تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

بذلك والله أعلم. وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن حتى رد الله عليهم ذلك بقوله (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى). ولهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي اكتب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فقالوا : لا نعرف الرحمن ولا الرحيم. رواه البخاري وفي بعض الروايات : لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة. وقال تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) [الفرقان : ٦٠] والظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم فإنه قد وجد في أشعارهم في الجاهلية تسمية الله بالرحمن. قال ابن جرير : وقد أنشد لبعض الجاهلية الجهال : [الطويل]

ألا ضربت تلك الفتاة هجينها

ألا قضب الرحمن ربي يمينها (١)

وقال سلامة بن جندل الطهوي (٢) : [الطويل]

عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم

وما يشإ الرحمن يعقد ويطلق (٣)

وقال ابن جرير (٤) : حدثنا أبو كريب عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة حدثنا أبو روق عن الضحاك عن عبد الله بن عباس قال الرحمن الفعلان من الرحمة هو من كلام العرب وقال (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الرفيق الرقيق لمن (٥) أحب أن يرحمه والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه ، وكذلك أسماؤه كلها. وقال ابن جرير (٦) أيضا : حدثنا محمد بن بشار حدثنا حماد بن مسعدة عن عوف عن الحسن قال : الرحمن اسم ممنوع. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان حدثنا زيد بن الحباب حدثني أبو الأشهب عن الحسن قال الرحمن اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه تسمى به تبارك وتعالى. وقد جاء في حديث أم سلمة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقطّع قراءته حرفا حرفا (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فقرأ بعضهم كذلك وهم طائفة ومنهم من وصلها بقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). وكسرت الميم لالتقاء الساكنين وهم الجمهور ، وحكى الكسائي من الكوفيين عن بعض العرب أنها تقرأ بفتح الميم وصلة الهمزة فيقولون (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فنقلوا حركة الهمزة إلى الميم بعد تسكينها كما قرئ قول الله تعالى : (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) قال ابن عطية : ولم ترد هذه قراءة عن أحد فيما علمت.

__________________

(١) البيت بلا نسبة في الطبري ١ / ٨٦ ؛ والمخصص لابن سيده ١٧ / ١٥٢.

(٢) كذا أيضا في أصول تفسير الطبري ، كما أشار محقق طبعة دار المعارف بمصر ١ / ١٣١ ، حاشية (٣).

قال : وهو خطأ ، إذ ليس سلامة طهويا. وصححها بالسعدي. قلت : ولعل الحافظ ابن كثير تابع الطبري في هذا الخطأ ، إذ ينقل عنه في هذا المقام.

(٣) البيت لسلامة بن جندل في ديوانه ص ١٩ ؛ وتفسير الطبري ١ / ٨٦.

(٤) تفسير الطبري ١ / ٨٥.

(٥) في الطبري : «الرقيق الرفيق بمن أحب».

(٦) الطبري ١ / ٨٨.

٤١

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢)

القراء السبعة على ضم الدال في قوله (الحمد لله) هو مبتدأ وخبر. وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج أنهما قالا (الحمد لله) بالنصب وهو على إضمار فعل وقرأ ابن أبي عبلة (الحمد لله) بضم الدال واللام اتباعا للثاني الأول ، وله شواهد لكنه شاذ ، وعن الحسن وزيد بن علي (الحمد لله) بكسر الدال اتباعا للأول الثاني.

قال أبو جعفر بن جرير (١) : معنى (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الشكر لله خالصا دون سائر ما يعبد من دونه ، ودون كل ما برأ من خلقه ، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد ولا يحيط بعددها غيره أحد ، في تصحيح الآلات لطاعته ، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه ، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق ، وغذاهم من نعيم العيش من غير استحقاق منهم ذلك عليه ، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم ، فلربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخرا. وقال ابن جرير رحمه‌الله : (الحمد لله) ثناء أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال : قولوا الحمد لله. قال : وقد قيل إن قول القائل : الحمد لله ثناء عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ، وقوله (الشكر لله) ثناء عليه بنعمه وأياديه. ثم شرع في رد ذلك بما حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلا من الحمد والشكر مكان الآخر. وقد نقل السلمي هذا المذهب أنهما سواء عن جعفر الصادق وابن عطاء من الصوفية ، وقال ابن عباس (الحمد لله) كلمة كل شاكر ، وقد استدل القرطبي لابن جرير بصحة قول القائل الحمد لله شكرا (٢). وهذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر ، لأنه اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية ، والشكر لا يكون إلا على المتعدية ويكون بالجنان واللسان والأركان كما قال الشاعر : [الطويل]

أفادتكم النعماء مني ثلاثة :

يدي ولساني والضمير المحجبا

ولكنهم اختلفوا أيهما أعمّ الحمد أو الشكر على قولين ، والتحقيق أن بينهما عموما وخصوصا فالحمد أعم من الشكر من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون على الصفات اللازمة

__________________

(١) الطبري ١ / ٨٩.

(٢) هذا وهم من ابن كثير ، إذ إن القرطبي عارض رأي الطبري بقوله : «ذهب أبو جعفر الطبري وأبو العباس المبرد إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء ، وليست بمرضى» ثم قال : «الصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان ، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان. وعلى هذا الحد قال علماؤنا : الحمد أعمّ من الشكر» (تفسير القرطبي ١ / ١٣٣ ـ ١٣٤). وعقّب محمود محمد شاكر على من ناقضوا رأي الطبري بقوله : والذي قاله الطبري أقوى حجّة وأعرق عربية من الذين ناقضوه. (تفسير الطبري ، ١ / ١٣٨ ، حاشية (٢) ، طبعة دار المعارف بمصر)

٤٢

والمتعدية ، تقول : حمدته لفروسيته وحمدته لكرمه وهو أخص ، لأنه لا يكون إلا بالقول ، والشكر أعم من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون بالقول والفعل والنية كما تقدم وهو أخص لأنه لا يكون إلا على الصفات المتعدية لا يقال : شكرته لفروسيته وتقول شكرته على كرمه وإحسانه إليّ. هذا حاصل ما حرره بعض المتأخرين والله أعلم.

وقال أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري : الحمد نقيض الذم ، تقول حمدت الرجل أحمده حمدا ومحمدة فهو حميد ومحمود والتحميد أبلغ من الحمد ، والحمد أعم من الشكر ، وقال في الشكر : هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف ، يقال : شكرته وشكرت له ، وباللام أفصح. وأما المدح فهو أعم من الحمد لأنه يكون للحي وللميت وللجماد أيضا كما يمدح الطعام والمكان ونحو ذلك ويكون قبل الإحسان وبعده ، وعلى الصفات المتعدية واللازمة أيضا فهو أعم.

ذكر أقوال السلف في الحمد

قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو معمر القطيعي حدثنا حفص عن حجاج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال عمر رضي الله عنه : قد علمنا سبحان الله ولا إله إلا الله ، فما الحمد لله؟ فقال علي : كلمة رضيها الله لنفسه ، ورواه غير أبي معمر عن حفص فقال : قال عمر لعلي ـ وأصحابه عنده ـ : لا إله إلا الله وسبحان الله والله أكبر قد عرفناها فما الحمد لله؟ قال علي : كلمة أحبها الله تعالى لنفسه ورضيها لنفسه وأحب أن تقال (١). وقال علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران : قال ابن عباس : الحمد لله كلمة الشكر وإذا قال العبد الحمد لله قال الله : شكرني عبدي. رواه ابن أبي حاتم ، وروى أيضا هو وابن جرير (٢) من حديث بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال : الحمد لله هو الشكر لله والاستخذاء له والإقرار له بنعمته وهدايته وابتدائه وغير ذلك. وقال كعب الأحبار : الحمد لله ثناء على الله ، وقال الضحاك : الحمد لله رداء الرحمن ، وقد ورد الحديث بنحو ذلك(٣).

قال ابن جرير : حدثنا سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية بن الوليد حدثني عيسى بن إبراهيم عن موسى بن أبي حبيب عن الحكم بن عمير وكانت له صحبة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قلت الحمد لله رب العالمين فقد شكرت الله فزادك ، وقد روى الإمام أحمد بن حنبل(٤): حدثنا روح حدثنا عوف عن الحسن عن الأسود بن سريع قال : قلت يا رسول الله ألا أنشدك محامد حمدت

__________________

(١) الدر المنثور ١ / ٣٤.

(٢) تفسير الطبري ١ / ٨٩ ؛ والدر المنثور ١ / ٣٤.

(٣) حديثا كعب والضحاك أخرجهما ابن جرير وابن أبي حاتم (الدر المنثور ١ / ٣٤)

(٤) المسند ج ٥ ص ٣٠٣.

٤٣

بها ربي تبارك وتعالى فقال : «اما إن ربك يحب الحمد» ورواه النسائي عن علي بن حجر عن ابن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن الأسود بن سريع به. وروى أبو عيسى الحافظ الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث موسى بن إبراهيم بن كثير عن طلحة بن خراش عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء الحمد لله» وقال الترمذي حسن غريب ، وروى ابن ماجة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أنعم الله على عبد نعمة فقال : الحمد لله إلا كان الذي أعطي أفضل مما أخذ» وقال القرطبي في تفسيره وفي نوادر الأصول عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله كان الحمد لله أفضل من ذلك» قال القرطبي وغيره : أي لكان إلهامه الحمد لله أكثر نعمة عليه من نعم الدنيا لأن ثواب الحمد لله لا يفنى ونعيم الدنيا لا يبقى قال الله تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف : ٤٦] وفي سنن ابن ماجة عن ابن عمر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثهم أن عبدا من عباد الله قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. فعضلت (١) بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى الله فقالا : يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها ، قال الله ، وهو أعلم بما قال عبده ، ماذا قال عبدي؟ قالا يا رب إنه قال : لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. فقال الله لهما «اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها» وحكى القرطبي عن طائفة أنهم قالوا : قول العبد (الحمد لله رب العالمين) أفضل من قوله (لا إله إلا الله) لاشتمال الحمد لله رب العالمين على التوحيد مع الحمد ، وقال آخرون (لا إله إلا الله) أفضل لأنها تفصل بين الإيمان والكفر وعليها يقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، كما ثبت في الحديث المتفق عليه وفي الحديث الآخر : «أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له» وقد تقدم عن جابر مرفوعا «أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله» وحسنه الترمذي ، والألف واللام في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد وصنوفه لله تعالى كما جاء في الحديث : «اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله» الحديث.

[القول في تأويل (رَبِّ الْعالَمِينَ)]

والرب هو المالك المتصرف ويطلق في اللغة على السيد وعلى المتصرف للإصلاح وكل ذلك صحيح في حق الله ، ولا يستعمل الرب لغير الله بل بالإضافة تقول : رب الدار ، رب كذا ، وأما الرب (٢) فلا يقال إلا لله عزوجل ، وقد قيل إنه الاسم الأعظم. والعالمين جمع عالم ، وهو

__________________

(١) عضل به الأمر : اشتدّ واستغلق.

(٢) أي الرب مطلقا.

٤٤

كل موجود سوى الله عزوجل ، والعالم جمع لا واحد له من لفظه ، والعوالم أصناف المخلوقات في السموات وفي البر والبحر وكل قرن منها وجيل يسمى عالما أيضا. قال بشر بن عمار عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الحمد لله الذي له الخلق كله السموات والأرضون وما فيهنّ وما بينهن مما نعلم ومما لا نعلم. وفي رواية سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس : رب الجن والإنس ، وكذلك قال سعيد بن جبير ومجاهد وابن جريج وروي عن علي نحوه ، قال ابن أبي حاتم : بإسناده لا يعتمد عليه. واستدل القرطبي لهذا القول بقوله تعالى : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان : ١] وهم الجن والإنس. قال الفراء وأبو عبيد : العالم عبارة عما يعقل وهم الإنس والجن والملائكة والشياطين ولا يقال للبهائم عالم. وعن زيد بن أسلم وأبي محيصن : العالم كل ما له روح ترفرف. وقال قتادة : رب العالمين كل صنف عالم ، وقال الحافظ ابن عساكر في ترجمة مروان بن محمد وهو أحد خلفاء بني أمية وهو يعرف بالجعد ويلقب بالحمار أنه قال : خلق الله سبعة عشر ألف عالم ، أهل السموات وأهل الأرض عالم واحد ، وسائرهم لا يعلمهم إلا الله عزوجل.

وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) قال : الإنس عالم [والجن عالم] (١) وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف أو أربعة عشر ألف عالم ـ هو يشك ـ من الملائكة على الأرض وللأرض أربع زوايا ، في كل زاوية ثلاثة ألاف عالم وخمسمائة عالم خلقهم الله لعبادته. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم (٢). وهذا كلام غريب يحتاج مثله إلى دليل صحيح. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الفرات ، يعني ابن الوليد ، عن معتب بن سمي عن تبيع يعني الحميري في قوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) قال : العالمين ألف أمة فستمائة في البحر وأربعمائة في البر (٣) ، وحكي مثله عن سعيد بن المسيب وقد روي نحو هذا مرفوعا كما قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى في مسنده : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبيد بن واقد القيسي أبو عباد حدثني محمد بن عيسى بن كيسان حدثنا محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قلّ الجراد في سنة من سني عمر التي ولي فيها ، فسأل عنه فلم يخبر بشيء ، فاغتم لذلك ، فأرسل راكبا يضرب إلى اليمن وآخر إلى الشام وآخر إلى العراق يسأل هل رؤي من الجراد شيء ، أم لا؟ قال : فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد ، فألقاها بين يديه فلما رآها كبر ثم قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «خلق الله ألف أمة : ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، فأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلك تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه» محمد بن عيسى هذا وهو الهلالي

__________________

(١) زيادة من الطبري.

(٢) تفسير الطبري ١ / ٩٣ ؛ والدر المنثور ١ / ٣٧.

(٣) الدر المنثور ١ / ٣٧.

٤٥

ضعيف (١). وحكى البغوي عن سعيد بن المسيب أنه قال : لله ألف عالم ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، وقال وهب بن منبه : لله ثمانية عشر ألف عالم الدنيا عالم منها ، وقال مقاتل : العوالم ثمانون ألفا ، وقال كعب الأحبار : لا يعلم عدد العوالم إلا الله عزوجل نقله البغوي. وحكى القرطبي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : إن لله أربعين ألف عالم الدنيا من شرقها إلى مغربها عالم واحد منها ، وقال الزجاج : العالم كل ما خلق الله في الدنيا والآخرة قال القرطبي : وهذا هو الصحيح إنه شامل لكل العالمين كقوله : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ. قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) [الشعراء : ٢٣] والعالم مشتق من العلامة (قلت) لأنه علم دال على وجود خالقه وصانعه ووحدانيته كما قال ابن المعتز :

فيا عجبا كيف يعصى الإله

أم كيف يجحده الجاحد

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٣)

وقوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) تقدم الكلام عليه في البسملة بما أغنى عن الإعادة. قال القرطبي (٢) : إنما وصف نفسه بالرحمن الرحيم بعد قوله رب العالمين ليكون من باب قرن الترغيب بعد الترهيب كما قال تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) [الحجر : ٤٩ ـ ٥٠] وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام : ١٦٥] قال : فالرب فيه ترهيب والرحمن الرحيم ترغيب. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته (٣) أحد».

(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤)

قرأ بعض القراء (ملك يوم الدين) وقرأ آخرون (مالك) وكلاهما صحيح متواتر في السبع (٤) ، ويقال ملك بكسر اللام وبإسكانها ، ويقال مليك أيضا وأشبع نافع كسرة الكاف فقرأ (ملكي يوم الدين) وقد رجح كلا من القراءتين مرجّحون من حيث المعنى وكلتاهما صحيحة حسنة ، ورجح الزمخشري ملك لأنها قراءة أهل الحرمين ولقوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر : ١٦] وقوله : (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ) [الأنعام : ٧٣] وحكي عن أبي حنيفة أنه قرأ : ملك يوم الدين على

__________________

(١) الحديث رواه السيوطي في الدر المنثور (١ / ٣٧) وقال : بسند ضعيف.

(٢) تفسير القرطبي ١ / ١٣٩ ، وابن كثير ينقل هنا عن القرطبي بتصرّف.

(٣) في القرطبي ١ / ١٣٩ وصحيح مسلم (توبة حديث ٢٣) : «جنته».

(٤) أي القراءات السبع المشهورة.

٤٦

أنه فعل وفاعل ومفعول وهذا شاذ غريب جدا وقد روى أبو بكر بن أبي داود في ذلك شيئا غريبا حيث قال : حدثنا أبو عبد الرحمن الأزدي ، حدثنا عبد الوهاب بن عدي بن الفضل عن أبي المطرف عن ابن شهاب أنه بلغه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية وابنه يزيد بن معاوية كانوا يقرءون (مالك يوم الدين) قال ابن شهاب : وأول من أحدث «ملك» مروان (قلت) مروان عنده علم بصحة ما قرأه لم يطلع عليه ابن شهاب والله أعلم. وقد روي من طرق متعددة أوردها ابن مردويه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرؤها (مالك يوم الدين) ومالك مأخوذ من الملك كما قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) [مريم : ٤٠] وقال (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ) [الناس : ١ ـ ٢] وملك مأخوذ من الملك كما قال تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) وقال (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ) وقال : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) [الفرقان : ٢٦] وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين وذلك عامّ في الدنيا والآخرة ، وإنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هنالك شيئا ولا يتكلم أحد إلا بإذنه كما قال تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [النبأ : ٣٨] وقال تعالى : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) [طه : ١٠٨] وقال تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود: ١٠٥] وقال الضحاك عن ابن عباس (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يقول : لا يملك أحد معه في ذلك اليوم حكما كملكهم في الدنيا ، قال : ويوم الدين يوم الحساب للخلائق وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر إلا من عفا عنه (١). وكذلك قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف وهو ظاهر. وحكى ابن جرير (٢) عن بعضهم أنه ذهب إلى أن تفسير مالك يوم الدين أنه القادر على إقامته ، ثم شرع يضعفه ، والظاهر أنه لا منافاة بين هذا القول وما تقدم وأن كلا من القائلين هذا القول وبما قبله يعترف بصحة القول الآخر ولا ينكره ، ولكن السياق أدل على المعنى الأول من هذا ، كما قال تعالى : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) والقول الثاني يشبه قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ) والله أعلم. والملك في الحقيقة هو الله عزوجل ، قال الله تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ) [الحشر : ٢٣] وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا «أخنع اسم عند الله رجل تسمى بملك الأملاك ولا مالك إلا الله (٣)» وفيهما عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك

__________________

(١) أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (الدر المنثور ١ / ٩)

(٢) تفسير الطبري ١ / ٩٦.

(٣) أخرجه البخاري (أدب ، باب ١١٤) وأبو داود (أدب ، باب ٦٣). والترمذي (أدب ، باب ٦٦) وأحمد في المسند ج ٣ ص ٤٠. قال عبد الله ابن الإمام أحمد : قال أبي : سألت أبا عمرو الشيباني عن أخنع اسم عند الله؟ قال : أوضع اسم عند الله.

٤٧

الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ (١)» وفي القرآن العظيم (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] فأما تسمية غيره في الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) [البقرة : ٢٤٧] (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) [الكهف : ٧٩] (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) [المائدة : ٢٠] وفي الصحيحين «مثل الملوك على الأسرة».

والدين الجزاء والحساب كما قال تعالى : (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) [النور : ٢٥] وقال (أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) [الصافات : ٥٣] أي مجزيون محاسبون ، وفي الحديث «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت» أي حاسب نفسه كما قال عمر رضي الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، وتأهبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ). [الحاقة : ١٨].

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥)

قرأ السبعة والجمهور بتشديد الياء من إياك وقرأ عمرو بن فائد بتخفيفها مع كسر الهمزة وهي قراءة شاذة مردودة لأن إيا : ضوء الشمس (٢) ، وقرأ بعضهم أياك بفتح الهمزة وتشديد الياء ، وقرأ بعضهم هياك بالهاء بدل الهمزة كما قال الشاعر : [الطويل]

فهياكو الأمر الذي إن توسّعت

موارده ضاقت عليك مصادره (٣)

ونستعين بفتح النون أول الكلمة في قراءة الجميع سوى يحيى بن وثاب والأعمش فإنهما كسراها وهي لغة بني أسد وربيعة وبني تميم ، والعبادة في اللغة من الذلة يقال طريق معبد وبعير معبد أي مذلل ، وفي الشرع : عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف. وقدم المفعول وهو إياك وكرر للاهتمام والحصر أي لا نعبد إلا إياك ولا نتوكل إلا عليك وهذا هو كمال الطاعة ، والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين ، وهذا كما قال بعض السلف : الفاتحة سر القرآن ، وسرها هذه الكلمة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فالأول تبرؤ من الشرك ، والثاني تبرؤ من الحول

__________________

(١) أخرجه مسلم (منافقين ، حديث ٢٤) وأبو داود (سنة ، باب ١٩) وابن ماجة (مقدمة ، باب ١٣ ؛ وزهد ، باب ٣٣) وأحمد في المسند (ج ٣ ص ٣٠٩)

(٢) في لسان العرب (أيا) : إيا الشمس وأياؤها : نورها وضوؤها وحسنها. وكذلك إياتها وأياتها ، وجمعها آياء وإياء كأكمة وإكام. وأنشد الكسائي :

سقته إياة الشمس إلا لثاته

أسفّ ولم تكدم عليه بإثمد

والشاهد في القرطبي ١ / ١٤٦.

(٣) البيت لمضرس بن ربعي في شرح شواهد الشافية ص ٤٧٦ ؛ ولطفيل الغنوي أو لمضرس في ديوان طفيل ص ١٠٢ ؛ وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ٢١٥ ؛ وسر صناعة الإعراب ٢ / ٥٥٢ ؛ وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١١٥٢ ؛ وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٢٢٣ ؛ وشرح المفصل ٨ / ١١٨ ؛ ولسان العرب (هيا ، أيا) ؛ والمحتسب (١ / ٤٠)

٤٨

والقوة والتفويض إلى الله عزوجل ، وهذا المعنى في غير آية من القرآن كما قال تعالى : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [هود : ١٢٣] ، (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) [الملك : ٢٩] ، (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمل : ٩] وكذلك هذه الآية الكريمة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وتحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب وهو مناسبة لأنه لما أثنى على الله فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى فلهذا قال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وفي هذا دليل على أن أول السورة خبر من الله تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى وإرشاد لعباده بأن يثنوا عليه بذلك ولهذا لا تصح صلاة من لم يقل ذلك وهو قادر عليه كما جاء في الصحيحين عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (١) وفي صحيح مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل إذا قال العبد (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قال الله : حمدني عبدي ، وإذا قال (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال الله : أثنى علي عبدي ، فإذا قال (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قال الله مجدني عبدي ، وإذا قال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» (٢) وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) يعني إياك نوحد ونخاف ونرجو يا ربنا لا غيرك (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) على طاعتك وعلى أمورنا كلها (٣). وقال قتادة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) يأمركم أن تخلصوا له العبادة وأن تستعينوه على أموركم. وإنما قدم (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) على (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لأن العبادة له هي المقصودة والاستعانة وسيلة إليها والاهتمام والحزم تقديم ما هو الأهم فالأهم والله أعلم. فإن قيل : فما معنى النون في قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فإن كانت للجمع فالداعي واحد وإن كانت للتعظيم فلا يناسب هذا المقام؟ وقد أجيب بأن المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد والمصلي فرد منهم ولا سيما إن كان في جماعة ، أو إمامهم فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خلقوا لأجلها وتوسط لهم بخير ، ومنهم من قال : يجوز أن تكون للتعظيم. قيل : إذا كنت داخل العبادة فأنت شريف وجاهك عريض فقل (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وإن كنت خارج العبادة فلا تقل نحن ولا فعلنا ولو كنت في مائة ألف أو ألف ألف لاحتياج الجميع إلى الله عزوجل وفقرهم إليه. ومنهم من قال : إياك نعبد ألطف في التواضع من إياك عبدنا لما في الثاني من تعظيم نفسه من جعله نفسه وحده أهلا

__________________

(١) البخاري (توحيد ، باب ٤٨) ومسلم (صلاة ، حديث ٣٤)

(٢) صحيح مسلم ، صلاة ، حديث ٣٨ و ٤٠.

(٣) أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (الدر المنثور ١ / ٣٩)

٤٩

لعبادة الله تعالى الذي لا يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته ولا يثني عليه كما يليق به ، والعبادة مقام عظيم يشرف به العبد لانتسابه إلى جناب الله تعالى كما قال بعضهم : [السريع]

لا تدعني إلا بيا عبدها

فإنه أشرف أسمائي

وقد سمى الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعبده في أشرف مقاماته فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) [الكهف : ١] (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) [الجن : ١٩] ، (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) [الإسراء : ١] فسماه عبدا عند إنزاله عليه وعند قيامه في الدعوة وإسرائه به وأرشده إلى القيام بالعبادة في أوقات يضيق صدره من تكذيب المخالفين حيث يقول : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٧ ـ ٩٩] وقد حكى الرازي في تفسيره عن بعضهم أن مقام العبودية أشرف من مقام الرسالة لكون العبادة تصدر من الخلق إلى الحق والرسالة من الحق إلى الخلق ، قال : ولأن الله يتولى مصالح عبده والرسول يتولى مصالح أمته ، وهذا القول خطأ والتوجيه أيضا ضعيف لا حاصل له ولم يتعرض له الرازي بتضعيف ولا رد ، وقال بعض الصوفية : العبادة إما لتحصيل ثواب أو درء عقاب ، قالوا : وهذا ليس بطائل إذ مقصوده تحصيل مقصوده ، وإما للتشريف بتكاليف الله تعالى وهذا أيضا عندهم ضعيف ، بل العالي أن يعبد الله لذاته المقدسة الموصوفة بالكمال ، قالوا : ولهذا يقول المصلي : أصلي لله ، ولو كان لتحصيل الثواب ودرء العقاب لبطلت الصلاة وقد رد ذلك عليهم آخرون وقالوا : كون العبادة لله عزوجل لا ينافي أن يطلب معها ثوابا ولا أن يدفع عذابا كما قال ذلك الأعرابي : أما أني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ إنما أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حولها ندندن» (١).

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٦)

قراءة الجمهور بالصاد وقرئ السراط وقرئ بالزاي ، قال الفراء : وهي لغة بني عذرة وبني كلب. لما تقدم الثناء على المسؤول تبارك وتعالى ناسب أن يعقب بالسؤال كما قال : «فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل» وهذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسؤوله ثم يسأل حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) لأنه أنجح للحاجة وأنجع للإجابة ، ولهذا أرشد الله إليه لأنه الأكمل ، وقد يكون السؤال بالإخبار عن حال السائل واحتياجه كما قال موسى عليه‌السلام (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص : ٢٤] وقد يتقدمه مع ذلك وصف المسؤول كقول ذي النون (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وقد يكون بمجرد الثناء على المسؤول كقول الشاعر : [الوافر]

__________________

(١) الحديث أخرجه أحمد في المسند (ج ٥ ص ٣٨٦) عن بعض أصحاب النبي وأخرجه أبو داود (صلاة ، باب ١٢٤) وابن ماجة (إقامة ، باب ٤٦ ؛ ودعاء ، باب ٤)

٥٠

أأذكر حاجتي أم قد كفاني

حياؤك إن شيمتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يوما

كفاه من تعرضه الثناء

والهداية هاهنا الإرشاد والتوفيق ، وقد تعدى الهداية بنفسها كما هنا (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) فتضمن معنى ألهمنا أو وفقنا أو ارزقنا أو أعطنا (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد : ١٠] أي بينا له الخير والشر ، وقد تعدى بإلى كقوله تعالى : (اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل : ١٢١] (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٢٣] وذلك بمعنى الإرشاد والدلالة وكذلك قوله (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢] وقد تعدى باللام كقول أهل الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) [الأعراف : ٤٣] أي وفقنا لهذا وجعلنا له أهلا.

وأما الصراط المستقيم فقال الإمام أبو جعفر بن جرير (١) : أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعا على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه وكذلك في لغة جميع العرب ، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخطفي : [الوافر]

أمير المؤمنين على صراط

إذا اعوج الموارد مستقيم (٢)

قال : والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر. قال : ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول وعمل وصف باستقامة أو اعوجاج فتصف المستقيم باستقامته والمعوج باعوجاجه. ثم اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير الصراط ، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد وهو المتابعة لله وللرسول ، فروي أنه كتاب الله ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة حدثني يحيى بن يمان عن حمزة الزيات عن سعد وهو أبو المختار الطائي عن ابن أخي الحارث الأعور عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الصراط المستقيم كتاب الله» وكذلك رواه ابن جرير (٣) من حديث حمزة بن حبيب الزيات. وقد تقدم في فضائل القرآن فيما رواه أحمد والترمذي (٤) من رواية الحارث الأعور عن علي مرفوعا «وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم» وقد روي هذا موقوفا عن علي رضي الله عنه وهو أشبه والله أعلم. وقال الثوري عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله قال : الصراط المستقيم كتاب الله ، وقيل هو الإسلام. قال الضحاك عن ابن عباس قال : قال جبريل لمحمدعليهما‌السلام «قل يا محمد اهدنا الصراط المستقيم» يقول : اهدنا الطريق الهادي وهو

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ١٠٣.

(٢) البيت لجرير في ديوانه ص ٢١٨ ؛ وتهذيب اللغة ١٢ / ٣٣٠ ؛ وتاج العروس (ورد) ؛ وجمهرة اللغة ص ٧١٤ ؛ ومقاييس اللغة ٦ / ١٠٥ ؛ وأساس البلاغة (ورد) ؛ ولسان العرب (ورد ، سرط) ؛ ومجمل اللغة ٤ / ٥٢٢.

(٣) تفسير الطبري ١ / ١٠٤.

(٤) الترمذي ، ثواب القرآن ، باب ١٤.

٥١

دين الله الذي لا اعوجاج فيه. وقال ميمون بن مهران عن ابن عباس في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال : ذاك الإسلام. وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اهدنا الصراط المستقيم قالوا : هو الإسلام. وقال عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر اهدنا الصراط المستقيم قال : هو الإسلام قال : هو أوسع مما بين السماء والأرض. وقال ابن الحنفية في قوله تعالى (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال : هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : اهدنا الصراط المستقيم قال : هو الإسلام. وفي هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده (١) حيث قال : حدثنا الحسن بن سوار أبو العلاء حدثنا ليث يعني ابن سعد عن معاوية بن صالح أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه عن أبيه عن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا (٢) ، وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه ـ فإنك إن تفتحه تلجه ـ فالصراط الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم» وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث الليث بن سعد به. ورواه الترمذي والنسائي جميعا عن علي بن حجر عن بقية عن بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان به ، وهو إسناد حسن صحيح والله أعلم. وقال مجاهد : اهدنا الصراط المستقيم قال : الحق. وهذا أشمل ولا منافاة بينه وبين ما تقدم. وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم ، حدثنا حمزة بن المغيرة عن عاصم الأحول عن أبي العالية (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) قال هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحباه من بعده. قال عاصم فذكرنا ذلك للحسن فقال صدق أبو العالية ونصح (٣). وكل هذه الأقوال صحيحة وهي متلازمة فإن من اتبع الإسلام فقد اتبع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقتدى باللذين من بعده أبي بكر وعمر فقد اتبع الحق ومن اتبع الحق فقد اتبع الإسلام ومن اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن وهو كتاب الله وحبله المتين وصراطه المستقيم ، فكلها صحيحة يصدق بعضها بعضا ، ولله الحمد. وقال الطبراني حدثنا محمد بن الفضل السقطي حدثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال : الصراط المستقيم الذي تركنا عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولهذا قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه‌الله : والذي

__________________

(١) المسند ج ٦ ص ١٩٩.

(٢) في المسند «ولا تتفرّجوا» ،

(٣) تفسير الطبري ١ / ١٠٥.

٥٢

هو أولى بتأويل هذه الآية عندي أعني ـ اهدنا الصراط المستقيم ـ أن يكون معنيا به : وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل ذلك هو الصراط المستقيم لأن من وفق لما وفق له من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فقد وفق للإسلام وتصديق الرسل والتمسك بالكتاب والعمل بما أمره الله به والانزجار عما زجره عنه واتباع منهاج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنهاج الخلفاء الأربعة ، وكل عبد صالح وكل ذلك من الصراط المستقيم (١).

فإن قيل فكيف يسأل المؤمن الهداية في كل وقت من صلاة وغيرها وهو متصف بذلك؟ فهل هذا من باب تحصيل الحاصل أم لا؟

فالجواب أن لا ، ولو لا احتياجه ليلا ونهارا إلى سؤال الهداية لما أرشده الله تعالى إلى ذلك ، فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية ورسوخه فيها وتبصره وازدياده منها واستمراره عليها فإن العبد لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونة والثبات والتوفيق ، فالسعيد من وفقه الله تعالى لسؤاله فإنه قد تكفل بإجابة الداعي إذا دعاه ولا سيما المضطر المحتاج المفتقر إليه آناء الليل وأطراف النهار ، وقد قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) [النساء : ١٣٦] فقد أمر الذين آمنوا بالإيمان وليس ذلك من باب تحصيل الحاصل لأن المراد الثبات والاستمرار والمداومة على الأعمال المعينة على ذلك والله أعلم. وقال تعالى آمرا لعباده المؤمنين أن يقولوا : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران : ٨] وقد كان الصديق رضي الله عنه يقرأ بهذه الآية في الركعة الثالثة من صلاة المغرب بعد الفاتحة سرا ، فمعنى قوله تعالى (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) استمر بنا عليه ولا تعدل بنا إلى غيره.

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (٧)

قد تقدم الحديث فيما إذا قال العبد (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إلى آخرها أن الله يقول «هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» وقوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) مفسر للصراط المستقيم وهو بدل منه عند النحاة ويجوز أن يكون عطف بيان والله أعلم. والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في سورة النساء حيث قال تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً. ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) [النساء : ٦٩ ـ ٧٠] وقال الضحاك عن ابن عباس : صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك من ملائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين. وذلك نظير

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ١٠٤.

٥٣

ما قال ربنا تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) الآية. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) قال : هم النبيّون ، وقال ابن جريج عن ابن عباس : هم المؤمنون ، وكذا قال مجاهد وقال وكيع : هم المسلمون ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه ، والتفسير المتقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما أعم وأشمل والله أعلم.

وقوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) قرأ الجمهور (غير) بالجر على النعت ، قال الزمخشري : وقرئ بالنصب على الحال ، وهي قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعمر بن الخطاب ، ورويت عن ابن كثير (١) وذو الحال الضمير في عليهم والعامل أنعمت والمعنى : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره غير صراط المغضوب عليهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق. وأكد الكلام بلا ليدل على أن ثمّ مسلكين فاسدين وهما طريقتا اليهود والنصارى ، وقد زعم بعض النحاة أن غير هاهنا استثنائية فيكون على هذا منقطعا لاستثنائهم من المنعم عليهم وليسوا منهم ، وما أوردناه أولى لقول الشاعر : [الوافر]

كأنك من جمال بني أقيش

يقعقع عند رجليه بشنّ (٢)

أي كأنك جمل من جمال بني أقيش فحذف الموصوف واكتفى بالصفة ، وهكذا. غير المغضوب عليهم ، أي غير صراط المغضوب عليهم. واكتفى بالمضاف إليه عن ذكر المضاف ، وقد دل سياق الكلام وهو قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ثم قال تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ومنهم من زعم أن لا في قوله تعالى (وَلَا الضَّالِّينَ) زائدة وأن تقدير الكلام عنده : غير المغضوب عليهم والضالين واستشهد ببيت العجاج : [الرجز]

في بئر لا حور سرى وما شعر (٣)

__________________

(١) هو عبد الله بن كثير ، القارئ المتوفى سنة ١٢٠ ه‍.

(٢) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص ١٢٦ ؛ وخزانة الأدب ٥ / ٦٧ ؛ وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٥٨ ؛ وشرح المفصل ٣ / ٥٩ ؛ والكتاب ٢ / ٣٤٥ ؛ ولسان العرب (وقش ، قعع ، شنن) ؛ والمقاصد النحوية ٤ / ٦٧.

والبيت قاله النابغة في هجاء عيينة بن حصن الفزاري يصفه بالجبن والخور كأنه جمل من جمال بني أقيش المعروفة بشدة النفار إذا سمعت صوت شنّ (قربة بالية) يقعقع به.

(٣) تتمة الرجز : «بإفكه حتى رأى الصّبح جشر». وهو للعجاج في ديوانه ٢٠ ؛ والأزهية ص ١٥٤ ؛ والأشباه النظائر ٢ / ١٦٤ ؛ وخزانة الأدب ٤ / ٥١ ؛ وشرح المفصل ٨ / ١٣٦ ؛ وتاج العروس (حور ، لا) ؛ وتهذيب اللغة ٥ / ٢٢٨ ؛ ولسان العرب (حور). قال في اللسان : أراد : في بئر لا حؤور ، فأسكن الواو الأولى وحذفها لسكونها وسكون الثانية بعدها. قاله الفراء : أراد في بئر ماء لا يحير عليه شيئا. وحار يحور حورا وحؤورا : رجع. وفي الحديث : «من دعا رجلا بالكفر وليس كذلك حار عليه» أي ـ

٥٤

أي في بئر حور ، والصحيح ما قدمناه ، ولهذا روى أبو القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن عن أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقرأ (غير المغضوب عليهم وغير الضالين) وهذا الإسناد صحيح ، وكذلك حكي عن أبي بن كعب أنه قرأ كذلك ، وهو محمول على أنه صدر منهما على وجه التفسير ، فيدل على ما قلناه من أنه إنما جيء بها لتأكيد النفي لئلا يتوهم أنه معطوف على الذين أنعمت عليهم ، وللفرق بين الطريقتين ليتجنب كل منهما فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به ، واليهود فقدوا العمل ، والنصارى فقدوا العلم ، ولهذا كان الغضب لليهود والضلال للنصارى ، لأن من علم وترك استحق الغضب خلاف من لم يعلم ، والنصارى لما كانوا قاصدين شيئا لكنهم لا يهتدون إلى طريقه لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه ، وهو اتباع الرسول الحق ، ضلوا ، وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه ، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى عنهم (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) [المائدة : ٦٠] وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [المائدة : ٧٧] وبهذا جاءت الأحاديث والآثار وذلك واضح بين فيما قال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال سمعت سماك بن حرب يقول : سمعت عباد بن حبيش يحدث عن عدي بن حاتم ، قال: جاءت خيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذوا عمتي وناسا فلما أتوا بهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صفوا له فقالت: يا رسول الله ، نأى الوافد وانقطع الولد وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة فمنّ علي منّ الله عليك ، قال «من وافدك؟» قالت عدي بن حاتم ، قال «الذي فر من الله ورسوله» قالت فمنّ علي ، فلما رجع ورجل إلى جنبه ترى أنه علي ، قال : سليه حملانا فسألته فأمر لها ، قال فأتتني فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه وأتاه فلان فأصاب منه فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان ، وذكر قربهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر ، فقال «يا عدي ما أفرك؟ أن يقال لا إله إلا الله؟ فهل من إله إلا الله؟ ما أفرك أن يقال الله أكبر فهل شيء أكبر من الله عزوجل؟» قال : فأسلمت ، فرأيت وجهه استبشر وقال : «إن المغضوب عليهم اليهود وإن الضالين النصارى» (٢) ، وذكر الحديث ورواه الترمذي من حديث سماك بن حرب (٣) ، وقال حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه : قلت : وقد رواه حماد بن سلمة عن

__________________

ـ رجع إليه ما نسب إليه.

(١) المسند ج ٧ ص ٩٨ ـ ٩٩ ،

(٢) ولهذا الحديث بقية تنظر في مظنتها المشار إليها. وعدي هذا هو ابن حاتم الطائي الجواد المشهور. كان نصرانيا وقد فرّ لما بعث النبي ، ثم رجع وأسلم سنة ٩ ه‍ وحسن إسلامه وصحبته. وقد قام في حرب الردة بأعمال كبيرة حتى قال ابن الأثير ؛ خير مولود في أرض طيء وأعظمه بركة عليهم (الأعلام ٤ / ٢٢٠)

(٣) الترمذي ، كتاب التفسير ، سورة ١٠١.

٥٥

مرّيّ بن قطريّ عن عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) قال : هم اليهود (وَلَا الضَّالِّينَ) قال : النصارى هم الضالون. وهكذا رواه سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم به ، وقد روي حديث عدي هذا من طرق وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها. وقال عبد الرزاق : وأخبرنا معمر عن بديل العقيلي أخبرني عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بوادي القرى وهو على فرسه وسأله رجل من بني القين فقال : يا رسول الله من هؤلاء؟ قال : المغضوب عليهم وأشار إلى اليهود والضالون هم النصارى. وقد رواه الجريري وعروة وخالد الحذاء عن عبد الله بن شقيق فأرسلوه ولم يذكروا من سمع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووقع في رواية عروة تسمية عبد الله بن عمر فالله أعلم. وقد روى ابن مردويه من حديث إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المغضوب عليهم قال : اليهود ، قلت : الضالين قال : النصارى. وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : غير المغضوب عليهم هم اليهود ولا الضالين هم النصارى. وقال الضحاك وابن جريج عن ابن عباس : غير المغضوب عليهم هم اليهود ولا الضالين النصارى ، وكذلك قال الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد ، وقال ابن أبي حاتم : ولا أعلم بين المفسرين في هذا اختلافا.

وشاهد ما قاله هؤلاء الأئمة من أن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون ، الحديث المتقدم ، وقوله تعالى في خطابه مع بني إسرائيل في سورة البقرة (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) [البقرة : ٩٠] وقال في المائدة (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [المائدة : ٦٠] وقال تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة : ٧٨ ـ ٧٩] وفي السيرة (١) عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف قالت له اليهود : إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله ، فقال : أنا من غضب الله أفر ، وقالت له النصارى إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سخط الله ، فقال : لا أستطيعه. فاستمر على فطرته وجانب عبادة الأوثان ودين المشركين ولم يدخل مع أحد من اليهود ولا النصارى ، وأما أصحابه فتنصروا ودخلوا في دين النصرانية لأنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذك ، وكان منهم ورقة بن نوفل حتى هداه الله بنبيه لما بعثه آمن بما وجد من الوحي رضي الله عنه.

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام ، ج ١ ص ٢٢٤ ـ ٢٣٢.

٥٦

[مسألة] والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما ، وذلك أن الضاد نخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس ، ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ولأن كلا من الحرفين من الحروف المجهورة ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك والله أعلم ، وأما حديث أنا أفصح من نطق بالضاد فلا أصل له والله أعلم.

[فصل في معاني هذه السورة]

اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات على حمد الله وتمجيده والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين وعلى إرشاده عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه والتبرؤ من حولهم وقوتهم إلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية تبارك وتعالى وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل ، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم وهو الدين القويم وتثبيتهم عليه حتى يفضي بهم بذلك إلى جواز الصراط الحسّي يوم القيامة المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصديقين والشهداء الصالحين ، واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ، وهم المغضوب عليهم والضالون. وما أحسن ما جاء إسناد الإنعام إليه في قوله تعالى (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) وحذف الفاعل في الغضب في قوله تعالى (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) وإن كان هو الفاعل لذلك في الحقيقة كما قال تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) [المجادلة : ١٤]. وكذلك إسناد الضلال إلى من قام به وإن كان هو الذي أضلهم بقدره كما قال تعالى (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [الكهف : ١٧] وقال (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأعراف : ١٨٦] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والإضلال لا كما تقول الفرقة القدرية (١) ومن حذا حذوهم من أن العباد هم الذين يختارون ذلك ويفعلون ويحتجون على بدعتهم بمتشابه من القرآن ويتركون ما يكون فيه صريحا في الرد عليهم: وهذا حال أهل الضلال والغي وقد ورد في الحديث الصحيح «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» يعني في قوله تعالى(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ

__________________

(١) القدرية : جماعة من التابعين قالوا بحرية الإرادة وقدرة الإنسان على أعماله. رددوا هذا في الشام والعراق ، وكان على رأسهم معبد الجهني وغيلان الدمشقي ، وهم ضد الجبرية. مهدوا للمعتزلة وتلاشوا فيهم. ويسمى المعتزلة أحيانا القدرية. أما الجبرية منهم طائفة ظهرت في القرن الأول الهجري وكان على رأسهم جهم بن صفوان ، ويسمون أيضا الجهمية ؛ يقولون إن الإنسان مجبر لا اختيار له ولا قدرة وأن الله قدر الأعمال أزلا وخلقها. عارضهم المعتزلة لأنهم يعطلون الجزاء ويلغون المسئولية. (انظر الموسوعة العربية الميسرة ص ٦١٢ و ١٣٧١)

٥٧

ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) [آل عمران : ٧] فليس ، بحمد الله ، لمبتدع في القرآن حجة صحيحة لأن القرآن جاء ليفصل الحق من الباطل مفرقا بين الهدى والضلال وليس فيه تناقض ولا اختلاف لأنه من عند الله تنزيل من حكيم حميد.

[فصل في التأمين]

يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها آمين ، مثل يس ، ويقال أمين بالقصر أيضا ، ومعناه : اللهم استجب. والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن وائل بن حجر قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فقال آمين مد بها صوته (١) ، ولأبي داود : رفع بها صوته ، وقال الترمذي هذا حديث حسن ، وروي عن علي وابن مسعود وغيرهم. وعن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تلا (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) قال «آمين» حتى يسمع من يليه من الصف الأول ، رواه أبو داود وابن ماجة وزاد فيه : فيرتج بها المسجد. والدارقطني وقال : هذا إسناد حسن. وعن بلال أنه قال : يا رسول الله لا تسبقني بآمين ، رواه أبو داود ، ونقل أبو نصر القشيري عن الحسن وجعفر الصادق أنهما شددا الميم من آمين مثل (آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) [المائدة : ٢] قال أصحابنا وغيرهم : ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلاة ، ويتأكد في حق المصلي ، وسواء كان منفردا أو إماما أو مأموما ، وفي جميع الأحوال لما جاء في الصحيحين (٢) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» ولمسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قال أحدكم في الصلاة آمين والملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه» (٣) قيل بمعنى من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الزمان ، وقيل في الإجابة ، وقيل في صفة الإخلاص. وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعا «إذا قال ـ يعني الإمام ـ ولا الضالين فقولوا آمين يجبكم الله» (٤) وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : قلت : يا رسول الله ما معنى آمين؟ قال «رب افعل» وقال الجوهري : معنى آمين كذلك فليكن. وقال الترمذي معناه : لا تخيب رجاءنا. وقال الأكثرون معناه : اللهم استجب لنا. وحكى القرطبي عن مجاهد وجعفر الصادق وهلال بن يساف أن آمين اسم من أسماء الله تعالى ، وروي عن ابن عباس مرفوعا ولا يصح ، قاله أبو بكر بن العربي المالكي. وقال أصحاب مالك : لا يؤمن الإمام ويؤمن المأموم لما رواه مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «وإذا قال ـ يعني الإمام ـ ولا الضالين فقولوا آمين» الحديث. واستأنسوا أيضا

__________________

(١) مسند أحمد ، ج ٦ ص ٤٧٣. ك

(٢) صحيح البخاري (أذان باب ١١١ ، ودعوات باب ٤) ومسلم (صلاة حديث ٧٣)

(٣) صحيح مسلم (صلاة حديث ٧٤ ـ ٧٦)

(٤) صحيح مسلم (صلاة حديث ٢٦ ، ٨٧)

٥٨

بحديث أبي موسى عند مسلم : كان يؤمن إذا قرأ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) وقد قدمنا في المتفق عليه «إذا أمن الإمام فأمنوا» وأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤمن إذا قرأ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).

وقد اختلف أصحابنا في الجهر بالتأمين للمأموم في الجهرية ، وحاصل الخلاف أن الإمام إن نسي التأمين جهر المأموم به قولا واحدا ، وإن أمن الإمام جهرا فالجديد أن لا يجهر المأموم وهو مذهب أبي حنيفة ، ورواية عن مالك : لأنه ذكر من الأذكار فلا يجهر به كسائر أذكار الصلاة ، والقديم أنه يجهر به وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل والرواية الأخرى عن مالك لما تقدم «حتى يرتج المسجد» ولنا قول آخر ثالث أنه إن كان المسجد صغيرا لم يجهر المأموم لأنهم يسمعون قراءة الإمام وإن كان كبيرا جهر ليبلغ التأمين من في أرجاء المسجد والله أعلم. وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرت عنده اليهود فقال «إنهم لن يحسدونا على شيء كما يحسدونا على الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها وعلى قولنا خلف الإمام آمين» ورواه ابن ماجة ولفظه «ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين» (١) وله عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول آمين فأكثروا من قول آمين» وفي إسناده طلحة بن عمرو (٢) وهو ضعيف ، وروى ابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «آمين خاتم رب العالمين على لسان عباده المؤمنين» (٣) وعن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أعطيت آمين في الصلاة وعند الدعاء لم يعط أحد قبلي إلا أن يكون موسى ، كان موسى يدعو وهارون يؤمن فاختموا الدعاء بآمين فإن الله يستجيبه لكم» (قلت) ومن هنا نزع بعضهم في الدلالة بهذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ. قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [يونس : ٨٨ ـ ٨٩] فذكر الدعاء عن موسى وحده ومن سياق الكلام ما يدل على أن هارون أمّن فنزل منزلة من دعا لقوله تعالى (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) فدل ذلك على أن من أمّن على دعاء فكأنما قاله ، فلهذا قال من قال : إن المأموم لا يقرأ لأن تأمينه على قراءة الفاتحة بمنزلة قراءتها ، ولهذا جاء في الحديث «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» رواه أحمد في مسنده (٤). وكان بلال يقول :

__________________

(١) ابن ماجة (إقامة باب ١٤)

(٢) هو طلحة بن عمرو بن عثمان الحضرمي المكي المتوفى سنة ١٥٢. من الطبقة السابعة. متروك.

(موسوعة رجال الكتب التسعة ٢ / ٢٠٦)

(٣) الدر المنثور (١ / ٤٤). قال السيوطي : بسند ضعيف.

(٤) المسند ج ٥ ص ١٠٠. رواه من حديث جابر بن عبد الله مرفوعا.

٥٩

لا تسبقني بآمين يا رسول الله. فدل هذا المنزع على أن المأموم لا قراءة عليه في الجهرية والله أعلم. ولهذا قال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن الحسن حدثنا عبد الله بن محمد بن سلام حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا جرير عن ليث عن ابن أبي سليم عن كعب عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، فقال آمين ، فوافق آمين أهل الأرض آمين أهل السماء غفر الله للعبد ما تقدم من ذنبه ، ومثل من لا يقول آمين كمثل رجل غزا مع قوم فاقترعوا فخرجت سهامهم ولم يخرج سهمه فقال لم لم يخرج سهمي؟ فقيل إنك لم تقل آمين»(١).

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (١ / ٤٤) قال : وأخرجه أبو يعلى في مسنده وابن مردويه بسند جيد عن أبي هريرة.

٦٠