تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

حامل ، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته ، وفي رواية : فوضعت حملها بعده بليال ، فلما تعلت من نفاسها ، تجملت للخطاب ، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك ، فقال لها : ما لي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح؟ والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك ، جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت ، فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي ، وأمرني بالتزويج إن بدا لي.

قال أبو عمر بن عبد البر : وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة ، يعني لما احتج عليه به ، قال : ويصحح ذلك عنه ، أن أصحابه أفتوا بحديث سبيعة كما هو قول أهل العلم قاطبة.

وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة ، فإن عدتها على النصف من عدة الحرة ، شهران وخمس ليال على قول الجمهور ، لأنها لما كانت على النصف من الحرة في الحد ، فكذلك فلتكن على النصف منها في العدة. ومن العلماء كمحمد بن سيرين وبعض الظاهرية من يسوي بين الزوجات الحرائر والإماء في هذا المقام لعموم الآية ، ولأن العدة من باب الأمور الجبلية التي تستوي فيها الخليقة ، وقد ذكر سعيد بن المسيب ، وأبو العالية وغيرهما ، أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا ، لاحتمال اشتمال الرحم على حمل ، فإذا انتظر به هذه المدة ، ظهر إن كان موجودا ، كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح» فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر ، والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور ، ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه ، والله أعلم.

قال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة : سألت سعيد بن المسيب : ما بال العشر؟ قال : فيه ينفخ الروح ، وقال الربيع بن أنس : قلت لأبي العالية : لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة؟ قال : لأنه ينفخ فيه الروح ، رواهما ابن جرير (١).

ومن هاهنا ذهب الإمام أحمد ، في رواية عنه ، إلى أن عدة أم الولد عدة الحرة هاهنا ، لأنها صارت فراشا كالحرائر ، وللحديث الذي رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة عن رجاء بن حيوة ، عن قبيصة بن ذؤيب ، عن عمرو بن العاص أنه قال : لا تلبسوا علينا سنة نبينا ، عدة أم الولد ، إذا توفى عنها سيدها أربعة أشهر وعشر. ورواه أبو داود عن قتيبة ، عن غندر ، وعن ابن المثنى ، عن عبد الأعلى ، وابن ماجة عن علي بن محمد ، عن الربيع ، ثلاثتهم عن سعيد بن أبي عروبة ، عن مطر الوراق ، عن رجاء بن حيوة ، عن قبيصة ، عن عمرو بن العاص ، فذكره. وقد روي عن الإمام أحمد أنه أنكر هذا الحديث ، وقيل إن قبيصة لم

__________________

ـ أبي داود (طلاق باب ٤٧) وسنن النسائي (طلاق باب ٥٦)

(١) تفسير الطبري ٢ / ٥٣٠.

٤٨١

يسمع عمرا ، وقد ذهب إلى القول بهذا الحديث طائفة من السلف ، منهم سعيد بن المسيب ومجاهد وسعيد بن جبير ، والحسن وابن سيرين وأبو عياض والزهري وعمر بن عبد العزيز ، وبه كان يأمر يزيد بن عبد الملك بن مروان ، وهو أمير المؤمنين ، وبه يقول الأوزاعي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل في رواية عنه.

وقال طاوس وقتادة : عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها نصف عدة الحرة شهران وخمس ليال. وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري والحسن بن صالح بن حيي : تعتد بثلاث حيض ، وهو قول علي وابن مسعود وعطاء وإبراهيم النخعي. وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه : عدتها حيضة ، وبه يقول ابن عمر والشعبي ومكحول والليث وأبو عبيد وأبو ثور والجمهور ، وقال الليث : ولو مات وهي حائض ، أجزأتها. وقال مالك : فلو كانت ممن لا تحيض ، فثلاثة أشهر. وقال الشافعي والجمهور : شهر وثلاثة أحب إليّ ، والله أعلم.

وقوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها لما ثبت في الصحيحين من غير وجه عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أم المؤمنين ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» وفي الصحيحين أيضا عن أم سلمة أن امرأة قالت : يا رسول الله ، إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال «لا» كل ذلك يقول ـ لا ـ مرتين أو ثلاثا ، ثم قال : «إنما هي أربعة أشهر وعشر ، وقد كانت إحداكم في الجاهلية تمكث سنة» قالت زينب بنت أم سلمة : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها ، دخلت حفشا (١) ولبست شر ثيابها ، ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر بها سنة ، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به. فقلما تفتض بشيء إلا مات ، ومن هاهنا ذهب كثيرون من العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها ، وهي قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) الآية ، كما قاله ابن عباس وغيره ، وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره. والغرض أن الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك ، وهو واجب في عدة الوفاة قولا واحدا ، ولا يجب في عدة الرجعية قولا واحدا ، وهل يجب في عدة البائن فيه قولان. ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن ، سواء في ذلك الصغيرة والآيسة والحرة والأمة والمسلمة والكافرة ، لعموم الآية ، وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه : لا إحداد على الكافرة ، وبه يقول أشهب وابن نافع من أصحاب مالك ، وحجة قائل هذه المقالة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يحل لا مرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد

__________________

(١) الحفش : البيت الحقير القريب السقف من الأرض. والبيت الصغير من بيوت الأعراب. والدرج تصنع المرأة فيه حاجتها.

٤٨٢

على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» قالوا : فجعله تعبدا ، وألحق أبو حنيفة وأصحابه والثوري الصغيرة بها لعدم التكليف ، وألحق أبو حنيفة وأصحابه الأمة المسلمة لنقصها ، ومحل تقرير ذلك كله في كتب الأحكام والفروع ، والله الموفق للصواب.

وقوله (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي انقضت عدتهن ، قاله الضحاك والربيع بن أنس ، (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) قال الزهري : أي على أوليائها. (فِيما فَعَلْنَ) يعني النساء اللاتي انقضت عدتهن ، قال العوفي عن ابن عباس : إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها ، فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج ، فذلك المعروف. وروي عن مقاتل بن حيان نحوه ، وقال ابن جريج عن مجاهد (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) قال: النكاح الحلال الطيب ، وروي عن الحسن والزهري والسدي ونحو ذلك.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (٢٣٥)

يقول تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أن تعرضوا بخطبة النساء في عدتهن من وفاة أزواجهن من غير تصريح ، قال الثوري وشعبة وجرير وغيرهم ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) قال : التعريض أن يقول : إني أريد التزويج ، وإني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها ـ يعرض لها بالقول بالمعروف ـ وفي رواية : وددت أن الله رزقني امرأة ، ونحو هذا ، ولا ينتصب للخطبة ، وفي رواية : إني لا أريد أن أتزوج غيرك إن شاء الله ، ولوددت أني وجدت امرأة صالحة ، ولا ينتصب لها ما دامت في عدتها ورواه البخاري تعليقا فقال : وقال لي طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) هو أن يقول : إني أريد التزويج ، وإن النساء لمن حاجتي ، ولوددت أن ييسر لي امرأة صالحة ، وهكذا قال مجاهد وطاوس وعكرمة وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والشعبي والحسن وقتادة والزهري ويزيد بن قسيط ومقاتل بن حيان والقاسم بن محمد وغير واحد من السلف والأئمة في التعريض : إنه يجوز للمتوفى عنها زوجها من غير تصريح لها بالخطبة ، وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفاطمة بنت قيس حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص آخر ثلاث تطليقات ، فأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم ، وقال لها : فإذا حللت فآذنيني ، فلما حلت ، خطب عليها أسامة بن زيد مولاه ، فزوجها إياه ، فأما المطلقة فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ولا التعريض لها ، والله أعلم.

٤٨٣

وقوله (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) أي أضمرتم في أنفسكم من خطبتهن ، وهذا كقوله تعالى (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) [القصص : ٦٩] وكقوله (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) [الممتحنة : ١] ولهذا قال (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) أي في أنفسكم ، فرفع الحرج عنكم في ذلك. ثم قال : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) قال أبو مجلز وأبو الشعثاء جابر بن زيد والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة والضحاك والربيع بن أنس وسليمان التيمي ومقاتل بن حيان والسدي : يعني الزنا ، وهو معنى الزنا ، وهو معنى رواية العوفي عن ابن عباس ، واختاره ابن جرير ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) لا تقل لها : إني عاشق وعاهديني أن لا تتزوجي غيري ، ونحو هذا ، وكذا روي عن سعيد بن جبير والشعبي وعكرمة وأبي الضحى والضحاك والزهري ومجاهد والثوري ، هو أن يأخذ ميثاقها أن لا تتزوج غيره. وعن مجاهد : هو قول الرجل للمرأة : لا تفوتيني بنفسك فإني ناكحك ، وقال قتادة : هو أن يأخذ عهد المرأة وهي في عدتها أن لا تنكح غيره ، فنهى الله عن ذلك ، وقدم فيه وأحل الخطبة ، والقول بالمعروف ، وقال ابن زيد (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) هو أن يتزوجها في العدة سرا ، فإذا حلت أظهر ذلك ، وقد يحتمل أن تكون الآية عامة في جميع ذلك ، لهذا قال (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي والثوري وابن زيد : يعني به ما تقدم من إباحة التعريض كقوله : إني فيك لراغب ونحو ذلك ، وقال محمد بن سيرين : قلت لعبيدة : ما معنى قوله (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً)؟ قال : يقول لوليها : لا تسبقني بها ، يعني لا تزوجها حتى تعلمني ، رواه ابن أبي حاتم.

وقوله (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) يعني ولا تعقدوا العقدة بالنكاح حتى تنقضي العدة. قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وقتادة والربيع بن أنس وأبو مالك وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان والزهري وعطاء الخراساني والسدي والثوري والضحاك : (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) يعني ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة ، وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في العدة. واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها ، فدخل بها ، فإنه يفرق بينهما ، وهل تحرم عليه أبدا؟ على قولين : الجمهور على أنها لا تحرم عليه ، بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها. وذهب الإمام مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد ، واحتج في ذلك بما رواه عن ابن شهاب وسليمان بن يسار ، أن عمر رضي الله عنه ، قال : أيما امرأة نكحت في عدتها ، فإن كان زوجها الذي تزوج بها لم يدخل بها فرق بينهما ، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ، وكان خاطبا من الخطاب ، وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ، ثم اعتدت من الآخر ، ثم لم ينكحها أبدا وقالوا : ومأخذ هذا أن الزوج لما استعجل ما أحل الله ، عوقب بنقيض قصده ، فحرمت عليه على التأبيد كالقاتل يحرم الميراث. وقد روى الشافعي هذا الأثر عن مالك. قال البيهقي : وذهب إليه في القديم ورجع عنه في الجديد ، لقول علي أنها تحل

٤٨٤

له. (قلت) قال : ثم هو منقطع عن عمر. وقد روي الثوري عن أشعث ، عن الشعبي ، عن مسروق ، أن عمر رجع عن ذلك ، وجعل لها مهرها وجعلهما يجتمعان.

وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) ، توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء ، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر ، ثم لم يؤيسهم من رحمته ، ولم يقنطهم من عائدته ، فقال (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ).

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (٢٣٦)

أباح تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها ، وقبل الدخول بها. قال ابن عباس وطاوس وإبراهيم والحسن البصري : المس النكاح ، بل ويجوز أن يطلقها قبل الدخول بها والفرض لها ، إن كانت مفوضة وإن كان في هذا انكسار لقلبها ، ولهذا أمر تعالى بإمتاعها وهو تعويضها عما فاتها بشيء تعطاه من زوجها بحسب حاله ، على الموسع قدره ، وعلى المقتر قدره. وقال سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن أمية عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : متعة الطلاق أعلاه الخادم ، ودون ذلك الورق ، ودون ذلك الكسوة. وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : إن كان موسرا متعها بخادم أو نحو ذلك ، وإن كان معسرا أمتعها بثلاثة أثواب. وقال الشعبي : أوسط ذلك درع وخمار وملحفة وجلباب ، قال : وكان شريح يمتع بخمسمائة. وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن أيوب بن سيرين ، قال : كان يمتع بالخادم أو بالنفقة أو بالكسوة. قال : ومتع الحسن بن علي بعشرة آلاف ، ويروى أن المرأة قالت : متاع قليل من حبيب مفارق. وذهب أبو حنيفة إلى أنه متى تنازع الزوجان في مقدار المتعة وجب لها عليه نصف مهر مثلها. وقال الشافعي في الجديد : لا يجبر الزوج على قدر معلوم إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة ، وأحب ذلك إليّ اني أستحسن ثلاثين درهما ، كما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وقد اختلف العلماء أيضا : هل تجب المتعة لكل مطلقة أو إنما تجب المتعة لغير المدخول بها التي لم يفرض لها ، على أقوال : أحدها أنها تجب المتعة لكل مطلقة لعموم قوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢٤١] ولقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) [الأحزاب : ٢٨] وقد كن مفروضا لهن ومدخولا بهن ، وهذا قول سعيد بن جبير وأبي العالية والحسن البصري ، وهو أحد قولي الشافعي ومنهم من جعله الجديد الصحيح ، والله أعلم.

والقول الثاني أنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس ، وإن كانت مفروضا لها ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) [الأحزاب : ٤٩] قال شعبة وغيره ،

٤٨٥

عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : نسخت هذه الآية التي في الأحزاب الآية التي في البقرة. وقد روى البخاري في صحيحه ، عن سهل بن سعد وأبي أسيد. أنهما قالا : تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أميمة بنت شرحبيل ، فلما أدخلت عليه ، بسط يده إليها ، فكأنها كرهت ذلك ، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين أزرقين.

القول الثالث أن المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها ولم يفرض لها ، فإن كان قد دخل بها ، وجب لها مهر مثلها إذا كانت وإن كان قد فرض لها وطلقها قبل الدخول ، وجب لها عليه شطره ، فإن دخل بها استقر الجميع ، وكان ذلك عوضا لها عن المتعة ، وإنما المصابة التي لم يفرض لها ولم يدخل بها ، فهذه التي دلت هذه الآية الكريمة على وجوب متعتها ، هذا قول ابن عمر ومجاهد ، ومن العلماء من استحبها لكل مطلقة ممن عدا المفوضة المفارقة قبل الدخول ، وهذا ليس بمنكور ، عليه تحمل آية التخيير في الأحزاب ، ولهذا قال تعالى : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ)(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢٤١] ومن العلماء من يقول : إنها مستحبة مطلقا. قال ابن أبي حاتم : حدثنا كثير بن شهاب القزويني ، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ، حدثنا عمرو ـ يعني ابن أبي قيس ـ عن أبي إسحاق ، عن الشعبي ، قال : ذكروا له المتعة ، أيحبس فيها؟ فقرأ (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) قال الشعبي : والله ما رأيت أحدا حبس فيها ، والله لو كانت واجبة لحبس فيها القضاة.

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢٣٧)

وهذه الآية الكريمة مما يدل على اختصاص المتعة بما دلت عليه الآية الأولى ، حيث إنما أوجب في هذه الآية نصف المهر المفروض إذا طلق الزوج قبل الدخول ، فإنه لو كان ثم واجب آخر من متعة لبينها لا سيما وقد قرنها بما قبلها من اختصاص المتعة بتلك الآية ، والله أعلم. وتشطير الصداق والحالة هذه أمر مجمع عليه بين العلماء ، لا خلاف بينهم في ذلك ، فإنه متى كان قد سمى لها صداقا ثم فارقها قبل دخوله بها ، فإنه يجب لها نصف ما سمى من الصداق ، إلا أن عند الثلاثة أنه يجب جميع الصداق إذا خلا بها الزوج وإن لم يدخل بها ، وهو مذهب الشافعي في القديم ، وبه حكم الخلفاء الراشدون ، لكن قال الشافعي : أخبرنا مسلم بن خالد ، أخبرنا ابن جريج عن ليث بن أبي سليم ، عن طاوس ، عن ابن عباس أنه قال في الرجل يتزوج المرأة فيخلوا بها ولا يمسها ثم يطلقها : ليس لها إلا نصف الصداق ، لأن الله يقول : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) قال الشافعي : بهذا أقول ، وهو ظاهر

٤٨٦

الكتاب. قال البيهقي وليث بن أبي سليم ، وإن كان غير محتج به ، فقد رويناه من حديث ابن أبي طلحة عن ابن عباس فهو مقوله.

وقوله : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أي النساء ، عما وجب لها على زوجها ، فلا يجب لها عليه شيء ، قال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) قال : إلا أن تعفوا الثيب فتدع حقها. قال الإمام أبو محمد بن أبي حاتم رحمه‌الله : روي عن شريح وسعيد بن المسيب وعكرمة ومجاهد والشعبي والحسن ونافع وقتادة وجابر بن زيد وعطاء الخراساني والضحاك والزهري ومقاتل بن حيان وابن سيرين والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك. قال : وخالفهم محمد بن كعب القرظي فقال : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) يعني الرجال ، وهو قول شاذ لم يتابع عليه ، انتهى كلامه.

وقوله : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) قال ابن أبي حاتم : ذكر عن ابن لهيعة حدثني عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «ولي عقد النكاح الزوج» وهكذا أسنده ابن مردويه من حديث عبد الله بن لهيعة به ، وقد أسنده ابن جرير عن ابن لهيعة ، عن عمرو بن شعيب ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره ولم يقل عن أبيه عن جده ، فالله أعلم. ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا جابر يعني ابن أبي حازم ، عن عيسى يعني ابن عاصم ، قال : سمعت شريحا يقول : سألني علي بن أبي طالب عن الذي بيده عقدة النكاح ، فقلت له : هو ولي المرأة ، فقال علي : لا ، بل هو الزوج ، ثم قال : وفي إحدى الروايات عن ابن عباس وجبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وشريح في أحد قوليه ، وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعكرمة ونافع ومحمد بن سيرين والضحاك ومحمد بن كعب القرظي وجابر بن زيد وأبي مجلز والربيع بن أنس وإياس بن معاوية ومكحول ومقاتل بن حيان ، أنه الزوج (قلت) وهذا هو الجديد من قولي الشافعي ، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه ، والثوري وابن شبرمة والأوزاعي ، واختاره ابن جرير ، ومأخذ هذا القول أن الذي بيده عقدة النكاح حقيقة الزوج ، فإن بيده عقدها وإبرامها ونقضها وانهدامها ، وكما أنه لا يجوز للوليّ ، أن يهب شيئا من مال المولية للغير ، فكذلك في الصداق ، قال : والوجه الثاني حدثنا أبي حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا محمد بن مسلم ، حدثنا عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ـ في الذي ذكر الله بيده عقدة النكاح ـ قال : ذلك أبوها أو أخوها أو من لا تنكح إلا بإذنه. وروي عن علقمة والحسن وعطاء وطاوس والزهري وربيعة وزيد بن أسلم وإبراهيم النخعي وعكرمة في أحد قوليه ، ومحمد بن سيرين في أحد قوليه أنه الولي. وهذا مذهب مالك ، وقول الشافعي في القديم ، ومأخذه أن الولي هو الذي أكسبها إياه ، فله التصرف فيه بخلاف سائر مالها. وقال ابن جرير (١) : حدثنا سعيد بن الربيع الرازي ، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة ، قال : أذن الله في العفو وأمر به ، فأي امرأة عفت

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٥٦٠.

٤٨٧

جاز عفوها ، فإن شحت وضنت عفا وليها جاز عفوه. وهذا يقتضي صحة عفو الولي وإن كانت رشيدة ، وهو مروي عن شريح ، لكن أنكر عليه الشعبي ، فرجع عن ذلك وصار إلى أنه الزوج وكان يباهل عليه.

وقوله : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) قال ابن جرير (١) : قال بعضهم : خوطب به الرجال والنساء ، حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، سمعت ابن جريج يحدث عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) قال : أقربهما للتقوى الذي يعفو ، وكذا روي عن الشعبي وغيره. وقال مجاهد والنخعي والضحاك ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والثوري : الفضل ـ هاهنا ـ أن تعفوا المرأة عن شطرها أو إتمام الرجل الصداق لها ، ولهذا قال (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أي الإحسان ، قاله سعيد ، وقال الضحاك وقتادة والسدي وأبو وائل المعروف : يعني لا تهملوه بل استعملوه بينكم ، وقد قال أبو بكر بن مردويه ، حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن إسحاق ، حدثنا عقبة بن مكرم ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا عبد الله بن الوليد الرصافي عن عبد الله بن عبيد ، عن علي بن أبي طالب ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليأتين على الناس زمان عضوض ، يعض المؤمن على ما في يديه وينسى الفضل ، وقد قال الله تعالى : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) شرار يبايعون كل مضطر» وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بيع المضطر وعن بيع الغرر ، فإن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكا إلى هلاكه ، فإن المسلم أخو المسلم لا يحزنه ولا يحرمه. وقال سفيان : عن أبي هارون ، قال : رأيت عون بن عبد الله في مجلس القرظي ، فكان عون يحدثنا ولحيته ترش من البكاء ، ويقول صحبت الأغنياء فكنت من أكثرهم هما حين رأيتهم أحسن ثيابا ، وأطيب ريحا ، وأحسن مركبا ، وجالست الفقراء فاسترحت بهم ، وقال (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) إذا أتاه السائل وليس عنده شيء فليدع له ، رواه ابن أبي حاتم (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي لا يخفى عليه شيء من أموركم وأحوالكم ، وسيجزي كل عامل بعمله.

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (٢٣٩)

يأمر تعالى بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها وحفظ حدودها وأدائها في أوقاتها ، كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود ، قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي العمل أفضل؟ قال : «الصلاة في وقتها». قلت : ثم أي؟ قال : «الجهاد في سبيل الله». قلت : ثم أي؟ قال «برّ الوالدين» ، قال : حدثني بهنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو استزدته لزادني.

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٥٦٦.

٤٨٨

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا يونس ، حدثنا ليث عن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب ، عن القاسم بن غنام ، عن جدته أم فروة ، وكانت ممن بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر الأعمال ، فقال «أحب العمل إلى الله تعجيل الصلاة لأول وقتها» وهكذا رواه أبو داود والترمذي ، وقال : لا نعرفه إلا من طريق العمري وليس بالقوي عند أهل الحديث ، وخص تعالى من بينها بمزيد التأكيد الصلاة الوسطى.

وقد اختلف السلف والخلف فيها أي صلاة هي؟ فقيل : إنها الصبح ، حكاه مالك في الموطأ بلاغا عن علي وابن عباس ، وقال هشيم وابن علية وغندر وابن أبي عدي وعبد الوهاب وشريك وغيرهم عن عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي ، قال : صليت خلف ابن عباس الفجر ، فقنت فيها ورفع يديه ، ثم قال : هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين ، رواه ابن جرير ، ورواه أيضا من حديث عوف عن خلاس بن عمرو ، عن ابن عباس مثله سواء ، وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا عوف عن أبي المنهال ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس ، أنه صلّى الغداة في مسجد البصرة ، فقنت قبل الركوع ، وقال : هذه الصلاة الوسطى التي ذكرها الله في كتابه ، فقال (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) وقال أيضا : حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني ، أخبرنا ابن المبارك ، أخبرنا الربيع بن أنس عن أبي العالية ، قال : صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة صلاة الغداة ، فقلت لرجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جانبي : ما الصلاة الوسطى؟ قال : هذه الصلاة. وروي من طريق أخرى عن الربيع عن أبي العالية ، أنه صلّى مع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الغداة فلما فرغوا قال : قلت لهم : أيتهنّ الصلاة الوسطى؟ قالوا : التي قد صليتها قبل. وقال أيضا : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن عثمة عن سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن جابر بن عبد الله ، قال : الصلاة الوسطى صلاة الصبح ، وحكاه ابن أبي حاتم عن ابن عمر وأبي أمامة وأنس وأبي العالية وعبيد بن عمير وعطاء ومجاهد وجابر بن زيد وعكرمة والربيع بن أنس ، ورواه ابن جرير عن عبد الله بن شداد وابن الهاد أيضا ، وهو الذي نص عليه الشافعي رحمه‌الله ، محتجا بقوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) والقنوت عنده في صلاة الصبح.

ومنهم من قال : هي وسطى باعتبار أنها لا تقصر ، وهي بين صلاتين ورباعيتين مقصورتين ، وترد المغرب ، وقيل : لأنها بين صلاتين جهريتين وصلاتي نهار سريتين.

وقيل : إنها صلاة الظهر ، قال أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا ابن أبي ذئب عن الزبرقان يعني ابن عمرو ، عن زهرة يعني ابن معبد ، قال : كنا جلوسا عند زيد بن ثابت ، فأرسلوا إلى أسامة فسألوه عن الصلاة الوسطى ، فقال : هي الظهر ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصليها بالهجير ، وقال

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٦ ص ٣٧٥)

٤٨٩

أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، حدثني عمرو بن أبي حكيم ، سمعت الزبرقان يحدث عن عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ، ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها ، فنزلت (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) وقال : إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين. ورواه أبو داود في سننه من حديث شعبة به وقال أحمد أيضا : حدثنا يزيد حدثنا ابن أبي ذئب عن الزبرقان أن رهطا من قريش مر بهم زيد بن ثابت وهم مجتمعون فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى ، فقال : هي صلاة العصر فقام إليه رجلان منهم فسألاه ، فقال : هي الظهر. ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسألاه ، فقال : هي الظهر ، إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي الظهر بالهجير ، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان ، والناس في قائلتهم وفي تجارتهم ، فأنزل الله (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهم». والزبرقان هو ابن عمرو بن أمية الضمري ، لم يدرك أحدا من الصحابة ، الصحيح ما تقدم من روايته عن زهرة بن معبد وعروة بن الزبير. وقال شعبة وهمام عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن زيد بن ثابت ، قال : الصلاة الوسطى صلاة الظهر. وقال أبو داود الطيالسي وغيره ، عن شعبة : أخبرني عمر بن سليمان من ولد عمر بن الخطاب ، قال : سمعت عبد الرحمن بن أبان بن عثمان يحدث عن أبيه عن زيد بن ثابت ، قال : الصلاة الوسطى هي الظهر ، ورواه ابن جرير ، عن زكريا بن يحيى بن أبي زائدة عن عبد الصمد ، عن شعبة ، عن عمر بن سليمان ، عن زيد بن ثابت ، قال الصلاة الوسطى هي الظهر ، ورواه ابن جرير ، عن زكريا بن يحيى بن أبي زائدة عن عبد الصمد ، عن شعبة ، عن عمر بن سليمان ، عن زيد بن ثابت ، في حديث رفعه ، قال «الصلاة الوسطى صلاة الظهر». وممن روي عنه أنها الظهر ابن عمر ، وأبو سعيد وعائشة ، على اختلاف عنهم ، وهو قول عروة بن الزبير وعبد الله بن شداد بن الهاد ، ورواية عن أبي حنيفة رحمهم‌الله.

وقيل : إنها صلاة العصر. قال الترمذي والبغوي رحمهما‌الله : وهو قول أكثر علماء الصحابة وغيرهم. وقال القاضي الماوردي : هو قول جمهور التابعين. وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر : هو قول أكثر أهل الأثر. وقال أبو محمد بن عطية في تفسيره. وهو قول جمهور الناس. وقال الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي في كتابه المسمى بكشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى ، وقد نص فيه : أنها العصر ، وحكاه عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي أيوب وعبد الله بن عمرو وسمرة بن جندب وأبي هريرة وأبي سعيد وحفصة وأم حبيبة وأم سلمة وعن ابن عباس وعائشة على الصحيح عنهم ، وبه قال عبيدة وإبراهيم النخعي ورزين وزر بن حبيش وسعيد بن جبير وابن سيرين والحسن وقتادة والضحاك والكلبي ومقاتل وعبيد بن مريم وغيرهم ، وهو مذهب أحمد بن حنبل. قال القاضي الماوردي والشافعي قال ابن

٤٩٠

المنذر : وهو الصحيح عن أبي حنيفة ، وأبي يوسف ومحمد ، واختاره ابن حبيب المالكي ، رحمهم‌الله.

ذكر الدليل على ذلك ـ قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن مسلم ، عن شتير بن شكل ، عن علي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأحزاب «شغلونا عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا» ثم صلاها بين العشاءين المغرب والعشاء ، وكذا رواه مسلم (٢) من حديث أبي معاوية محمد بن حازم الضرير ، والنسائي (٣) من طريق عيسى بن يونس كلاهما عن الأعمش ، عن مسلم بن صبيح عن أبي الضحى ، عن شتير بن شكل بن حميد ، عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله ، وقد رواه مسلم أيضا من طريق شعبة عن الحكم بن عتيبة ، عن يحيى بن الجزار عن علي بن أبي طالب ، وأخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وغير واحد من أصحاب المساند والسنن والصحاح من طرق يطول ذكرها عن عبيدة السلماني ، عن علي به ، ورواه الترمذي والنسائي من طريق الحسن البصري عن علي به ، قال الترمذي : ولا يعرف سماعه منه ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن عاصم عن زر ، قال : قلت لعبيدة : سل عليا عن الصلاة الوسطى ، فسأله ، فقال : كنا نراها الفجر أو الصبح ، حتى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول يوم الأحزاب «شغلونا عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله قبورهم وأجوافهم أو بيوتهم نارا» ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي به. وحديث يوم الأحزاب ، وشغل المشركين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه عن أداء صلاة العصر يومئذ ، مروي عن جماعة من الصحابة يطول ذكرهم ، وإنما المقصود رواية من نص منهم في روايته ، أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر. وقد رواه مسلم أيضا من حديث ابن مسعود والبراء بن عازب رضي الله عنهما.

حديث آخر ـ قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عفان ، حدثنا همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صلاة الوسطى صلاة العصر» وحدثنا بهز وعفان قالا : حدثنا أبان ، حدثنا قتادة عن الحسن ، عن سمرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) وسماها لنا أنها هي صلاة العصر ، وحدثنا محمد بن جعفر وروح ، قالا : حدثنا سعيد عن قتادة ، عن الحسن عن سمرة بن جندب ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «هي العصر» قال ابن جعفر : سئل عن صلاة الوسطى ، ورواه الترمذي من حديث سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، وقال : حسن صحيح ، وقد سمع منه حديث آخر. وقال ابن

__________________

(١) مسند أحمد (ج ١ ص ٨١ ـ ٨٢)

(٢) صحيح مسلم (مساجد حديث ٢٠٢ ـ ٢٠٦)

(٣) النسائي (صلاة باب ١٤)

(٤) المسند (ج ٥ ص ١٢)

٤٩١

جرير (١) : حدثنا أحمد بن منيع ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن التيمي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الصلاة الوسطى صلاة العصر».

طريق أخرى بل حديث آخر قال ابن جرير (٢) : وحدثني المثنى ، حدثنا سليمان بن أحمد الحرشي الواسطي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : أخبرني صدقة بن خالد ، حدثني خالد بن دهقان ، عن خالد بن سبلان ، عن كهيل بن حرملة ، قال : سئل أبو هريرة عن الصلاة الوسطى ، فقال : اختلفنا فيها كما اختلفتم فيها ، ونحن بفناء بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفينا الرجل الصالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، فقال : أنا أعلم لكم ذلك ، فقام فاستأذن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدخل عليه ثم خرج إلينا ، فقال : أخبرنا أنها صلاة العصر ، غريب من هذا الوجه جدا.

حديث آخر ـ قال ابن جرير (٣) : حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا عبد السلام عن مسلم مولى أبي جبير ، حدثني إبراهيم بن يزيد الدمشقي ، قال : كنت جالسا عند عبد العزيز بن مروان ، فقال : يا فلان اذهب إلى فلان فقل له : أي شيء سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة الوسطى؟ فقال رجل جالس : أرسلني أبو بكر وعمر ، وأنا غلام صغير ، أسأله عن الصلاة الوسطى فأخذ إصبعي الصغيرة ، فقال «هذه صلاة الفجر» ، وقبض التي تليها ، فقال «هذه الظهر» ، ثم قبض الإبهام ، فقال «هذه المغرب» ، ثم قبض التي تليها ، فقال «هذه العشاء» ، ثم قال «أي أصابعك بقيت؟» فقلت : الوسطى ، فقال «أي الصلاة بقيت؟» فقلت : العصر ، فقال «هي العصر» غريب أيضا جدا.

حديث آخر قال ابن جرير (٤) : حدثنا محمد بن عوف الطائي حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، حدثني أبي حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الصلاة الوسطى صلاة العصر» إسناده لا بأس به.

حديث آخر قال أبو الحاتم بن حبان في صحيحه : حدثنا أحمد بن يحيى بن زهير ، حدثنا الجراح بن مخلد ، حدثنا عمرو بن عاصم ، حدثنا همام بن مورق العجلي ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صلاة الوسطى صلاة العصر».

وقد روى الترمذي من حديث محمد بن طلحة بن مصرف عن زبيد اليامي ، عن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صلاة الوسطى صلاة العصر» ، ثم قال: حسن صحيح ، وأخرجه مسلم في صحيحه من طريق محمد بن طلحة به ، ولفظه «شغلونا عن

__________________

(١) تفسير الطبري (٢ / ٥٧٤)

(٢) تفسير الطبري (٢ / ٥٧٥)

(٣) تفسير الطبري (٢ / ٥٧٦)

٤٩٢

الصلاة الوسطى صلاة العصر» الحديث ، فهذه نصوص في المسألة لا تحتمل شيئا ، ويؤكد ذلك الأمر بالمحافظة عليها ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح من رواية الزهري عن سالم ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» وفي الصحيح أيضا من حديث الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة عن أبي كثير عن أبي المهاجر ، عن بريدة بن الحصيب ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «بكروا بالصلاة في يوم الغيم ، فإنه من ترك صلاة العصر ، فقد حبط عمله».

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا يحيى بن إسحاق ، أخبرنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة ، عن أبي تميم عن أبي بصرة الغفاري ، قال : صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في واد من أوديتهم ، يقال له المخمص ، صلاة العصر ، فقال «إن هذه الصلاة صلاة العصر عرضت على الذين من قبلكم فضيعوها ، ألا ومن صلاها ضعف له أجره مرتين ، ألا ولا صلاة بعدها حتى تروا الشاهد» (٢) ثم قال : رواه عن يحيى بن إسحاق عن يزيد بن حبيب عن جبير بن نعيم عن عبد الله بن هبيرة عن أبي تميم عن أبي بصرة به ، وهكذا رواه مسلم والنسائي جميعا عن قتيبة عن الليث ، ورواه مسلم أيضا من حديث محمد بن إسحاق ، حدثني يزيد بن أبي حبيب كلاهما عن جبير بن نعيم الحضرمي ، عن عبد الله بن هبيرة السبائي به.

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد (٣) أيضا حدثنا إسحاق ، أخبرني مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي يونس مولى عائشة ، قال : أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا ، قالت : إذا بلغت هذه الآية (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) فآذني ، فلما بلغتها آذنتها ، فأملت عليّ «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين» قالت : سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهكذا رواه مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك به.

وقال ابن جرير : حدثني ابن المثنى الحجاج ، حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن أبيه ، قال: كان في مصحف عائشة «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر» وهكذا رواه من طريق الحسن البصري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها كذلك وقد روى الإمام مالك أيضا عن زيد بن أسلم ، عن عمرو بن رافع ، قال : كنت أكتب مصحفا لحفصة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : إذا بلغت هذه الآية فآذني (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) فلما بلغتها آذنتها ، فأملت علي «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين». هكذا رواه محمد بن إسحاق بن يسار فقال : حدثني أبو جعفر محمد بن علي ونافع مولى ابن عمر أن

__________________

(١) المسند (ج ٦ ص ٣٩٧)

(٢) أضاف في المسند : قلت لابن لهيعة : ما الشاهد؟ قال : الكوكب ، الأعراب يسمعون الكوكب شاهد الليل.

(٣) المسند (ج ٦ ص ٧٣)

٤٩٣

عمر بن نافع قال فذكر مثله وزاد كما حفظتها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

طريق أخرى عن حفصة قال ابن جرير (١) : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن أبي بشر ، عن عبد الله بن يزيد الأزدي ، عن سالم بن عبد الله ، أن حفصة أمرت إنسانا أن يكتب لها مصحفا ، فقالت : إذا بلغت هذه الآية (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) فآذني ، فلما بلغ آذنها ، فقالت : اكتب «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر».

طريق أخرى قال ابن جرير (٢) : حدثني ابن المثنى ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا عبيد الله عن نافع ، أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفا ، فقالت : إذا بلغت هذه الآية (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها ، فلما بلغها أمرته فكتبها «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين». قال نافع : فقرأت ذلك المصحف ، فوجدت فيه الواو. وكذا روى ابن جرير عن ابن عباس وعبيد بن عمير أنهما قرأ كذلك ، وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا عبدة ، حدثنا محمد بن عمرو ، حدثني أبو سلمة عن عمرو بن رافع مولى عمر ، قال : كان في مصحف حفصة «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين».

وتقرير المعارضة أنه عطف صلاة العصر على الصلاة الوسطى بواو العطف التي تقتضي المغايرة ، فدل ذلك على أنها غيرها ، وأجيب عن ذلك بوجوه [أحدها] أن هذا إن روي على أنه خبر ، فحديث علي أصح وأصرح منه ، وهذا يحتمل أن تكون الواو زائدة ، كما في قوله (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام : ٥٥] (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [الأنعام : ٧٥] ، أو تكون لعطف الصفات لا لعطف الذوات ، كقوله (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب : ٤٠] وكقوله (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) [الأعلى : ١ ـ ٤] وأشباه ذلك كثيرة وقال الشاعر : [المتقارب]

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم (٣)

وقال أبو دؤاد الأيادي : [الخفيف]

سلط الموت والمنون عليهم

فلهم في صدى المقابر هام (٤)

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٥٧٨.

(٢) تفسير الطبري ٢ / ٥٧٨.

(٣) البيت بلا نسبة في الإنصاف ٢ / ٤٦٩ ؛ وخزانة الأدب / ٤٥١ ؛ وشرح قطر الندى ص ٢٩٥.

٤٩٤

والموت هو المنون ، قال عدي بن زيد العبادي : [الوافر]

فقدمت الأديم لراهشيه

فألفى قولها كذبا ومينا (١)

والكذب هو المين ، وقد نص سيبويه شيخ النحاة على جواز قول القائل : مررت بأخيك وصاحبك ، ويكون الصاحب هو الأخ نفسه ، والله أعلم ، وأما إن روي على أنه قرآن ، فإنه لم يتواتر فلا يثبت بمثل خبر الواحد قرآن ، ولهذا لم يثبته أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه في المصحف ، ولا قرأ بذلك أحد من القراء الذين تثبت الحجة بقراءتهم ، لا من السبعة ولا من غيرهم.

ثم قد روي ما يدل على نسخ هذه التلاوة المذكورة في هذا الحديث ، قال مسلم : حدثنا إسحاق بن راهويه ، أخبرنا يحيى بن آدم عن فضيل بن مرزوق ، عن شقيق بن عقبة ، عن البراء بن عازب ، قال : نزلت «حافظوا على الصلوات وصلاة العصر» فقرأناها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شاء الله ، ثم نسخها الله عزوجل ، فأنزل (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) فقال له زاهر رجل كان مع شقيق : أفهي العصر؟ قال : قد حدثتك كيف نزلت ، وكيف نسخها الله عزوجل. قال مسلم : ورواه الأشجعي عن الثوري ، عن الأسود ، عن شقيق (قلت) : وشقيق هذا لم يرو له مسلم سوى هذا الحديث الواحد ، والله أعلم ، فعلى هذا تكون هذه التلاوة وهي تلاوة الجادة ناسخة للفظ رواية عائشة وحفصة ولمعناها إن كانت الواو دالة على المغايرة ، وإلا فلفظها فقط ، والله أعلم.

وقيل : إن الصلاة الوسطى هي صلاة المغرب ، رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس ، وفي إسناده نظر ، فإنه رواه عن أبيه عن أبي الجماهير عن سعيد بن بشير ، عن قتادة عن أبي الخليل ، عن عمه ، عن ابن عباس ، قال : صلاة الوسطى المغرب. وحكى هذا القول ابن جرير ، عن قبيصة بن ذؤيب ، وحكى أيضا عن قتادة على اختلاف عنه ، ووجه هذا القول بعضهم بأنها وسطى في العدد بين الرباعية والثنائية ، وبأنها وتر المفروضات ، وبما جاء فيها من الفضلية ، والله أعلم.

وقيل : إنها العشاء الأخير ، اختاره علي بن أحمد الواحدي في تفسيره المشهور ، وقيل : هي واحد من الخمس لا بعينها وأبهمت فيهن ، كما أبهمت ليلة القدر في الحول أو الشهر أو العشر ، ويحكى هذا القول عن سعيد بن المسيب وشريح القاضي ونافع مولى ابن عمر ، والربيع بن خيثم ، ونقل أيضا عن زيد بن ثابت واختاره إمام الحرمين الجويني في نهايته.

وقيل : بل الصلاة الوسطى مجموع الصلوات الخمس ، رواه ابن أبي حاتم عن ابن عمر ، وفي صحته أيضا نظر ، والعجب أن هذا القول اختاره الشيخ أبو عمرو بن عبد البر النمري إمام

__________________

(١) البيت لعدي بن زيد في ذيل ديوانه ص ١٨٣ ؛ والأشباه والنظائر ٣ / ٢١٣ ؛ وجمهرة اللغة ص ٩٩٣ ؛ والدرر ٦ / ٧٣ ؛ وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٧٦ ؛ والشعر والشعراء ١ / ٢٣٣ ؛ ولسان العرب (مين)

٤٩٥

ما وراء البحر ، وإنها لإحدى الكبر إذ اختاره مع اطلاعه وحفظه ما لم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا أثر. وقيل : إنها صلاة العشاء وصلاة الفجر. وقيل : بل هي صلاة الجماعة. وقيل : صلاة الجمعة. وقيل صلاة الخوف. وقيل : بل صلاة عيد الفطر. وقيل : بل صلاة الأضحى ، وقيل : الوتر. وقيل : الضحى. وتوقف فيها آخرون لما تعارضت عندهم الأدلة ، ولم يظهر لهم وجه الترجيح ، ولم يقع الإجماع على قول واحد ، بل لم يزل النزاع فيها موجودا من زمان الصحابة وإلى الآن. قال ابن جرير : حدثني محمد بن بشار وابن مثنى ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، قال : سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب ، قال : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه ، وكل هذه الأقوال فيها ضعف بالنسبة إلى التي قبلها ، وإنما المدار ومعترك النزاع في الصبح والعصر ، وقد ثبتت السنة بأنها العصر فتعين المصير إليها.

وقد روى الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي رحمهما‌الله في كتاب الشافعي رحمه‌الله ، حدثنا أبي سمعت حرملة بن يحيى التجيبي يقول : قال الشافعي ، كل ما قلت فكان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. بخلاف قولي مما يصح ، فحديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى ولا تقلدوني ، وكذا روى الربيع والزعفراني وأحمد بن حنبل عن الشافعي ، وقال موسى أبو الوليد بن أبي الجارود عن الشافعي : إذا صح الحديث وقلت قولا ، فأنا راجع عن قولي وقائل بذلك ، فهذا من سيادته وأمانته ، وهذا نفس إخوانه من الأئمة رحمهم‌الله ، أن صلاة الوسطى هي صلاة العصر ، وإن كان قد نص في الجديد وغيره أنها الصبح لصحة الأحاديث أنها العصر ، وقد وافقه على هذه الطريقة جماعة من محدثني المذهب الشافعي ، وصمموا على أنها الصبح قولا واحدا ، قال المارودي : ومنهم من حكى في المسألة قولين ولتقرير المعارضات والجوابات موضع آخر غير هذا وقد أفردناه على حدة ولله الحمد والمنة.

وقوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) أي خاشعين ذليلين مستكينين بين يديه ، وهذا الأمر مستلزم ترك الكلام في الصلاة لمنافاته إياها ، ولهذا لما امتنع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرد على ابن مسعود حين سلم عليه وهو في الصلاة ، اعتذر إليه بذلك وقال «إن في الصلاة لشغلا». وفي صحيح مسلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاوية بن الحكم السلمي حين تكلم في الصلاة «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي التسبيح والتكبير وذكر الله» ، وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن إسماعيل ، حدثني الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني ، عن زيد بن أرقم ، قال : كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحاجة في الصلاة ، حتى نزلت هذه الآية (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت ، رواه الجماعة سوى ابن ماجة من طرق عن إسماعيل به.

وقد أشكل هذا الحديث على جماعة من العلماء حيث ثبت عندهم أن تحريم الكلام في

٤٩٦

الصلاة كان بمكة قبل الهجرة إلى المدينة وبعد الهجرة إلى أرض الحبشة ، كما دل على ذلك حديث ابن مسعود الذي في الصحيح ، قال : كنا نسلم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن نهاجر إلى الحبشة وهو في الصلاة فيرد علينا ، قال : فلما قدمنا سلمت عليه فلم يرد علي ، فأخذني ما قرب وما بعد ، فلما سلم قال «إني لم أرد عليك إلا أني كنت في الصلاة ، وإن الله يحدث من أمره ما يشاء ، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة» وقد كان ابن مسعود ممن أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة ، ثم قدم منها إلى مكة مع من قدم فهاجر إلى المدينة ، وهذه الآية (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) مدنية بلا خلاف ، فقال قائلون : إنما أراد زيد بن أرقم بقوله : كان الرجل يكلم أخاه في حاجته في الصلاة ، الإخبار عن جنس الكلام ، واستدل على تحريم ذلك بهذه الآية بحسب ما فهمه منها ، والله أعلم.

وقال آخرون : إنما أراد أن ذلك قد وقع بالمدينة بعد الهجرة إليها ، ويكون ذلك قد أبيح مرتين وحرم مرتين ، كما اختار ذلك قوم من أصحابنا وغيرهم ، والأول أظهر ، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو يعلى : أخبرنا بشر بن الوليد ، أخبرنا إسحاق بن يحيى عن المسيب ، عن ابن مسعود ، قال كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة ، فمررت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلمت عليه ، فلم يرد علي ، فوقع في نفسي أنه نزل فيّ شيء فلما قضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاته قال «وعليك السلام أيها المسلم ورحمة الله ، إن الله عزوجل يحدث من أمره ما يشاء ، إذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تكلموا».

وقوله (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) ، لما أمر تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات والقيام بحدودها ، وشدد الأمر بتأكيدها ذكر الحال الذي يشتغل الشخص فيها عن أدائها على الوجه الأكمل ، وهي حال القتال والتحام الحرب ، فقال (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) أي فصلوا على أي حال كان رجالا أو ركبانا يعني مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، كما قال مالك عن نافع : أن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها ، ثم قال : فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا على أقدامهم ، أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها ، قال نافع : لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورواه البخاري ـ وهذا لفظه ومسلم (١) ـ ، ورواه البخاري من وجه آخر عن ابن جريج ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوه أو قريبا منه ، ولمسلم أيضا عن ابن عمر ، قال : فإن كان خوف أشد من ذلك ، فصل راكبا أو قائما تومئ إيماء.

وفي حديث عبد الله بن أنيس الجهني لما بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي ليقتله ، وكان نحو عرفة أو عرفات ، فلما واجهه حانت صلاة العصر ، قال فخشيت أن تفوتني فجعلت

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة ، باب ٤٤) ومسلم (مسافرين حديث ٣٠٥ ـ ٣٠٧)

٤٩٧

أصلي وأنا أومئ إيماء. الحديث بطوله رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد ، وهذا من رخص الله التي رخص لعباده ووضعه الآصار والأغلال عنهم ، وقد روى ابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : في هذه الآية يصلي الراكب على دابته والراجل على رجليه ، قال وروي عن الحسن ومجاهد ومكحول والسدي والحكم ومالك والأوزاعي والثوري والحسن بن صالح ، نحو ذلك ـ وزاد : ويومئ برأسه أينما توجه ، ثم قال : حدثنا أبي ، حدثنا غسان ، حدثنا داود يعني ابن علية عن مطرف ، عن عطية ، عن جابر بن عبد الله ، قال : إذا كانت المسايفة فليومئ برأسه حيث كان وجهه ، فذلك قوله (فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) ، وروي عن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وعطية والحكم وحماد وقتادة نحو ذلك.

وقد ذهب الإمام أحمد فيما نص عليه إلى أن صلاة الخوف تفعل في بعض الأحيان ركعة واحدة إذا تلاحم الجيشان ، وعلى ذلك ينزل الحديث الذي رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن جرير من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري ـ زاد مسلم والنسائي وأيوب بن عائذ ـ كلاهما عن بكير بن الأخنس الكوفي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة ، وبه قال : الحسن البصري وقتادة والضحاك وغيرهم.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن مهدي عن شعبة ، قال : سألت الحكم وحمادا وقتادة عن صلاة المسايفة ، فقالوا : ركعة ، وهكذا روى الثوري عنهم سواء ، وقال ابن جرير (٢) أيضا : حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، حدثنا بقية بن الوليد ، حدثنا المسعودي ، حدثنا يزيد الفقير عن جابر بن عبد الله ، قال : صلاة الخوف ركعة. واختار هذا القول ابن جرير.

وقال البخاري : (باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو) : وقال الأوزاعي : إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة ، صلوا إيماء كل امرئ لنفسه ، فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ، ويأمنوا فيصلوا ركعتين ، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين ، فإن لم يقدروا لا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا. وبه قال مكحول ، وقال أنس بن مالك : حضرت عند مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتغال القتال ، فلم يقدروا على الصلاة ، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار ، فصليناها ونحن مع أبي موسى ، ففتح لنا. قال أنس : وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها. هذا لفظ البخاري (٣). ثم استشهد على ذلك بحديث تأخيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة العصر يوم الخندق لعذر المحاربة إلى غيبوبة الشمس ، وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك لأصحابه لما جهزهم إلى بني قريظة «لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة» فمنهم

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٥٨٩.

(٢) تفسير الطبري ٢ / ٥٩٠.

(٣) صحيح البخاري (الجمعة باب ٤٣)

٤٩٨

من أدركته الصلاة في الطريق فصلوا وقالوا : لم يرد منا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا تعجيل السير ، ومنهم من أدركته فلم يصل إلى أن غربت الشمس في بني قريظة ، فلم يعنف واحدا من الفريقين.

وهذا على اختيار البخاري لهذا القول ، والجمهور على خلافه ، ويعولون على أن صلاة الخوف على الصفة التي ورد بها القرآن في سورة النساء ، ووردت بها الأحاديث ، لم تكن مشروعة في غزوة الخندق ، وإنما شرعت بعد ذلك ، وقد جاء مصرحا بهذا في حديث أبي سعيد وغيره ، وأما مكحول والأوزاعي والبخاري فيجيبون بأن مشروعية صلاة الخوف بعد ذلك لا تنافي جواز ذلك ، لأن هذا حال نادر خاص ، فيجوز فيه مثل ما قلنا بدليل صنيع الصحابة زمن عمر في فتح تستر وقد اشتهر ولم ينكر ، ولله أعلم.

وقوله (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ) أي أقيموا صلاتكم كما أمرتم ، فأتموا ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها وخشوعها وهجودها ، (كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أي مثل ما أنعم عليكم وهداكم وعلمكم ما ينفعكم في الدنيا والآخرة فقابلوه بالشكر والذكر ، كقوله بعد صلاة الخوف (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) [النساء : ١٠٣] وستأتي الأحاديث الواردة في صلاة الخوف وصفاتها في سورة النساء عند قوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) [النساء : ١٠٢].

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٤٢)

قال الأكثرون : هذه الآية منسوخة بالتي قبلها ، وهي قوله (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً). قال البخاري : حدثنا أمية حدثنا يزيد بن زريع ، عن حبيب ، عن ابن أبي ملكية ، قال ابن الزبير : قلت لعثمان بن عفان (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) قد نسختها الآية الأخرى ، فلم تكتبها أو تدعها ، قال يا ابن أخي ، لا أغير شيئا منه من مكانه. ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان : إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة الأشهر فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها ، وبقاء رسمها بعد التي نسختها يوهم بقاء حكمها؟ فأجابه أمير المؤمنين ، بأن هذا أمر توقيفي ، وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها ، فأثبتها حيث وجدتها.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) فكان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها

٤٩٩

في الدار سنة ، فنسختها آية المواريث فجعل لهن الثمن أو الربع مما ترك الزوج ، ثم قال : وروي عن أبي موسى الأشعري وابن الزبير ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل بن حيان وعطاء الخراساني والربيع بن أنس أنها منسوخة. وروي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قال : كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله ، ثم أنزل الله بعد (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤] فهذه عدة المتوفى عنها زوجها ، إلا أن تكون حاملا ، فعدتها أن تضع ما في بطنها ، وقال (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) [النساء : ١٢] فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة ، قال : وروي عن مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان ، قالوا : نسختها (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً). قال : وروي عن سعيد بن المسيب ، قال : نسختها التي في الأحزاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) [الأحزاب : ٤٩].

(قلت) وروي عن مقاتل وقتادة أنها منسوخة بآية الميراث ، وقال البخاري : حدثنا إسحاق بن راهويه ، حدثنا روح ، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) قال : كانت هذه للمعتدة ، تعتد عند أهل زوجها واجب. فأنزل الله (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ ، فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) قال : جعل الله تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة ، وصية إن شاءت سكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت ، وهو قول الله (غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) فالعدة كما هي واجب عليها ، زعم ذلك عن مجاهد رحمه‌الله ، وقال عطاء : قال ابن عباس : نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها ، فتعتد حيث شاءت ، وهو قول الله تعالى : (غَيْرَ إِخْراجٍ) قال عطاء : إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت ، لقول الله (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ) قال عطاء : ثم جاء الميراث ، فنسخ السكنى فتعتد حيث شاءت ، ولا سكنى لها ، ثم أسند البخاري عن ابن عباس مثل ما تقدم عنه.

فهذا القول الذي عول عليه مجاهد وعطاء ، من أن هذه الآية لم تدل على وجوب الاعتداد سنة ، كما زعمه الجمهور ، حتى يكون ذلك منسوخا بالأربعة الأشهر وعشر ، وإنما دلت على أن ذلك كان من باب الوصاة بالزوجات بأن يمكن من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولا كاملا إن اخترن ذلك ، ولهذا قال (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) أي يوصيكم الله بهن وصية كقوله (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) الآية ، وقوله : (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) وقيل : إنما انتصب على معنى فلتوصوا لهن وصية وقرأ آخرون بالرفع : وصية على معنى كتب عليكم وصية واختارها ابن جرير ، ولا يمنعنه من ذلك لقوله (غَيْرَ إِخْراجٍ) فأما إذا انقضت عدتهن بالأربعة أشهر والعشر ، أو بوضع الحمل ، واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل ، فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله

٥٠٠