تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

جرير كذلك ، واختار أن هذا تفسير هذه الآية.

وقوله (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين ، فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية بين أن تردها إليك ناويا الإصلاح بها والإحسان إليها ، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها فتبين منك وتطلق سراحها محسنا إليها ، لا تظلمها من حقها شيئا ولا تضار بها. وقال ابن أبي طلحة. عن ابن عباس ، قال : إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين ، فليتق الله في ذلك ، أي في الثالثة ، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها ، أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئا.

وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني سفيان الثوري ، حدثني إسماعيل بن سميع ، قال : سمعت أبا رزين يقول : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، أرأيت قول الله عزوجل (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أين الثالثة؟ قال : «التسريح بإحسان» ورواه عبد بن حميد في تفسيره ولفظه : أخبرنا يزيد بن أبي حكيم عن سفيان عن إسماعيل بن سميع ، أن أبا رزين الأسدي يقول : قال رجل : يا رسول الله ، أرأيت قول الله (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) فأين الثالثة؟ قال «التسريح بإحسان الثالثة» ورواه الإمام أحمد أيضا. وهكذا رواه سعيد بن منصور عن خالد بن عبد الله ، عن إسماعيل بن زكريا وأبي معاوية ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أبي رزين به وكذا رواه ابن مردويه أيضا من طريق قيس بن الربيع عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين به مرسلا ورواه ابن مردويه أيضا من طريق عبد الواحد بن زياد ، عن إسماعيل بن سميع ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكره ، ثم قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحيم ، حدثنا أحمد بن يحيى ، حدثنا عبيد الله بن جرير بن جبلة ، حدثنا ابن عائشة ، حدثنا حماد بن سلمة بن قتادة ، عن أنس بن مالك ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، ذكر الله الطلاق مرتين ، فأين الثالثة؟ قال : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

وقوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) أي لا يحل لكم أن تضاجروهن وتضيقوا عليهن ، ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه ، كما قال تعالى : (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [النساء : ١٩] فأما إن وهبته المرأة شيئا عن طيب نفس منها ، فقد قال تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [النساء : ٤٠] وأما إذا تشاقق الزوجان ، ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته ، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها ، ولا حرج عليها في بذلها له ، ولا حرج عليه في قبول ذلك منها ، ولهذا قال تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.

فأما إذا لم يكن لها عذر ، وسألت الافتداء منه ، فقد قال ابن

٤٦١

جرير (١) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الوهاب (ح) (٢) وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، قالا جميعا : حدثنا أيوب عن أبي قلابة ، عمن حدثه عن ثوبان ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «أيما امرأة سألت زوجها طلاقها في غير ما بأس ، فحرام عليها رائحة الجنة». وهكذا رواه الترمذي عن بندار ، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي به ، وقال حسن : قال ويروى عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثوبان ، ورواه بعضهم عن أيوب بهذا الإسناد ولم يرفعه.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة ، قال : وذكر أبا أسماء وذكر ثوبان ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة». وهكذا رواه أبو داود وابن ماجة وابن جرير من حديث حماد بن زيد به.

طريق أخرى ـ قال ابن جرير (٤) : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن ليث بن أبي إدريس ، عن ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس حرم الله عليها رائحة الجنة» وقال : «المختلعات هن المنافقات». ثم رواه ابن جرير والترمذي جميعا ، عن أبي كريب ، عن مزاحم بن داود بن علية ، عن أبيه ، عن ليث هو ابن أبي سليم ، عن أبي الخطاب ، عن أبي زرعة ، عن أبي إدريس ، عن ثوبان ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المختلعات هن المنافقات». ثم قال الترمذي : غريب من هذا الوجه وليس إسناده بالقوي.

حديث آخر ـ قال ابن جرير (٥) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا حفص بن بشر ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن أشعث بن سوار ، عن الحسن ، عن ثابت بن يزيد ، عن عقبة بن عامر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات» غريب من هذا الوجه ضعيف.

حديث آخر ـ قال الإمام أحمد (٦) : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا أيوب عن الحسن ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المختلعات والمنتزعات هن المنافقات».

حديث آخر ـ قال ابن ماجة : حدثنا بكر بن خلف أبو بشر ، حدثنا أبو عاصم عن جعفر بن يحيى بن ثوبان ، عن عمه عمارة بن ثوبان ، عن عطاء عن ابن عباس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا تسأل امرأة زوجها الطلاق في غير كنهه ، فتجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٤٨١.

(٢) إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر كتبوا عند الانتقال من إسناد إلى إسناد (ح) وهي مأخوذة من التحول.

(٣) المسند (ج ٥ ص ٢٧٧)

(٤) تفسير الطبري ٢ / ٤٨١.

(٥) المسند (ج ٢ ص ٤١٤)

٤٦٢

عاما».

ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف : إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية ، واحتجوا بقوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) قالوا : فلم يشرع الخلع إلا في هذه الحالة ، فلا يجوز في غيرها إلا بدليل ، والأصل عدمه ، ممن ذهب إلى هذا ابن عباس وطاوس وإبراهيم وعطاء والحسن والجمهور حتى قال مالك والأوزاعي : لو أخذ منها شيئا وهو مضار لها ، وجب رده إليها ، وكان الطلاق رجعيا قال مالك : وهو الأمر الذي أدركت الناس عليه ، وذهب الشافعي رحمه‌الله إلى أنه يجوز الخلع في حال الشقاق وعند الاتفاق بطريق الأولى والأحرى ، وهذا قول جميع أصحابه قاطبة ، وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستذكار به عن بكر بن عبد الله المزني ، أنه ذهب إلى أن الخلع منسوخ بقوله : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) [النساء : ٢٠] ورواه ابن جرير عنه ، وهذا قول ضعيف ومأخذ مردود على قائله.

وقد ذكر ابن جرير رحمه‌الله أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس بن شماس وامرأته حبيبة بنت عبد الله بن أبي بن سلول ، ولنذكر طرق حديثها واختلاف ألفاظه.

قال الإمام مالك في موطئه (١) ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعيد بن زرارة : أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية ، أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خرج إلى الصبح ، فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من هذه؟» قالت : أنا حبيبة بنت سهل. فقال «ما شأنك»؟ قالت : لا أنا ولا ثابت بن قيس ، لزوجها ، فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر» فقالت حبيبة : يا رسول الله كل ما أعطاني عندي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خذ منها» فأخذ منها وجلست في أهلها. وهكذا رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك بإسناده مثله ، ورواه أبو داود (٢) عن القعنبي عن مالك والنسائي عن محمد بن مسلمة عن ابن القاسم عن مالك.

حديث آخر ـ عن عائشة ، قال أبو داود وابن جرير (٣) : حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا أبو عامر ، حدثنا عمرو السدوسي عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة ، عن عائشة ، أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس فضربها فانكسر بعضها ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الصبح فاشتكته إليه ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثابتا ، فقال «خذ بعض مالها وفارقها» قال : ويصلح

__________________

(١) الموطأ (طلاق حديث ٣١)

(٢) سنن أبي داود (طلاق باب ١٧)

(٣) تفسير الطبري ٢ / ٤٧٥.

٤٦٣

ذلك يا رسول الله؟ قال «نعم» قال إني أصدقتها حديقتين فهما بيدها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خذهما وفارقها» ففعل ، وهذا لفظ ابن جرير وأبو عمرو السدوسي هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام.

حديث آخر فيه ، عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال البخاري (١) : حدثنا أزهر بن جميل ، أخبرنا عبد الوهاب الثقفي ، حدثنا خالد عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس ، أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ما أعيب عليه في خلق ولا دين ، ولكن أكره الكفر في الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتردين عليه حديقته»؟ قالت : نعم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اقبل الحديقة وطلقها تطليقة». وكذا رواه النسائي عن أزهر بن جميل بإسناده مثله ، ورواه البخاري أيضا به ، عن إسحاق الواسطي ، عن خالد هو ابن عبد الله الطحان ، عن خالد هو ابن مهران الحذاء ، عن عكرمة ، به نحوه ، وهكذا رواه البخاري أيضا من طرق عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس وفي بعضها أنها قالت : لا أطيقه يعني بغضا. وهذا الحديث من إفراد البخاري من هذا الوجه ، ثم قال : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب ، عن عكرمة أن جميلة رضي الله عنها ـ كذا قال ـ والمشهور أن اسمها حبيبة كما تقدم ، لكن قال الإمام أبو عبد الله بن بطة : حدثني أبو يوسف يعقوب بن يوسف الطباخ ، حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثني عبد الأعلى ، حدثنا سعيد عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن جميلة بنت سلول أتت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : والله ما أعتب على ثابت بن قيس في دين ولا خلق ، ولكنني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضا ، فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تردين عليه حديقته؟». قالت : نعم فأمره النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأخذ ما ساق ولا يزداد.

وقد رواه ابن مردويه في تفسيره عن موسى بن هارون ، حدثنا أزهر بن مروان ، حدثنا عبد الأعلى مثله ، وهكذا رواه ابن ماجة (٢) عن أزهر بن مروان بإسناد مثله سواء ، وهو إسناد جيد مستقيم. وقال ابن جرير (٣) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا الحسين بن واقد عن ثابت ، عن عبد الله بن رباح ، عن جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول ، أنها كانت تحت ثابت بن قيس فنشزت عليه ، فأرسل إليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «يا جميلة ما كرهت من ثابت؟». قالت : والله ما كرهت منه دينا ولا خلقا ، إلا أني كرهت دمامته ، فقال لها ، «أتردين عليه الحديقة؟». قالت : نعم ، فردت الحديقة ، وفرق بينهما. وقال ابن جرير (٤) أيضا : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : قرأت على فضيل عن أبي جرير ، أنه سأل عكرمة هل كان للخلع أصل؟ قال : كان ابن عباس يقول : إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبي ، أنها أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يجمع رأسي ورأسه شيء

__________________

(١) صحيح البخاري (طلاق باب ١٢) والنسائي (طلاق باب ٣٤)

(٢) سنن ابن ماجة (طلاق باب ٢٢)

(٣) تفسير الطبري (٢ / ٤٨٣)

٤٦٤

أبدا ، إني رفعت جانب الخباء فرأيته قد أقبل في عدة ، فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة ، وأقبحهم وجها ، فقال زوجها : يا رسول الله ، إني قد أعطيتها أفضل مالي حديقة لي ، فإن ردت علي حديقتي ، قال «ما تقولين»؟ قالت : نعم وإن شاء زدته ، قال : ففرق بينهما.

حديث آخر ـ قال ابن ماجة : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، قال : كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس ، وكان رجلا دميما ، فقالت يا رسول الله ، والله لو لا مخافة الله إذا دخل عليّ بصقت في وجهه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتردين إليه حديقته»؟ قالت : نعم ، فردت عليه حديقته ، قال: ففرق بينهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد اختلف الأئمة رحمهم‌الله في أنه هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاها ، فذهب الجمهور إلى جواز ذلك لعموم قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) وقال ابن جرير (١) : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، أخبرنا أيوب عن كثير مولى سمرة أن عمر أتي بامرأة ناشز ، فأمر بها إلى بيت كثير الزبل [ثلاثا] (٢) ، ثم دعا بها فقال : كيف وجدت؟ فقالت : ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليلة التي كنت حبستني ، فقال لزوجها : اخلعها ولو من قرطها ، ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن كثير مولى سمرة فذكر مثله ، وزاد فحبسها فيه ثلاثة أيام.

قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ، عن حميد بن عبد الرحمن : أن امرأة أتت عمر بن الخطاب ، فشكت زوجها ، فأباتها في بيت الزبل ، فلما أصبحت قال لها : كيف وجدت مكانك؟ قالت : ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة. فقال : خذ ولو عقاصها.

وقال البخاري : وأجاز عثمان الخلع دون عقاص (٣) رأسها ، وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن عبد الله بن عقيل ، أن الربيع بنت معوذ بن عفراء حدثته ، قالت : كان لي زوج يقل علي الخير إذا حضرني ، ويحرمني إذا غاب عني ، قالت : فكانت مني زلة يوما فقلت له : اختلع منك بكل شيء أملكه ، قال : نعم ، قالت : ففعلت ، قالت : فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان ، فأجاز الخلع وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه ، أو قالت : ما دون عقاص الرأس ، ومعنى هذا أنه يجوز أن يأخذ منها كل ما بيدها من قليل وكثير ولا يترك لها سوى عقاص شعرها ، وبه يقول ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي وقبيصة بن ذؤيب والحسن بن صالح وعثمان البتي ، وهذا مذهب مالك والليث والشافعي وأبي ثور ، واختاره ابن

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٤٨٣.

(٢) الزيادة من الطبري.

(٣) العقاص : جمع عقيصة ، وهي الضفيرة.

٤٦٥

جرير ، وقال أصحاب أبي حنيفة : إن كان الإضرار من قبلها ، جاز أن يأخذ منها ما أعطاها ، ولا يجوز الزيادة عليه ، فإن ازداد جاز في القضاء ، وإن كان الإضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئا ، فإن أخذ ، جاز في القضاء. وقال الإمام أحمد وأبو عبيد وإسحاق بن راهويه : لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها ، وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء وعمرو بن شعيب والزهري وطاوس والحسن والشعبي وحماد بن أبي سليمان والربيع بن أنس ، وقال معمر والحكم : كان علي يقول : لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها ، وقال الأوزاعي : القضاة لا يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها.

(قلت) : ويستدل لهذا القول بما تقدم من رواية قتادة عن عكرمة ، عن ابن عباس في قصة ثابت بن قيس ، فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأخذ منها الحديقة ولا يزداد ، وبما روى عبد بن حميد حيث قال : أخبرنا قبيصة عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ، يعني المختلعة ، وحملوا معنى الآية على معنى (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أي من الذي أعطاها لتقدم قوله : فلا (تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أي من ذلك ، وهكذا كان يقرؤها الربيع بن أنس «فلا جناح عليهما فيما افتدت به منه» رواه ابن جرير ، لهذا قال بعده (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

فصل : قال الشافعي : اختلف أصحابنا في الخلع ، فأخبرنا سفيان عن عمر بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس في رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه بعد ، يتزوجها إن شاء ، لأن الله تعالى يقول : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ـ قرأ إلى ـ (أَنْ يَتَراجَعا) قال الشافعي : وأخبرنا سفيان عن عمرو ، عن عكرمة ، قال : كل شيء أجازه المال فليس بطلاق ، وروى غير الشافعي عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس : أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله قال : رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه ، أيتزوجها؟ قال : نعم ، ليس الخلع بطلاق ، ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها ، والخلع فيما بين ذلك ، فليس الخلع بشيء ، ثم قرأ (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وقرأ : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ ، حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما من أن الخلع ليس بطلاق وإنما هو فسخ ، هو روايه عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان وابن عمر ، وهو قول طاوس وعكرمة ، وبه يقول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وأبو ثور وداود بن علي الظاهري ، وهو مذهب الشافعي في القديم ، وهو ظاهر الآية الكريمة ، والقول الثاني في الخلع : أنه طلاق بائن إلا أن ينوي أكثر من ذلك ، قال مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن جهمان مولى الأسلميين ، عن أم بكر الأسلمية : أنها اختلعت من زوجها عبد الله بن خالد بن أسيد فأتيا عثمان بن عفان في ذلك ، فقال : تطليقة إلا أن تكون سميت شيئا فهو ما سميت ، قال الشافعي :

٤٦٦

ولا أعرف جهمان ، وكذا ضعف أحمد بن حنبل هذا الأثر ، والله أعلم. وقد روي نحوه عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر ، وبه يقول سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وشريح والشعبي وإبراهيم وجابر بن زيد ، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي وأبو عثمان البتي والشافعي في الجديد ، غير أن الحنفية عندهم أنه متى نوى المخالع تطليقة أو اثنتين أو أطلق ، فهو واحدة بائنة ، وإن نوى ثلاثا فثلاث ، وللشافعي قول آخر في الخلع ، وهو أنه متى لم يكن بلفظ الطلاق ، وعري عن البينة ، فليس هو بشيء بالكلية.

مسألة : وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه في رواية عنهما ، وهي المشهورة ، إلى أن المختلعة عدتها عدة المطلقة بثلاثة قروء ، إن كانت ممن تحيض ، وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر ، وبه يقول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعروة وسالم وأبو سلمة وعمر بن عبد العزيز وابن شهاب والحسن والشعبي وإبراهيم النخعي وأبو عياض وخلاس بن عمر وقتادة وسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبو العبيد. قال الترمذي : وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم ، ومأخذهم في هذا أن الخلع طلاق ، فتعتد كسائر المطلقات ، والقول الثاني أنها تعتد بحيضة واحدة تستبرئ بها رحمها. قال ابن أبي شيبة. حدثنا يحيى بن سعيد عن نافع ، عن ابن عمر : أن الربيع اختلعت من زوجها ، فأتى عمها عثمان رضي الله عنه ، فقال: تعتد بحيضة. قال : وكان ابن عمر يقول : تعتد ثلاث حيض ، حتى قال هذا عثمان ، فكان ابن عمر يفتي به ، ويقول : عثمان خيرنا وأعلمنا. وحدثنا عبدة عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : عدة المختلعة حيضة. وحدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن ليث ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : عدتها حيضة ، وبه يقول عكرمة وأبان بن عثمان وكل من تقدم ذكره ممن يقول أن الخلع فسخ يلزمه القول بهذا واحتجوا لذلك بما رواه أبو داود والترمذي حيث قال كل منهما : حدثنا محمد بن عبد الرحيم البغدادي ، حدثنا علي بن بحر ، أخبرنا هشام بن يوسف عن معمر ، عن عمرو بن مسلم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تعتد بحيضة ، ثم قال الترمذي : حسن غريب ، وقد رواه عبد الرزاق عن معمر ، عن عمرو بن مسلم عن عكرمة مرسلا.

حديث آخر ـ قال الترمذي : حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا الفضل بن موسى عن سفيان ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن ، وهو مولى آل طلحة ، عن سليمان بن يسار ، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء ، أنها اختلعت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو أمرت أن تعتد بحيضة قال الترمذي : الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة.

طريق أخرى ـ قال ابن ماجة : حدثنا علي بن سلمة النيسابوري ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدثنا أبي عن ابن إسحاق ، أخبرني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن الرّبيّع بنت

٤٦٧

معوذ بن عفراء ، قال : قلت لها : حدثيني حديثك ، قالت : اختلعت من زوجي ، ثم جئت عثمان فسألت عثمان : ماذا علي من العدة؟ قال : لا عدة عليك إلا أن يكون حديث عهد بك ، فتمكثين عنده حتى تحيضي حيضة ، قالت : وإنما اتبع في ذلك قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مريم المغالية ، وكانت تحت ثابت بن قيس ، فاختلعت منه ؛ وقد روى ابن لهيعة عن ابن الأسود ، عن أبي سلمة ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن الربيع بنت معوذ ، قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمر امرأة ثابت بن قيس حين اختلعت منه أن تعتد بحيضة.

مسألة وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عن الأئمة الأربعة وجمهور العلماء ، لأنها قد ملكت نفسها بما بذلت له من العطاء. وروي عن عبد الله بن أبي أوفى وماهان الحنفي وسعيد بن المسيب والزهري أنهم قالوا : إن رد إليها الذي أعطاها جاز له رجعتها في العدة بغير رضاها ، وهو اختيار أبي ثور رحمه‌الله. وقال سفيان الثوري : إن كان الخلع بغير لفظ الطلاق فهو فرقة ولا سبيل له عليها ، وإن كان يسمى طلاقا فهو أملك لرجعتها ما دامت في العدة ، وبه يقول داود بن علي الظاهري ، واتفق الجميع على أن للمختلع أن يتزوجها في العدة ، وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر عن فرقة : أنه لا يجوز له ذلك كما لا يجوز لغيره ، وهو قول شاذ مردود.

مسألة وهل له أن يوقع عليها طلاقا آخر في العدة؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء : [أحدها] ليس له ذلك ، لأنها قد ملكت نفسها وبانت منه ، وبه يقول ابن عباس وابن الزبير وعكرمة وجابر بن زيد والحسن البصري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور. [والثاني] قال مالك : إن أتبع الخلع طلاقا من غير سكوت بينهما ، وقع ، وإن سكت بينهما ، لم يقع ، قال ابن عبد البر : وهذا يشبه ما روي عن عثمان رضي الله عنه. [والثالث] أنه يقع عليها الطلاق بكل حال ما دامت في العدة ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي ، وبه يقول سعيد بن المسيب وشريح وطاوس وإبراهيم والزهري والحاكم والحكم وحماد بن أبي سليمان ، وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي الدرداء ، وقال ابن عبد البر : وليس ذلك بثابت عنهما.

وقوله (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي هذه الشرائع التي شرعها لكم هي حدوده فلا تتجاوزوها ، كما ثبت في الحديث الصحيح «إن الله حد حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تضيعوها ، وحرم محارم فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تسألوا عنها». وقد يستدل بهذه الآية من ذهب إلى أن جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة حرام ، كما هو مذهب المالكية ومن وافقهم ، وإنما السنة عندهم أن يطلق واحدة لقوله (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ثم قال (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ويقوون ذلك بحديث محمود بن لبيد الذي رواه النسائي في سننه حيث قال : حدثنا سليمان بن داود ، أخبرنا ابن وهب عن مخرمة بن بكير ، عن أبيه ، عن محمود بن

٤٦٨

لبيد ، قال : أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا ، فقام غضبان ثم قال «أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم»؟ حتى قام رجل فقال : يا رسول الله ، ألا أقتله ـ فيه انقطاع.

وقوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) أي أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين ، فإنها تحرم عليه (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، أي حتى يطأها زوج آخر في نكاح صحيح ، فلو وطئها واطئ في غير نكاح ولو في ملك اليمين ، لم تحل للأول ، لأنه ليس بزوج ، وهكذا لو تزوجت ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول ، واشتهر بين كثير من الفقهاء عن سعيد بن المسيب رحمه‌الله أنه يقول : يحصل المقصود من تحليلها للأول بمجرد العقد على الثاني ، وفي صحته عنه نظر ، على أن الشيخ أبا عمر بن عبد البرقة حكاه عنه في الاستذكار ، والله أعلم.

وقد قال أبو جعفر بن جرير (١) رحمه‌الله : حدثنا ابن بشار حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة ، عن علقمة بن مرثد ، عن سالم بن رزين عن سالم بن عبد الله ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في الرجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة ، فيتزوجها زوج آخر ، فيطلقها قبل أن يدخل بها ، أترجع إلى الأول؟ قال «لا ، حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها» هكذا وقع في رواية ابن جرير.

وقد رواه الإمام أحمد (٢) فقال : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد ، قال : سمعت سالم بن رزين يحدث عن سالم بن عبد الله يعني ابن عمر ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في الرجل تكون له المرأة فيطلقها ثم يتزوجها رجل فيطلقها قبل أن يدخل بها ، فترجع إلى زوجها الأول ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حتى تذوق العسيلة» وهكذا رواه النسائي عن عمرو بن علي الفلاس وابن ماجة ، عن محمد بن بشار بندار ، كلاهما عن محمد بن جعفر غندر ، عن شعبة به ، كذلك فهذا من رواية سعيد بن المسيب عن ابن عمرو مرفوعا على خلاف ما يحكى عنه ، فبعيد أن يخالف ما رواه بغير مستند ، والله أعلم. وقد روى أحمد أيضا والنسائي وابن جرير هذا الحديث من طريق سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد ، عن رزين بن سليمان الأحمدي ، عن ابن عمر ، قال : سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا ، فيتزوجها آخر ، فيغلق الباب ، ويرخي الستر ، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ، هل تحل للأول؟ قال «لا ، حتى تذوق العسيلة» ، وهذا لفظ أحمد ، وفي رواية لأحمد سليمان بن رزين.

حديث آخر ـ قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عفان ، حدثنا محمد بن دينار ، حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثلاثا ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٤٩١.

(٢) المسند (ج ٢ ص ٨٥)

(٣) المسند (ج ٣ ص ٢٨٤)

٤٦٩

فتزوجت بعده رجلا فطلقها قبل أن يدخل بها ، أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا ، حتى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته». وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن إبراهيم الأنماطي عن هشام بن عبد الملك ، حدثنا محمد بن دينار ، فذكره (قلت) ومحمد بن دينار بن صندل أبو بكر الأزدي ثم الطاحي البصري ويقال له ابن أبي الفرات ، اختلفوا فيه ، فمنهم من ضعفه ، ومنهم من قواه وقبله وحسن له ، وذكر أبو داود أنه تغيّر قبل موته ، فالله أعلم ، حديث آخر ـ قال ابن جرير (١) : حدثنا عبيد بن آدم بن أبي أياس العسقلاني ، حدثنا أبي ، حدثنا شيبان ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن أبي الحارث الغفاري عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في المرأة يطلقها زوجها ثلاثا ، فتتزوج غيره فيطلقها قبل أن يدخل بها ، فيريد الأول أن يراجعها. قال «لا ، حتى يذوق الآخر عسيلتها» ثم رواه من وجه آخر عن شيبان وهو ابن عبد الرحمن به ـ وأبو الحارث غير معروف ـ.

حديث آخر ـ قال ابن جرير : حدثنا يحيى عن عبيد الله ، حدثنا القاسم عن عائشة : أن رجلا طلق امرأته ثلاثا ، فتزوجت زوجا ، فطلقها قبل أن يمسها ، فسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتحل للأول؟ فقال «لا ، حتى يذوق من عسيلتها كما ذاق الأول» أخرجه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن عبد الله بن عمر العمري عن القاسم بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن عمته عائشة به.

طريق أخرى ـ قال ابن جرير (٢) : حدثنا عبيد الله بن إسماعيل الهباري وسفيان بن وكيع وأبو هشام الرفاعي ، قالوا : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن رجل طلق امرأته ، فتزوجت رجلا غيره ، فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها ، أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تحل لزوجها الأول حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته» ، وكذا رواه أبو داود عن مسدد والنسائي عن أبي كريب ، كلاهما عن أبي معاوية وهو محمد بن حازم الضرير به.

طريق أخرى ـ قال مسلم (٣) في صحيحه : حدثنا محمد بن العلاء الهمداني ، حدثنا أبو أسامة عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها ، فتتزوج رجلا فيطلقها قبل أن يدخل بها ، أتحل لزوجها الأول؟ قال «لا حتى يذوق عسيلتها» ، قال مسلم (٤) : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو فضيل ، وحدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو معاوية جميعا عن هشام بهذا الإسناد ، وقد رواه البخاري من طريق أبي معاوية محمد بن حازم عن هشام به ، وتفرد به مسلم من الوجهين الآخرين ، وهكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الله بن

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٤٩٠.

(٢) تفسير الطبري ٢ / ٤٨٩.

(٣) صحيح مسلم (طلاق حديث ١ ، ٢ ، ٤ ، ٥)

(٤) صحيح مسلم (طلاق حديث ١ ، ٢ ، ٤ ، ٥)

٤٧٠

المبارك عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة مرفوعا بنحوه أو مثله ـ وهذا إسناد جيد ـ ، وكذا ورواه ابن جرير أيضا من طريق علي بن زيد بن جدعان عن امرأة أبيه أمينة أم محمد ، عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثله ، وهذا السياق مختصر من الحديث الذي رواه البخاري ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى عن هشام بن عروة ، حدثني أبي عن عائشة مرفوعا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا عبدة عن هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة ، أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها ، فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت له إنه لا يأتيها وأنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب ، فقال «لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» تفرد به من هذا الوجه.

طريق أخرى ـ قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الأعلى عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : دخلت امرأة رفاعة القرظي وأنا وأبو بكر عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : إن رفاعة طلقني البتة ، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني ، وإنما عنده مثل الهدبة ، وأخذت هدبة من جلبابها ، وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له ، فقال : يا أبا بكر ، ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما زاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التبسم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ، لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» ، وهكذا رواه البخاري من حديث عبد الله بن المبارك ومسلم من حديث عبد الرزاق والنسائي من حديث يزيد بن زريع ، ثلاثتهم عن معمر به ، وفي حديث عبد الرزاق عند مسلم ، أن رفاعة طلقها آخر ثلاث تطليقات ، وقد رواه الجماعة إلا أبو داود من طريق سفيان بن عيينة والبخاري من طريق عقيل ومسلم من طريق يونس بن يزيد ، وعنده آخر ثلاث تطليقات ، والنسائي من طريق أيوب بن موسى ، ورواه صالح بن أبي الأخضر ، كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة به. وقال مالك ، عن المسور بن رفاعة القرظي ، عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير : أن رفاعة بن سموأل طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثا ، فنكحت عبد الرحمن بن الزبير فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ففارقها ، فأراد رفاعة بن سموأل أن ينكحها وهو زوجها الأول الذي كان طلقها فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنهاه عن تزوجها ، وقال «لا تحل لك حتى تذوق العسيلة» هكذا رواه أصحاب الموطأ عن مالك ، وفيه انقطاع وقد رواه إبراهيم بن طهمان وعبد الله بن وهب عن مالك ، عن رفاعة ، عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير ، عن أبيه فوصله.

فصل : والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغبا في المرأة ، قاصدا لدوام عشرتها ، كما هو المشروع من التزويج ، واشترط الإمام مالك مع ذلك ، أن يطأها الثاني وطأ مباحا ، فلو وطئها وهي محرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائض أو نفساء أو الزوج صائم أو محرم أو معتكف لم تحل للأول بهذا الوطء ، وكذا لو كان الزوج الثاني ذميا لم تحل للمسلم بنكاحه ، لأن أنكحة الكفار باطلة عنده ، واشترط الحسن البصري فيما حكاه عنه الشيخ أبو عمر بن عبد البر أن ينزل الزوج

__________________

(١) المسند (ج ٦ ص ٣٤)

٤٧١

الثاني وكأنه تمسك بما فهمه من قوله عليه الصلاة والسلام «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» ويلزم على هذا أن تنزل المرأة أيضا ، وليس المراد بالعسيلة المني ، لما رواه الإمام أحمد والنسائي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا إن العسيلة الجماع» فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول ، فهذا هو المحلل الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة.

ذكر الأحاديث الواردة في ذلك

الحديث الأول عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال الإمام أحمد (١) : حدثنا الفضل بن دكين ، حدثنا سفيان عن أبي قيس عن الهزيل عن عبد الله قال : لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة والمحلّل والمحلّل له وآكل الربا وموكله. ثم رواه أحمد والترمذي والنسائي من غير وجه عن سفيان وهو الثوري عن أبي قيس واسمه عبد الرحمن بن ثروان الأودي عن هزيل بن شرحبيل الأودي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ، ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. قال : والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة منهم عمر وعثمان وابن عمر ، وهو قول الفقهاء من التابعين ، ويروى ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس.

طريق أخرى عن ابن مسعود. قال الإمام أحمد : حدثنا زكريا بن عدي ، حدثنا عبيد الله عن عبد الكريم عن أبي الواصل عن ابن مسعود عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لعن الله المحلّل والمحلّل له».

طريق أخرى ـ روى الإمام أحمد والنسائي من حديث الأعمش عن عبد الله بن مرة عن الحارث الأعور عن عبد الله بن مسعود ، قال : آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه إذا علموا به ، والواصلة والمستوصلة ، ولاوي الصدقة والمعتدي فيها ، والمرتد على عقبيه أعرابيا بعد هجرته ، والمحلل والمحلّل له ، ملعونون على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم القيامة.

الحديث الثاني عن علي رضي الله عنه ، قال الإمام أحمد (٢) ، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن جابر عن الشعبي عن الحارث عن علي قال : لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ، والواشمة والمستوشمة للحسن ، ومانع الصدقة ، والمحلّل والمحلّل له ، وكان ينهى عن النوح. وكذا رواه عن غندر عن شعبة عن جابر وهو ابن يزيد الجعفي عن الشعبي عن الحارث عن علي به ، وكذا رواه من حديث إسماعيل بن أبي خالد وحصين بن عبد الرحمن ومجالد بن سعيد وابن عون ، عن عامر الشعبي به ، وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث

__________________

(١) المسند (ج ١ ص ٤٤٨)

(٢) المسند (ج ١ ص ١٠٧)

٤٧٢

الشعبي به. ثم قال أحمد : أخبرنا محمد بن عبد الله ، أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي ، قال : لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صاحب الربا وآكله وكاتبه وشاهده ، والمحلّل والمحلل له.

الحديث الثالث عن جابر رضي الله عنه. قال الترمذي (١) : أخبرنا أبو سعيد الأشج ، أخبرنا أشعث بن عبد الرحمن بن يزيد الأيامي ، حدثنا مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله ، وعن الحارث عن علي : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن المحلّل والمحلل له ، ثم قال : وليس إسناده بالقائم.

ومجالد ضعفه غير واحد من أهل العلم منهم أحمد بن حنبل ، قال : ورواه ابن نمير عن مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله عن علي ، قال : وهذا وهم من ابن نمير ، والحديث الأول أصح.

الحديث الرابع عن عقبة بن عامر رضي الله عنه. قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة (٢) ، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري ، أخبرنا أبي ، سمعت الليث بن سعد يقول : قال أبو المصعب مشرح وهو ابن هاعان ، قال عقبة بن عامر ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألا أخبركم بالتيس المستعار»؟ قالوا : بلى يا رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «هو المحلّل ، لعن الله المحلّل والمحلل له» تفرد به ابن ماجة ، كذا رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني عن عثمان بن صالح عن الليث به ، ثم قال : كانوا ينكرون على عثمان في هذا الحديث إنكارا شديدا. (قلت) عثمان هذا أحد الثقات ، روى عنه البخاري في صحيحه ثم قد تابعه غيره ، فرواه جعفر الفريابي عن العباس المعروف بابن فريق ، عن أبي صالح عبد الله بن صالح ، عن الليث به فبرئ من عهدته ، والله أعلم.

الحديث الخامس عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال ابن ماجة : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو عامر عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المحلّل والمحلل له.

طريق أخرى ـ قال الإمام الحافظ خطيب دمشق أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني السعدي : حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حنيفة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نكاح المحلّل ، قال : «لا ، إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة (٣) ، ولا استهزاء بكتاب الله ثم يذوق عسيلتها» ويتقوى هذان الإسنادان بما رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن حميد بن عبد الرحمن عن موسى بن أبي الفرات عن عمرو بن دينار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه من هذا ، فيتقوى كل من هذا المرسل والذي قبله بالآخر ، والله أعلم.

__________________

(١) سنن الترمذي (نكاح باب ٢٨)

(٢) سنن ابن ماجة (نكاح باب ٣٣)

(٣) الدلسة : الظلمة.

٤٧٣

الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو عامر ، حدثنا عبد الله هو ابن جعفر عن عثمان بن محمد عن المقبري عن أبي هريرة قال : لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المحلّل والمحلل له ، وهكذا رواه أبو بكر بن أبي شيبة والجوزجاني البيهقي من طريق عبد الله بن جعفر القرشي وقد وثقه أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وغيرهم ، وأخرج له مسلم في صحيحه عن عثمان بن محمد الأخنسي ، وثقه ابن معين ، عن سعيد المقبري وهو متفق عليه.

الحديث السابع عن ابن عمر رضي الله عنهما. قال الحاكم في مستدركه ، حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني ، حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا أبو يمان محمد بن مطرف المدني عن عمر بن نافع عن أبيه أنه قال : جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه ، هل تحل للأول؟ فقال : لا إلا نكاح رغبة كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وقد رواه الثوري عن عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر به ، وهذه الصيغة مشعرة بالرفع وهكذا روى أبو بكر بن أبي شيبة والجوزجاني وحرب الكرماني وأبو بكر الأثرم من حديث الأعمش عن المسيب بن رافع عن قبيصة بن جابر ، عن عمر أنه قال : لا أوتى بمحلّل ولا محلل له إلا رجمتهما ، وروى البيهقي من حديث ابن لهيعة عن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار ، أن عثمان بن عفان رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ففرق بينهما وكذا روي عن علي وابن عباس وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم.

وقوله (فَإِنْ طَلَّقَها) أي الزوج الثاني بعد الدخول بها (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) أي المرأة والزوج الأول (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أي يتعاشرا بالمعروف. قال مجاهد إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي شرائعه وأحكامه (يُبَيِّنُها) أي يوضحها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

وقد اختلف الأئمة رحمهم‌الله فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة أو طلقتين وتركها حتى انقضت عدتها ، ثم تزوجت بآخر ، فدخل بها ثم طلقها فانقضت عدتها ، ثم تزوجها الأول ، هل تعود إليه بما بقي من الثلاث ، كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل ، وهو قول طائفة من الصحابة رضي الله عنهم ، أو يكون الزوج الثاني قد هدم ما قبله من الطلاق ، فإذا عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث ، كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم‌الله ، وحجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلأن يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى ، والله أعلم.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا

__________________

(١) المسند (ج ٢ ص ٣٢٢)

٤٧٤

وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٣١)

هذا أمر من الله ، عزوجل للرجال ، إذا طلق أحدهم المرأة طلاقا له عليها فيه رجعة ، أن يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها ، ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها ، فإما أن يمسكها ، أي يرتجعها ، إلى عصمة نكاحه ، بمعروف وهو أن يشهد على رجعتها ، وينوي عشرتها بالمعروف ، أو يسرحها ، أي يتركها حتى تنقضي عدتها ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن ، من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح ، قال الله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) ، قال ابن عباس ، ومجاهد ومسروق والحسن وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان وغير واحد : كان الرجل يطلق المرأة ، فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ، ضرارا لئلا تذهب إلى غيره ، ثم يطلقها فتعتد ، فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة ، فنهاهم الله عن ذلك ، وتوعدهم عليه ، فقال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي بمخالفته أمر الله تعالى.

وقوله تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) قال ابن جرير (١) عند هذه الآية : أخبرنا أبو كريب ، أخبرنا إسحاق بن منصور عن عبد السلام بن حرب ، عن يزيد بن عبد الرحمن ، عن أبي العلاء الأودي ، عن حميد بن الرحمن ، عن أبي موسى ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غضب على الأشعريين ، فأتاه أبو موسى فقال : يا رسول الله ، أغضبت على الأشعريين؟ فقال : «يقول أحدكم قد طلقت ، قد راجعت ، ليس هذا طلاق المسلمين ، طلقوا المرأة في قبل عدتها» ثم رواه من وجه آخر عن أبي خالد الدالاني وهو يزيد بن عبد الرحمن ، وفيه كلام.

وقال مسروق : هو الذي يطلق في غير كنهه ، ويضار امرأته بطلاقها وارتجاعها لتطول عليها العدة ، وقال الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع ومقاتل بن حيان : هو الرجل يطلق ويقول : كنت لاعبا ، أو يعتق أو ينكح ويقول : كنت لاعبا ، فأنزل الله (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) فألزم الله بذلك.

وقال ابن مردويه : حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثنا أبو أحمد الصيرفي ، حدثني جعفر بن محمد السمسار ، عن إسماعيل بن يحيى عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال: طلق رجل امرأته وهو يلعب لا يريد الطلاق ، فأنزل الله (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) فألزمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطلاق. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عصام بن رواد ، حدثنا آدم ، حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن هو البصري ، قال : كان الرجل يطلق ويقول : كنت لاعبا ويعتق ويقول : كنت لاعبا ، وينكح ويقول : كنت لاعبا ، فأنزل الله (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من طلق أو أعتق أو نكح أنكح ، جادا أو لاعبا ، فقد جاز عليه» وكذا رواه ابن

__________________

(١) تفسير الطبري (٢ / ٤٩٦)

٤٧٥

جرير ، من طريق الزهري ، عن سليمان بن أرقم ، عن الحسن مثله ، وهذا مرسل ، وقد رواه ابن مردويه ، عن طريق عمرو بن عبيد ، عن الحسن ، عن أبي الدرداء موقوفا عليه. وقال أيضا : حدثنا أحمد بن الحسن بن أيوب ، حدثنا يعقوب بن أبي يعقوب ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن سلمة عن الحسن عن عبادة بن الصامت في قول الله تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً). قال : كان الرجل على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول للرجل : زوجتك ابنتي ثم يقول : كنت لاعبا ، ويقول : قد أعتقت ، ويقول : كنت لاعبا ، فأنزل الله (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً).

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث من قالهن لاعبا أو غير لاعب ، فهن جائزات عليه : الطلاق والعتاق والنكاح» والمشهور في هذا الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من طريق عبد الرحمن بن حبيب بن أدرك عن عطاء عن ابن ماهك عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث جدهن جد ، وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة» وقال الترمذي : حسن غريب.

وقوله (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ، أي في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) ، أي السنة (يَعِظُكُمْ بِهِ) أي يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على ارتكاب المحارم ، (وَاتَّقُوا اللهَ) ، أي فيما تأتون وفيما تذرون ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي فلا يخفى عليه شيء من أموركم السرية والجهرية وسيجازيكم على ذلك.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢٣٢)

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين ، فتنقضي عدتها ، ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها ، وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياؤها من ذلك ، فنهى الله أن يمنعوها. وكذا روى العوفي عنه عن ابن عباس أيضا ، وكذا قال مسروق وإبراهيم النخعي والزهري والضحاك : إنها أنزلت في ذلك ، وهذا الذي قالوه ظاهر من الآية ، وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها ، وأنه لا بد في النكاح من ولي ، كما قاله الترمذي وابن جرير عند هذه الآية ، كما جاء في الحديث «لا تزوج المرأة المرأة ، ولا تزوج المرأة نفسها ، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها» وفي الأثر الآخر «لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل» وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء ، محرر في موضعه من كتب الفروع ، وقد قررنا ذلك في كتاب الأحكام ، ولله الحمد والمنة.

وقد روي أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته ، فقال البخاري رحمه‌الله في

٤٧٦

كتابه الصحيح عند تفسير هذه الآية : حدثنا عبيد الله بن سعيد ، حدثنا أبو عامر العقدي ، حدثنا عباد بن راشد ، حدثنا الحسن ، قال : حدثني معقل بن يسار ، قال : كانت لي أخت تخطب إلي ، قال البخاري : وقال إبراهيم عن يونس ، عن الحسن ، حدثني معقل بن يسار ، وحدثنا أبو معمر ، وحدثنا عبد الوارث ، حدثنا يونس عن الحسن ، أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها ، فتركها حتى انقضت عدتها فخطبها ، فأبى معقل ، فنزلت (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه من طرق متعددة عن الحسن ، عن معقل بن يسار به ، وصححه الترمذي أيضا ، ولفظه عن معقل بن يسار ، أنه زوج أخته رجلا من المسلمين ، على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانت عنده ما كانت ، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت عدتها ، فهويها وهويته ، ثم خطبها مع الخطاب ، فقال له : يا لكع بن لكع! أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ، والله لا ترجع إليك أبدا آخر ما عليك ، قال : فعلم الله حاجته إليها ، وحاجتها إلى بعلها ، فأنزل الله (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) إلى قوله (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فلما سمعها معقل قال : سمعا لربي وطاعة ثم دعاه ، فقال : أزوجك وأكرمك ، زاد ابن مردويه : وكفرت عن يميني. وروى ابن جرير ، عن ابن جريج ، قال : هي جمل بنت يسار ، كانت تحت أبي البداح. وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق السبيعي ، قال : هي فاطمة بنت يسار. وهكذا ذكر غير واحد من السلف ، أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار وأخته. وقال السدي : نزلت في جابر بن عبد الله وابنة عم له والصحيح الأول والله أعلم.

وقوله (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف يأتمر به ، ويتعظ به ، وينفعل له (مَنْ كانَ مِنْكُمْ) أيها الناس (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يؤمن بشرع الله ، ويخاف وعيد الله وعذابه ، في الدار الآخرة ، وما فيها من الجزاء (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أي اتباعكم شرع الله ، في رد الموليات إلى أزواجهن ، وترك الحمية في ذلك أزكى لكم وأطهر لقلوبكم (وَاللهُ يَعْلَمُ) أي من المصالح ، فيما يأمر به وينهى عنه (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي الخيرة فيما تأتون ، ولا فيما تذرون.

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢٣٣)

هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة ، وهي سنتان فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك ، ولهذا قال (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين ، فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم.

٤٧٧

قال الترمذي (١) : [باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين] حدثنا قتيبة ، حدثنا أبو عوانة عن هشام بن عروة ، عن فاطمة بنت المنذر ، عن أم سلمة ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام» هذا حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرهم ، أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين ، وما كان بعد الحولين الكاملين ، فإنه لا يحرم شيئا ، وفاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام هي امرأة هشام بن عروة. (قلت) تفرد الترمذي برواية هذا الحديث ورجاله على شرط الصحيحين.

ومعنى قوله «إلا ما كان في الثدي» أي في محال الرضاعة قبل الحولين ، كما جاء في الحديث الذي رواه أحمد عن وكيع ، وغندر عن شعبة ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب ، قال : لما مات إبراهيم بن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «٧ ن ابني مات في الثدي ، إن له مرضعا في الجنة» ، وهكذا أخرجه البخاري من حديث شعبة وإنما قال عليه‌السلام ذلك ، لأن ابنه إبراهيم عليه‌السلام ، مات وله سنة وعشرة أشهر ، فقال : إن له مرضعا ، يعني تكمل رضاعه ، ويؤيده ما رواه الدارقطني من طريق الهيثم بن جميل عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين» ثم قال : ولم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل ، وهو ثقة حافظ. (قلت) وقد رواه الإمام مالك في الموطأ عن ثور بن يزيد ، عن ابن عباس مرفوعا ، ورواه الدراوردي عن ثور ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، وزاد «وما كان بعد الحولين فليس بشيء» وهذا أصح.

وقال أبو داود الطيالسي ، عن جابر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا رضاع بعد فصال ، ولا يتم بعد احتلام» وتمام الدلالة من هذا الحديث في قوله تعالى : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي) [لقمان : ١٤] ، وقال (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥] والقول بأن الرضاعة لا تحرم بعد الحولين ، يروى عن علي وابن عباس وابن مسعود وجابر وأبي هريرة وابن عمر وأم سلمة وسعيد بن المسيب وعطاء والجمهور ، وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبي يوسف ومحمد ومالك في رواية ، وعنه أن مدته سنتان وشهران ، وفي رواية : وثلاثة أشهر. وقال أبو حنيفة : سنتان وستة أشهر. وقال زفر بن الهذيل : ما دام يرضع فإلى ثلاث سنين ، وهذا رواية عن الأوزاعي ، قال مالك : ولو فطم الصبي دون الحولين ، فأرضعته امرأة بعد فصاله ، لم يحرم لأنه قد صار بمنزلة الطعام ، وهو رواية عن الأوزاعي ، وقد روي عن عمر وعلي أنهما قالا : لا رضاع بعد فصال ، فيحتمل أنهما أرادا الحولين ، كقول الجمهور : سواء فطم أو لم يفطم ويحتمل أنهما أرادا الفعل كقول مالك ، والله أعلم.

__________________

(١) سنن الترمذي (رضاع باب ٥)

٤٧٨

وقد روي في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ، أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر في التحريم ، وهو قول عطاء بن أبي رباح والليث بن سعد ، وكانت عائشة تأمر بمن تختار أن يدخل عليها من الرجال لبعض نسائها ، فترضعه ، وتحتج في ذلك بحديث سالم مولى أبي حذيفة حيث أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم امرأة أبي حذيفة أن ترضعه وكان كبيرا ، فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة ، وأبى ذلك سائر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورأين ذلك من الخصائص ، وهو قول الجمهور ، وحجة الجمهور وهم الأئمة الأربعة ، والفقهاء السبعة ، والأكابر من الصحابة ، وسائر أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سوى عائشة ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «انظرن من إخوانكم فإنما الرضاعة من المجاعة» وسيأتي الكلام على مسائل الرضاع وفيما يتعلق برضاع الكبير ، عن قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) [النساء : ٢٣].

وقوله : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف ، أي بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف ولا إقتار ، بحسب قدرته في يساره ، وتوسطه وإقتاره ، كما قال تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) [الطلاق : ٧] قال الضحاك : إذا طلق زوجته وله منها ولد ، فأرضعت له ولده ، وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف.

وقوله : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) أي بأن تدفعه عنها لتضر أباه بتربيته ، ولكن ليس لها دفعه إذا ولدته حتى تسقيه اللبن الذي لا يعيش بدون تناوله غالبا ، ثم بعد هذا لها دفعه عنها إذا شاءت ، ولكن إن كانت مضارة لأبيه ، فلا يحل لها ذلك ، كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضرار لها ، ولهذا قال : (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) أي بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضرارا بها ، قاله مجاهد وقتادة والضحاك والزهري والسدي والثوري وابن زيد وغيرهم.

وقوله تعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) قيل : في عدم الضرار لقريبه ، قاله مجاهد والشعبي والضحاك ، وقيل : عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها ، وهو قول الجمهور ، وقد استقصى ذلك ابن جرير (١) في تفسيره ، وقد استدل بذلك من ذهب من الحنفية والحنبلية إلى وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وجمهور السلف ، ويرجح ذلك بحديث الحسن عن سمرة مرفوعا «من ملك ذا رحم محرم ، عتق عليه» وقد ذكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت الولد إما في بدنه أو في عقله. وقال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة : أنه رأى امرأة ترضع بعد الحولين ، فقال : لا ترضعيه.

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٥١٣ ـ ٥١٩.

٤٧٩

وقوله : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين ، ورأيا في ذلك مصلحة له ، وتشاروا في ذلك وأجمعا عليه ، فلا جناح عليهما في ذلك ، فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي ، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد ذلك من غير مشاورة الآخر ، قاله الثوري وغيره ، وهذا فيه احتياط للطفل وإلزام للنظر في أمره ، وهو من رحمة الله بعباده حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما ، وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه ، كما قال في سورة الطلاق (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) [الطلاق : ٦].

وقوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) أي إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يستلم منها الولد إما لعذر منها أو العذر له ، فلا جناح عليهما في بذله ، ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن ، واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف ، قاله غير واحد. وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي في جميع أحوالكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٢٣٤)

هذا أمر من الله للنساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن ، أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال ، وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع ، ومستنده في غير المدخول بها عموم الآية الكريمة ، وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي : أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها ، ولم يدخل بها ولم يفرض لها ، فترددوا إليه مرارا في ذلك ، فقال أقول فيها برأيي ، فإن يك صوابا فمن الله ، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه : لها الصداق كاملا ، وفي لفظ : لها صداق مثلها لا وكس ولا شطط ، وعليها العدة ، ولها الميراث ، فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قضى به في بروع بنت واشق ففرح عبد الله بذلك فرحا شديدا ، وفي رواية : فقام رجال من أشجع فقالوا : نشهد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى به في بروع بنت واشق. ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها ، وهي حامل ، فإن عدتها بوضع الحمل ولو لم تمكث بعده سوى لحظة لعموم قوله : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٤].

وكان ابن عباس يرى أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين من الوضع ، أو أربعة أشهر وعشر للجمع بين الآيتين ، وهذا مأخذ جيد ومسلك قوي ، لولا ما ثبتت به السنة في حديث سبيعة الأسلمية المخرج في الصحيحين (١) من غير وجه ، أنها توفي عنها زوجها سعد بن خولة وهي

__________________

(١) ينظر صحيح البخاري (طلاق باب ٣٨ ، ومغازي باب ١٠) وصحيح مسلم (رضاع حديث ١٢٣) وسنن ـ

٤٨٠