تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

السكينة والوقار» فهذا المنافق ليس له همة إلا الفساد في الأرض وإهلاك الحرث ، وهو محل نماء الزروع والثمار والنسل ، وهو نتاج الحيوانات اللذين لا قوام للناس إلا بهما وقال مجاهد : إذا سعي في الأرض إفسادا ، منع الله القطر فهلك الحرث والنسل (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) أي لا يحب من هذه صفته ، ولا من يصدر منه ذلك.

وقوله (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) أي إذا وعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله ، وقيل له اتق الله وانزع عن قولك وفعلك وارجع إلى الحق ، امتنع وأبى وأخذته الحمية والغضب بالإثم ، أي بسبب ما اشتمل عليه من الآثام ، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا ، قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الحج : ٧٢] ولهذا قال في هذه الآية (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) أي هي كافيته عقوبة في ذلك.

وقوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة ، ذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة : نزلت في صهيب بن سنان الرومي وذلك أنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة ، منعه الناس أن يهاجر بماله ، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل ، فتخلص منهم وأعطاهم ماله ، فأنزل الله فيه هذه الآية ، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة وقالوا له : ربح البيع فقال : وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم وما ذاك؟ فأخبره أن الله أنزل فيه هذه الآية ، ويروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له «ربح البيع صهيب» قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن عبد الله بن رستة ، حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا جعفر بن سليمان الضبي ، حدثنا عوف عن أبي عثمان النهدي عن صهيب ، قال : لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت لي قريش يا صهيب قدمت إلينا ، ولا مال لك وتخرج أنت ومالك والله لا يكون ذلك أبدا ، فقلت لهم : أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟ قالوا : نعم ، فدفعت إليهم مالي ، فخلوا عني ، فخرجت حتى قدمت المدينة ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «ربح صهيب ربح صهيب» مرتين ، وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب ، قال : أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاتبعه نفر من قريش ، فنزل عن راحلته وانتثل (١) ما في كنانته ، ثم قال : يا معشر قريش قد علمتم أني من أرماكم رجلا ، وأنتم والله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ، ثم أضرب بسيفي ما تبقى في يدي منه شيء ، ثم افعلوا ما شئتم وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكة وخليتم سبيلي ، قالوا : نعم ، فلما قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ربح البيع» قال : ونزلت (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) وأما الأكثرون فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في

__________________

(١) استخرج ما فيها من السهام.

٤٢١

سبيل الله كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ، وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة : ١١١] ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين أنكر عليه بعض الناس ، فرد عليهم عمر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما ، وتلوا هذه الآية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٠٩)

يقول الله تعالى آمرا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه ، والعمل بجميع أوامره ، وترك جميع زواجره ، ما استطاعوا من ذلك ، قال العوفي ، عن ابن عباس ومجاهد وطاوس والضحاك وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد في قوله (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) يعني الإسلام. وقال الضحاك ، عن ابن عباس وأبو العالية والربيع بن أنس (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) يعني الطاعة. وقال قتادة أيضا : الموادعة. وقوله (كَافَّةً) قال ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وقتادة والضحاك جميعا ، وقال مجاهد : أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر.

وزعم عكرمة أنها نزلت في نفر ممن أسلم من اليهود وغيرهم كعبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة وطائفة استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أن يسبتوا وأن يقوموا بالتوراة ليلا ، فأمرهم الله بإقامة شعائر الإسلام والاشتغال بها عما عداها ، وفي ذكر عبد الله بن سلام مع هؤلاء نظر ، إذ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت وهو مع تمام إيمانه يتحقق نسخه ورفعه وبطلانه والتعويض عنه بأعياد الإسلام.

ومن المفسرين من يجعل قوله (كَافَّةً) حالا من الداخلين أي ادخلوا في الإسلام كلكم والصحيح الأول وهو أنهم أمروا كلهم أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام وهي كثيرة جدا ما استطاعوا منها ، كما قال ابن أبي حاتم : أخبرنا علي بن الحسين ، أخبرنا أحمد بن الصباح ، أخبرني الهيثم بن يمان ، حدثنا إسماعيل بن زكريا ، حدثني محمد بن عون عن عكرمة عن ابن عباس (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) كذا قرأها بالنصب ، يعني مؤمني أهل الكتاب ، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمور التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم ، فقال الله (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) يقول : ادخلوا في شرائع دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تدعوا منها شيئا وحسبكم الإيمان بالتوراة وما فيها.

وقوله (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي اعملوا بالطاعات واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان ف (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٦٩] ، و (إِنَّما

٤٢٢

يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [فاطر : ٦] ولهذا قال (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) قال مطرف : أغش عباد الله لعبيد الله الشيطان ، وقوله : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) أي عدلتم عن الحق بعد ما قامت عليكم الحجج ، فاعلموا أن الله عزيز أي في انتقامه لا يفوته هارب ولا يغلبه غالب حكيم في أحكامه ونقضه وإبرامه ، ولهذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس : عزيز في نقمته حكيم في أمره. وقال محمد بن إسحاق : العزيز في نصره ممن كفر به إذا شاء الحكيم في عذره وحجته إلى عباده.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٢١٠)

يقول تعالى مهددا للكافرين بمحمد صلوات الله وسلامه عليه (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) يعني يوم القيامة لفصل القضاء بين الأولين والآخرين ، فيجزي كل عامل بعمله إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، ولهذا قال تعالى : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) كما قال الله تعالى : (كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا. وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) [الفجر : ٢١ ـ ٢٣] وقال (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) [الأنعام : ١٥٨]. وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير (١) ـ هاهنا ـ حديث الصور بطوله من أوله عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو حديث مشهور ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد وغيرهم ، وفيه : أن الناس إذا اهتموا لموقفهم في العرصات تشفعوا إلى ربهم بالأنبياء واحدا واحدا من آدم فمن بعده فكلهم يحيد عنها حتى ينتهوا إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا جاءوا إليه قال «أنا لها أنا لها» فيذهب فيسجد لله تحت العرش ، ويشفع عند الله في أن يأتي بفصل القضاء بين العباد فيشفعه الله ويأتي في ظلل من الغمام بعد ما تنشق السماء الدنيا وينزل من فيها من الملائكة ، ثم الثانية ، ثم الثالثة ، إلى السابعة ، وينزل حملة العرش والكروبيون (٢) ، قال : وينزل الجبار عزوجل في ظلل من الغمام والملائكة ، ولهم زجل من تسبيحهم يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت ، سبحان ذي العزة والجبروت ، سبحان الحي الذي لا يموت ، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت ، سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، سبوح قدوس سبحان ربنا الأعلى ، سبحان ذي السلطان والعظمة ، سبحانه سبحانه أبدا أبدا.

وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه ـ هاهنا ـ أحاديث فيها غرابة ، والله أعلم. فمنها ما رواه من حديث المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبد الله بن ميسرة ، عن مسروق ، عن ابن مسعود ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٣٤٣.

(٢) الكروبيون : سادة الملائكة المقربون.

٤٢٣

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياما شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء ، وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي» وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا أبو بكر بن مقدم ، حدثنا معتمر بن سليمان ، سمعت عبد الجليل القيسي يحدث عن عبد الله بن عمرو (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) الآية. قال : يهبط حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب ، منها النور والظلمة والماء فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتا تنخلع له القلوب. قال : وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي ، حدثنا الوليد. قال : سألت زهير بن محمد عن قول الله (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) قال : ظلل من الغمام منظوم من الياقوت ، مكلل بالجوهر والزبرجد. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في ظلل من الغمام ، قال : هو غير السحاب ولم يكن قط إلا لبني إسرائيل في تيههم حين تاهوا ، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) يقول : والملائكة يجيئون في ظلل من الغمام ، والله تعالى يجيء فيما يشاء ، وهي في بعض القراءات «هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام» وهي كقوله (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان : ٢٥].

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢١٢)

يقول تعالى مخبرا عن بني إسرائيل : كم شاهدوا مع موسى من آية بينة أي حجة قاطعة بصدقه فيما جاءهم به ، كيده وعصاه وفلقه البحر وضرب الحجر ، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر ، ومن إنزال المن والسلوى ، وغير ذلك من الآيات الدالات على وجود الفاعل المختار ، وصدق من جرت هذه الخوارق على يديه ، ومع هذا أعرض كثير منهم عنها وبدلوا نعمة الله كفرا ، أي استبدلوا بالإيمان بها الكفر بها والإعراض عنها (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) كما قال تعالى إخبارا عن كفار قريش (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) [إبراهيم : ٢٨ ـ ٢٩] ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين الذين رضوا بها ، واطمأنوا إليها وجمعوا الأموال ومنعوها عن مصارفها التي أمروا بها ، مما يرضي الله عنهم وسخروا من الذين آمنوا ، الذين أعرضوا عنها ، وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم ، وبذلوه ابتغاء وجه الله ، فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم ، فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومنشرهم ومسيرهم ومأواهم ، فاستقروا في الدرجات في أعلى عليين ، وخلد أولئك في الدركات في أسفل سافلين ،

٤٢٤

ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي يرزق من يشاء من خلقه ويعطيه عطاء كثيرا جزيلا بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة ، كما جاء في الحديث «ابن آدم أنفق أنفق عليك» وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا» وقال تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) [سبأ : ٣٩] وفي الصحيح «أن ملكين ينزلان من السماء صبيحة كل يوم فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا» وفي الصحيح «يقول ابن آدم : مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، وما لبست فأبليت ، وما تصدقت فأمضيت ، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له» (١).

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢١٣)

قال ابن جرير (٢) : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو داود ، أخبرنا همام عن قتادة عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان بين نوح وآدم عشرة قرون ، كلهم على شريعة من الحق ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا». ورواه الحاكم في مستدركه من حديث بندار عن محمد بن بشار ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه ، وكذا روى أبو جعفر الرازي عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين» وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) قال : كانوا على الهدى جميعا «فاختلفوا فبعث الله النبيين» فكان أول من بعث نوحا. وهكذا قال مجاهد ، كما قال ابن عباس أولا. وقال العوفي عن ابن عباس (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) يقول : كانوا كفارا (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) والقول الأول عن ابن عباس أصح سندا ومعنى ، لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام ، فبعث الله إليهم نوحا عليه‌السلام ، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.

ولهذا قال تعالى : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي من بعد ما قامت الحجج عليهم ، وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده (ج ٦ ص ٧١) من حديث عائشة رضي الله عنها ، وليس فيه عبارة «ومال من لا مال له».

(٢) تفسير الطبري ٢ / ٣٤٧.

٤٢٥

وقال عبد الرزاق : حدثنا معمر عن سليمان الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة في قوله : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) الآية ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ، نحن أول الناس دخولا الجنة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع فغدا لليهود وبعد غد للنصارى» ثم رواه عبد الرزاق عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة.

وقال ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه في قوله (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) فاختلفوا في يوم الجمعة ، فاتخذ اليهود يوم السبت ، والنصارى يوم الأحد ، فهدى الله أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليوم الجمعة واختلفوا في القبلة فاستقبلت النصارى المشرق واليهود بيت المقدس فهدى الله أمة محمد للقبلة واختلفوا في الصلاة ، فمنهم من يركع ولا يسجد ، ومنهم من يسجد ولا يركع ، ومنهم من يصلي وهو يتكلم ، ومنهم من يصلي وهو يمشي ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك ، واختلفوا في الصيام ، فمنهم من يصوم بعض النهار ، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في إبراهيم عليه‌السلام ، فقالت اليهود : كان يهوديا ، وقالت : النصارى كان نصرانيا ، وجعله الله حنيفا مسلما ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في عيسى عليه‌السلام ، فكذبت به اليهود وقالوا لأمه بهتانا عظيما ، وجعلته النصارى إلها وولدا ، وجعله الله روحه وكلمته ، فهدى الله أمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم للحق من ذلك.

وقال الربيع بن أنس في قوله (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) أي عند الاختلاف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف ، أقاموا على الإخلاص لله عزوجل وحده ، وعبادته لا شريك له ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف واعتزلوا الاختلاف وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة شهداء على قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وآل فرعون ، أن رسلهم قد بلغوهم ، وأنهم قد كذبوا رسلهم.

وفي قراءة أبي بن كعب : «وليكونوا شهداء على الناس يوم القيامة ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم». وكان أبو العالية يقول في هذه الآية : المخرج من الشبهات والضلالات والفتن.

وقوله (بِإِذْنِهِ) أي بعلمه بهم وبما هداهم له ، قاله ابن جرير (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي من خلقه (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي وله الحكمة والحجة البالغة ، وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان إذا قام من الليل يصلي يقول : «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» وفي

٤٢٦

الدعاء المأثور : «اللهم أرنا الحق حقا ، وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلا ، وارزقنا اجتنابه ، ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل ، واجعلنا للمتقين إماما».

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (٢١٤)

يقول تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) قبل أن تبتلوا وتخبروا وتمتحنوا كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم ، ولهذا قال (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) وهي الأمراض والأسقام والآلام والمصائب والنوائب. قال ابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير ومرة الهمداني والحسن وقتادة والضحاك والربيع والسدي ومقاتل بن حيان (الْبَأْساءُ) الفقر (وَالضَّرَّاءُ) السقم (وَزُلْزِلُوا) خوفا من الأعداء زلزالا شديدا ، وامتحنوا امتحانا عظيما ، كما جاء في الحديث الصحيح عن خباب بن الأرت ، قال :

قلنا : يا رسول الله ، ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو الله لنا؟ فقال : «إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ، لا يصرفه ذلك عن دينه» ثم قال «والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم قوم تستعجلون».

وقال الله تعالى : (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت : ١ ـ ٣] وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة رضي الله تعالى عنهم في يوم الأحزاب ، كما قال الله تعالى : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) [الأحزاب : ١٠ ـ ١٢]. ولما سأل هرقل أبا سفيان هل قاتلتموه؟ قال : نعم. قال فكيف كانت الحرب بينكم؟ قال سجالا ، يدال علينا وندال عليه. قال : كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة.

وقوله (مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) أي سنتهم كما قال تعالى : (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) [الزخرف : ٨] وقوله (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) أي يستفتحون على أعدائهم ويدعون بقرب الفرج والمخرج عند ضيق الحال والشدة ، قال الله تعالى : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) كما قال (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٥ ـ ٦] وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها ، ولهذا قال (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) وفي حديث أبي رزين «عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيثه ، فينظر إليهم قنطين ، فيظل

٤٢٧

يضحك يعلم أن فرجهم قريب» الحديث.

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٢١٥)

قال مقاتل بن حيان : هذه الآية في نفقة التطوع. وقال السدي : نسختها الزكاة ، وفيه نظر ، ومعنى الآية : يسألونك كيف ينفقون؟ قاله ابن عباس ومجاهد فبين لهم تعالى ذلك ، فقال (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) أي اصرفوها في هذه الوجوه. كما جاء الحديث «أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك» وتلا ميمون بن مهران هذه الآية ، ثم قال : هذه مواضع النفقة ما ذكر فيها طبلا ولا مزمارا ولا تصاوير الخشب ولا كسوة الحيطان. ثم قال تعالى : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي مهما صدر منكم من فعل معروف ، فإن الله يعلمه وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء ، فإنه لا يظلم أحدا مثقال ذرة.

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢١٦)

هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين أن يكفوا شر الأعداء عن حوزة الإسلام ، وقال الزهري : الجهاد واجب على كل أحد غزا أو قعد ، فالقاعد عليه إذا استعين أن يعين ، وإذا استغيث أن يغيث ، وإذا استنفر ان ينفر ، وإن لم يحتج إليه قعد.

(قلت) ولهذا ثبت في الصحيح «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو ، مات ميتة جاهلية» وقال عليه‌السلام يوم الفتح : «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا».

وقوله (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) أي شديد عليكم ومشقة وهو كذلك ، فإنه إما أن يقتل أو يجرح مع مشقة السفر ومجالدة الأعداء. ثم قال تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي لأن القتال يعقبه النصر والظفر على الأعداء والاستيلاء على بلادهم وأموالهم وذراريهم وأولادهم. (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) وهذا عام في الأمور كلها قد يحب المرء شيئا وليس له فيه خيرة ولا مصلحة ، ومن ذلك القعود عن القتال قد يعقبه استيلاء العدو على البلاد والحكم. ثم قال تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي هو أعلم بعواقب الأمور منكم ، وأخبر بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم ، فاستجيبوا له وانقادوا لأمره ، لعلكم ترشدون.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ

٤٢٨

دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢١٨)

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه ، حدثني الحضرمي عن أبي السوار ، عن جندب بن عبد الله ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث رهطا ، وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح ، فلما ذهب ينطلق بكى صبابة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحبسه فبعث عليهم مكانه عبد الله بن جحش ، وكتب له كتابا وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا ، وقال «لا تكرهن أحدا على السير معك من أصحابك» فلما قرأ الكتاب استرجع ، وقال : سمعا وطاعة لله ولرسوله ، فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب ، فرجع رجلان وبقي بقيتهم ، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى ، فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام ، فأنزل الله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) الآية.

وقال السدي (١) عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) الآية ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سرية ، وكانوا سبعة نفر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي ، وفيهم عمار بن ياسر وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل ، وسهيل بن بيضاء وعامر بن فهيرة وواقد بن عبد الله اليربوعي حليف لعمر بن الخطاب ، وكتب لابن جحش كتابا وأمره أن لا يقرأه حتى ينزل بطن ملل فلما نزل بطن ملل فتح الكتاب فإذا فيه «أن سر حتى تنزل بطن نخلة» فقال لأصحابه : من كان يريد الموت فليمض وليوص ، فإنني موص وماض لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسار ، فتخلف عنه سعد بن أبي وقاص وعتبة ، أضلا راحلة لهما فتخلفا (٢) يطلبانها ، وسار ابن جحش إلى بطن نخلة ، فإذا هو بالحكم بن كيسان والمغيرة بن عثمان [وعمرو بن الحضرمي] (٣) وعبد الله بن المغيرة ، وانفلت [المغيرة] (٤) وقتل عمرو ، قتله واقد ابن عبد الله ، فكانت أول غنيمة غنمها أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رجعوا إلى المدينة بأسيرين وما أصابوا من المال ، أراد أهل مكة أن يفادوا الأسيرين عليه [فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حتى تنظر ما فعل صاحبانا ، فلما رجع سعد وصاحبه فادى بالأسيرين ، ففجر عليه المشركون] (٥). وقالوا : إن محمدا يزعم أنه يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام وقتل صاحبنا في رجب ، فقال

__________________

(١) رواه الطبري في تفسيره ٢ / ٣٦١.

(٢) في الطبري : «فأتيا بحران يطلبانها».

(٣) الزيادة بين معقوفين من الطبري.

٤٢٩

المسلمون : إنما قتلناه في جمادى ، وقيل : في أول ليلة من رجب وآخر ليلة من جمادى ، وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب ، وأنزل الله يعير أهل مكة (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) لا يحل وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفرتم بالله وصددتم عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وإخراج أهل المسجد الحرام منه حين أخرجوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه أكبر من القتل عند الله.

وقال العوفي عن ابن عباس (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) وذلك أن المشركين صدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وردوه عن المسجد في شهر حرام ، قال : ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل ، فعاب المشركون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القتال في شهر حرام ، فقال الله (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) من القتال فيه ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سرية ، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى وأول ليلة من رجب وأن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى وكانت أول رجب ، ولم يشعروا ، فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه ، وإن المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك ، فقال الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والشرك أشد منه ، وهكذا روى أبو سعيد البقال عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنها نزلت في سرية عبد الله بن جحش وقتل عمرو بن الحضرمي.

وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وقال : نزل فيما كان من مصاب عمرو بن الحضرمي (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) إلى آخر الآية.

وقال عبد الملك بن هشام راوي السيرة (١) ، عن زياد بن عبد الله البكائي ، عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني رحمه‌الله ، في كتاب السيرة له ، أنه قال : وبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن جحش بن رباب الأسدي في رجب ، مقفله من بدر الأولى ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد ، وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ، ثم ينظر فيه فيمضي كما أمره به ، ولا يستكره من أصحابه أحدا ، وكان أصحاب عبد الله بن جحش من المهاجرين ، ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف : أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ، ومن حلفائهم : عبد الله بن جحش ، وهو أمير القوم ، وعكاشة بن محصن بن حرثان أحد بني أسد بن خزيمة حليف لهم ، ومن بني نوفل بن عبد مناف عتبة بن غزوان بن جابر حليف لهم ومن بني زهرة بن كلاب سعد بن أبي وقاص ومن بني

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٦٠١ ـ ٦٠٥.

٤٣٠

عدي بن كعب بن عامر بن ربيعة ، حليف لهم من عنز بن وائل ، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع ، أحد بني تميم حليف لهم ، وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف لهم ، ومن بني الحارث بن فهر : سهيل بن بيضاء ، فلما سار عبد الله بن جحش يومين ، فتح الكتاب فنظر فإذا فيه : إذا نظرت في كتابي هذا ، فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم ، فلما نظر عبد الله بن جحش الكتاب ، قال : سمعا وطاعة ، ثم قال لأصحابه : قد أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن امضي إلى نخلة أرصد بها قريشا حتى آتيه منهم بخبر ، وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم ، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع ، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد ، فسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران ، أضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا عليه في طلبه ، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل نخلة ، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة قريش ، فيها عمرو بن الحضرمي ، واسم الحضرمي عبد الله بن عباد أحد الصدف وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة ، فلما رآهم القوم هابوهم ، وقد نزلوا قريبا منهم ، فأشرف لهم عكاشة بن محصن ، وكان قد حلق رأسه ، فلما رأوه أمنوا وقالوا : عمّار لا بأس عليكم منهم ، وتشاور القوم فيهم ، وذلك في آخر يوم من رجب ، فقال القوم : والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم ، فليمتنعن منكم به ، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام ، فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم ، ثم شجعوا أنفسهم عليهم ، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم ، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان ، وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم ، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، قال ابن إسحاق : وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله قال لأصحابه : إن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما غنمنا الخمس ، وذلك قبل أن يفرض الله الخمس من المغانم ، فعزل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمس العير ، وقسم سائرها بين أصحابه ، قال ابن إسحاق : فلما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» فوقف العير والأسيرين ، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا ، فلما قال ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سقط في أيدي القوم ، وظنوا أنهم قد هلكوا ، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا ، وقالت قريش : قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم ، وأخذوا فيه الأموال ، وأسروا فيه الرجال ؛ فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان وقالت اليهود : تفاءل بذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله ، عمرو عمرت الحرب ، والحضرمي حضرت الحرب ، وواقد بن عبد الله وقدت

٤٣١

الحرب ، فجعل الله عليهم ذلك لا لهم ، فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام ، فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به ، وعن المسجد الحرام وإخراجكم منه وأنتم أهله (أَكْبَرُ) عند الله من قتل من قتلتم منهم (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه ، فذلك أكبر عند الله من القتل (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا) أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه ، غير تائبين ولا نازعين ، قال ابن إسحاق : فلما نزل القرآن بهذا من الأمر وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق (١) ، قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله وسلم العير والأسيرين ، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا» يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان ، فإنا نخشاكم عليهما ، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم ، فقدم سعد وعتبة ، ففداهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم ، فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه ، وأقام عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا ، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافرا ، قال ابن إسحاق : فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كان حين نزل القرآن طمعوا في الأجر فقالوا : يا رسول الله ، أنطمع ان تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء ، قال ابن إسحاق ، والحديث في هذا عن الزهري ويزيد بن رومان ، عن عروة.

وقد روى يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قريبا من هذا السياق ، وروى موسى بن عقبة ، عن الزهري نفسه نحو ذلك ، وروى شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن عروة بن الزبير نحوا من هذا أيضا ، وفيه : فكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين والمشركين ، فركب وفد من كفار قريش حتى قدموا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، فقالوا : أيحل القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل لله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) الآية ، وقد استقصى ذلك الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة.

ثم قال ابن هشام ، عن زياد ، عن ابن إسحاق : وقد ذكر عن بعض آل عبد الله أن عبد الله قسم الفيء بين أهله ، فجعل أربعة أخماسه لمن أفاءه ، وخمسا على الله ورسوله ، فوقع على ما كان عبد الله بن جحش صنع في تلك العير ، قال ابن هشام : وهي أول غنيمة غنمها المسلمون ، وعمرو بن الحضرمي أول من قتله المسلمون ، وعثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان أول من أسر المسلمون ، قال ابن إسحاق : فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في غزوة عبد الله بن

__________________

(١) الشفق : الخوف.

٤٣٢

جحش ، ويقال : بل عبد الله بن جحش قالها حين قالت قريش : قد أحل محمد وأصحابه الشهر الحرام فسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه المال وأسروا فيه الرجال ، قال ابن هشام : هي لعبد الله بن جحش : [الطويل]

تعدون قتلا في الحرام عظيمة

وأعظم منه لو يرى الرّشد راشد

صدودكم عما يقول محمد

وكفر به والله راء وشاهد

وإخراجكم من مسجد الله أهله

لئلا يرى لله في البيت ساجد

فإنا وإن عيرتمونا بقتله

وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

سقينا من ابن الحضرمي رماحنا

بنخلة لما أوقد الحرب واقد

دما وابن عبد الله عثمان بيننا

ينازعه غلّ من القدّ عائد (١)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٢٠)

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا إسرائيل عن أبي ميسرة ، عن عمر أنه قال : لما أنزل تحريم الخمر ، قال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت هذه الآية التي في البقرة (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) فدعي عمر ، فقرئت عليه فقال. اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت الآية التي في النساء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) فكان منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أقام الصلاة نادى : أن لا يقربن الصلاة سكران ، فدعي عمر ، فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت الآية التي في المائدة ، فدعي عمر ، فقرئت عليه فلما بلغ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟) قال عمر : انتهينا انتهينا.

هكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن إسرائيل عن أبي إسحاق ، وكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق الثوري عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة واسمه عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفي ، عن عمر وليس له عنه سواه ، لكن قد قال أبو زرعة : لم يسمع منه ، والله أعلم. وقال علي بن المديني : هذا إسناد صالح صحيح ، وصححه الترمذي ، وزاد ابن أبي حاتم بعد قوله انتهينا ، إنها تذهب المال وتذهب العقل ، وسيأتي هذا الحديث أيضا مع ما رواه أحمد من طريق أبي هريرة أيضا عند قوله في سورة المائدة (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ

__________________

(١) الأبيات في سيرة ابن هشام ١ / ٦٠٥ ـ ٦٠٦.

(٢) مسند أحمد (ج ١ ص ٥٣)

٤٣٣

وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة : ٩٠] ، فقوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) أما الخمر ، فكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنه كل ما خامر العقل ، كما سيأتي بيانه في سورة المائدة ، وكذا الميسر وهو القمار.

وقوله (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أما إثمهما فهو في الدين ، وأما المنافع فدنيوية من حيث إن فيها نفع البدن وتهضيم الطعام وإخراج الفضلات وتشحيذ بعض الأذهان ولذة الشدة المطربة التي فيها ، كما قال حسان بن ثابت في جاهليته : [الوافر]

ونشربها فتتركنا ملوكا

وأسدا لا ينهنهنا اللقاء (١)

وكذا بيعها والانتفاع بثمنها ، وما كان يقمشه (٢) بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله ، ولكن هذه المصالح لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة ، لتعلقها بالعقل والدين ، ولهذا قال الله تعالى : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) ، ولهذا كانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات ، ولم تكن مصرحة بل معرضة ، ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما قرئت عليه : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩٠ ـ ٩١] ويأتي الكلام على ذلك في سورة المائدة إن شاء الله تعالى وبه الثقة ، قال ابن عمر والشعبي ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إن هذه أول آية نزلت في الخمر (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) ، ثم نزلت الآية التي في سورة النساء ، ثم نزلت الآية التي في المائدة فحرمت الخمر.

قوله (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) قرئ بالنصب وبالرفع وكلاهما حسن متجه قريب. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبان ، حدثنا يحيى ، أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالا : يا رسول الله ، إن لنا أرقاء وأهلين من أموالنا فأنزل الله (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) وقال الحكم عن مقسم عن ابن عباس (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) قال : ما يفضل عن أهلك ، كذا روي عن ابن عمر ومجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والحسن وقتادة والقاسم وسالم وعطاء الخراساني والربيع بن أنس وغير واحد ، أنهم قالوا في قوله (قُلِ الْعَفْوَ) يعني الفضل ، وعن طاوس : اليسير من كل شيء. وعن الربيع أيضا : أفضل مالك وأطيبه والكل يرجع إلى الفضل. وقال عبد بن حميد في تفسيره : حدثنا هوذة بن خليفة ، عن عوف ، عن الحسن ، في الآية (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ)

__________________

(١) البيت لحسان في ديوانه ص ٤ ؛ والكامل ١ / ٧٤ ؛ والطبري ٢ / ٣٧٢.

(٢) أي يجمعه من هاهنا وهاهنا.

٤٣٤

قال ، ذلك ألا تجهد مالك ثم تقعد تسأل الناس ، ويدل على ذلك ما رواه ابن جرير (١) : حدثنا علي بن مسلم ، حدثنا أبو عاصم عن ابن عجلان ، عن المقبري ، عن أبي هريرة ، قال : قال رجل : يا رسول الله ، عندي دينار ، قال «أنفقه على نفسك» قال : عندي آخر ، قال : «أنفقه على أهلك» قال : عندي آخر : قال «أنفقه على ولدك» قال : عندي آخر ، قال «فأنت أبصر» ؛ وقد رواه مسلم في صحيحه وأخرجه مسلم أيضا عن جابر ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل «ابدأ بنفسك فتصدق عليها ، فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا». وعنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول» وفي الحديث أيضا «ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك ، وإن تمسكه شر لك ، ولا تلام على كفاف» ثم قد قيل إنها منسوخة بآية الزكاة ، كما رواه علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس ، وقاله عطاء الخراساني والسدي ، وقيل مبينة بآية الزكاة ، قاله مجاهد وغيره ، وهو أوجه.

وقوله (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده ووعيده ، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة. قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني في زوال الدنيا وفنائها ، وإقبال الآخرة وبقائها. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا أبو أسامة عن الصعق العيشي ، قال : شهدت الحسن وقرأ هذه الآية من البقرة (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) قال : هي والله لمن تفكر فيها ليعلم أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء ، وليعلم أن الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء ، وهكذا قال قتادة وابن جريج وغيرهما ، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : لتعلموا فضل الآخرة على الدنيا. وفي رواية عن قتادة : فآثروا الآخرة على الأولى.

وقوله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) الآية ، قال ابن جرير (٢) : حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا جرير عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) و (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [النساء : ١٠] انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم. وهكذا رواه أبو داود

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٣٧٨.

(٢) تفسير الطبري ٢ / ٩٨٢.

٤٣٥

والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طرق عن عطاء بن السائب به. وكذا رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وكذا رواه السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود بمثله ، وهكذا ذكر غير واحد في سبب نزول هذه الآية كمجاهد وعطاء والشعبي وابن أبي ليلى وقتادة وغير واحد من السلف والخلف ، قال وكيع بن الجراح : حدثنا هشام صاحب الدستوائي (١) ، عن حماد ، عن إبراهيم ، قال : قالت عائشة رضي الله عنها : إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي على حدة ، حتى أخلط طعامه بطعامي ، وشرابه بشرابي.

فقوله (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) أي على حدة ، (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) أي وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم فلا بأس عليكم ، لأنهم إخوانكم في الدين ، ولهذا قال (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أي يعلم من قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح ، وقوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي ولو شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم ، ولكنه وسع عليكم ، وخفف عنكم ، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن ، قال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الأنعام : ١٥٢] بل جوز الأكل منه للفقير بالمعروف ، إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر ، أو مجانا كما سيأتي بيانه في سورة النساء ، إن شاء الله وبه الثقة.

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٢٢١)

هذا تحريم من الله عزوجل على المؤمنين ، أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان ، ثم إن كان عمومها مرادا ، وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية ، فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) [المائدة : ٥] قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) : استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب ، وهكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومكحول والحسن والضحاك وزيد بن أسلم والربيع بن أنس وغيرهم. وقيل: بل المراد بذلك المشركون من عبدة الأوثان ، ولم يرد أهل الكتاب بالكلية ، والمعنى قريب من الأول ، والله أعلم.

فأما ما رواه ابن جرير (٢) : حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني ، حدثنا أبي ، حدثني

__________________

(١) كذا. وفي موسوعة رجال الكتب التسعة (٤ / ١٤١) : هو هشام بن أبي عبد الله سنبر ، أبو بكر الدستوائي المتوفى سنة ١٥٤ ه‍. من كبار الطبقة السابعة.

(٢) تفسير الطبري ٢ / ٣٨٩.

٤٣٦

عبد الحميد بن بهرام الفزاري ، حدثنا شهر بن حوشب ، قال : سمعت عبد الله بن عباس يقول : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أصناف النساء ، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات وحرم كل ذات دين غير الإسلام. قال الله عزوجل : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) [المائدة : ٥] وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية ، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية ، فغضب عمر بن الخطاب غضبا شديدا حتى هم أن يسطو عليهما فقالا نحن نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب فقال : لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن ، ولكني أنتزعهن منكم صغرة قمأة ، فهو حديث غريب جدا ، وهذا الأثر غريب عن عمر أيضا.

قال أبو جعفر بن جرير رحمه‌الله : بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات : وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس في المسلمات أو لغير ذلك من المعاني. كما حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن إدريس ، حدثنا الصلت بن بهرام عن شقيق ، قال : تزوج حذيفة يهودية ، فكتب إليه عمر : خلّ سبيلها ، فكتب إليه : أتزعم أنها حرام ، فأخلي سبيلها؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن ، وهذا إسناد صحيح.

وروى الخلال عن محمد بن إسماعيل ، عن وكيع ، عن الصلت ، نحوه ، وقال ابن جرير : حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا سفيان بن سعيد عن يزيد بن أبي زياد ، عن زيد بن وهب ، قال : قال عمر بن الخطاب : المسلم يتزوج النصرانية ، ولا يتزوج النصراني المسلمة ، قال : وهذا أصح إسنادا من الأول ، ثم قال : وقد حدثنا تميم بن المنتصر ، أخبرنا إسحاق الأزرقي عن شريك ، عن أشعث بن سوار ، عن الحسن ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا» ثم قال : وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه ، فالقول به لإجماع الجميع من الأمة عليه [أولى من خبر عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب] (١) ، كذا قال ابن جرير رحمه‌الله.

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وكيع عن جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عمر ، أنه كره نكاح أهل الكتاب ، وتأول (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ). وقال البخاري : وقال ابن عمر : لا أعلم شركا أعظم من أن تقول : ربها عيسى ، وقال أبو بكر الخلال الحنبلي : حدثنا محمد بن هارون ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم وأخبرني محمد بن علي ، حدثنا صالح بن أحمد ، أنهما سألا أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن قول الله (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) قال : مشركات العرب الذين يعبدون الأصنام.

وقوله (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) قال السدي : نزلت في عبد الله بن رواحة ، كانت له أمة سوداء فغضب عليها فلطمها ، ثم فزع فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره خبرهما ،

__________________

(١) الزيادة من الطبري ٢ / ٣٩٠.

٤٣٧

فقال له «ما هي؟» قال : تصوم وتصلي ، وتحسن الوضوء ، وتشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، فقال «يا أبا عبد الله هذه مؤمنة». فقال : والذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها ، ففعل ، فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا : نكح أمته وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين ، وينكحوهم رغبة في أحسابهم ، فأنزل الله (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) ... (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ).

وقال عبد بن حميد : حدثنا جعفر بن زياد الإفريقي عن عبد الله بن يزيد ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «لا تنكحوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن ، ولا تنكحوهن عن أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ، وأنكحوهن على الدين ، فلأمة سوداء جرداء ذات دين أفضل» والإفريقي ضعيف ، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها ، فاظفر بذات الدين ، تربت يداك» ولمسلم عن جابر مثله ، وله عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الدنيا متاع ، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة».

وقوله (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) أي لا تزوجوا الرجال المشركين النساء المؤمنات ، كما قال تعالى : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) [الممتحنة : ١٠] ثم قال تعالى : (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) أي ولرجل مؤمن ـ ولو كان عبدا حبشيا ـ خير من مشرك ، وإن كان رئيسا سريا (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي معاشرتهم ومخالطتهم ، تبعث على حب الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الآخرة ، وعاقبة ذلك وخيمة (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) أي بشرعه وما أمر به وما نهى عنه (وَيُبَيِّنُ) الله (آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ(٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٢٣)

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت ، عن أنس ، أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله عزوجل (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) حتى فرغ من الآية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» فبلغ ذلك اليهود فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا ، إلا خالفنا فيه ،

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٣ ص ١٣٢ ـ ١٣٣)

٤٣٨

فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر ، فقالا : يا رسول الله ، إن اليهود قالت : كذا وكذا ، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما ، فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أن لم يجد عليهما ، رواه مسلم من حديث حماد بن زيد بن سلمة ، فقوله (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) يعني الفرج ، لقوله «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم ، إلى أنه يجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج.

قال أبو داود أيضا : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد عن أيوب ، عن عكرمة ، عن بعض أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان إذا أراد من الحائض شيئا يلقي على فرجها ثوبا ، وقال أبو داود أيضا : حدثنا القعنبي ، حدثنا عبد الله يعني ابن عمر بن غانم ، عن عبد الرحمن يعني ابن زياد ، عن عمارة بن غراب أن عمة له حدثته أنها سألت عائشة قالت : إحدانا تحيض وليس لها ولزوجها فراش إلا فراش واحد ، قالت : أخبرك بما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، دخل فمضى إلى مسجده ، قال أبو داود : تعني مسجد بيتها ، فما انصرف حتى غلبتني عيني فأوجعه البرد فقال «ادني مني» فقلت : إني حائض ، فقال «اكشفي عن فخذيك» فكشفت فخذي ، فوضع خده وصدره على فخذي وحنيت عليه حتى دفيء ونام صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا أيوب عن كتاب أبي قلابة ، أن مسروقا ركب إلى عائشة فقال : السلام على النبي وعلى أهله ، فقالت عائشة : مرحبا مرحبا ، فأذنوا له فدخل فقال : إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحي ، فقالت : إنما أنا أمك وأنت ابني ، فقال : ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقالت له : كل شيء إلا فرجها. ورواه أيضا عن حميد بن مسعدة ، عن يزيد بن زريع ، عن عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن ، عن مروان الأصفر ، عن مسروق قال : قلت لعائشة : ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت : كل شيء إلا الجماع. وهذا قول ابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة ، وروى ابن جرير أيضا عن أبي كريب عن ابن أبي زائدة ، عن حجاج ، عن ميمون بن مهران ، عن عائشة ، قالت له : ما فوق الإزار.

(قلت) ويحل مضاجعتها ومواكلتها بلا خلاف ، قالت عائشة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض ، وكان يتكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن. وفي الصحيح عنها ، قالت : كنت أتعرق العرق (١) وأنا حائض فأعطيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه ، وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه.

وقال أبو داود (٢) : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى عن جابر بن صبح ، سمعت خلاسا الهجري

__________________

(١) العرق : العظم إذا أخذ منه معظم اللحم. وتعرّقه : أخذ عنه اللحم بأسنانه.

(٢) سنن أبي داود (طهارة باب ١٠٦)

٤٣٩

قال : سمعت عائشة تقول : كنت أنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيت في الشعار الواحد وأنا حائض طامث ، فإن أصابه مني شيء غسل مكانه لم يعده وإن أصابه ـ يعني ثوبه ـ شيء غسل مكانه لم يعده وصلّى فيه ، فأما ما رواه أبو داود (١) حدثنا سعيد بن عبد الجبار ، حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد ، عن أبي اليمان ، عن أم ذرة ، عن عائشة أنها قالت : كنت إذا حضت نزلت عن المثال (٢) على الحصير ، فلم نقرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم ندن منه حتى نطهر ، فهو محمول على التنزه والاحتياط.

وقال آخرون : إنما تحل له مباشرتها فيما عدا ما تحت الإزار ، كما ثبت في الصحيحين عن ميمونة بنت الحارث الهلالية قالت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض ، وهذا لفظ البخاري ، ولهما عن عائشة نحوه ، وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث العلاء ، عن حزام بن حكيم ، عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال : ما فوق الإزار. ولأبي داود أيضا عن معاذ بن جبل ، قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال : ما فوق الإزار والتعفف عن ذلك أفضل» وهو رواية عن عائشة كما تقدم وابن عباس وسعيد بن المسيب وشريح.

فهذه الأحاديث وما شابهها حجة من ذهب إلى أنه يحل ما فوق الإزار منها ، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي رحمه‌الله ، الذي رجحه كثير من العراقيين وغيرهم ، ومأخذهم أنه حريم الفرج فهو حرام لئلا يتوصل إلى تعاطي ما حرم الله عزوجل الذي أجمع العلماء على تحريمه وهو المباشرة في الفرج ، ثم من فعل ذلك فقد أثم ، فيستغفر الله ويتوب إليه ، وهل يلزمه مع ذلك كفارة أم لا؟ فيه قولان : [أحدهما] نعم ، لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن عباس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض ، يتصدق بدينار أو نصف دينار ، وفي لفظ للترمذي «إذا كان دما أحمر فدينار ، وإن كان دما أصفر فنصف دينار» وللإمام أحمد أيضا عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جعل في الحائض تصاب دينارا ، فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل ، فنصف دينار. [والقول الثاني] وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعي وقول الجمهور أنه لا شيء في ذلك ، بل يستغفر الله عزوجل لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث ، فإنه قد روي مرفوعا كما تقدم ، وموقوفا وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث ، فقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) تفسير قوله (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) ونهى عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجودا ، ومفهومه حله إذا انقطع. قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل فيما أملاه في الطاعة : وقوله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ) الآية ، الطهر يدل

__________________

(١) سنن أبي داود (طهارة باب ١٠٦)

(٢) المثال : الفراش.

٤٤٠