تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

على أن يقربها ، فلما قالت ميمونة وعائشة : كانت إحدانا إذا حاضت اتزرت ودخلت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شعاره ، دل ذلك على أنه إنما أراد الجماع.

وقوله (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة لقوله (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) وليس له في ذلك مستند ، لأن هذا أمر بعد الحظر. وفيه أقوال لعلماء الأصول منهم من يقول إنه على الوجوب كالمطلق ، هؤلاء يحتاجون إلى جواب ابن حزم ، ومنهم من يقول : إنه للإباحة ، ويجعلون تقدم النهي عليه قرينة صارفة له من الوجوب ، وفيه نظر ، والذي ينهض عليه الدليل أنه يرد عليه الحكم إلى ما كان عليه الأمر قبل النهي ، فإن كان واجبا ، فواجب كقوله (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] أو مباحا فمباح كقوله (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢] (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) [الجمعة : ١٠] وعلى هذا القول تجتمع الأدلة ، وقد حكاه الغزالي وغيره ، فاختاره بعض أئمة المتأخرين وهو الصحيح ، وقد اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم إن تعذر ذلك عليها بشرطه ، إلا أن أبا حنيفة رحمه‌الله يقول ، فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض وهو عشرة أيام عنده : أنها تحل بمجرد الانقطاع ولا تفتقر إلى غسل ، والله أعلم ، وقال ابن عباس (حَتَّى يَطْهُرْنَ) أي من الدم (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) أي بالماء ، وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن ومقاتل بن حيان والليث بن سعد وغيرهم.

وقوله (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : يعني الفرج. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) يقول : في الفرج ولا تعدوه إلى غيره ، فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى. وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) أي تعتزلوهن ، وفيه دلالة حينئذ على تحريم الوطء في الدبر ، كما سيأتي تقريره قريبا إن شاء الله تعالى. وقال أبو رزين وعكرمة والضحاك وغير واحد (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) يعني طاهرات غير حيّض ، ولهذا قال (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) أي من الذنب وإن تكرر غشيانه (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) أي المتنزهين عن الأقذار والأذى ، وهو ما نهوا عنه من إتيان الحائض أو في غير المأتي.

وقوله (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) قال ابن عباس : الحرث موضع الولد (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أي كيف شئتم ، قال : سمعت جابرا قال : كانت اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول ، فنزلت (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) ورواه مسلم وأبو داود من حديث سفيان الثوري به. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني مالك بن أنس وابن جريج وسفيان بن سعيد الثوري : أن محمد بن المنكدر حدثهم : أن جابر بن عبد الله أخبره أن اليهود قالوا للمسلمين : من أتى امرأة وهي مدبرة جاء الولد أحول ،

٤٤١

فأنزل الله (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) قال ابن جريج في الحديث : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مقبلة ومدبرة إذا كان ذلك في الفرج» وفي حديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري ، عن أبيه ، عن جده ، أنه قال : يا رسول الله ، نساؤنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال «حرثك ائت حرثك أنى شئت ، غير أن لا تضرب الوجه ، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت» الحديث ، رواه أحمد وأهل السنن (١).

حديث آخر ـ قال ابن أبي حاتم حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عامر بن يحيى ، عن حنش بن عبد الله ، عن عبد الله بن عباس ، قال :

أتى ناس من حمير إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألوه عن أشياء ، فقال له رجل : إني أجب (٢) النساء فكيف ترى في؟ فأنزل الله (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) ورواه الإمام أحمد (٣) ، حدثنا يحيى بن غيلان ، حدثنا رشدين ، حدثني الحسن بن ثوبان عن عامر بن يحيى المغافري عن حنش ، عن ابن عباس ، قال : أنزلت هذه الآية (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) في أناس من الأنصار أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألوه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ائتها على كل حال إذا كان في الفرج».

حديث آخر ـ قال أبو جعفر الطحاوي في كتابه مشكل الحديث : حدثنا أحمد بن داود بن موسى ، حدثنا يعقوب بن كاسب ، حدثنا عبد الله بن نافع عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رجلا أصاب امرأة في دبرها ، فأنكر الناس عليه ذلك ، فأنزل الله (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) الآية ، ورواه ابن جرير (٤) عن يونس ، وعن يعقوب ، ورواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن الحارث بن شريح ، عن عبد الله بن نافع به.

حديث آخر ـ قال الإمام أحمد (٥) : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا عبيد الله بن عثمان بن خثيم عن عبد الله بن سابط ، قال : دخلت على حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقلت : إني لسائلك عن أمر وأنا أستحي أن أسألك ، قالت : فلا تستحي يا ابن أخي ، قال : عن إتيان النساء في أدبارهن؟ قالت : حدثتني أم سلمة أن الأنصار كانوا يجبون النساء وكانت اليهود تقول : إنه من أجبى امرأته ، كان ولده أحول ، فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار فأجبوهن ، فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت : لن تفعل ذلك حتى آتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك ، فقالت : اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، استحت الأنصارية أن تسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرجت فسألته أم سلمة ، فقال :

__________________

(١) رواه أحمد في المسند (ج ٥ ص ٣ و ٥) وأبو داود (نكاح باب ٤١)

(٢) أي أنه يأتي زوجته وهي منكبّة على وجهها.

(٣) المسند (ج ١ ص ٢٦٨)

(٤) تفسير الطبري ٢ / ٤٠٣.

(٥) المسند (ج ٦ ص ٣٠٥)

٤٤٢

ادعي «الأنصارية» فدعتها ، فتلا عليها هذه الآية (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) «صماما واحدا». ورواه الترمذي عن بندار ، عن ابن مهدي ، عن سفيان ، عن أبي خثيم به ، وقال حسن. (قلت) وقد روي من طريق حماد بن أبي حنيفة عن أبيه ، عن ابن خثيم ، عن يوسف بن ماهك ، عن حفصة أم المؤمنين ان امرأة أتتها ، فقالت : إن زوجي يأتيني مجبية ومستقبلة فكرهته ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال «لا بأس إذا كان في صمام واحد».

حديث آخر ـ قال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن ، حدثنا يعقوب يعني القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : جاء عمر بن الخطاب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله هلكت ، قال ما الذي أهلكك؟ قال : حولت رحلي (٢) البارحة ، قال ، فلم يرد عليه شيئا. قال : فأوحى الله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) «أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة». ورواه الترمذي عن عبد بن حميد ، عن حسن بن موسى الأشيب به ، وقال : حسن غريب.

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا الحارث بن شريح ، حدثنا عبد الله بن نافع ، حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد ، قال : أثفر (٣) رجل امرأته على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أثفر فلان امرأته ، فأنزل الله عزوجل : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).

قال أبو داود : حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ ، قال : حدثني محمد يعني ابن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح ، عن مجاهد عن ابن عباس ، قال : إن ابن عمر ـ والله يغفر له ـ أو هم وإنما كان الحي من الأنصار ، وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود ، وهم أهل كتاب ، وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم ، فكانوا يقتدون كثيرا من فعلهم ، وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف وذلك أستر ما تكون المرأة ، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم ، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا ، ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات ، فلما قدم المهاجرون المدينة ، تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار ، فذهب يصنع بها ذلك ، فأنكرته عليه ، وقالت : إنما كنا نؤتى على حرف ، فأصنع ذلك ، وإلا فاجتنبني ، فسرى أمرهما فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات يعني بذلك موضوع الولد ، تفرد به أبو داود ، ويشهد له بالصحة ما تقدم له من الأحاديث ولا سيما رواية أم سلمة ، فإنها مشابهة لهذا السياق.

__________________

(١) المسند (ج ١ ص ٢٩٧)

(٢) كناية عن إتيانه زوجته مدبرة.

(٣) أثفره : ساقه من ورائه (أساس البلاغة : ثفر) والمراد أنه أتى امرأته من وراء.

٤٤٣

وقد روى هذا الحديث الحافظ أبو القاسم الطبراني من طريق محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح ، عن مجاهد ، قال ، عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته ، أوقفه عند كل آية منه ، وأسأله عنها ، حتى انتهيت إلى هذه الآية (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فقال ابن عباس : إن هذا الحي من قريش كانوا يشرحون (١) النساء بمكة ويتلذذون بهن ، فذكر القصة بتمام سياقها ، وقول ابن عباس إن ابن عمر ـ والله يغفر له ـ أو هم ، كأنه يشير إلى ما رواه البخاري : حدثنا إسحاق حدثنا النضر بن شميل ، أخبرنا ابن عون عن نافع ، قال ، كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه ، فأخذت عنه يوما فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان قال : أتدري فيم أنزلت؟ قلت : لا. قال : أنزلت في كذا وكذا ، ثم مضى ، وعن عبد الصمد قال ، حدثني أبي ، حدثنا أيوب عن نافع ، عن ابن عمر (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) قال : أن يأتيها في ... هكذا رواه البخاري ، وقد تفرد به من هذا الوجه.

وقال ابن جرير (٢) ، حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية حدثنا ابن عون عن نافع ، قال قرأت ذات يوم (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فقال ابن عمر أتدري فيم نزلت؟ قلت : لا. قال : نزلت في إتيان النساء في أدبارهن. وحدثني أبو قلابة. حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، حدثني أبي عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) قال : في الدبر. وروي من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر ولا يصح.

وروى النسائي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، عن أبي بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر ، أن رجلا أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك وجدا شديدا ، فأنزل الله (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ). قال أبو حاتم الرازي ، لو كان هذا عند زيد بن أسلم عن ابن عمر ، لما أولع الناس بنافع ، وهذا تعليل منه لهذا الحديث. وقد رواه عبد الله بن نافع عن داود بن قيس ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عمر ، فذكره.

وهذا الحديث محمول على ما تقدم وهو أنه يأتيها في قبلها من دبرها ، لما رواه النسائي عن علي بن عثمان النفيلي عن سعيد بن عيسى ، عن الفضل بن فضالة عن عبد الله بن سليمان الطويل ، عن كعب بن علقمة ، عن أبي النضر ، أنه أخبره أنه قال لنافع مولى ابن عمر ، أنه قد أكثر عليك القول ، أنك تقول عن ابن عمر أنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن ، قال : كذبوا عليّ ، ولكن سأحدثك كيف كان الأمر ، إن ابن عمر عرض المصحف يوما وأنا عنده حتى بلغ (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فقال : يا نافع ، هل تعلم من أمر هذه الآية؟ قلت : لا. قال ،

__________________

(١) شرح المرأة : أتاها مستلقية. ومنه : غطت المرأة مشرحها أي فرجها (أساس البلاغة : شرح)

(٢) تفسير الطبري ٢ / ٤٠٧.

٤٤٤

إنا كنا معشر قريش نجبي النساء ، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن مثل ما كنا نريد ، فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود إنما يؤتين على جنوبهن ، فأنزل الله (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).

وهذا إسناد صحيح ، وقد رواه ابن مردويه عن الطبراني ، عن الحسين بن إسحاق ، عن زكريا بن يحيى الكاتب العمري ، عن مفضل بن فضالة ، عن عبد الله بن عياش ، عن كعب بن علقمة ، فذكره ، وقد روينا عن ابن عمر خلاف ذلك صريحا ، وأنه لا يباح ولا يحل كما سيأتي ، وإن كان قد نسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء المدينة وغيرهم ، وعزاه بعضهم إلى الإمام مالك في كتاب السر ، وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن الإمام مالك رحمه‌الله. وقد وردت الأحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه ، فقال الحسن بن عرفة : حدثنا إسماعيل بن عياش عن سهيل بن أبي صالح ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر ، قال ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «استحيوا إن الله لا يستحي من الحق ، لا يحل أن تأتوا النساء في حشوشهن» (١). وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن عبد الله بن شداد ، عن خزيمة بن ثابت ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها.

طريق أخرى قال أحمد (٢) : حدثنا يعقوب ، سمعت أبي يحدث عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد ، أن عبيد الله بن الحصين الوالبي حدثه أن هرمي بن عبد الله الواقفي ، حدثه أن خزيمة بن ثابت الخطمي ، حدثه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «استحيوا إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن» رواه النسائي وابن ماجة من طريق عن خزيمة بن ثابت وفي إسناده اختلاف كثير.

حديث آخر قال أبو عيسى الترمذي والنسائي : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر عن الضحاك بن عثمان ، عن مخرمة بن سليمان عن كريب ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر» ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، وهكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه ، وصححه ابن حزم أيضا ، ولكن رواه النسائي أيضا عن هناد ، عن وكيع ، عن الضحاك به موقوفا. وقال عبد : أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه ، أن رجلا سأل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها ، قال :

نسألني عن الكفر ، إسناده صحيح ، وكذا رواه النسائي من طريق ابن المبارك عن معمر به نحوه ، وقال عبد أيضا في تفسيره : حدثنا إبراهيم بن الحاكم عن أبيه عن عكرمة ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس وقال : كنت آتي أهلي في دبرها ، وسمعت قول الله (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ

__________________

(١) الحشوش : الأدبار. وفي حديث آخر : نهى عن إتيان النساء في محاشّهن ، وقد روي أيضا بالسين. وفي حديث ابن مسعود : محاشّ النساء عليكم حرام. (لسان العرب : حشش)

(٢) مسند أحمد (ج ٥ ص ٢١٥)

٤٤٥

أَنَّى شِئْتُمْ) فظننت أن ذلك لي حلال ، فقال : يا لكع إنما قوله : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) قائمة وقاعدة ومقبلة ومدبرة في إقبالهن لا تعدوا ذلك إلى غيره.

حديث آخر قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا قتادة عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى» وقال عبد الله بن أحمد : حدثني هدبة ، حدثنا همام ، قال : سئل قتادة عن الذي يأتي امرأته في دبرها ، فقال قتادة : أخبرنا عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «هي اللوطية الصغرى». قال قتادة : وحدثني عقبة بن سعيد القطان عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أبي أيوب ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قوله ، وهذا أصح ، والله أعلم. وكذلك رواه عبد بن حميد عن يزيد بن هارون ، عن حميد الأعرج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو موقوفا من قوله.

طريق أخرى قال جعفر الفريابي : حدثنا ابن لهيعة عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ويقول ادخلوا النار مع الداخلين : الفاعل ، والمفعول به ، والناكح يده ، وناكح البهيمة ، وناكح المرأة في دبرها ، وجامع بين المرأة وابنتها ، والزاني بحليلة جاره ، ومؤذي جاره حتى يلعنه» ابن لهيعة وشيخه ضعيفان.

حديث آخر قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان عن عاصم ، عن عيسى بن حطان ، عن مسلم بن سلام ، عن علي بن طلق ، قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تؤتى النساء في أدبارهن ، فإن الله لا يستحي من الحق ، وأخرجه أحمد أيضا عن أبي معاوية وأبي عيسى الترمذي من طريق أبي معاوية أيضا ، عن عاصم الأحول به ، وفيه زيادة ، وقال : هو حديث حسن ، ومن الناس من يورد هذا الحديث في مسند علي بن أبي طالب كما وقع في مسند الإمام أحمد بن حنبل (٢) ، والصحيح أنه علي بن طلق.

حديث آخر قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن سهيل بن أبي صالح ، عن الحارث بن مخلد ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه». وقال أحمد أيضا حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا سهيل عن الحارث بن مخلد ، عن أبي هريرة يرفعه ، قال «لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها» ، وكذا رواه ابن ماجة من طريق سهيل وقال أحمد أيضا : حدثنا وكيع عن سهيل بن أبي صالح. عن الحارث بن مخلد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ملعون من أتى امرأته في دبرها» ، وهكذا رواه

__________________

(١) المسند (ج ٢ ص ١١٠)

(٢) المسند (ج ١ ص ٨٦)

(٣) المسند (ج ٢ ص ٣٤٤)

٤٤٦

أبو داود والنسائي من طريق وكيع به.

طريق أخرى قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني : أخبرنا أحمد بن القاسم بن الريان ، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي ، حدثنا هناد ومحمد بن إسماعيل واللفظ له ، قالا : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ملعون من أتى امرأة في دبرها» ليس هذا الحديث هكذا في سنن النسائي ، وإنما الذي فيه عن سهيل عن الحارث بن مخلد كما تقدم ، قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي : ورواية أحمد بن القاسم بن الريان هذا الحديث بهذا السند ، وهم منه وقد ضعفوه.

طريق أخرى ـ رواها مسلم بن خالد الزنجي عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «ملعون من أتى النساء في أدبارهن» ومسلم بن خالد فيه كلام ، والله أعلم.

طريق أخرى ـ رواها الإمام أحمد (١) وأهل السنن من حديث حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم ، عن أبي تميمة الهجيمي ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فصدقه ، فقد كفر بما أنزل على محمد» وقال الترمذي : ضعف البخاري هذا الحديث ، والذي قاله البخاري في حديث الترمذي عن أبي تيمية : لا يتابع على حديثه.

طريق أخرى ـ قال النسائي : حدثنا عثمان بن عبد الله ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن من كتابه عن عبد الملك بن محمد الصنعاني ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، عن أبي سلمة رضي الله عنه ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «استحيوا من الله حق الحياء لا تأتوا النساء في أدبارهن» تفرد به النسائي من هذا الوجه. قال حمزة بن محمد الكناني الحافظ : هذا حديث منكر باطل من حديث الزهري ومن حديث أبي سلمة ومن حديث سعيد فإن كان عبد الملك سمعه من سعيد ، فإنما سمعه بعد الاختلاف ، وقد رواه الترمذي عن أبي سلمة أنه كان ينهي عن ذلك ، فأما عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا ، انتهى كلامه ، وقد أجاد وأحسن الانتقاد ، إلا أن عبد الملك بن محمد الصنعاني لا يعرف أنه اختلط ، ولم يذكر ذلك أحد غير حمزة عن الكناني وهو ثقة ، ولكن تكلم فيه دحيم وأبو حاتم وابن حبان ، وقال : لا يجوز الاحتجاج به ، والله أعلم. وقد تابعه زيد بن يحيى بن عبيد عن سعيد بن عبد العزيز. وروي من طريقين آخرين عن أبي سلمة ، ولا يصح منها كل شيء.

طريق أخرى ـ قال النسائي : حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان الثوري ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة ، قال : إتيان الرجال النساء في أدبارهن كفر ، ثم رواه النسائي من طريق الثوري عن ليث ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة

__________________

(١) المسند (ج ٢ ص ٤٠٨)

٤٤٧

مرفوعا ، وكذا رواه من طريق علي بن نديمة عن مجاهد ، عن أبي هريرة موقوفا ، ورواه بكر بن خنيس عن ليث ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «من أتى شيئا من الرجال والنساء في الأدبار فقد كفر» والموقف أصح ، وبكر بن خنيس ضعفه غير واحد من الأئمة ، وتركه آخرون.

حديث آخر ـ قال محمد بن أبان البلخي : حدثنا وكيع ، حدثني زمعة بن صالح عن ابن طاوس ، عن أبيه ، وعن عمرو بن دينار ، عن عبيد الله بن يزيد بن الهاد ، قالا : قال عمر بن الخطاب : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله لا يستحي من الحق ، لا تأتوا النساء في أدبارهن» وقد رواه النسائي ، حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني عن عثمان بن اليمان عن زمعة بن صالح ، عن ابن طاوس عن أبيه ، عن ابن الهاد ، عن عمر ، قال : لا تأتوا النساء في أدبارهن وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا يزيد بن أبي حكيم عن زمعة بن صالح ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن عبد الله بن الهاد الليثي ، قال : قال عمر رضي الله عنه : استحيوا من الله فإن الله لا يستحي من الحق ، لا تأتوا النساء في أدبارهن ، والموقوف أصح.

حديث آخر ـ قال الإمام أحمد : حدثنا غندر ومعاذ بن معاذ ، قالا : حدثنا شعبة عن عاصم الأحول عن عيسى بن حطان ، عن مسلم بن سلام ، عن طلق بن يزيد أو يزيد بن طلق ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الله لا يستحي من الحق ، لا تأتوا النساء في أستاههن» وكذا رواه غير واحد عن شعبة ، ورواه عبد الرزاق عن معمر ، عن عاصم الأحول ، عن عيسى بن حطان ، عن مسلم بن سلام ، عن طلق بن علي ، والأشبه أنه علي بن طلق كما تقدم ، والله أعلم.

حديث آخر ـ قال أبو بكر الأثرم في سننه : حدثنا أبو مسلم الحرمي ، حدثنا أخو أنيس بن إبراهيم ، أن أباه إبراهيم بن عبد الرحمن بن القعقاع أخبره عن أبيه أبي القعقاع ، عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «محاش النساء حرام» وقد رواه إسماعيل بن علية وسفيان الثوري وشعبة وغيرهم عن أبي عبد الله الشقري واسمه سلمة بن تمام ثقة ، عن أبي القعقاع عن ابن مسعود موقوفا وهو أصح.

طريق أخرى ـ قال ابن عدي : حدثنا أبو عبد الله المحاملي ، حدثنا سعيد بن يحيى الثوري ، حدثنا محمد بن حمزة ، عن زيد بن رفيع ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تأتوا النساء في أعجازهن» محمد بن حمزة هو الجزري وشيخه فيهما مقال. وقد روي من حديث أبي بن كعب والبراء بن عازب وعقبة بن عامر وأبي ذر وغيرهم ، وفي كل منها مقال لا يصح معه الحديث ، والله أعلم.

وقال الثوري ، عن الصلت بن بهرام ، عن أبي المعتمر ، عن أبي جويرية ، قال : سأل رجل عليا عن إتيان المرأة في دبرها ، فقال : سفلت ، سفل الله بك ، ألم تسمع قول الله عزوجل : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٨٠]. وقد تقدم قول ابن

٤٤٨

مسعود وأبي الدرداء وأبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه يحرمه.

قال أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله الدارمي في مسنده : حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث عن الحارث بن يعقوب ، عن سعيد بن يسار أبي الحباب ، قال : قلت : لابن عمر: ما تقول في الجواري أيحمض لهن؟ قال : وما التحميض؟ فذكر الدبر ، فقال : وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين؟ وكذا رواه ابن وهب وقتيبة عن الليث به وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك. فكل ما ورد عنه مما يحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم.

قال ابن جرير (١) : حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا أبو زيد أحمد (٢) بن عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر ، حدثني عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بن أنس ، أنه قيل له : يا أبا عبد الله ، إن الناس يروون عن سالم بن عبد الله أنه قال : كذب العبد أو العلج علي أبي. فقال مالك أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر مثل ما قال نافع. فقيل له فإن الحارث بن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر فقال له يا أبا عبد الرحمن إنا نشتري الجواري أفنحمض لهن؟ فقال وما التحميض؟ فذكر له الدبر ، فقال : ابن عمر : أف أف! وهل يفعل ذلك مؤمن ، أو قال مسلم؟ فقال مالك : أشهد على ربيعة لأخبرني عن أبي الحباب عن ابن عمر مثل ما قال نافع.

وروى النسائي عن الربيع بن سليمان ، عن أصبغ بن الفرج الفقيه ، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم ، قال : قلت لمالك : إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدث عن الحارث بن يعقوب عن سعيد بن يسار قال : قلت لابن عمر إنا نشتري الجواري أفنحمض لهن؟ قال : وما التحميض؟

قلت : نأتيهن في أدبارهن فقال أف أف أو يعمل هذا مسلم فقال لي مالك فأشهد على سعيد بن يسار ، أنه سأل ابن عمر ، فقال : لا بأس به. وروى النسائي أيضا من طريق يزيد بن رومان ، عن عبيد الله بن عبد الله : أن ابن عمر كان لا يرى بأسا أن يأتي الرجل المرأة في دبرها. وروى معمر بن عيسى عن مالك أن ذلك حرام.

وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري : حدثني إسماعيل بن حسين ، حدثني إسرائيل بن روح ، سألت مالك بن أنس : ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن؟ قال : ما أنتم إلا قوم عرب ، هل يكون الحرث إلا موضع الزرع ، لا تعدوا الفرج ، قلت : يا أبا عبد الله ، إنهم يقولون إنك تقول ذلك. قال : يكذبون علي يكذبون علي ، فهذا هو الثابت عنه ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة ، وهو قول سعيد بن المسيب وأبي سلمة وعكرمة وطاوس وعطاء وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير ومجاهد بن جبر والحسن وغيرهم من السلف ، أنهم

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٤٠٧.

(٢) في الطبري : «أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر».

٤٤٩

أنكروا ذلك أشد الإنكار ، ومنهم من يطلق على فعله الكفر وهو مذهب جمهور العلماء ، وقد حكي في هذا شيء عن بعض فقهاء المدينة حتى حكوه عن الإمام مالك ، وفي صحته نظر.

قال الطحاوي : روى أصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن القاسم ، قال : ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك أنه حلال ، يعني وطء المرأة في دبرها ، ثم قرأ (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) ثم قال : فأي شيء أبين من هذا؟ هذه حكاية الطحاوي.

وقد روى الحاكم والدارقطني والخطيب البغدادي عن الإمام مالك من طرق ما يقتضي إباحة ذلك ، ولكن في الأسانيد ضعف شديد ، وقد استقصاها شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي في جزء جمعه في ذلك ، والله أعلم.

وقال الطحاوي : حكى لنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أنه سمع الشافعي يقول : ما صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء والقياس أنه حلال وقد روى ذلك أبو بكر الخطيب عن أبي سعيد الصيرفي عن أبي العباس الأصم سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم سمعت الشافعي يقول ، فذكره ، قال أبو نصر الصباغ : كان الربيع يحلف بالله لا إله إلا هو ، لقد كذب ـ يعني ابن عبد الحكم ـ على الشافعي في ذلك ، لأن الشافعي نص على تحريمه في ستة كتب من كتبه ، والله أعلم.

وقوله (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) أي من فعل الطاعات مع امتثال ما أنهاكم عنه من ترك المحرمات ، ولهذا قال (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) أي فيحاسبكم على أعمالكم جميعها (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي المطيعين الله فيما أمرهم ، التاركين ما عنه زجرهم. وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني محمد بن عبد الله بن واقد ، عن عطاء ، قال : أراه عن ابن عباس (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) قال : تقول باسم الله التسمية عند الجماع ، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله ، قال : باسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك ، لن يضره الشيطان أبدا».

(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (٢٢٥)

يقول تعالى : لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها ، كقوله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) [النور : ٢٢] فالاستمرار على اليمين آثم لصاحبها من الخروج منها بالتكفير ، كما قال

٤٥٠

البخاري (١) : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن همام بن منبه ، قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» وقال رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والله لأن يلجّ أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه» وهكذا رواه مسلم (٢) عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به ، ورواه أحمد عنه به ، ثم قال البخاري : حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا يحيى بن صالح ، حدثنا معاوية هو ابن سلام ، عن يحيى وهو ابن أبي كثير ، عن عكرمة عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من استلجّ في أهله بيمين فهو أعظم إثما ، ليس تغني الكفارة» (٣).

وقال علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) قال : لا تجعلن عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير ، وكذا قال مسروق والشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومكحول والزهري والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والضحاك وعطاء الخراساني والسدي رحمهم‌الله.

ويؤيد ما قاله هؤلاء الجمهور ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني والله إن شاء الله ، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها» وثبت فيهما أيضا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال لعبد الرحمن بن سمرة «يا عبد الرحمن بن سمرة ، لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها ، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ، إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير ، وكفر عن يمينك» وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير».

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا خليفة بن خياط ، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، فتركها كفارتها» ورواه أبو داود من طريق أبي عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ولا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ، ولا في معصية الله ، ولا في قطيعة رحم ، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليدعها وليأت الذي هو خير ، فإن تركها كفارتها» ثم قال أبو داود : والأحاديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلها

__________________

(١) صحيح البخاري (وضوء باب ٦٨ ؛ وجمعة باب ١ و ١٢ ؛ وأنبياء باب ٥٤ ؛ وأيمان باب ١ ؛ وتوحيد باب ٣٥)

(٢) صحيح مسلم (جمعة حديث ١٩ ، ٢١)

(٣) البخاري (أيمان باب ١) وابن ماجة (كفارات باب ١١) وأحمد في المسند (ج ٢ ص ٢٧٨)

(٤) مسند أحمد (ج ٣ ص ٧٦)

٤٥١

«فليكفر عن يمينه» وهي الصحاح.

وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سعيد الكندي ، حدثنا علي بن مسهر عن حارثة بن محمد ، عن عمرة ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من حلف على يمين قطيعة رحم ومعصية فبره أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه» وهذا حديث ضعيف ، ثم روى ابن جرير عن ابن عباس وسعيد بن المسيب ومسروق والشعبي أنهم قالوا : لا يمين في معصية ولا كفارة عليها.

وقوله (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) أي لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية ، وهي التي لا يقصدها الحالف بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا تأكيد ، كما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «من حلف فقال في حلفه باللات والعزى ، فليقل لا إله إلا الله» فهذا قاله لقوم حديثي عهد بجاهلية ، قد أسلموا وألسنتهم قد ألفت ما كانت عليه من الحلف باللات من غير قصد ، فأمروا أن يتلفظوا بكلمة الإخلاص كما تلفظوا بتلك الكلمة من غير قصد لتكون هذه بهذه ، ولهذا قال تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) الآية ، وفي الآية الأخرى (بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) [المائدة : ٨٩]. قال أبو داود [باب لغو اليمين] حدثنا حميد بن مسعدة الشامي ، حدثنا حيان يعني ابن إبراهيم ، حدثنا إبراهيم يعني الصائغ ، عن عطاء : في اللغو في اليمين ، قال : قالت عائشة : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته : كلا والله ، وبلى والله» ثم قال أبو داود : رواه دواد بن الفرات عن إبراهيم الصائغ ، عن عطاء عن عائشة موقوفا ، ورواه الزهري وعبد الملك ومالك بن مغول كلهم عن عطاء عن عائشة موقوفا أيضا. (قلت) وكذا رواه ابن جريج وابن ليلى عن عطاء عن عائشة موقوفا ، ورواه ابن جرير عن هناد عن وكيع وعبدة وأبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) لا والله وبلى والله ، ثم رواه عن محمد بن حميد عن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن هشام ، عن أبيه عنها ، وبه عن ابن إسحاق عن الزهري عن القاسم عنها ، وبه عن سلمة عن ابن أبي نجيح عن عطاء عنها ، وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة في قوله (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) قالت : هم القوم يتدارءون في الأمر ، فيقول هذا : لا والله ، بلى والله ، وكلا والله ، يتدارءون في الأمر لا تعقد عليه قلوبهم ، وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، حدثنا عبدة يعني ابن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة في قول الله (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) قالت : هو قول الرجل : لا والله ، وبلى والله. وحدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثني ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة ، قال : كانت عائشة تقول : إنما اللغو في المزاحة والهزل ، وهو قول الرجل : لا والله ، وبلى والله ، فذاك لا كفارة فيه ، إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله ، ثم قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عمر وابن عباس في أحد قوليه ، والشعبي وعكرمة في أحد قوليه ،

٤٥٢

وعروة بن الزبير وأبي صالح والضحاك في أحد قوليه ، وأبي قلابة والزهري نحو ذلك.

الوجه الثاني قرئ على يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني الثقة عن ابن شهاب عن عروة ، عن عائشة أنها كانت تتأول هذه الآية ، يعني قوله : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) وتقول : هو الشيء يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق فيكون على غير ما حلف عليه ، ثم قال : وروي عن أبي هريرة وابن عباس في أحد قوليه ، وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير ومجاهد في أحد قوليه ، وإبراهيم النخعي في أحد قوليه ، والحسن وزرارة بن أوفى وأبي مالك وعطاء الخراساني وبكر بن عبد الله ، وأحد قولي عكرمة وحبيب بن أبي ثابت والسدي ومكحول ومقاتل وطاوس وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن سعيد وربيع نحو ذلك.

وقال ابن جرير (١) حدثنا محمد بن موسى الحرشي ، حدثنا عبد الله بن ميمون المرادي ، حدثنا عوف الأعرابي عن الحسن بن أبي الحسن قال : مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوم ينتضلون ، يعني يرمون ، ومع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من أصحابه ، فقام رجل من القوم فقال : أصبت والله ، وأخطأت والله ، فقال الذي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حنث الرجل يا رسول الله ، قال «كلا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة» هذا مرسل حسن عن الحسن.

وقال ابن أبي حاتم : وروي عن عائشة القولان جميعا ، حدثنا عصام بن رواد ، أنبأنا آدم ، حدثنا شيبان عن جابر ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن عائشة ، قالت : هو قوله : لا والله ، وبلى والله ، وهو يرى أنه صادق ولا يكون كذلك.

أقوال أخرى ـ قال عبد الرزاق (٢) ، عن هشيم عن مغيرة ، عن إبراهيم : هو الرجل يحلف على الشيء ثم ينساه. وقال زيد بن أسلم (٣) : هو قول الرجل أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا ، أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدا ، فهو هذا. قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا مسدد بن خالد ، حدثنا خالد ، حدثنا عطاء عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان. وأخبرني أبي : حدثنا أبو الجماهر ، حدثنا سعيد بن بشير ، حدثني أبو بشر عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله لك فذلك ما ليس عليك فيه كفارة ، وكذا روي عن سعيد بن جبير. وقال أبو داود [باب اليمين في الغضب] حدثنا محمد بن المنهال ، أنبأنا يزيد بن زريع ، حدثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب ، عن سعيد بن المسيب : أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث ، فسأل أحدهما صاحبه القسمة ، فقال : إن عدت تسألني عن القسمة فكل ما لي في رتاج الكعبة ، فقال له عمر : إن الكعبة غنية عن مالك ، كفر عن يمينك ، وكلم أخاك ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يمين عليك ولا نذر في معصية

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٤٢٤.

(٢) تفسير الطبري ٢ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥.

٤٥٣

الرب عزوجل ، ولا في قطيعة الرحم ، ولا فيما لا تملك».

وقوله (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب ، قال مجاهد وغيره ، وهي كقوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) [المائدة : ٨٩]. (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي غفور لعباده حليم عليهم.

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٢٧)

الإيلاء الحلف ، فإذا حلف الرجل أن لا يجامع زوجته مدة ، فلا يخلو إما أن يكون أقل من أربعة أشهر أو أكثر منها ، فإن كانت أقل ، فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم يجامع امرأته ، وعليها أن تصبر وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة ، وهذا كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، آلى من نسائه شهرا فنزل لتسع وعشرين ، وقال «الشهر تسع وعشرون» ولهما عن عمر بن الخطاب نحوه ، فأما إن زادت المدة على أربعة أشهر فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر ، إما أن يفيء أي يجامع ، وإما أن يطلق فيجبره الحاكم على هذا ، وهذا لئلا يضر بها ، ولهذا قال تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) أي يحلفون على ترك الجماع عن نسائهم ، فيه دلالة على أن الإيلاء يختص بالزوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) أي ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف ، ثم يوقف ويطالب بالفيئة أو الطلاق ، ولهذا قال (فَإِنْ فاؤُ) أي رجعوا إلى ما كانوا عليه وهو كناية عن الجماع ، قاله ابن عباس ومسروق والشعبي وسعيد بن جبير وغير واحد ومنهم ابن جرير رحمه‌الله (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين.

قوله (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيه دلالة لأحد قولي العلماء ، وهو القديم عن الشافعي أن المولى إذا فاء بعد الأربعة الأشهر أنه لا كفارة عليه ، ويعتضد بما تقدم في الحديث عند الآية التي قبلها عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، فتركها كفارتها» كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، والذي عليه الجمهور وهو الجديد من مذهب الشافعي أن عليه التكفير لعموم وجوب التكفير على كل حالف ، كما تقدم أيضا في الأحاديث الصحاح ، والله أعلم.

وقوله (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) فيه دلالة على أن الطلاق لا يقع بمجرد مضي الأربعة أشهر ، كقول الجمهور من المتأخرين ، وذهب آخرون إلى أنه يقع بمضي أربعة أشهر تطليقة ، وهو مروي بأسانيد صحيحة عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت ، وبه يقول ابن سيرين ومسروق والقاسم وسالم والحسن وأبو سلمة وقتادة وشريح القاضي وقبيصة بن

٤٥٤

ذؤيب وعطاء وأبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن طرخان التيمي وإبراهيم النخعي والربيع بن أنس والسدي ، ثم قيل : إنها تطلق بمضي الأربعة أشهر طلقة رجعية ، قاله سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ومكحول وربيعة والزهري ومروان بن الحكم ، وقيل : إنها تطلق طلقة بائنة ، روي عن علي وابن مسعود وعثمان وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت ، وبه يقول عطاء وجابر بن زيد ومسروق وعكرمة والحسن وابن سيرين ومحمد بن الحنفية وإبراهيم وقبيصة بن ذؤيب وأبو حنيفة والثوري والحسن بن صالح ، فكل من قال : إنها تطلق بمضي الأربعة أشهر أوجب عليها العدة ، إلا ما روي عن ابن عباس وأبي الشعثاء : أنها إن كانت حاضت ثلاث حيض فلا عدة عليها ، وهو قول الشافعي ، والذي عليه الجمهور من المتأخرين أن يوقف فيطالب إما بهذا وإما بهذا ولا يقع عليها بمجرد مضيها طلاق ، وروى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال : إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليه طلاق وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف ، فإما أن يطلق وإما أن يفيء ، وأخرجه البخاري.

وقال الشافعي رحمه‌الله : أخبرنا سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يسار ، قال : أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلهم يوقف المولي ، قال الشافعي : وأقل ذلك ثلاثة عشر ، ورواه الشافعي عن علي رضي الله عنه أنه يوقف المولي ، ثم قال : وهكذا نقول ، وهو موافق لما رويناه عن عمر وابن عمر وعائشة وعثمان وزيد بن ثابت وبضعة عشر من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هكذا قال الشافعي رحمه‌الله.

قال ابن جرير : حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن عمر ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، قال : سألت اثني عشر رجلا من الصحابة عن الرجل يولي من امرأته ، فكلهم يقول : ليس عليه شيء حتى تمضي الأربعة أشهر فيوقف ، فإن فاء وإلا طلق ، ورواه الدارقطني من طريق سهيل.

(قلت) وهو يروى عن عمر وعثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة أم المؤمنين وابن عمر وابن عباس ، وبه يقول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وطاوس ومحمد بن كعب والقاسم ، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم رحمهم‌الله ، وهو اختيار ابن جرير أيضا ، وهو قول الليث وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وأبي ثور وداود ، وكل هؤلاء قالوا : إن لم يفيء ألزم بالطلاق ، فإن لم يطلق طلق عليه الحاكم ، والطلقة تكون رجعية ، لها رجعتها في العدة ، وانفرد مالك بأن قال ، لا يجوز له رجعتها حتى يجامعها في العدة وهذا غريب جدا.

قد ذكر الفقهاء وغيرهم في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر ، الأثر الذي رواه الإمام مالك بن أنس رحمه‌الله في الموطأ ، عن عبد الله بن دينار ، قال : خرج عمر بن الخطاب من الليل ، فسمع امرأة تقول : [الطويل]

تطاول هذا الليل واسود جانبه

وأرقني أن لا خليل ألاعبه

٤٥٥

فو الله لو لا الله أني أراقبه

لحرّك من هذا السرير جوانبه (١)

فسأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنها : كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت : ستة أشهر أو أربعة أشهر ، فقال عمر : لا أحبس أحدا من الجيوش أكثر من ذلك وقال محمد بن إسحاق ، عن السائب بن جبير مولى ابن عباس وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : ما زلت أسمع حديث عمر أنه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة ، وكان يفعل ذلك كثيرا إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة بابها ، تقول :

تطاول هذا الليل وازور جانبه

وأرّقني أن لا ضجيع ألاعبه

ألاعبه طورا وطورا كأنما

بدا قمرا في ظلمة الليل حاجبه

يسر به من كان يلهو بقربه

لطيف الحشا لا يحتويه أقاربه

فو الله لو لا الله لا شيء غيره

لنقض من هذا السرير جوانبه

ولكنني أخشى رقيبا موكلا

بأنفاسنا لا يفتر الدهر كاتبه

مخافة ربي والحياء يصدني

وإكرام بعلي أن تنال مراكبه

ثم ذكر بقية ذلك ، كما تقدم أو نحوه ، وقد روي هذا من طرق وهو من المشهورات.

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٢٨)

هذا أمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء ، بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، أي بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ، ثم تتزوج إن شاءت ، وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمة إذا طلقت ، فإنها تعتد عندهم بقرأين لأنها على نصف من الحرة ، والقرء لا يتبعض فكمل لها قرآن ، ولما رواه ابن جرير عن مظاهر بن أسلم المخزومي المدني ، عن القاسم ، عن عائشة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «طلاق الأمة تطليقتان ، وعدتها حيضتان» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة ، ولكن مظاهر هذا ضعيف بالكلية ، وقال الحافظ الدار قطني وغيره : الصحيح أنه من قول القاسم بن محمد نفسه ، ورواه ابن ماجة من طريق عطية العوفي عن ابن عمر مرفوعا ، قال الدارقطني : والصحيح ما رواه سالم ونافع عن ابن عمر قوله ، وهكذا روي عن عمر بن الخطاب. قالوا : ولم يعرف بين الصحابة

__________________

(١) البيت الأول منسوب لأم الحجاج بن يوسف في تاج العروس (زعزع) ؛ وهو بلا نسبة في لسان العرب (أسس ، زعع ، وصل ، وجه). والبيت الثاني بلا نسبة في خزانة الأدب ١٠ / ٣٣٣ ؛ ورصف المباني ص ٢٤١ ؛ وسر صناعة الإعراب ص ٣٩٤ ؛ وشرح شواهد المغني ص ٦٦٨.

٤٥٦

خلاف ، وقال بعض السلف : بل عدتها كعدة الحرة لعموم الآية ، ولأن هذا أمر جبلي ، فكان الحرائر والإماء في هذا سواء ، حكى هذا القول الشيخ أبو عمر بن عبد البر ، عن محمد بن سيرين وبعض أهل الظاهر وضعفه. وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل ، يعني ابن عياش ، عن عمرو بن مهاجر ، عن أبيه ، أن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية ، قالت : طلقت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يكن للمطلقة عدة ، فأنزل الله عزوجل حين طلقت أسماء العدة للطلاق ، فكانت من هذا الوجه فيها العدة للطلاق يعني (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ، وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقراء ما هو على قولين : [أحدهما] أن المراد بها الأطهار ، وقال مالك في الموطأ (١) عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أنها انتقلت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة ، فذكر ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن ، فقالت : صدق عروة ، وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا : إن الله تعالى يقول في كتابه (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ). فقالت عائشة : صدقتم ، وتدرون ما الأقراء؟ إنما الأقراء الأطهار. وقال مالك (٢) ، عن ابن شهاب : سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول : ما أدركت أحدا من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك ، يريد قول عائشة. وقال مالك (٣) عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أنه كان يقول : إذا طلق الرجل امرأته ، فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرىء منها ، وقال مالك : وهو الأمر عندنا.

وروي مثله عن ابن عباس وزيد بن ثابت وسالم والقاسم وعروة وسليمان بن يسار ، وأبي بكر بن عبد الرحمن وأبان بن عثمان وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري وبقية الفقهاء السبعة وهو مذهب مالك والشافعي وغير واحد وداود وأبي ثور ، وهو رواية عن أحمد واستدلوا عليه بقوله تعالى: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي في الأطهار ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسبا ، دل على أنه أحد الأقراء الثلاثة المأمور بها ولهذا قال هؤلاء : إن المعتدة تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة ، وأقل مدة تصدق فيها المرأة في انقضاء عدتها اثنان وثلاثون يوما ولحظتان ، واستشهد أبو عبيد وغيره على ذلك بقول الشاعر وهو الأعشى : [الطويل]

ففي كل عام أنت جاشم غزوة

تشد لأقصاها عزيم عزائكا

مورثة مالا وفي الذكر رفعة

لما ضاع فيها من قروء نسائكا (٤)

يمدح أميرا (٥) من أمراء العرب آثر الغزو على المقام ، حتى ضاعت أيام الطهر من نسائه لم

__________________

(١) الموطأ (طلاق حديث ٥٤)

(٢) الموطأ (طلاق حديث ٥٥)

(٣) الموطأ (طلاق حديث ٥٨)

(٤) البيتان للأعشى في ديوانه ص ١٤١ ؛ ولسان العرب (غزا) ؛ والطبري ٢ / ٤٥٨ ؛ ومجاز القرآن ١ / ٧٤.

(٥) هو هوذة بن علي الحنفي.

٤٥٧

يواقعهن فيه. [والقول الثاني] ـ أن المراد بالأقراء ، الحيض ، فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة ، زاد آخرون : وتغتسل منها ، وأقل وقت تصدق فيه المرأة في انقضاء عدتها ثلاثة وثلاثون يوما ولحظة ، قال الثوري : عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال : كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجاءته امرأة فقالت : إن زوجي فارقني بواحدة أو اثنتين فجاءني وقد نزعت ثيابي وأغلقت بابي ، فقال عمر لعبد الله بن مسعود : أراها امرأته ما دون أن تحل لها الصلاة قال : وأنا أرى ذلك ، وهكذا روي عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك وابن مسعود ومعاذ ، وأبي بن كعب وأبي موسى الأشعري وابن عباس وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وإبراهيم ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير وعكرمة ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة والشعبي والربيع ومقاتل بن حيان والسدي ومكحول والضحاك وعطاء الخراساني أنهم قالوا : الأقراء الحيض.

وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأصح الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل ، وحكى عنه الأثرم أنه قال : الأكابر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : الأقراء الحيض ، وهو مذهب الثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن بن صالح بن حي وأبي عبيد وإسحاق بن راهويه.

ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي من طريق المنذر بن المغيرة عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لها «دعي الصلاة أيام أقرائك» فهذا لو صح لكان صريحا في أن القرء هو الحيض ، ولكن المنذر هذا قال فيه أبو حاتم : مجهول ليس بمشهور وذكره ابن حبان في الثقات.

وقال ابن جرير : أصل القرء في كلام العرب : الوقت لمجيىء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم. وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركا بين هذا وهذا ، وقد ذهب إليه بعض الأصوليين ، والله أعلم. وهذا قول الأصمعي أن القرء هو الوقت. وقال أبو عمرو بن العلاء : العرب تسمي الحيض قرء ، وتسمي الطهر قرءا وتسمي الطهر والحيض جميعا قرءا. وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أن القرء يراد به الحيض ، ويراد به الطهر ، وإنما اختلفوا في المراد من الآية ما هو على قولين.

وقوله : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) أي من حبل أو حيض ، قاله ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي والحكم بن عيينة والربيع بن أنس والضحاك وغير واحد ، وقوله : (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) تهديد لهن على خلاف الحق ، دل هذا على أن المرجع في هذا إليهن لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن ويتعذر إقامة البينة غالبا على ذلك ، فرد الأمر إليهن وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق ، إما استعجالا منها لانقضاء العدة أو رغبة منها في تطويلها لما لها في ذلك من المقاصد ، فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة ولا نقصان.

٤٥٨

وقوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) أي وزوجها الذي طلقها أحق بردها ، ما دامت في عدتها ، إذا كان مراده بردها الإصلاح والخير ، وهذا في الرجعيات ، فأما المطلقات البوائن ، فلم يكن حال نزول هذه الآية مطلقة بائن ، وإنما كان ذلك لما حصروا في الطلقات الثلاث ، فأما حال نزول هذه الآية ، فكان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ، فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث تطليقات ، صار للناس مطلقة بائن ، وغير بائن. وإذا تأملت هذا ، تبين لك ضعف ما سلكه بعض الأصوليين من استشهادهم على مسألة عود الضمير ، هل يكون مخصصا لما تقدمه من لفظ العموم أم لا بهذه الآية الكريمة ، فإن التمثيل بها غير مطابق لما ذكروه ، الله أعلم.

وقوله (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن ، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ، ما يجب عليه بالمعروف ، كما ثبت في صحيح مسلم (١) عن جابر ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال في خطبته في حجة الوداع «فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف» وفي حديث بهز بن حكيم عن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال : يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا؟ قال «أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسبت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت» وقال وكيع ، عن بشير بن سليمان ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة ، لأن الله يقول (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، وقوله (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) أي في الفضيلة في الخلق والخلق والمنزلة وطاعة الأمر والإنفاق والقيام بالمصالح والفضل في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) [النساء : ٣٤].

وقوله (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره ، حكيم في أمره وشرعه وقدره.

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٢٣٠)

__________________

(١) صحيح مسلم (حج حديث ١٤٧) وأخرجه أبو داود (مناسك باب ٥٦) وابن ماجة (مناسك باب ٨٤) وأحمد في المسند (ج ٥ ص ٧٣)

٤٥٩

هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة ، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله إلى ثلاث طلقات ، وأباح الرجعة في المرة والثنتين ، وأبانها بالكلية في الثالثة ، فقال (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) قال أبو داود رحمه‌الله في سننه [باب نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث]. حدثنا أحمد بن محمد المروزي ، حدثني علي بن الحسين بن واقد عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) الآية ، ودل أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا ، فنسخ ذلك فقال (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) الآية ، ورواه النسائي عن زكريا بن يحيى عن إسحاق بن إبراهيم عن علي بن الحسين به.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا هارون بن إسحاق ، حدثنا عبدة يعني ابن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن رجلا قال لامرأته : لا أطلقك أبدا ولا آويك أبدا ، قالت : كيف ذلك؟ قال : أطلق حتى إذا دنا أجلك راجعتك ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكرت ذلك له ، فأنزل الله عزوجل (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ، وهكذا رواه ابن جرير في تفسيره من طريق جرير بن عبد الحميد وابن إدريس ، ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون ، كلهم عن هشام عن أبيه ، قال : كان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها ما شاء ما دامت في العدة ، وإن رجلا من الأنصار غضب على امرأته ، فقال : والله لا آويك ولا أفارقك ، قالت : وكيف ذلك؟ قال : أطلقك ، فإذا دنا أجلك راجعتك ، ثم أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك فذكرت ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله عزوجل (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) قال : فاستقبل الناس الطلاق من كان طلق ومن لم يكن طلق. وقد رواه أبو بكر بن مردويه من طريق محمد بن سليمان عن يعلى بن شبيب مولى الزبير ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة فذكره بنحو ما تقدم. ورواه الترمذي عن قتيبة ، عن يعلى بن شبيب به ، ثم رواه عن أبي كريب ، عن ابن إدريس ، عن هشام. عن أبيه مرسلا ، وقال : هذا أصح. ورواه الحاكم في مستدركه من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب عن يعلى بن شبيب به ، وقال : صحيح الإسناد.

ثم قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، عن عائشة ، قالت : لم يكن للطلاق وقت يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة ، وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس ، فقال : والله لأتركنك لا أيما ولا ذات زوج ، فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها ، ففعل ذلك مرارا ، فأنزل الله عزوجل فيه (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) فوقت الطلاق ثلاثا لا رجعة فيه بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيره. وهكذا روي عن قتادة مرسلا ، ذكره السدي وابن زيد وابن

٤٦٠