهن ذبحهن ، ثم جعل على كل جبل منهن جزءا ، فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير ، فذبحهن ثم قطعهن ونتف ريشهن ومزقهن وخلط بعضهن ببعض ، ثم جزأهن أجزاء ، وجعل على كل جبل منهن جزءا ، قيل أربعة أجبل ، وقيل سبعة ، قال ابن عباس : وأخذ رؤوسهن بيده ثم أمره الله عزوجل أن يدعوهن فدعاهن كما أمره الله عزوجل ، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش ، والدم إلى الدم ، واللحم إلى اللحم ، والأجزاء من كل طائر ، يتصل بعضها إلى

__________________

(١) هنا بياض في النسخ التي بأيدينا. وذكر البغوي من حديث إسماعيل بن يحيى المزني أنه قال : لم يشك النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا إبراهيم في أن الله قادر على أن يحيي الموتى وإنما شكا في أنه هل يجيبهما إلى ما سألا ... وأورد الطبري في تفسيره (٣ / ٥١ ـ ٥٣) (رأيين في تأويل «ليطمئن قلبي» أحدهما يتوافق مع ما ذكرناه عن البغوي ، والآخر ـ وهو ما اختاره ابن جرير ـ أن «تكون مسألته ربّه ما سأله أن يريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرض في قلبه». قارن أيضا بتفسير القرطبي ٣ / ٢٩٧ ـ ٣٠٠.

٥٢٨

بعض ، حتى قام كل طائر على حدته ، وأتينه يمشين سعيا ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها ، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم عليه‌السلام ، فإذا قدم له غير رأسه يأباه ، فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جسده بحول الله وقوته ، ولهذا قال (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي عزيز لا يغلبه شيء ، ولا يمتنع من شيء ، وما شاء كان بلا ممانع ، لأنه القاهر لكل شيء ، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.

قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن أيوب في قوله (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال : قال ابن عباس : ما في القرآن آية أرجى عندي منها.

وقال ابن جرير : حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت زيد بن علي يحدث عن رجل عن سعيد بن المسيب قال : اتفق عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص أن يجتمعا قال : ونحن شببة. فقال أحدهما لصاحبه : أي آية في كتاب الله أرجى عندك لهذه الأمة؟ فقال عبد الله بن عمرو قوله الله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ، لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر : ٥٣] ، فقال ابن عباس : أما إن كنت تقول هذا ، فأنا أقول أرجى منها لهذه الأمة ، قول إبراهيم (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى؟ قالَ : أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ : بَلى ، وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).

وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث ، حدثني محمد بن أبي سلمة عن عمرو ، حدثني ابن المنكدر أنه قال : التقى عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال ابن عباس لابن عمرو بن العاص : أي آية في القرآن أرجى عندك ، فقال عبد الله بن عمرو : قول الله عزوجل : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا) الآية ، فقال ابن عباس : لكن أنا أقول قول الله عزوجل : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) فرضي من إبراهيم قوله (بَلى) ، قال فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان ، وهكذا رواه الحاكم في المستدرك عن أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن الأحزم ، عن إبراهيم بن عبد الله السعدي ، عن بشر بن عمر الزهراني ، عن عبد العزيز بن أبي سلمة بإسناده مثله ، ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه.

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٢٦١)

هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته ، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، فقال (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ). قال سعيد بن جبير : يعني في طاعة الله. وقال مكحول : يعني به الإنفاق في الجهاد من رباط الخيل وإعداد السلاح وغير ذلك. وقال شبيب بن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : الجهاد والحج

٥٢٩

يضعف الدرهم فيهما إلى سبعمائة ضعف ، ولهذا قال تعالى : (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة ، فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عزوجل لأصحابها ، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة ، وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا زياد بن الربيع أبو خداش ، حدثنا واصل مولى ابن عيينة ، عن بشار بن أبي سيف الجرمي ، عن عياض بن غطيف ، قال : دخلنا على أبي عبيدة [بن الجراح] نعوده من شكوى أصابته بجنبه ، وامرأته تحيفة قاعدة عند رأسه ، قلنا : كيف بات أبو عبيدة؟ قالت : والله لقد بات بأجر. قال أبو عبيدة : ما بتّ بأجر ، وكان مقبلا بوجهه على الحائط ، فأقبل على القوم بوجهه وقال : ألا تسألوني عما قلت؟ قالوا : ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه ، قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فسبعمائة ، ومن أنفق على نفسه وأهله أو عاد مريضا أو أماط أذى ، فالحسنة بعشر أمثالها ، والصوم جنة ما لم يخرقها ، ومن ابتلاه الله عزوجل ببلاء في جسده فهو له حطة» وقد روى النسائي في الصوم بعضه من حديث واصل به ، ومن وجه آخر موقوفا.

حديث آخر ـ قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن سليمان ، سمعت أبا عمرو الشيباني عن أبي مسعود أن رجلا تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة» ورواه مسلم والنسائي من حديث سليمان بن مهران عن الأعمش به ، ولفظ مسلم : جاء رجل بناقة مخطومة فقال : يا رسول الله ، هذه في سبيل الله ، فقال : «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة».

حديث آخر ـ قال أحمد (٣) : حدثنا عمرو بن مجمع أبو المنذر الكندي ، أخبرنا إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله جعل حسنة ابن آدم إلى عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم والصوم لي ، وأنا أجزي به ، وللصائم فرحتان : فرحة عند إفطاره ، وفرحة يوم القيامة ، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك».

حديث آخر ـ قال أحمد (٤) : أخبرنا وكيع ، أخبرنا الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله ، يقول الله إلا الصوم فإنه لي ، وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشرابه من أجلي ، وللصائم

__________________

(١) مسند أحمد (ج ١ ص ١٩٥)

(٢) المسند (ج ٤ ص ١٤١)

(٣) المسند (ج ١ ص ٤٤٦)

(٤) المسند (ج ٢ ص ٤٤٣)

٥٣٠

فرحتان : فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه ، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، الصوم جنة ، الصوم جنة» وكذا رواه مسلم (١) عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي سعيد الأشج كلاهما عن وكيع به.

حديث آخر ـ قال أحمد (٢) : حدثنا حسين بن علي ، عن زائدة ، عن الركين ، عن يسير بن عميلة ، عن خريم بن فاتك ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أنفق نفقة في سبيل الله ، تضاعف بسبعمائة ضعف».

حديث آخر ـ قال أبو داود (٣) : أنبأنا محمد بن عمرو بن السرح ، حدثنا ابن وهب ، عن يحيى بن أيوب وسعيد بن أيوب ، عن زبان بن فائد ، عن سهل بن معاذ ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الصلاة والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف».

حديث آخر ـ قال ابن أبي حاتم : أنبأنا أبي ، حدثنا هارون بن عبد الله بن مروان ، حدثنا ابن أبي فديك ، عن الخليل بن عبد الله ، عن الحسن عن عمران بن حصين ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته ، فله بكل درهم سبعمائة درهم يوم القيامة ، ومن غزا في سبيل الله وأنفق في جهة ذلك ، فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم ، ثم تلا هذه الآية (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) ، وهذا حديث غريب ، وقد تقدم حديث أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة في تضعيف الحسنة إلى ألفي ألف حسنة ، عند قوله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) الآية.

حديث آخر ـ قال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن عبيد الله بن العسكري البزاز ، أخبرنا الحسن بن علي بن شبيب ، أخبرنا محمود بن خالد الدمشقي ، أخبرنا أبي عن عيسى بن المسيب ، عن نافع ، عن ابن عمر : لما نزلت هذه الآية (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رب زد أمتي» قال : فأنزل الله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) قال «رب زد أمتي» قال : فأنزل الله (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) ، وقد رواه أبو حاتم وابن حبان في صحيحه عن حاجب بن أركين ، عن أبي عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز المقري ، عن أبي إسماعيل المؤدب ، عن عيسى بن المسيب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، فذكره. وقوله هاهنا (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) أي بحسب إخلاصه في عمله (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي فضله واسع كثير أكثر من خلقه ، عليم بمن يستحق ومن لا يستحق ، سبحانه وبحمده.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا

__________________

(١) صحيح مسلم (صيام حديث ١٦٤)

(٢) المسند (ج ٤ ص ٣٤٥)

(٣) سنن أبي داود (جهاد باب ١٣)

٥٣١

خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٢٦٤)

يمدح تبارك وتعالى الذين ينفقون في سبيله ، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات منا على من أعطوه ، فلا يمنون به على أحد ، ولا يمنون به لا بقول ولا بفعل.

وقوله (وَلا أَذىً) أي لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها يحبطون به ما سلف من الإحسان ، ثم وعدهم الله تعالى الجزاء الجزيل على ذلك ، فقال (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي ثوابهم على الله لا على أحد سواه. (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة. (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي على ما خلفوه من الأولاد ، ولا ما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها لا يأسفون عليها ، لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك.

ثم قال تعالى : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي من كلمة طيبة ودعاء لمسلم (وَمَغْفِرَةٌ) أي عفو وغفر عن ظلم قولي أو فعلي (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً). قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا ابن فضيل قال : قرأت على معقل بن عبد الله ، عن عمرو بن دينار ، قال : بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما من صدقة أحب إلى الله من قول معروف ، ألم تسمع قوله (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌ) عن خلقه ، (حَلِيمٌ) أي يحلم ويغفر ويصفح ويتجاوز عنهم.

وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المن في الصدقة ، ففي صحيح مسلم (١) من حديث شعبة عن الأعمش ، عن سليمان بن مسهر ، عن خرشة بن الحر ، عن أبي ذر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم : المنان بما أعطى ، والمسبل (٢) إزاره ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب».

وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى ، أخبرنا عثمان بن محمد الدوري ، أخبرنا هشيم بن خارجة ، أخبرنا سليمان بن عقبة ، عن يونس بن ميسرة ، عن أبي إدريس ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا يدخل الجنة عاق ، ولا منان ، ولا مدمن خمر ، ولا مكذب بقدر».

وروى أحمد وابن ماجة من حديث يونس بن ميسرة نحوه ثم روى ابن مردويه وابن حبان والحاكم في مستدركه ، والنسائي من حديث عبد الله بن يسار الأعرج ، عن سالم بن عبد الله بن

__________________

(١) صحيح مسلم (إيمان حديث ١٧١)

(٢) أي الجارّ طرفه خيلاء.

٥٣٢

عمر ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، ومدمن خمر ، والمنان بما أعطى» وقد روى النسائي ، عن مالك بن سعد ، عن عمه روح بن عبادة ، عن عتاب بن بشير ، عن خصيف الجزري ، عن مجاهد عن ابن عباس ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا يدخل الجنة مدمن خمر ، ولا عاق لوالديه ، ولا منان» ، وقد رواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن المنهال ، عن محمد بن عبد الله بن عصار الموصلي ، عن عتاب ، عن خصيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، ورواه النسائي من حديث عبد الكريم بن مالك الجزري ، عن مجاهد قوله ، وقد روي عن مجاهد ، عن أبي سعيد ، وعن مجاهد عن أبي هريرة نحوه ، ولهذا قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى ، فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى ، ثم قال تعالى : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) أي لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كما تبطل صدقة من راءى بها الناس ، فأظهر لهم أنه يريد وجه الله ، وإنما قصده مدح الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة ليشكر بين الناس ، أو يقال إنه كريم ، ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية ، مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه ، ولهذا قال (وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، ثم ضرب تعالى مثل ذلك المرائي بإنفاقه ، قال الضحاك : والذي يتبع نفقته منا أو أذى ، فقال (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ) وهو جمع صفوانة ، فمنهم من يقول : الصفوان يستعمل مفردا أيضا وهو الصفا وهو الصخر الأملس ، (عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ) وهو المطر الشديد (فَتَرَكَهُ صَلْداً) أي فترك الوابل ذلك الصفوان صلدا أي أملس يابسا ، أي لا شيء عليه من ذلك التراب ، بل قد ذهب كله ، أي وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب ، ولهذا قال (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢٦٥)

وهذا مثل المؤمنين المنفقين أموالهم ابتغاء مرضاة الله عنهم في ذلك ، (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي وهم متحققون متثبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء ، ونظير هذا في معنى قوله عليه‌السلام في الحديث الصحيح المتفق على صحته «من صام رمضان إيمانا واحتسابا» أي يؤمن أن الله شرعه ويحتسب عند الله ثوابه ، قال الشعبي : (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي تصديقا ويقينا ، وكذا قال قتادة وأبو صالح وابن زيد ، واختاره ابن جرير وقال مجاهد والحسن : أي يتثبتون أين يضعون صدقاتهم.

وقوله (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) ، وهو عند الجمهور : المكان المرتفع من الأرض ، وزاد ابن

٥٣٣

عباس والضحاك وتجري (١) فيه الأنهار. قال ابن جرير (٢) رحمه‌الله : وفي الربوة ثلاث لغات : هن ثلاث قراءات : بضم الراء ، وبها قرأ عامة أهل المدينة والحجاز والعراق ، وفتحها وهي قراءة بعض أهل الشام والكوفة ، ويقال إنها لغة تميم ، وكسر الراء ، ويذكر أنها قراءة ابن عباس (٣).

وقوله (أَصابَها وابِلٌ) وهو المطر الشديد ، كما تقدم ، فآتت (أُكُلَها) أي ثمرتها (ضِعْفَيْنِ) أي بالنسبة إلى غيرها من الجنان (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) قال الضحاك : هو الرذاذ وهو اللين من المطر ، أي هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل أبدا ، لأنها إن لم يصبها وابل فطل ، وأيا ما كان فهو كفايتها ، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبدا ، بل يتقبله الله ويكثره وينميه كل عامل بحسبه ، ولهذا قال (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء.

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٢٦٦)

قال البخاري (٤) عند تفسير هذه الآية : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام هو ابن يوسف ، عن ابن جريج سمعت عبد الله بن أبي مليكة ، يحدث عن ابن عباس ، قال وسمعت أخاه أبا بكر بن أبي مليكة يحدث عن عبيد بن عمير ، قال : قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فيم ترون هذه الآية نزلت؟ (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) قالوا : الله أعلم. فغضب عمر ، فقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم ، فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين ، فقال عمر : يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : ضربت مثلا لعمل ، قال عمر : أي عمل؟ قال ابن عباس لعمل ، قال عمر : لرجل غني يعمل بطاعة الله ، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي ، حتى أغرق أعماله ، ثم رواه البخاري عن الحسن بن محمد الزعفراني ، عن حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن جريج ، فذكره وهو من أفراد البخاري رحمه‌الله ، وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية ، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولا ثم بعد ذلك انعكس سيره فبدل الحسنات بالسيئات عياذا بالله من ذلك ، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح ، واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق

__________________

(١) في القرطبي (٣ / ٣١٥) عن ابن عباس : «الربوة المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار ، لأن قوله (أصابها وابل) إلى آخر الآية يدل على أنها ليس فيها ماء جار ، ولم يرد جنس التي تجري فيها الأنهار».

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٧١.

(٣) وذكر القرطبي أن فيها خمس لغات ، فزاد على الثلاث الواردة هنا : رباوة (بفتح الراء) قال : وبها قرأ أبو جعفر وأبو عبد الرحمن ، ورباوة (بكسر الراء) قال : وبها قرأ الأشهب العقيلي.

(٤) صحيح البخاري (تفسير سورة ٢ باب ١٩)

٥٣٤

الأحوال ، فلم يحصل منه شيء وخانه أحوج ما كان إليه ، ولهذا قال تعالى : (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ) وهو الريح الشديد (فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ) أي أحرق ثمارها وأباد أشجارها ، فأي حال يكون حاله؟

وقد روى ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس ، قال : ضرب الله مثلا حسنا وكل أمثاله حسن ، قال (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) يقول صنعه في شيبته (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره ، فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانه ، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله ، ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه ، وكذلك الكافر يكون يوم القيامة إذا ردّ إلى الله عزوجل ، ليس له خير فيستعتب ، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه ، ولا يجده قدم لنفسه خيرا يعود عليه ، كما لم يغن عن هذا ولده ، وحرم أجره عند أفقر ما كان إليه ، كما حرم هذا جنته عند ما كان أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته. وهكذا روى الحاكم في مستدركه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول في دعائه «اللهم اجعل أوسع رزقك عليّ عند كبر سني وانقضاء عمري» ولهذا قال تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) أي تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني وتنزلونها على المراد منها. كما قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣].

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٦٩)

يأمر تعالى : عباده المؤمنين بالإنفاق والمراد به الصدقة هاهنا ، قاله ابن عباس : من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها ، قال مجاهد : يعني التجارة بتيسيره إياها لهم ، وقال علي والسدي (مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) يعني الذهب والفضة ، ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض ، قال ابن عباس : أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه ، ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه وهو خبيثة ، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، ولهذا قال : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) أي تقصدوا الخبيث (مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) أي لو أعطيتموه ما أخذتموه ، إلا أن تتغاضوا فيه ، فالله أغنى عنه منكم ، فلا تجعلوا لله ما تكرهون ، وقيل معناه (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) أي لا تعدلوا عن المال الحلال وتقصدوا إلى الحرام فتجعلوا نفقتكم منه.

٥٣٥

ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا إسحاق ، عن الصباح بن محمد عن مرة الهمداني ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه ، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد ، حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه قالوا وما بوائقه يا نبي الله؟ قال غشه وظلمه ، ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان إلى النار ، إن الله لا يمحو السيء بالسيء ، ولكن يمحو السيء بالحسن ، إن الخبيث لا يمحوا الخبيث» والصحيح القول الأول.

قال ابن جرير (٢) رحمه‌الله : حدثنا الحسين بن عمرو العنقزي ، حدثني أبي عن أسباط عن السدي ، عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب رضي الله عنه ، في قول الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) الآية ، قال : نزلت في الأنصار ، كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها أقناء البسر فعلقوه على حبل ، بين الأسطوانتين في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيأكل فقراء المهاجرين منه ، فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر ، يظن أن ذلك جائز ، فأنزل الله فيمن فعل ذلك (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) ، ثم رواه ابن جرير وابن ماجة وابن مردويه ، والحاكم في مستدركه من طريق السدي ، عن عدي بن ثابت عن البراء بنحوه ، وقال الحاكم : صحيح على شرط البخاري ومسلم ، ولم يخرجاه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل عن السدي عن أبي مالك عن البراء رضي الله عنه ، (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) قال : نزلت فينا ، كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته ، فيأتي الرجل بالقنو فيعلقه في المسجد ، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاء فضربه بعصاه فسقط منه البسر والتمر ، فيأكل ، وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو فيه الحشف والشيص ، فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه ، فنزلت (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) قال : لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذه إلا على إغماض وحياء ، فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده ، وكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن عبيد الله هو ابن موسى العبسي ، عن إسرائيل عن السدي ، وهو إسماعيل بن عبد الرحمن ، عن أبي مالك الغفاري واسمه غزوان ، عن البراء فذكر نحوه ، ثم قال وهذا حديث حسن غريب.

__________________

(١) المسند (ج ١ ص ٣٨٧)

(٢) تفسير الطبري ٣ / ٨٢.

٥٣٦

وقال ابن أبي حاتم ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا سليمان بن كثير ، عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نهى عن لونين من التمر : الجعرور (١) والحبيق ، وكان الناس يتيممون شرار ثمارهم ، ثم يخرجونها في الصدقة ، فنزلت (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) ورواه أبو داود من حديث سفيان بن حسين عن الزهري ، ثم قال : أسنده أبو الوليد عن سليمان بن كثير عن الزهري ، ولفظه نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الجعرور ولون الحبيق ، أن يؤخذ في الصدقة ، وقد روى النسائي هذا الحديث من طريق عبد الجليل بن حميد اليحصبي ، عن الزهري ، عن أبي أمامة ، ولم يقل عن أبيه ، فذكر نحوه ، وكذا رواه ابن وهب ، عن عبد الجليل.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، حدثنا جرير عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن مغفل ، في هذه الآية (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) قال : كسب المسلم لا يكون خبيثا ، ولكن لا يصدق بالحشف والدرهم الزيف (٢) وما لا خير فيه.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن حماد هو ابن أبي سليمان ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : أتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بضب ، فلم يأكله ولم ينه عنه ، قلت : يا رسول الله ، نطعمه المساكين؟ قال «لا تطعموهم مما لا تأكلون». ثم رواه عن عفان عن حماد بن سلمة به ؛ فقلت : يا رسول الله ، ألا أطعمه المساكين؟ قال «لا تطعموهم مما لا تأكلون.

وقال الثوري ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن البراء (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) يقول : لو كان لرجل على رجل فأعطاه ذلك ، لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه ، رواه ابن جرير ، وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) يقول : لو كان لكم على أحد حق فجاءكم بحق دون حقكم ، لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه ، قال فذلك قوله : (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم ، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه؟ رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وزاد : وهو قوله : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢] ثم روي من طريق العوفي وغيره ، عن ابن عباس ، نحو ذلك ، وكذا ذكره غير واحد.

وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها ، فهو غني عنها ، وما ذاك إلا أن يساوي الغني الفقير ، كقوله (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ

__________________

(١) الجعرور والحبيق : من أردأ أنواع التمر.

(٢) الدرهم الزيف ، والدراهم الزيوف : التي تكون نسبة الفضة فيها منقوصة ، أي أقل من المقدار الشرعي والمتعارف عليه.

(٣) المسند (ج ٦ ص ١٠٥)

٥٣٧

التَّقْوى مِنْكُمْ) [الحج : ٣٧] وهو غني عن جميع خلقه وجميع خلقه فقراء إليه ، وهو واسع الفضل ، لا ينفد ما لديه ، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب ، فليعلم أن الله غني واسع العطاء ، كريم جواد ، ويجزيه بها ، ويضاعفها له أضعافا كثيرة ، من يقرض غير عديم ولا ظلوم ، وهو الحميد أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه.

وقوله : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) قال ابن ابي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا هناد بن السري ، حدثنا أبو الأحوص ، عن عطاء بن السائب ، عن مرة الهمداني ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن للشيطان للمّة بابن آدم وللملك لمة (١) ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير والتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ، فليحمد الله ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان» ثم قرأ (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) الآية ، وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننهما جميعا ، عن هناد بن السري. وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، عن أبي يعلى الموصلي ، عن هناد به ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وهو حديث أبي الأحوص ، يعني سلام بن سليم ، لا نعرفه مرفوعا إلا من حديثه ، كذا قال وقد رواه أبو بكر بن مردويه في تفسيره ، عن محمد بن أحمد ؛ عن محمد بن عبد الله بن وستة ، عن هارون الفروي ، عن أبي ضمرة ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن مسعود مرفوعا نحوه ؛ ولكن رواه مسعر عن عطاء بن السائب ، عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة ، عن ابن مسعود ، فجعله من قوله ، والله أعلم.

ومعنى قول تعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) أي يخوفكم الفقر لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله. (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) أي مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق ، يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخلاق ، قال تعالى : (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) أي في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء. (وَفَضْلاً) أي في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)

وقوله : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني المعرفة بالقرآن ، ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله ، وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا «الحكمة القرآن» يعني تفسيره ، قال ابن عباس : فإنه قد قرأه البر والفاجر ، رواه ابن مردويه ، وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يعني بالحكمة الإصابة في القول ، وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) : ليست بالنبوة ، ولكنه العلم والفقه والقرآن ، وقال أبو العالية : الحكمة خشية الله ، فإن خشية الله رأس

__________________

(١) اللمّة : التهمّة والخطرة في القلب ، أو الدنوّ.

٥٣٨

كل حكمة ، وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن عثمان ابن زفر الجهني ، عن أبي عمار الأسدي ، عن ابن مسعود مرفوعا «رأس الحكمة مخافة الله» وقال أبو العالية في رواية عنه : الحكمة الكتاب والفهم ، وقال إبراهيم النخعي ، الحكمة الفهم ، وقال أبو مالك : الحكمة السنة ، وقال ابن وهب ، عن مالك ، قال زيد بن أسلم : الحكمة العقل ، قال مالك : وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله ، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله ، ومما يبين ذلك أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا إذا نظر فيها ، وتجد آخر ضعيفا في أمر دنياه ، عالما بأمر دينه بصيرا به ، يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا ، فالحكمة الفقه في دين الله ، وقال السدي : الحكمة النبوة.

والصحيح أن الحكمة كما قال الجمهور : لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها ، وأعلاها النبوة ، والرسالة أخص ، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع ، كما جاء في الأحاديث «من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه» رواه وكيع بن الجراح في تفسيره ، عن إسماعيل بن رافع ، عن رجل لم يسمه ، عن عبد الله بن عمر ـ قوله : وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع ويزيد ، قالا : حدثنا إسماعيل يعني ابن أبي خالد عن قيس وهو ابن أبي حازم ، عن ابن مسعود ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول «لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها» وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة من طرق متعددة عن إسماعيل بن أبي خالد به.

وقوله : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل ، يعي به الخطاب ومعنى الكلام.

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ(٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٢٧١)

يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات ، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده ، وتوعد من لا يعمل بطاعته ، بل خالف أمره ، وكذب خبره ، وعبد معه غيره ، فقال (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي يوم القيامة ينقذونهم من عذاب الله ونقمته.

وقوله : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) أي إن أظهرتموها فنعم شيء هي. وقوله : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها ، لأنه

__________________

(١) المسند (ج ١ ص ٤٣٢)

٥٣٩

أبعد عن الرياء إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به ، فيكون أفضل من هذه الحيثية.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة» والأصل أن الإسرار أفضل لهذه الآية ، ولما ثبت في الصحيحين (١) عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سبعة يظلهم الله في ظله ، يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجلان تحابا في الله ، اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله رب العالمين ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا العوام بن حوشب ، عن سليمان بن أبي سليمان ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال «لما خلق الله الأرض جعلت تميد ، فخلق الجبال فألقاها عليها ، فاستقرت ، فتعجبت الملائكة من خلق الله الجبال فقالت : يا رب هل في خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال نعم الحديد. قالت : يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال : نعم النار ، قالت : يا رب فهل من خلقك شيء أشد من النار؟ قال : نعم الماء. قالت : يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال : نعم الريح؟ قالت : يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال : نعم ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفيها من شماله».

وقد ذكرنا في فضل آية الكرسي عن أبي ذر ، قال : قلت يا رسول الله ، أي الصدقة أفضل؟ قال «سر إلى فقير أو جهد من مقل» رواه أحمد (٣) ورواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن يزيد عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن أبي ذر ، فذكره وزاد : ثم نزع (٤) بهذه الآية (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) الآية.

وفي الحديث المروي «صدقة السر تطفئ غضب الرب عزوجل».

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسين بن زياد المحاربي مؤدب محارب ، أخبرنا موسى بن عمير عن عامر الشعبي في قوله : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) قال : أنزلت في أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ، أما عمر فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر؟» قال :

__________________

(١) صحيح البخاري (أذان باب ٣٦) وصحيح مسلم (زكاة حديث ٩١)

(٢) المسند (ج ٣ ص ١٢٤)

(٣) المسند (ج ٥ ص ١٧٨)

(٤) أي تمثل بهذه الآية.

٥٤٠