تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

(فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) وهذا القول له اتجاه ، وفي اللفظ مساعدة له ، وقد اختاره جماعة منهم الإمام أبو العباس بن تيمية ورده آخرون ، منهم الشيخ أبو عمر بن عبد البر.

وقول عطاء ومن تابعه ، على أن ذلك منسوخ بآية الميراث ، إن أرادوا ما زاد على الأربعة أشهر والعشر فمسلم ، وإن أرادوا أن سكنى الأربعة أشهر وعشر لا تجب في تركة الميت ، فهذا محل خلاف بين الأئمة وهما قولان للشافعي رحمه‌الله ، وقد استدلوا على وجوب السكنى في منزل الزوج ، بما رواه مالك في موطئه (١) ، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة ، أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنهما ، أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة ، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه قالت : فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة ، فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة ، قالت : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نعم» قالت : فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أمر بي فنوديت له فقال «كيف قلت»؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت له شأن زوجي ، فقال «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا ، قالت : فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك ، فأخبرته فاتبعه وقضى به ، وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث مالك به. ورواه النسائي أيضا وابن ماجة من طرق عن سعد بن إسحاق به ، وقال الترمذي : حسن صحيح (٢).

وقوله (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لما نزل قوله تعالى : (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) قال رجل : إن شئت أحسنت ففعلت ، وإن شئت لم أفعل ، فأنزل الله هذه الآية (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) وقد استدل بهذه الآية ، من ذهب من العلماء ، إلى وجوب المتعة لكل مطلقة ، سواء كانت مفوضة ، أو مفروضا لها ، أو مطلقة قبل المسيس ، أو مدخولا بها ، وهو قول عن الشافعي رحمه‌الله ، وإليه ذهب سعيد بن جبير ، وغيره من السلف ، واختاره ابن جرير ، ومن لم يوجبها مطلقا ، يخصص من هذا العموم مفهوم قوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة : ٢٣٦] وأجاب الأولون بأن هذا من باب ذكر بعض أفراد العموم ، فلا تخصيص على المشهور المنصوص ، والله أعلم.

__________________

(١) الموطأ (طلاق حديث ٨٧)

(٢) الترمذي (طلاق باب ٢٣) والنسائي (طلاق باب ٦٠) وأبو داود (طلاق باب ٤٤) وابن ماجة (طلاق باب ٨) والدارمي (طلاق باب ١٤)

٥٠١

وقوله (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي في إحلاله وتحريمه وفروضه وحدوده ، فيما أمركم ونهاكم عنه ، بينه ووضحه وفسره ، ولم يتركه مجملا في وقت احتياجكم إليه (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي تفهمون وتتدبرون.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٤٥)

روي عن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف ، وعنه كانوا ثمانية آلاف وقال أبو صالح : تسعة آلاف ، وعن ابن عباس أربعون ألفا ، وقال وهب بن منبه وأبو مالك : كانوا بضعة وثلاثين ألفا. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس ، قال : كانوا أهل قرية يقال لها داوردان. وكذا قال السدي وأبو صالح وزاد من قبل واسط ، وقال سعيد بن عبد العزيز : كانوا من أهل أذرعات ، وقال ابن جريج عن عطاء قال : هذا مثل. وقال علي بن عاصم : كانوا من أهل داوردان قرية على فرسخ من قبل واسط. وقال وكيع بن الجراح في تفسيره : حدثنا سفيان عن ميسرة بن حبيب النهدي ، عن المنهال بن عمرو الأسدي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) قال : كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون قالوا : نأتي أرضا ليس بها موت حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال الله لهم (مُوتُوا) فماتوا ، فمر عليهم نبي من الأنبياء ، فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم ، فذلك قوله عزوجل (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) الآية. وذكر غير واحد من السلف ، أن هؤلاء القوم ، كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا أرضهم ، وأصابهم بها وباء شديد ، فخرجوا فرارا من الموت ، هاربين إلى البرية ، فنزلوا واديا أفيح ، فملؤوا ما بين عدوتيه ، فأرسل الله إليهم ملكين ، أحدهما من أسفل الوادي ، والآخر من أعلاه ، فصاحا بهم صيحة واحدة ، فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد ، فحيزوا إلى حظائر ، وبني عليهم جدران وقبور ، وفنوا وتمزقوا وتفرقوا ، فلما كان بعد دهر ، مرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل ، يقال له حزقيل ، فسأل الله أن يحييهم على يديه ، فأجابه إلى ذلك ، وأمره أن يقول : أيتها العظام البالية ، إن الله يأمرك أن تجتمعي ، فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض ، ثم أمره فنادى : أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحما وعصبا وجلدا ، فكان ذلك وهو يشاهد ، ثم أمره فنادى : أيتها الأرواح ، إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره فقاموا أحياء ينظرون قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة وهم يقولون : سبحانك لا إله إلا أنت.

وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة ، ولهذا قال :

٥٠٢

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) ، أي فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة والدلالات الدامغة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) أي لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم. وفي هذه القصة عبرة ودليل ، على أنه لن يغني حذر من قدر ، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه ، فإن هؤلاء خرجوا فرارا من الوباء ، طلبا لطول الحياة ، فعوملوا بنقيض قصدهم ، وجاءهم الموت سريعا في آن واحد. ومن هذا القبيل ، الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد (١) : حدثنا إسحاق بن عيسى ، أخبرنا مالك وعبد الرزاق ، أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن عبد الله بن عباس ، أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ ، لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه ، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام ، فذكر الحديث ، فجاءه عبد الرحمن بن عوف ، وكان متغيبا لبعض حاجته فقال : إن عندي من هذا علما ، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه» فحمد الله عمر ثم انصرف ، وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به بطريق أخرى لبعضه.

قال أحمد (٢) : حدثنا حجاج ويزيد العمي ، قالا : أخبرنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر وهو في الشام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم فإذا سمعتم به في أرض ، فلا تدخلوها ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا» قال : فرجع عمر من الشام ، وأخرجاه في الصحيحين من حديث مالك ، عن الزهري بنحوه.

وقوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي كما أن الحذر لا يغني من القدر ، كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه ، لا يقرب أجلا ولا يبعده ، بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن لا يزاد فيه ولا ينقص منه ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا : لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا ، قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [آل عمران : ١٦٨] ، وقال تعالى : (وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ، قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء : ٧٧ ـ ٧٨] وروينا عن أمير الجيوش ، ومقدم العساكر ، وحامي حوزة الإسلام ، وسيف الله المسلول على أعدائه : أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه ، أنه قال وهو في سياق الموت : لقد شهدت كذا وكذا موقفا. وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو ضربة وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير ، فلا نامت أعين الجبناء ـ يعني أنه يتألم

__________________

(١) مسند أحمد (ج ١ ص ١٩٤)

(٢) مسند أحمد (ج ١ ص ١٩٣)

٥٠٣

لكونه ما مات قتيلا في الحرب ، ويتأسف على ذلك ، ويتألم أن يموت على فراشه.

وقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) ، يحث تعالى عباده على الانفاق في سبيل الله ، وقد كرر تعالى هذه الآية في كتابه العزيز في غير موضع ، وفي حديث النزول أنه يقول تعالى : «من يقرض غير عديم ولا ظلوم» وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا خلف بن خليفة ، عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : لما نزلت (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ) ، قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله ، وإن الله عزوجل ليريد منا القرض؟ قال : «نعم يا أبا الدحداح». قال : أرني يدك يا رسول الله. قال : فناوله يده ، قال : فإني قد أقرضت ربي عزوجل حائطي ، قال : وحائط له فيه ستمائة نخلة ، وأم الدحداح فيه وعيالها. قال فجاء أبو الدحداح فنادها : يا أم الدحداح. قالت : لبيك. قال : اخرجي ، فقد أقرضته ربي عزوجل. وقد رواه ابن مردويه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه ، عن عمر رضي الله عنه مرفوعا بنحوه.

وقوله : (قَرْضاً حَسَناً) روي عن عمر وغيره من السلف هو النفقة في سبيل الله ، وقيل: هو النفقة على العيال ، وقيل : هو التسبيح والتقديس.

وقوله : (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) كما قال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦١] ، وسيأتي الكلام عليها.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا يزيد ، أخبرنا مبارك بن فضالة ، عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان النهدي ، قال : أتيت أبا هريرة رضي الله عنه ، فقلت له : إنه بلغني أنك تقول إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة ، قال : وما أعجبك من ذلك ، لقد سمعته من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة» هذا حديث غريب ، وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير.

لكن رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال : حدثنا أبو خلاد سليمان بن خلاد المؤدب ، حدثنا يونس بن محمد المؤدب ، حدثنا محمد بن عقبة الرفاعي عن زياد الجصاص عن أبي عثمان النهدي ، قال : لم يكن أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني ، فقدم قبلي حاجا ، قال : وقدمت بعده ، فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول «إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة» فقلت : ويحكم ، والله ما كان أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني ، فما سمعت هذا الحديث ، قال : فتحملت أريد أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجا ، فانطلقت إلى الحج ألقاه في هذا الحديث ، فلقيته لهذا ، فقلت : يا أبا هريرة ، ما حديث سمعت أهل البصرة يأثرون عنك؟ قال : ما هو؟ قلت : زعموا أنك تقول : إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة ،

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٢ ص ٢٩٦)

٥٠٤

قال : يا أبا عثمان ، وما تعجب من ذا ، والله يقول (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) ويقول (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة : ٣٨]؟ والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : «إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة».

وفي معنى هذا الحديث ما رواه الترمذي وغيره من طريق عمرو بن دينار ، عن سالم ، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «من دخل سوقا من الأسواق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ـ كتب الله له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة» الحديث.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة إسماعيل بن إبراهيم بن بسام ، حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن عيسى بن المسيب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : لما نزلت (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) إلى آخرها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رب زد أمتي» ، فنزلت (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً). قال: «رب زد أمتي» ، فنزلت (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر : ١٠].

وروى ابن أبي حاتم أيضا عن كعب الأحبار : أنه جاءه رجل فقال : إني سمعت رجلا يقول: من قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) مرة واحدة ، بنى الله له عشرة آلاف ألف غرفة من درّ وياقوت في الجنة ، أفأصدق ذلك؟ قال : نعم ، أو عجبت من ذلك؟ قال : نعم ، وعشرين ألف ألف وثلاثين ألف ألف وما لا يحصي ذلك إلا الله ، ثم قرأ (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) فالكثير من الله لا يحصى وقوله (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) أي أنفقوا ولا تبالوا ، فالله هو الرازق يضيق على من يشاء من عباده في الرزق ، ويوسعه على آخرين ، له الحكمة البالغة في ذلك (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي يوم القيامة.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٢٤٦)

قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : هذا النبي هو يوشع بن نون قال ابن جرير : يعني ابن أفرايم بن يوسف بن يعقوب ، وهذا القول بعيد لأن هذا كان بعد موسى بدهر طويل ، وكان ذلك في زمان داود عليه‌السلام ، كما هو مصرح به في القصة ، وقد كان بين داود وموسى ما ينيف عن ألف سنة ، والله أعلم وقال السدي : هو شمعون. وقال مجاهد : هو شمويل عليه‌السلام ، وكذا قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه : وهو شمويل (١) بن بالي بن علقمة بن يرحام بن

__________________

(١) تأتي هذه الأسماء في الكتب العربية وقد طرأ عليها الكثير من التحريف والتصحيف. وما أثبتناه في ـ

٥٠٥

إليهو بن تهو بن صوف بن علقمة بن ماحث بن عموصا بن عزريا بن صفتية بن علقمة بن أبي يأسف بن قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه‌السلام. وقال وهب بن منبه وغيره : كان بنو إسرائيل بعد موسى عليه‌السلام على طريق الاستقامة مدة من الزمان ، ثم أحدثوا الأحداث ، وعبد بعضهم الأصنام ، ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر ، ويقيمهم على منهج التوراة ، إلى أن فعلوا ما فعلوا ، فسلط الله عليهم أعداءهم ، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وأسروا خلقا كثيرا ، وأخذوا منهم بلادا كثيرة ، ولم يكن أحد يقاتلهم إلا غلبوه ، وذلك أنهم كان عندهم التوراة ، والتابوت الذي كان في قديم الزمان ، وكان ذلك موروثا لخلفهم عن سلفهم إلى موسى الكليم عليه الصلاة والسلام ، فلم يزل بهم تماديهم على الضلال حتى استلبه منهم بعض الملوك في بعض الحروب ، وأخذوا التوراة من أيديهم ، ولم يبق من يحفظها فيهم إلا القليل ، وانقطعت النبوة من أسباطهم ، ولم يبق من سبط لاوي الذي يكون فيه الأنبياء إلا امرأة حامل من بعلها وقد قتل ، فأخذوها فحبسوها في بيت ، واحتفظوا بها لعل الله يرزقها غلاما يكون نبيا لهم ، ولم تزل المرأة تدعو الله عزوجل أن يرزقها غلاما ، فسمع الله لها ووهبها غلاما ، فسمته شمويل ، أي سمع الله دعائي ، ومنهم من يقول : شمعون ، وهو بمعناه ، فشب ذلك الغلام ، ونشأ فيهم ، وأنبتها لله نباتا حسنا ، فلما بلغ سن الأنبياء أوحى الله إليه ، وأمره بالدعوة إليه وتوحيده ، فدعا بني إسرائيل ، فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكا يقاتلون معه أعداءهم ، وكان الملك أيضا قد باد فيهم ، فقال لهم النبي : فهل عسيتم إن أقام الله لكم ملكا ألا تقاتلوا وتفوا بما التزمتم من القتال معه ، (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) أي وقد أخذت منا البلاد وسبيت الأولاد ، قال الله تعالى : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي ما وفوا بما وعدوا بل نكل عن الجهاد أكثرهم ، والله عليم بهم.

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٢٤٧)

__________________

ـ سلسلة النسب هنا من الطبري ٥ / ٢٩١ (طبقة دار المعارف بتحقيق محمود محمد شاكر). وقد ضبطها المحقق على ما ورد في الإصحاح السادس من كتاب اليهود الذي بين أيدينا ، وأشار في الهوامش إلى رسم الاسم في الثورة مع الاختلافات في سلسلة النسب.

٥٠٦

أي لما طلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكا منهم ، فعين لهم طالوت ، وكان رجلا من أجنادهم ، ولم يكن من بيت الملك فيهم ، لأن الملك كان في سبط يهوذا ، ولم يكن هذا من ذلك السبط ، فلهذا قالوا : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) ، أي كيف يكون ملكا علينا (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) أي هو مع هذا فقير لا مال له يقوم بالملك ، وقد ذكر بعضهم أنه كان سقاء ، وقيل : دباغا ، وهذا اعتراض منهم على نبيهم وتعنت ، وكان الأولى بهم طاعة وقول معروف ، ثم قد أجابهم النبي قائلا : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) أي اختاره لكم من بينكم ، والله أعلم به منكم ، يقول : لست أنا الذي عينته من تلقاء نفسي ، بل الله أمرني به لما طلبتم مني ذلك ، (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) أي وهو مع هذا ، أعلم منكم ، وأنبل ، وأشكل منكم ، وأشد قوة وصبرا في الحرب ومعرفة بها ، أي أتم علما وقامة منكم ، ومن هاهنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة شديدة في بدنه ونفسه ؛ ثم قال (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) أي هو الحاكم الذي ما شاء فعل ، ولا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون لعلمه وحكمته ورأفته بخلقه ، ولهذا قال (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي هو واسع الفضل ، يختص برحمته من يشاء ، عليم بمن يستحق الملك ممن لا يستحقه.

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢٤٨)

يقول لهم نبيهم : إن علامة بركة ملك طالوت عليكم ، أن يرد الله عليكم التابوت الذي كان أخذ منكم (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) قيل معناه وقار وجلالة. قال عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة (فِيهِ سَكِينَةٌ) أي وقار : وقال الربيع : رحمة ، وكذا روي عن العوفي ، عن ابن عباس. وقال ابن جريج : سالت عطاء عن قوله (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)؟ قال : ما تعرفون من آيات الله فتسكنون إليه ، وكذا قال الحسن البصري. وقيل : السكينة طست من ذهب ، كانت تغسل فيه قلوب الأنبياء ، أعطاها الله موسى عليه‌السلام ، فوضع فيها الألواح ، ورواه السدي عن أبي مالك عن ابن عباس ، وقال سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي الأحواص ، عن علي ، قال : السكينة لها وجه كوجه الإنسان ، ثم هي روح هفافة. وقال ابن جرير ، حدثني المثنى ، حدثنا أبو داود ، حدثنا شعبة وحماد بن سلمة وأبو الأحواص ، كلهم عن سماك عن خالد بن عرعرة ، عن علي ، قال : السكينة ريح خجوج ، ولها رأسان. وقال مجاهد : لها جناحان وذنب. وقال محمد بن إسحاق ، عن وهب بن منبه : السكينة رأس هرة ميتة إذا صرخت في التابوت بصراخ هر ، أيقنوا بالنصر ، وجاءهم الفتح. وقال عبد الرزاق : أخبرنا بكار بن عبد الله ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : السكينة روح من الله تتكلم ، إذا اختلفوا في شيء ، تكلم ، فتخبرهم ببيان

٥٠٧

ما يريدون.

وقوله (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) قال ابن جرير (١) : أخبرنا ابن مثنى ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا حماد عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في هذه الآية (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) قال : عصاه ، ورضاض الألواح ، وكذا قال قتادة والسدي والربيع بن أنس وعكرمة ، وزاد : والتوراة. قال أبو صالح (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى) يعني عصا موسى ، وعصا هارون ، ولوحين من التوراة ، والمن. وقال عطية بن سعد : عصا موسى ، وعصا هارون ، وثياب موسى ، وثياب هارون ، ورضاض الألواح. وقال عبد الرزاق : سألت الثوري عن قوله (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) ، فقال : منهم من يقول : قفيز من منّ ، ورضاض الألواح ، ومنهم من يقول : العصا والنعلان.

وقوله (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) قال ابن جريج : قال ابن عباس : جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون ، قال السدي : أصبح التابوت في دار طالوت ، فآمنوا بنبوة شمعون ، وأطاعوا طالوت. وقال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن بعض أشياخه ، جاءت به الملائكة تسوقه على عجلة على بقرة ، وقيل : على بقرتين. وذكر غيره : أن التابوت كان بأريحاء ، وكان المشركون لما أخذوه وضعوه في بيت آلهتهم تحت صنمهم الكبير فأصبح التابوت على رأس الصنم فأنزلوه فوضعوه تحته ، فأصبح كذلك ، فسمروه تحته ، فأصبح الصنم مكسور القوائم ، ملقى بعيدا ، فعلموا أن هذا أمر من الله لا قبل لهم به ، فأخرجوا التابوت من بلدهم ، فوضعوه في بعض القرى ، فأصاب أهلها داء في رقابهم ، فأمرتهم جارية من سبي بني إسرائيل أن يردوه إلى بني إسرائيل حتى يخلصوا من هذا الداء ، فحملوه على بقرتين فسارتا به ، لا يقربه أحد إلا مات ، حتى اقتربتا من بلد بني إسرائيل ، فكسرتا النيرين ورجعتا ، وجاء بنو إسرائيل فأخذوه ، فقيل : إنه تسلمه داود عليه‌السلام ، وإنه لما قام إليهما خجل من فرحه بذلك ، وقيل : شابان منهم ، فالله أعلم وقيل : كان التابوت بقرية من قرى فلسطين يقال لها أزدرد.

وقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ) أي على صدقي فيما جئتكم به من النبوة ، وفيما أمرتكم به من طاعة طالوت (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي بالله واليوم الآخر.

(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٢٤٩)

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٦٢٧.

٥٠٨

يقول تعالى مخبرا عن طالوت ملك بني إسرائيل حين خرج في جنوده ، ومن أطاعه من ملأ بني إسرائيل ، وكان جيشه يومئذ فيما ذكره السدي ثمانين ألفا ، فالله أعلم ، أنه قال (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ) أي مختبركم بنهر ، قال ابن عباس وغيره : وهو نهر بين الأردن وفلسطين ، يعني نهر الشريعة المشهور ، (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) أي فلا يصحبني اليوم في هذا الوجه (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) ، أي فلا بأس عليه ، قال الله تعالى : (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) قال ابن جريج : قال ابن عباس : من اغترف منه بيده روي ، ومن شرب منه لم يرو. وكذا رواه السدي عن أبي مالك ، عن ابن عباس : وكذا قال قتادة وابن شوذب ، وقال السدي : كان الجيش ثمانين ألفا ، فشرب منه ستة وسبعون ألفا ، وتبقى معه أربعة آلاف ، كذا قال. وقد روى ابن جرير من طريق إسرائيل وسفيان الثوري ومسعر بن كدام عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب ، قال : كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر ، وما جازه معه إلا مؤمن ، ورواه البخاري عن عبد الله بن رجاء ، عن إسرائيل بن يونس ، عن أبي إسحاق ، عن جده ، عن البراء بنحوه ، ولهذا قال تعالى : (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) أي استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم لكثرتهم ، فشجعهم علماؤهم العالمون بأن وعد الله حق ، فإن النصر من عند الله ليس عن كثرة عدد ولا عدد. ولهذا قالوا (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).

(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢٥٢)

أي لما واجه حزب الإيمان ، وهم قليل من أصحاب طالوت ، لعدوهم أصحاب جالوت ، وهم عدد كثير (قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) أي أنزل علينا صبرا من عندك (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) أي في لقاء الأعداء ، وجنبنا الفرار والعجز (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

قال الله تعالى : (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) أي غلبوهم وقهروهم بنصر الله لهم (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) ذكروا في الإسرائيليات أنه قتله بمقلاع كان في يده ، رماه به فأصابه فقتله ، وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ، ويشاطره نعمته ، ويشركه في أمره ، فوفى له ثم آل الملك إلى دواد عليه‌السلام مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة ، ولهذا قال تعالى : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) الذي كان بيد طالوت (وَالْحِكْمَةَ) أي النبوة بعد شمويل (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ)

٥٠٩

أي مما يشاء الله من العلم الذي اختص به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) أي لولا الله يدفع عن قوم بآخرين كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا كما قال تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) [الحج : ٤٠] ، وقال ابن جرير(١): حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا حفص بن سليمان عن محمد بن سوقة ، عن وبرة بن عبد الرحمن ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء» ثم قرأ ابن عمر (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) وهذا إسناد ضعيف ، فإن يحيى بن سعيد هذا ، هو ابن العطار الحمصي ، وهو ضعيف جدا ، ثم قال ابن جرير (٢) : حدثنا أبو حميد الحمصي ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده ، وولد ولده ، وأهل دويرته ، ودويرات حوله ، ولا يزالون في حفظ الله عزوجل ، ما دام فيهم» وهذا أيضا غريب ضعيف لما تقدم أيضا.

وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا علي بن إسماعيل بن حماد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد ، أخبرنا زيد بن الحباب ، حدثني حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثوبان رفع الحديث ، قال «لا يزال فيكم سبعة بهم تنصرون ، وبهم تمطرون ، وبهم ترزقون ، حتى يأتي أمر الله». وقال ابن مردويه أيضا : وحدثنا محمد بن أحمد ، حدثنا محمد بن جرير بن يزيد ، حدثنا أبو معاذ نهار بن معاذ بن عثمان الليثي ، عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن عبادة بن الصامت ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأبدال في أمتي ثلاثون ، بهم ترزقون ، وبهم تمطرون ، وبهم تنصرون» قال قتادة ، إني لأرجو أن يكون الحسن منهم.

وقوله (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) أي ذو منّ عليهم ورحمة بهم ، يدفع عنهم ببعضهم بعضا ، وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه في جميع أفعاله وأقواله.

ثم قال تعالى : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي هذه آيات الله التي قصصناها عليك من أمر الذين ذكرناهم بالحق ، أي بالواقع الذي كان عليه الأمر المطابق لما بأيدي أهل الكتاب من الحق الذي يعلمه علماء بني إسرائيل ، (وَإِنَّكَ) يا محمد (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وهذا توكيد وتوطئة للقسم.

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٦٤٦.

٥١٠

الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (٢٥٣)

يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) [الإسراء : ٥٥] ، وقال هاهنا (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) يعني موسى ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك آدم كما ورد به الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) كما ثبت في حديث الإسراء حين رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الأنبياء في السماوات بحسب تفاوت منازلهم عند الله عزوجل ، (فإن قيل) فما الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة ، قال استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود ، فقال اليهودي في قسم يقسمه : لا والذي اصطفى موسى على العالمين. فرفع المسلم يده ، فلطم بها وجه اليهودي ، فقال : أي خبيث : وعلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فجاء اليهودي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاشتكى على المسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تفضلوني على الأنبياء ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فأجد موسى باطشا بقائمة العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟ فلا تفضلوني على الأنبياء» وفي رواية «لا تفضلوا بين الأنبياء» فالجواب من وجوه [أحدها] أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل ، وفي هذا نظر [الثاني] أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع ، [الثالث] أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر. [الرابع] لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية. [الخامس] ليس مقام التفضيل إليكم ، وإنما هو إلى الله عزوجل ، وعليكم الانقياد والتسليم له ، والإيمان به.

وقوله (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) أي الحجج والدلائل القاطعات على صحة ما جاء بني إسرائيل به من أنه عبد الله ورسوله إليهم (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) يعني أن الله أيده بجبريل عليه‌السلام ، ثم قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) أي كل ذلك عن قضاء الله وقدره ، لهذا قالوا (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٥٤)

يأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم في سبيله ، سبيل الخير ، ليدّخروا ثواب ذلك عند ربهم ومليكهم ، وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا ، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) يعني يوم القيامة (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) أي لا يباع أحد من نفسه ولا يفادي بمال لو بذل ، ولو جاء بملء الأرض ذهبا ، ولا تنفعه خلة أحد ، يعني صداقته بل ولا نسابته ، كما قال (فَإِذا نُفِخَ فِي

٥١١

الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] ولا شفاعة : أي ولا تنفعهم شفاعة الشافعين.

وقوله (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) مبتدأ محصور في خبره ، أي ولا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذ كافرا ، وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار أنه قال : الحمد لله الذي قال (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ولم يقل : والظالمون هم الكافرون.

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (٢٥٥)

هذه آية الكرسي ، ولها شأن عظيم ، وقد صح الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنها أفضل آية في كتاب الله. قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا سفيان ، عن سعيد الجريري ، عن أبي السليل ، عن عبد الله بن رباح ، عن أبيّ هو ابن كعب ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سأله «أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال : الله ورسوله أعلم ، فرددها مرارا ، ثم قال : آية الكرسي ، قال «ليهنك العلم أبا المنذر ، والذي نفسي بيده ، إن لها لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش» وقد رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى ، عن الجريري به ، وليس عنده زيادة : والذي نفسي بيده إلخ.

حديث آخر عن أبي أيضا في فضل آية الكرسي ، قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، حدثنا مبشر عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبدة بن أبي لبابة ، عن عبد الله بن أبي بن كعب ، أن أباه أخبره أنه كان له جرن فيه تمر ، قال : فكان أبي يتعاهده ، فوجده ينقص ، قال : فحرسه ذات ليلة ، فإذا هو بدابة شبيه الغلام المحتلم ، قال : فسلمت عليه ، فرد السلام ، قال : فقلت : ما أنت؟ جني أم أنسي؟ قال : جني. قال : ناولني يدك ، قال فناولني يده ، فإذا يد كلب وشعر كلب ، فقلت : هكذا خلق الجن. قال : لقد علمت الجن ما فيهم أشد مني. قلت : فما حملك على ما صنعت؟ قال : بلغني أنك رجل تحب الصدقة ، فأحببنا أن نصيب من طعامك. قال : فقال له أبي : فما الذي يجيرنا منكم؟ قال : هذه الآية ، آية الكرسي ، ثم غدا إلى النبي فأخبره ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدق الخبيث» وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي داود الطيالسي ، عن حرب بن شداد ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن الحضرمي بن لاحق ، عن محمد بن عمرو بن أبي بن كعب ، عن جده به ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه.

__________________

(١) المسند (ج ٥ ص ١٤١ ـ ١٤٢)

٥١٢

طريق آخر قال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا عثمان بن غياث ، قال : سمعت أبا السليل ، قال : كان رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدث الناس حتى يكثروا عليه ، فيصعد على سطح بيت ، فيحدث الناس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أي آية في القرآن أعظم؟» فقال رجل (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قال : فوضع يده بين كتفي ، فوجدت بردها بين ثديي ، أو قال : فوضع يده بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي ، وقال : ليهنك العلم يا أبا المنذر.

حديث آخر عن الأسفع البقري. قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أبو زيد القرطيسي ، حدثنا يعقوب بن أبي عباد المكي ، حدثنا مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، أخبرني عمر بن عطاء أن مولى ابن الأسفع رجل صدق ، أخبره عن الأسفع البكري ، أنه سمعه يقول : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءهم في صفة المهاجرين ، فسأله إنسان : أي آية في القرآن أعظم؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) حتى انقضت الآية.

حديث آخر ـ عن أنس ـ قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الله بن الحارث ، حدثني سلمة بن وردان ، أن أنس بن مالك ، حدثه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل رجلا من صحابته ، فقال «أي فلان هل تزوجت؟ قال : لا ، وليس عندي ما أتزوج به ، قال «أو ليس معك قل هو الله أحد؟» قال : بلى ، قال «ربع القرآن». قال «أليس معك قل يا أيها الكافرون؟» قال : بلى. قال : «ربع القرآن». أليس معك إذا زلزلت؟» قال : بلى. قال «ربع القرآن» قال «أليس معك إذا جاء نصر الله؟ قال : بلى. قال «ربع القرآن». قال «أليس معك آية الكرسي الله لا إله إلا هو الحي القيوم» قال بلى. قال «ربع القرآن».

حديث آخر عن أبي ذر جندب بن جنادة. قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا وكيع بن الجراح ، حدثنا المسعودي ، أنبأني أبو عمر الدمشقي ، عن عبيد الخشخاش ، عن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في المسجد فجلست ، فقال «يا أبا ذر ، هل صليت؟» قلت : لا. قال «قم فصل». قال : فقمت فصليت ، ثم جلست ، فقال «يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن». قال : قلت : يا رسول الله ، أو للإنس شياطين؟ قال : نعم ، قال قلت : يا رسول الله الصلاة؟ قال «خير موضوع ، من شاء أقل ، ومن شاء أكثر» قال : قلت: يا رسول الله فالصوم؟ قال «فرض مجزي وعند الله مزيد» قلت : يا رسول الله فالصدقة؟ قال «أضعاف مضاعفة». قلت : يا رسول الله ، فأيها أفضل؟ قال : «جهد من مقل ، أوسر إلى فقير» قلت : يا رسول الله ، أي الأنبياء كان أول؟ قال : «آدم» قلت : يا رسول الله ، ونبي كان؟ قال : نعم نبي مكلم» قلت : يا رسول الله ، كم المرسلون؟ قال : ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا» ، وقال مرة «وخمسة عشر»

__________________

(١) المسند (ج ٥ ص ٥٨)

(٢) المسند (ج ٣ ص ٢٢١)

(٣) المسند (ج ٥ ص ١٧٨)

٥١٣

قلت : يا رسول الله ، أي ما أنزل عليك أعظم؟ قال : «آية الكرسي (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ورواه النسائي.

حديث آخر عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه. قال الإمام أحمد(١) : حدثنا سفيان عن ابن أبي ليلى ، عن أخيه عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبي أيوب ، أنه كان في سهوة (٢) له ، وكانت الغول تجيء فتأخذ ، فشكاها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال «فإذا رأيتها فقل باسم الله ، أجيبي رسول الله». قال : فجاءت ، فقال لها ، فأخذها ، فقالت : إني لا أعود ، فأرسلها ؛ فجاء فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما فعل أسيرك»؟ قال : أخذتها ، فقالت : إني لا أعود ، فأرسلتها ، فقال : إنها عائدة ، فأخذتها مرتين أو ثلاثا كل ذلك تقول : لا أعود ، فيقول «إنها عائدة» ، فأخذتها ، فقالت : أرسلني ، وأعلمك شيئا تقوله فلا يقربك شيء ، آية الكرسي ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأخبره ، فقال «صدقت وهي كذوب». ورواه الترمذي في فضائل القرآن عن بندار عن أبي أحمد الزبيري به ، وقال حسن غريب. والغول في لغة العرب : الجان إذا تبدى في الليل.

وقد ذكر البخاري هذه القصة عن أبي هريرة ، فقال في كتاب فضائل القرآن ، وفي كتاب الوكالة ، وفي صفة إبليس من صحيحه (٣) : قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو : حدثنا عوف عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، قال : وكلني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته وقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : دعني فإني محتاج وعليّ عيال ولي حاجة شديدة ، قال : فخليت عنه فأصبحت ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟» قال : قلت يا رسول الله ، شكا حاجة شديدة وعيالا ، فرحمته وخليت سبيله ، قال «أما إنه قد كذبك وسيعود» فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنه سيعود» فرصدته ، فجاء يحثوا الطعام ، فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : دعني فأنا محتاج وعليّ عيال ، لا أعود. فرحمته وخليت سبيله ، فأصبحت فقال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟» قلت : يا رسول الله ، شكا حاجة وعيالا ، فرحمته وخليت سبيله. قال «أما أنه قد كذبك وسيعود» ، فرصدته الثالثة ، فجاء يحثو من الطعام ، فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود ، فقال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها ، قلت : وما هي؟ قال : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) حتى تختم الآية ، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فخليت سبيله ، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما فعل أسيرك البارحة؟» قلت : يا رسول الله ، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها ، فخليت سبيله. قال «وما هي؟» قال

__________________

(١) المسند (ج ٥ ص ٤٢٣)

(٢) السهوة : شيء كالصّفة يكون بين البيوت. وبيت على الماء يستظلون به.

(٣) ما يأتي ورد كاملا في صحيح البخاري (وكالة باب ١٠)

٥١٤

لي : إذا أويت إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وقال لي : لا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح ، وكانوا أحرص شيء على الخير ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أما إنه قد صدقك وهو كذوب ، تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة؟» قلت : لا. قال «ذاك شيطان». كذا رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم ، وقد رواه النسائي في اليوم والليلة عن إبراهيم بن يعقوب ، عن عثمان بن الهيثم ، فذكره.

وقد روي من وجه آخر عن أبي هريرة بسياق آخر قريب من هذا ، فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره : حدثنا محمد بن عبد الله بن عمرويه الصفار ، حدثنا أحمد بن زهير بن حرب ، أنبأنا مسلم بن إبراهيم ، أنبأنا إسماعيل بن مسلم العبدي ، أنبأنا أبو المتوكل الناجي ، أن أبا هريرة كان معه مفتاح بيت الصدقة ، وكان فيه تمر ، فذهب يوما ففتح الباب ، فوجد التمر قد أخذ منه ملء كف ، ودخل يوما آخر فإذا قد أخذ منه ملء كف ، ثم دخل يوما آخر ثالثا ، فإذا قد أخذ منه مثل ذلك ، فشكا ذلك أبو هريرة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تحب أن تأخذ صاحبك هذا؟» قال : نعم. قال «فإذا فتحت الباب فقل سبحان من سخرك محمد. فذهب ففتح الباب فقال سبحان من سخرك محمد فإذا هو قائم بين يديه ، قال : يا عدو الله ، أنت صاحب هذا. قال : نعم ، دعني فإني لا أعود ، ما كنت آخذا إلا لأهل بيت من الجن فقراء ، فخلى عنه ، ثم عاد الثانية ، ثم الثالثة ، فقلت : أليس قد عاهدتني ألا تعود؟ لا أدعك اليوم حتى أذهب بك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال لا تفعل ، فإنك إن تدعني علمتك كلمات إذا أنت قلتها ، لم يقربك أحد من الجن صغير ولا كبير ، ذكر ولا أنثى ، قال له : لتفعلن؟ قال : نعم. قال : ما هن؟ قال (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قرأ آية الكرسي حتى ختمها ، فتركه فذهب فلم يعد ، فذكر ذلك أبو هريرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أما علمت أن ذلك كذلك» وقد رواه النسائي عن أحمد بن محمد بن عبيد الله ، عن شعيب بن حرب ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن أبي المتوكل ، عن أبي هريرة به ، وقد تقدم لأبي بن كعب كائنة مثل هذه أيضا ، فهذه ثلاث وقائع.

قصة أخرى قال أبو عبيد في كتاب الغريب : حدثنا أبو معاوية ، عن أبي عاصم الثقفي ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن مسعود قال : خرج رجل من الإنس ، فلقيه رجل من الجن فقال : هل لك أن تصارعني؟ فإن صرعتني علمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخله شيطان ، فصارعه فصرعه ، فقال : إني أراك ضئيلا شخيتا ، كأن ذراعيك ذراعا كلب ، أفهكذا أنتم أيها الجن كلكم ، أم أنت من بينهم؟ فقال : إني بينهم لضليع (١) ، فعاودني فصارعه فصرعه الأنسي فقال : تقرأ آية الكرسي فإنه لا يقرؤها أحد إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان وله خبج كخبج الحمار ، فقيل لابن مسعود : أهو عمر؟ فقال من عسى أن يكون إلا عمر ، قال أبو عبيد : الضئيل النحيف الجسم ، والخبج بالخاء المعجمة ، ويقال بالحاء المهملة الضراط.

__________________

(١) الضليع : العظيم الخلقة والجسم.

٥١٥

حديث آخر عن أبي هريرة. قال الحاكم أبو عبد الله في مستدركه : حدثنا علي بن حمشان ، حدثنا سفيان حدثنا بشر بن موسى ، حدثنا الحميدي ، حدثنا حكيم بن جبير الأسدي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن ، لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه : آية الكرسي» ، وكذا رواه من طريق آخر عن زائدة ، عن حكيم بن جبير ، ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، كذا قال ، وقد رواه الترمذي من حديث زائدة ، ولفظه «لكل شيء سنام ، وسنام القرآن سورة البقرة ، وفيها آية هي سيدة آي القرآن : آية الكرسي» ثم قال : غريب ، لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير ، وقد تكلم فيه شعبة وضعفه. (قلت) وكذا ضعفه أحمد ويحيى بن معين ، وغير واحد من الأئمة ، وتركه ابن مهدي وكذبه السعدي.

حديث آخر قال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي بن نافع ، أخبرنا عيسى بن محمد المروزي ، أخبرنا عمر بن محمد البخاري ، أخبرنا عيسى بن غنجار ، عن عبد الله بن كيسان ، حدثنا يحيى ، أخبرنا بن عقيل ، عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر ، عن عمر بن الخطاب : أنه خرج ذات يوم إلى الناس وهم سماطات (١) فقال : أيكم يخبرني بأعظم آية في القرآن. فقال ابن مسعود : على الخبير سقطت ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أعظم آية في القرآن (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) حديث آخر في اشتماله على اسم الله الأعظم قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن بكر ، أنبأنا عبد الله بن زياد ، حدثنا شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد بن السكن ، قالت: سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في هاتين الآيتين (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) و (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)

«إن فيهما اسم الله الأعظم» وكذا رواه أبو داود ، عن مسدد والترمذي ، عن علي بن خشرم وابن ماجة ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، ثلاثتهم عن عيسى بن يونس ، عن عبيد الله بن أبي زياد به ، وقال الترمذي : حسن صحيح.

حديث آخر في معنى هذا ، عن أمامة رضي الله عنه ، قال ابن مردويه : أخبرنا عبد الله بن نمير ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل ، أخبرنا هشام بن عمار ، أنبأنا الوليد بن مسلم ، أخبرنا عبد الله بن العلاء بن زيد ، أنه سمع القاسم بن عبد الرحمن يحدث عن أبي أمامة يرفعه ، قال «اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث : سورة البقرة ، وآل عمران وطه» وقال هشام وهو ابن عمار خطيب دمشق أما البقرة ف (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وفي آل عمران (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وفي طه (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ).

حديث آخر عن أبي أمامة في فضل قراءتها بعد الصلاة المكتوبة ، قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن محرز بن مساور الأدمي ، أخبرنا جعفر بن محمد بن الحسن ، أخبرنا الحسين بن

__________________

(١) السماطات : الجماعات.

(٢) المسند (ج ٦ ص ٤٦١)

٥١٦

بشر بطرسوس ، أخبرنا محمد بن حمير ، أخبرنا محمد بن زياد ، عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي ، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت» وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة ، عن الحسين بن بشر به ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، من حديث محمد بن حمير وهو الحمصي ، من رجال البخاري أيضا ، فهو إسناد على شرط البخاري ، وقد زعم أبو الفرج بن الجوزي ، أنه حديث موضوع ، والله أعلم. وقد روى ابن مردويه من حديث علي والمغيرة بن شعبة وجابر بن عبد الله ، نحو هذا الحديث ، ولكن في إسناد كل منهما ضعف. وقال ابن مردويه أيضا : حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري ، أخبرنا يحيى بن درستويه المروزي ، أخبرنا زياد بن إبراهيم ، أخبرنا أبو حمزة السكري ، عن المثنى ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أوحى الله إلى موسى بن عمران عليه‌السلام أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة ، فإنه من يقرؤها في دبر كل صلاة مكتوبة ، أجعل له قلب الشاكرين ، ولسان الذاكرين ، وثواب النبيين ، وأعمال الصديقين ، ولا يواظب على ذلك إلا نبي أو صديق أو عبد امتحنت قلبه للإيمان ، أو أريد قتله في سبيل الله» وهذا حديث منكر جدا.

حديث آخر في أنها تحفظ من قرأها في أول النهار وأول الليل. قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا يحيى بن المغيرة أبو سلمة المخزومي المديني ، أخبرنا ابن أبي فديك. عن عبد الرحمن المليكي ، عن زرارة بن مصعب ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ : (حم) المؤمن إلى (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) وآية الكرسي ، حين يصبح ، حفظ بهما حتى يمسي ، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح» ثم قال : هذا حديث غريب ، وقد تكلم بعض أهل العلم في عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة المليكي ، من قبل حفظه.

وقد ورد في فضلها أحاديث أخر ، تركناها اختصارا لعدم صحتها وضعف أسانيدها كحديث علي في قراءتها عند الحجامة ، إنها تقوم مقام حجامتين. وحديث أبي هريرة في كتابتها في اليد اليسرى بالزعفران سبع مرات ، وتلحس للحفظ وعدم النسيان ، أوردهما ابن مردويه ، وغير ذلك.

وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة

فقوله (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبدا ، القيم لغيره. وكان عمر يقرأ «القيّام» ، فجميع الموجودات مفتقرة إليه ، وهو غني عنها ، لا قوام لها بدون أمره ، كقوله (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) [الروم : ٢٥] وقوله (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) أي لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه ، بل هو قائم على كل نفس بما كسبت ، شهيد على كل شيء ، لا يغيب عنه شيء ،

٥١٧

ولا يخفى عليه خافية ، ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم ، فقوله (لا تَأْخُذُهُ) أي لا تغلبه سنة وهي الوسن والنعاس ، ولهذا قال : ولا نوم لأنه أقوى من السنة. وفي الصحيح عن أبي موسى ، قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربع كلمات ، فقال «إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل ، وعمل الليل قبل عمل النهار ، حجابه النور أو النار ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، أخبرني الحكم بن أبان ، عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) أن موسى عليه‌السلام سأل الملائكة : هل ينام الله عزوجل؟ فأوحى الله تعالى إلى الملائكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا ، فلا يتركوه ينام ، ففعلوا ، ثم أعطوه قارورتين فأمسكهما ، ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما ، قال : فجعل ينعس وهما في يده ، وفي كل يد واحدة ، قال : فجعل ينعس وينبه ، وينعس وينبه ، حتى نعس نعسة ، فضرب إحداهما بالأخرى فكسرهما ، قال معمر : إنما هو مثل ضربه الله عزوجل ، يقول فكذلك السموات والأرض في يده ، وهكذا رواه ابن جرير ، عن الحسن بن يحيى ، عن عبد الرزاق فذكره ، وهو من أخبار بني إسرائيل ، وهو مما يعلم أن موسىعليه‌السلام لا يخفى عليه مثل هذا من أمر الله عزوجل ، وأنه منزه عنه.

وأغرب من هذا كله الحديث الذي رواه ابن جرير (١) : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل. حدثنا هشام بن يوسف ، عن أمية بن شبل ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحكي عن موسى عليه‌السلام على المنبر ، قال «وقع في نفس موسى : هل ينام الله؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا ، ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة ، وأمره أن يحتفظ بهما قال : فجعل ينام ، وكادت يداه تلتقيان ، فيستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى ، حتى نام نومة ، فاصطفقت يداه ، فانكسرت القارورتان ، ـ قال ـ ضرب الله عزوجل مثلا ، أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض» وهذا حديث غريب جدا ، والأظهر أنه إسرائيلي لا مرفوع ، والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي ، حدثني أبي عن أبيه ، حدثنا أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن بني إسرائيل قالوا : يا موسى ، هل ينام ربك؟ قال : اتقوا الله ، فناداه ربه عزوجل يا موسى ، سألوك هل ينام ربك ، فخذ زجاجتين في يديك ، فقم الليلة ، ففعل موسى ، فلما ذهب من الليل ثلث نعس ، فوقع لركبتيه ، ثم انتعش فضبطهما ، حتى إذا كان آخر الليل نعس ، فسقطت الزجاجتان فانكسرتا ، فقال : يا موسى ، لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكت كما هلكت الزجاجتان في يديك. فأنزل الله عزوجل على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٩.

٥١٨

الكرسي.

وقوله (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه ، وتحت قهره وسلطانه ، كقوله (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم : ٩٣ ـ ٩٥].

وقوله (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) كقوله (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم : ٢٦] وكقوله (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عزوجل ، أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة ، كما في حديث الشفاعة : «آتي تحت العرش فأخر ساجدا ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني. ثم يقال : ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع ـ قال ـ فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة».

وقوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات ، ماضيها وحاضرها ومستقبلها ، كقوله إخبارا عن الملائكة (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا ، وَما بَيْنَ ذلِكَ ، وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم : ٦٤].

وقوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عزوجل وأطلعه عليه. ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته ، إلا بما أطلعهم الله عليه ، كقوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه : ١١٠].

وقوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن إدريس عن مطرف بن طريف ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) قال : علمه ، وكذا رواه ابن جرير من حديث عبد الله بن إدريس وهشيم ، كلاهما عن مطرف بن طريف به ، قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير مثله ، ثم قال ابن جرير : وقال آخرون الكرسي موضع القدمين ، ثم رواه عن أبي موسى والسدي والضحاك ومسلم البطين.

وقال شجاع بن مخلد في تفسيره : أخبرنا أبو عاصم ، عن سفيان ، عن عمار الذهبي ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله عزوجل (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)؟ قال «كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره إلا الله عزوجل» كذا أورد هذا الحديث الحافظ أبو بكر بن مردويه من طريق شجاع بن مخلد الفلاس ، فذكره وهو غلط ، وقد رواه وكيع في تفسيره ، حدثنا سفيان عن عمار الذهبي ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : الكرسي موضع القدمين ، والعرش لا يقدر أحد قدره. وقد رواه الحاكم في مستدركه عن أبي العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، عن

٥١٩

محمد بن معاذ ، عن أبي عاصم ، عن سفيان ، وهو الثوري بإسناده عن ابن عباس موقوفا مثله ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه. وقد رواه ابن مردويه من طريق الحاكم بن ظهير الغزاري الكوفي ، وهو متروك عن السدي ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، مرفوعا ولا يصح أيضا. وقال السدي ، عن أبي مالك : الكرسي تحت العرش : وقال السدي : السموات والأرض في جوف الكرسي ، والكرسي بين يدي العرش. وقال الضحاك عن ابن عباس : لو أن السموات السبع والأرضين السبع ، بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ، ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة ، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرني ابن وهب قال : قال ابن زيد : حدثني أبي قال : قال رسول الله «ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس» قال : وقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض».

وقال أبو بكر بن مردويه : أخبرنا سليمان بن أحمد ، أخبرنا عبد الله بن وهيب المقري ، أخبرنا محمد بن أبي السري العسقلاني ، أخبرنا محمد بن عبد الله التميمي ، عن القاسم بن محمد الثقفي ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذر الغفاري ، أنه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكرسي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي ، إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الغلاة على تلك الحلقة».

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا زهير ، حدثنا ابن أبي بكر ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة ، عن عمر رضي الله عنه ، قال : أتت امرأة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنة ، قال : فعظم الرب تبارك وتعالى ، وقال : «إن كرسيه وسع السموات والأرض وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد من ثقله» وقد رواه الحافظ البزار في مسنده المشهور وعبد بن حميد وابن جرير في تفسيريهما ، والطبراني وابن أبي عاصم في كتابي السنة لهما ، والحافظ الضياء في كتابه المختار من حديث أبي إسحاق السبيعي ، عن عبد الله بن خليفة ، وليس بذاك المشهور ، وفي سماعه من عمر نظر. ثم منهم من يرويه عنه عن عمر موقوفا ، ومنهم من يرويه عنه مرسلا ، ومنهم من يزيد في متنه زيادة غريبة ، ومنهم من يحذفها.

وأغرب من هذا حديث جبير بن مطعم في صفة العرش كما رواه أبو داود في كتابه السنة من سننه ، والله أعلم. وقد روى ابن مردويه وغيره أحاديث عن بريدة وجابر وغيرهما في وضع الكرسي يوم القيامة لفصل القضاء ، والظاهر أن ذلك غير المذكور في هذه الآية ، وقد زعم بعض المتكلمين على علم الهيئة من الإسلاميين ، إن الكرسي عندهم هو الفلك الثامن ، وهو فلك الثوابت الذي فوقه الفلك التاسع ، وهو الفلك الأثير ويقال له الأطلس ، وقد رد ذلك عليهم آخرون وروى ابن جرير من طريق جويبر عن الحسن البصري أنه كان يقول : الكرسي هو العرش ،

٥٢٠