تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج عن عطاء : سمعت ابن عباس يقول : هما فجران ، فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئا ، ولكن الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال هو الذي يحرم الشراب ، وقال عطاء فأما إذا سطع سطوعا في السماء ، وسطوعه أن يذهب في السماء طولا ، فإنه لا يحرم به شراب الصائم ولا صلاة ولا يفوت به الحج ، ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال ، حرم الشراب للصيام وفات الحج ، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء ، وهكذا روي عن غير واحد من السلف رحمهم‌الله.

[مسألة] ومن جعله تعالى الفجر غاية لإباحة الجماع والطعام والشراب لمن أراد الصيام يستدل على أنه من أصبح جنبا فليغتسل وليتم صومه ولا حرج عليه ، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء سلفا وخلفا ، لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما قالتا : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يغتسل ويصوم وفي حديث أم سلمة عندهما : ثم لا يفطر ولا يقضي ، وفي صحيح مسلم عن عائشة ، أن رجلا قال :

يا رسول الله ، تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم» فقال : لست مثلنا يا رسول الله ، فقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال «والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي».

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرزاق عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال «إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ» فإنه حديث جيد الإسناد على شرط الشيخين كما ترى ، وهو في الصحيحين عن أبي هريرة ، عن الفضل بن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي سنن النسائي عنه عن أسامة بن زيد والفضل بن عباس ولم يرفعه. فمن العلماء من علل هذا الحديث بهذا ، ومنهم من ذهب إليه ، ويحكى هذا عن أبي هريرة وسالم وعطاء وهشام بن عروة والحسن البصري ، ومنهم من ذهب إلى التفرقة بين أن يصبح جنبا نائما فلا عليه ، لحديث عائشة وأم سلمة ، أو مختارا فلا صوم له ، لحديث أبي هريرة ، يحكى هذا عن عروة وطاوس والحسن ، ومنهم من فرق بين الفرض فيتم فيقضيه ، وأما النفل فلا يضره ، رواه الثوري عن منصور ، عن إبراهيم النخعي وهو رواية عن الحسن البصري أيضا ، ومنهم من ادعى نسخ حديث أبي هريرة بحديثي عائشة وأم سلمة ، ولكن لا تاريخ معه ، وادعى ابن حزم أنه منسوخ بهذه الآية وهو بعيد أيضا إذ لا تاريخ بل الظاهر من التاريخ خلافه ، ومنهم من حمل حديث أبي هريرة على نفي الكمال فلا صوم له ، لحديث عائشة وأم سلمة الدالين على الجواز ، وهذا المسلك أقرب الأقوال وأجمعها ، والله أعلم.

(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) يقتضي الإفطار عند غروب الشمس حكما شرعيا ، كما جاء في

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٢ ص ٣١٤)

٣٨١

الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا أقبل الليل من هاهنا ، وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم» وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» أخرجاه ، وقال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا قرة بن عبد الرحمن عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقول الله عزوجل إن أحب عبادي إليّ أعجلهم فطرا» ورواه الترمذي من غير وجه عن الأوزاعي به ، وقال : هذا حديث حسن غريب ، وقال أحمد أيضا : حدثنا عفان ، حدثنا عبيد الله بن إياد ، سمعت إياد بن لقيط ، سمعت ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت : أردت أن أصوم يومين مواصلة ، فمنعني بشير وقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عنه وقال «يفعل ذلك النصارى ، ولكن صوموا كما أمركم الله (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) فإذا كان الليل فأفطروا» ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة النهي عن الوصال وهو أن يصل يوما بيوم ولا يأكل بينهما شيئا ، قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تواصلوا» قالوا : يا رسول الله إنك تواصل ، قال «فإني لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» قال : فلم ينتهوا عن الوصال فواصل بهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومين وليلتين ثم رأوا الهلال ، فقال : «لو تأخر الهلال لزدتكم» كالمنكل لهم ، وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به ، وكذلك أخرجا النهي عن الوصال من حديث أنس وابن عمر ، وعن عائشة رضي الله عنهما ، قالت : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الوصال رحمة لهم ، فقالوا : إنك تواصل ، قال : «إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقيني» فقد ثبت النهي عنه من غير وجه وثبت أنه من خصائص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه كان يقوى على ذلك ويعان ، والأظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان معنويا لا حسيا ، وإلا فلا يكون مواصلا مع الحسي ، ولكن كما قال الشاعر : [البسيط]

لها أحاديث من ذكراك تشغلها

عن الشراب وتلهيها عن الزاد

وأما من أحب أن يمسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر فله ذلك ، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تواصلوا فأيكم أراد يواصل فليواصل إلى السحر» قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «إني لست كهيئتكم ، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني» أخرجاه في الصحيحين أيضا.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا أبو إسرائيل العبسي عن أبي بكر بن حفص ، عن أم ولد حاطب بن أبي بلتعة : أنها مرت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يتسحر فدعاها إلى الطعام ، فقالت : إني صائمة ، قال : وكيف تصومين. فذكرت ذلك للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال: أين

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ١٨٥.

٣٨٢

أنت من وصال آل محمد من السحر إلى السحر».

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا إسرائيل عن عبد الأعلى ، عن محمد بن علي ، عن علي : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يواصل من السحر إلى السحر.

وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف : أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة ، وحمله منهم على أنهم كانوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم لا أنهم كانوا يفعلونه عبادة ، والله أعلم. ويحتمل أنهم كانوا يفهمون من النهي أنه إرشاد من باب الشفقة ، كما جاء في حديث عائشة : رحمة لهم ، فكان ابن الزبير وابنه عامر ومن سلك سبيلهم يتجشمون ذلك ويفعلونه ، لأنهم كانوا يجدون قوة عليه ، وقد ذكر عنهم أنهم كانوا أول ما يفطرون على السمن والصبر لئلا تتخرق الأمعاء بالطعام أولا ، وقد روي عن ابن الزبير أنه كان يواصل سبعة أيام ويصبح في اليوم السابع أقواهم وأجلدهم.

وقال أبو العالية : إنما فرض الله الصيام بالنهار ، فإذا جاء بالليل فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل.

قوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضان ، فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلا أو نهارا حتى يقضي اعتكافه وقال الضحاك كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء ، فقال الله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) أي لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره. وكذا قال مجاهد وقتادة وغير واحد : أنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الآية ، قال ابن أبي حاتم : روي عن ابن مسعود ومحمد بن كعب ومجاهد وعطاء والحسن وقتادة والضحاك والسدي والربيع بن أنس ومقاتل ، قالوا : لا يقربها وهو معتكف. وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتفق عليه عند العلماء أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفا في مسجده ، ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها فلا يحل له أن يثبت فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك من قضاء الغائط او الأكل ، وليس له أن يقبل امرأته ولا أن يضمها إليه ، ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه ، ولا يعود المريض لكن يسأل عنه وهو مار في طريقه.

وللاعتكاف أحكام مفصلة في بابها ، منها ما هو مجمع عليه بين العلماء ومنها ما هو مختلف فيه ، وقد ذكرنا قطعة صالحة من ذلك في آخر كتاب الصيام ، ولله الحمد والمنة ، ولهذا كان الفقهاء المصنفون يتبعون كتاب الصيام بكتاب الاعتكاف اقتداء بالقرآن العظيم ، فإنه نبه على ذكر الاعتكاف بعد ذكر الصوم. وفي ذكره تعالى ، الاعتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام ، كما ثبتت في السنة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عزوجل ، ثم اعتكف أزواجه من بعده ، أخرجاه من

٣٨٣

حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها. وفي الصحيحين ان صفية بنت حيي كانت تزور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو معتكف في المسجد ، فتحدثت عنده ساعة ثم قامت لترجع إلى منزلها ، وكان ذلك ليلا ، فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليمشي معها حتى تبلغ دارها ، وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب المدينة ، فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار ، فلما رأيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسرعا ، وفي رواية : تواريا ، أي حياء من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكون أهله معه ، فقال لهما صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «على رسلكما إنها صفية بنت حيي» أي لا تسرعا واعلما أنها صفية بنت حيي أي زوجتي ، فقالا : سبحان الله يا رسول الله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا ، أو قال : شرا» قال الشافعي رحمه‌الله : أراد عليه‌السلام أن يعلم أمته التبري من التهمة في محلها ، لئلا يقعا في محذور ، وهما كانا أتقى لله من أن يظنا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ، والله أعلم.

ثم المراد بالمباشرة إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك ، فأما معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به ، فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان ، قالت عائشة : ولقد كان المريض يكون في البيت ، فما أسأل عنه ، إلا وأنا مارة.

وقوله (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي هذا الذي بيناه وفرضناه وحددناه من الصيام وأحكامه وما أبحنا فيه وما حرمنا وذكرنا غاياته ورخصه وعزائمه ، حدود الله أي شرعها الله وبينها بنفسه ، فلا تقربوها أي لا تجاوزوها وتتعدوها ، وكان الضحاك ومقاتل يقولان في قوله (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي المباشرة في الاعتكاف ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني هذه الحدود الأربعة ، ويقرأ (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ـ حتى بلغ ـ (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) قال : وكان أبي وغيره من مشيختنا يقولون هذا ويتلونه علينا : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ) أي كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي يعرفون كيف يهتدون وكيف يطيعون ، كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [الحديد : ٩].

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١٨٨)

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة ، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه ، وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام ، وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان

٣٨٤

وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا : لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم. وقد ورد في الصحيحين (١) عن أم سلمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «ألا إنما أنا بشر وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم ، فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها» فدلت هذه الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر ، فلا يحل في نفس الأمر حراما هو حرام ، ولا يحرم حلالا هو حلال وإنما هو ملزم في الظاهر ، فإن طابق في نفس الأمر فذاك وإلا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره ، ولهذا قال تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجونه في كلامكم.

قال قتادة : اعلم يا ابن آدم إن قضاء القاضي لا يحل لك حراما ولا يحق لك باطلا ، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى وتشهد به الشهود ، والقاضي بشر يخطئ ويصيب ، واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة ، فيقضي على المبطل للمحق بأجود مما قضى به للمبطل على المحق في الدنيا.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٨٩)

قال العوفي عن ابن عباس : سأل الناس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الأهلة ، فنزلت هذه الآية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) يعلمون بها حل دينهم وعدة نسائهم ووقت حجهم. وقال أبو جعفر (٢) عن الربيع ، عن أبي العالية : بلغنا أنهم قالوا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم خلقت الأهلة؟ فأنزل الله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ) يقول جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم وعدة نسائهم ومحل دينهم (٣) ، كذا روي عن عطاء والضحاك وقتادة والسدي والربيع بن أنس نحو ذلك ؛ وقال عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «جعل الله الأهلة مواقيت للناس ، فصوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما» ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن أبي رواد به ، وقال : كان ثقة عابدا مجتهدا شريف النسب فهو صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وقال محمد بن جابر عن قيس بن طلق عن أبيه ، قال : قال رسول الله : «جعل الله الأهلة ، فإذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» وكذا روي من

__________________

(١) صحيح البخاري (مظالم باب ١٦ ، وأحكام باب ٢٩ و ٣١) وصحيح مسلم (أقضية حديث ٥)

(٢) تفسير الطبري ٢ / ١٩١.

(٣) في الطبري : «وحلّ ديونهم».

٣٨٥

حديث أبي هريرة ومن كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وقوله (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) قال البخاري : حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية ، أتوا البيت من ظهره فأنزل الله (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : كانت الأنصار إذا قدموا من سفرهم ، لم يدخل الرجل من قبل بابه ، فنزلت هذه الآية.

وقال الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر : كانت قريش تدعى الحمس (١) ، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام ، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام ، فبينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بستان ، إذ خرج من بابه ، وخرج معه قطبة بن عامر من الأنصار فقالوا : يا رسول الله ، إن قطبة بن عامر رجل تاجر ، وإنه خرج معك من الباب ، فقال له : ما حملك على ما صنعت؟ قال : رأيتك فعلته ، ففعلت كما فعلت ، فقال : إني أحمس ، قال له : فإن ديني دينك. فأنزل الله (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) رواه ابن أبي حاتم ، ورواه العوفي عن ابن عباس بنحوه ، وكذا روي عن مجاهد والزهري وقتادة وإبراهيم النخعي والسدي والربيع بن أنس.

وقال الحسن البصري : كان أقوام من أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفرا ، وخرج من بيته يريد سفره الذي خرج له ، ثم بدا له بعد خروجه أن يقيم ويدع سفره ، لم يدخل البيت من بابه ولكن يتسوره من قبل ظهره ، فقال الله تعالى : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) الآية ، وقال محمد بن كعب : كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت ، فأنزل الله هذه الآية ، وقال عطاء بن أبي رباح : كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها ، ويرون أن ذلك أدنى إلى البر ، فقال الله (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي اتقوا الله ، فافعلوا ما أمركم به واتركوا ما نهاكم عنه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) غدا إذا وقفتهم بين يديه فيجازيكم على التمام والكمال.

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) (١٩٣)

__________________

(١) الحمس : لأنهم كانوا يتشدّدون في دينهم.

٣٨٦

قال أبو جعفر الرازي (١) عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) قال : هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة ، فلما نزلت كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقاتل من قاتله ، ويكف عمن كف عنه ، حتى نزلت سورة براءة. وكذا قال عبد الرحمن(٢) بن زيد بن أسلم ، حتى قال : هذه منسوخة بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ١] وفي هذا نظر ، لأن قوله (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله ، أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم ، كما قال : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦] ولهذا قال في الآية : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي لتكون همتكم منبعثة على قتالهم ، كما همتهم منبعثة على قتالكم ، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصا.

وقوله : (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي قاتلوا في سبيل الله ، ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي ، كما قاله الحسن البصري : من المثلة والغلول وقتل النساء والصبيان والشيوخ ، الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم ، والرهبان وأصحاب الصوامع ، وتحريق الأشجار ، وقتل الحيوان لغير مصلحة ، كما قال ذلك ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومقاتل بن حيان وغيرهم ، ولهذا جاء في صحيح مسلم ، عن بريدة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «اغزوا في سبيل الله وقاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع» رواه الإمام أحمد وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بعث جيوشه قال «اخرجوا باسم الله قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله لا تعتدوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع» رواه الإمام أحمد (٣) ، ولأبي داود عن أنس مرفوعا نحوه.

وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : وجدت امرأة في بعض مغازي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقتولة ، فأنكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل النساء والصبيان.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا مصعب بن سلام ، حدثنا الأحلج عن قيس بن أبي مسلم ، عن ربعي بن حراش ، قال : سمعت حذيفة يقول : ضرب لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمثالا واحدا وثلاثة وخمسة وسبعة وتسعة ، وأحد عشر ، فضرب لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها مثلا وترك سائرها ، قال «إن قوما كانوا أهل ضعف ومسكنة قاتلهم أهل تجبر وعداوة ، فأظهر الله أهل الضعف عليهم ، فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلطوهم ، فأسخطوا الله عليهم إلى يوم القيامة» هذا حديث حسن الإسناد ، ومعناه أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء فاعتدوا عليهم فاستعملوهم

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ١٩٥.

(٢) تفسير الطبري ٢ / ١٩٥.

(٣) المسند (ج ٥ ص ٤٠٧)

٣٨٧

فيما لا يليق بهم ، أسخطوا الله عليهم بسبب هذا الاعتداء. والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدا.

ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتل الرجال ، نبه تعالى على أن ما هم مشتملون عليه من الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله ، أبلغ وأشد وأعظم وأطم من القتل ، ولهذا قال : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) قال أبو مالك : أي ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل. ولهذا قال : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) ، يقول الشرك أشد من القتل.

وقوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) كما جاء في الصحيحين «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، ولم يحل إلا ساعة من نهار وإنها ساعتي هذه ، حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد شجره ولا يختلي خلاه ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم» ، يعني بذلك صلوات الله وسلامه عليه قتاله أهله يوم فتح مكة ، فإنه فتحها عنوة وقتلت رجال منهم عند الخندمة (١) ، وقيل صلحا لقوله «من أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن».

وقوله : (حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) يقول تعالى : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدؤوكم بالقتال فيه ، فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعا للصيال ، كما بايع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال ، لما تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ ، ثم كف الله القتال بينهم فقال (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) [الفتح : ٢٤] وقال (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ ، لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [الفتح : ٢٥].

وقوله : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن تركوا القتال في الحرم وأنابوا إلى الإسلام والتوبة ، فإن الله يغفر ذنوبهم ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله فإنه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب منه إليه ، ثم أمر الله بقتال الكفار (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ، أي شرك قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع ومقاتل بن حيان والسدي وزيد بن أسلم (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) أي يكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان ، كما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» وفي الصحيحين «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا

__________________

(١) الخندمة : جبل بمكة.

٣٨٨

مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» (١).

وقوله : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) يقول تعالى فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك وقتال المؤمنين فكفوا عنهم ، فإن من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان إلا على الظالمين ، وهذا معنى قول مجاهد أن لا يقاتل إلا من قاتل أو يكون تقديره فإن انتهوا تخلصوا من الظلم وهو الشرك ، فلا عدوان عليهم بعد ذلك ، والمراد بالعدوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة كقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤] وقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) [النحل : ١٢] ولهذا قال عكرمة وقتادة : الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله.

وقال البخاري : قوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الآية ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الوهاب حدثنا عبيد الله عن نافع ، عن ابن عمر قال : أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس ضيعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ فقال يمنعني أن الله حرم دم أخي ، قالا : ألم يقل الله (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)؟ فقال : قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ، وحتى يكون الدين لغير الله ، وزاد عثمان بن صالح عن ابن وهب ، أخبرني فلان وحيوة بن شريح عن بكر بن عمر المغافري ، أن بكير بن عبد الله حدثه عن نافع ، أن رجلا أتى ابن عمر فقال : يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاما وتقيم عاما وتترك الجهاد في سبيل الله عزوجل ، وقد علمت ما رغب الله فيه؟ فقال : يا ابن أخي بني الإسلام على خمس : الإيمان بالله ورسوله والصلوات الخمس وصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت. قالوا : يا أبا عبد الرحمن ، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه ، (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [الحجرات : ٩] (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) قال : فعلنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان الإسلام قليلا ، فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه أو عذبوه ، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة ، قال فما قولك في علي وعثمان؟ قال : أما عثمان فكان الله عفا عنه ، وأما أنتم فكرهتم أن يعفو عنه ، وأما علي فابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وختنه ، فأشار بيده ، فقال : هذا بيته حيث ترون.

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٩٤)

قال عكرمة : عن ابن عباس والضحاك والسدي وقتادة ومقسم والربيع بن أنس وعطاء

__________________

(١) البخاري (إيمان باب ١٧) ومسلم (إيمان حديث ٢٢)

٣٨٩

وغيرهم (١) ، لما سار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، معتمرا في سنة ست من الهجرة وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت وصدوه بمن معه من المسلمين ، في ذي القعدة وهو شهر حرام حتى قاضاهم على الدخول من قابل ، فدخلها في السنة الآتية هو ومن كان من المسلمين ، وأقصه الله منهم ، فنزلت في ذلك هذه الآية (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ).

وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى حدثنا ليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله ، قال : لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغزو في الشهر الحرام ، إلا أن يغزى ويغزوا ، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ.

هذا إسناد صحيح. ولهذا لما بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو مخيم بالحديبية أن عثمان قتل ، وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين ، بايع أصحابه وكانوا ألفا وأربعمائة تحت الشجرة ، على قتال المشركين ، فلما بلغه أن عثمان لم يقتل ، كف عن ذلك وجنح إلى المسالمة والمصالحة ، فكان ما كان. وكذلك لما فرغ من قتال هوازن يوم حنين ، وتحصن فلّهم (٢) بالطائف ، عدل إليها فحاصرها ، ودخل ذو القعدة وهو محاصر لها بالمنجنيق ، واستمر عليه إلى كمال أربعين يوما كما ثبت في الصحيحين عن أنس ، فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تفتح ، ثم كر راجعا إلى مكة واعتمر من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين ، وكانت عمرته هذه في ذي القعدة أيضا ، عام ثمان صلوات الله وسلامه عليه.

وقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) أمر بالعدل حتى في المشركين ، كما قال : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) [النحل : ١٢٦] وقال : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] وروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أن قوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ، نزلت بمكة حيث لا شوكة ولا جهاد ، ثم نسخ بآية القتال بالمدينة ، وقد رد هذا القول ابن جرير (٣) ، وقال : بل الآية مدنية بعد عمرة القضية وعزا ذلك إلى مجاهد رحمه‌الله.

وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أمر لهم بطاعة الله وتقواه ، وإخباره بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة.

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٩٥)

قال البخاري : حدثنا إسحاق أخبرنا النضر ، أخبرنا شعبة عن سليمان ، سمعت أبا وائل عن حذيفة (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) قال : نزلت في النفقة ، ورواه ابن

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٢ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٢) فلّهم : أي المنهزمون منهم والجمع فلول.

(٣) تفسير الطبري ٢ / ٢٠٥.

٣٩٠

أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح عن أبي معاوية عن الأعمش به مثله ، قال : وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان نحو ذلك.

وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال : حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه ، ومعنا أبو أيوب الأنصاري ، فقال ناس : ألقى بيده إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب : نحن أعلم بهذه الآية ، إنما نزلت فينا ، صحبنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه ، فلما فشا الإسلام وظهر ، اجتمعنا معشر الأنصار نجيا فقلنا : قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونصره ، حتى فشا الإسلام وكثر أهله ، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد ، وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا ، فنقيم فيهما ، فنزل فينا (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد. رواه أبو داود والترمذي والنسائي وعبد بن حميد ، في تفسيره ، وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه والحافظ أبو يعلى في مسنده ، وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه ، كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب به.

وقال الترمذي حسن صحيح غريب ، وقال الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ولفظ أبي داود عن أسلم أبي عمران : كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى أهل الشام رجل يريد فضالة بن عبيد ، فخرج من المدينة صف عظيم من الروم ، فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم ، ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه ، فقالوا سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب : يا أيها الناس ، إنكم لتتأولون هذه الآية على غير التأويل وإنما نزلت فينا معشر الأنصار ، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه ، قلنا فيما بيننا : لو أقبلنا على أموالنا فاصلحناها ، فأنزل الله هذه الآية (١).

وقال أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق السبيعي ، قال : قال رجل للبراء بن عازب ، إن حملت على العدو وحدي فقتلوني ، أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة؟ قال : لا ، قال الله لرسوله: (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) [النساء : ٨٤] وإنما هذه في النفقة ، رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في مستدركه ، من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق به ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ورواه الترمذي وقيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن البراء ، فذكره وقال بعد قوله (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) ، ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح ، كاتب الليث ، حدثني الليث ، حدثنا

__________________

(١) وانظر الدر المنثور ١ / ٣٧٤.

٣٩١

عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي بكر بن نمير بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عبد الرحمن الأسود بن عبد يغوث ، أخبره أنهم حاصروا دمشق فانطلق رجل من أزد شنوءة ، فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل ، فعاب ذلك عليه المسلمون ، ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص ، فأرسل إليه عمرو فرده ، وقال عمرو : قال الله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

وقال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، في قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، قال : ليس ذلك في القتال ، إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله ولا تلق بيدك إلى التهلكة.

قال حماد بن سلمة ، عن داود ، عن الشعبي عن الضحاك بن أبي جبير ، قال : كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم ، فأصابتهم سنة فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله ، فنزلت: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

وقال الحسن البصري (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) قال : هو البخل.

وقال سماك بن حرب عن النعمان بن بشير ، في قوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، أن يذنب الرجل الذنب فيقول : لا يغفر لي ، فأنزل الله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) رواه ابن مردويه.

وقال ابن أبي حاتم : وروي عن عبيدة السلماني والحسن وابن سيرين وأبي قلابة نحو ذلك ، يعني نحو قول النعمان بن بشير ، أنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له ، فيلقي بيده إلى التهلكة ، أي يستكثر من الذنوب فيهلك. ولهذا روى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : التهلكة عذاب الله.

وقال ابن أبي حاتم وابن جرير (١) ، جميعا حدثنا يونس حدثنا ابن وهب ، أخبرني أبو صخر عن القرظي محمد بن كعب ، أنه كان يقول في هذه الآية : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) قال : كان القوم في سبيل الله ، فيتزود الرجل ، فكان أفضل زادا من الآخر ، أنفق البائس من زاده حتى لا يبقى من زاده شيء ، أحب أن يواسي صاحبه فأنزل الله (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

وقال ابن وهب أيضا : أخبرني عبد الله بن عياش عن زيد بن أسلم في قول الله (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وذلك أن رجالا يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بغير نفقة ، فإما أن يقطع بهم وإما كانوا عيالا ، فأمرهم الله أن يستنفقوا من المشي. وقال لمن بيده فضل (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٢٠٧.

٣٩٢

ومضمون الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله ، في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات ، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء ، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم ، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتقاده ، ثم عطف بالأمر بالإحسان ، وهو أعلى مقامات الطاعة ، فقال : (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١٩٦)

لما ذكر تعالى أحكام الصيام ، وعطف بذكر الجهاد ، شرع في بيان المناسك فأمر بإتمام الحج والعمرة ، وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما ، ولهذا قال بعده : فإن أحصرتم ، أي صددتم عن الوصول إلى البيت ، ومنعتم من إتمامهما ، ولهذا اتفق العلماء ، على أن الشروع في الحج والعمرة ملزم ، سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها ، كما هما قولان للعلماء ، وقد ذكرناهما بدلائلهما في كتابنا الأحكام ، مستقصى ولله الحمد والمنة.

وقال شعبة : عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن علي أنه قال في هذه الآية : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ، قال : أن تحرم من دويرة أهلك ، وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس ، وعن سفيان الثوري أنه قال في هذه الآية : إتمامها أن تحرم من أهلك ، لا تريد إلا الحج والعمرة وتهل من الميقات ، ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة ، حتى إذا كنت قريبا من مكة ، قلت لو حججت أو أعمرت ، وذلك يجزئ ، ولكن التمام أن تخرج له ولا تخرج لغيره ، وقال مكحول : إتمامهما إنشاؤهما جميعا من الميقات ، وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري ، قال : بلغنا أن عمر قال في قول الله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) من تمامهما أن تفرد كل واحد منهما من الآخر ، وأن تعتمر في غير أشهر الحج ، إن الله تعالى يقول : الحج أشهر معلومات ، وقال هشام عن ابن عون : سمعت القاسم بن محمد يقول : إن العمرة في أشهر الحج ليست بتامة ، فقيل له : فالعمرة في المحرم؟ قال : كانوا يرونها تامة ، وكذا روي عن قتادة بن دعامة رحمهما‌الله.

وهذا القول فيه نظر لأنه قد ثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اعتمر أربع عمر ، كلها في ذي القعدة ، عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست ، وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع ، وعمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معا في ذي القعدة سنة عشر وما اعتمر في غير ذلك بعد هجرته ، ولكن قال لأم هانئ : «عمرة في رمضان تعدل حجة معي» ، وما ذاك إلا لأنها قد عزمت على الحج معه عليه‌السلام ، فاعتاقت عن ذلك بسبب الطهر ، كما هو مبسوط

٣٩٣

في الحديث عند البخاري ونص سعيد بن جبير على أنه من خصائصها ، والله أعلم.

وقال السدي في قوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) أي أقيموا الحج والعمرة ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ، يقول : من أحرم بحج أو بعمرة فليس له أن يحل ، حتى يتمهما تمام الحج ، يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة ، وطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل. وقال قتادة عن زرارة ، عن ابن عباس أنه قال : الحج عرفة ، والعمرة الطواف ، وكذا روى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة في قوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ، قال : هي قراءة عبد الله وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لا يجاوز بالعمرة البيت. قال إبراهيم : فذكرت ذلك لسعيد بن جبير ، فقال : كذلك قال ابن عباس. وقال سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة أنه قال : وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت ، وكذا روى الثوري أيضا ، عن إبراهيم عن منصور عن إبراهيم ، أنه قرأ : «وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت». وقرأ الشعبي : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) برفع العمرة ، وقال : ليست بواجبة. وروي عنه خلاف ذلك ، وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة ، عن أنس وجماعة من الصحابة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جمع في إحرامه بحج وعمرة ، وثبت عنه في الصحيح أنه قال لأصحابه : «من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة» ، وقال في الصحيح أيضا : «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».

وقد روى الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية حديثا غريبا ، فقال : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو عبد الله الهروي ، حدثنا غسان الهروي ، حدثنا إبراهيم ابن طهمان ، عن عطاء عن صفوان بن أمية ، أنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم متضمخ بالزعفران ، عليه جبة ، فقال : كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي قال : فأنزل الله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أين السائل عن العمرة»؟ فقال : ها أنا ذا ، فقال له «ألق عنك ثيابك ثم اغتسل واستنشق ما استطعت ، ثم ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك» هذا حديث غريب وسياق عجيب ، والذي ورد في الصحيحين عن يعلى بن أمية في قصة الرجل الذي سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بالجعرانة ، فقال : كيف ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة وخلوق (١)؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم جاءه الوحي ثم رفع رأسه فقال : أين السائل؟ فقال ها أنا ذا ، فقال «أما الجبة فانزعها ، وأما الطيب الذي بك فاغسله ، ثم ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك» ولم يذكر فيه الغسل والاستنشاق ، ولا ذكر نزول هذه الآية ، وهو عن يعلى بن أمية لا صفوان بن أمية ، فالله أعلم.

وقوله (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ذكروا أن هذه الآية نزلت في سنة ست ، أي عام الحديبية حين حال المشركون بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين الوصول إلى البيت ، وأنزل الله في ذلك

__________________

(١) الخلوق : ضرب من الطيب أعظم أجزائه الزعفران.

٣٩٤

سورة الفتح بكمالها ، وأنزل لهم رخصة أن يذبحوا ما معهم من الهدي ، وكان سبعين بدنة ، وأن يحلقوا رؤوسهم وأن يتحللوا من إحرامهم ، فعند ذلك أمرهم عليه‌السلام أن يحلقوا رؤوسهم وأن يتحللوا ، فلم يفعلوا انتظارا للنسخ ، حتى خرج فحلق رأسه ففعل الناس ، وكان منهم من قصر رأسه ولم يحلقه ، فلذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رحم الله المحلقين» قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ فقال في الثالثة «والمقصرين» ، وقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك كل سبعة في بدنة ، وكانوا ألفا وأربعمائة ، وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم ، وقيل بل كانوا على طرف الحرم ، فالله أعلم.

ولهذا اختلف العلماء : هل يختص الحصر بالعدو فلا يتحلل إلا من حصره عدو لا مرض ولا غيره على قولين ، فقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس ، وابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس ، وابن أبي نجيح عن ابن عباس ، أنه قال : لا حصر إلا حصر العدو ، فأما من أصابه مرض أو وضع أو ضلال فليس عليه شيء ، إنما قال الله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) فليس الأمن حصرا ، قال : وروي عن ابن عمر وطاوس والزهري وزيد بن أسلم نحو ذلك ، والقول الثاني : إن الحصر أعم من أن يكون بعدو أو مرض أو ضلال ، وهو التوهان عن الطريق أو نحو ذلك ، قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا حجاج بن الصواف عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن الحجاج بن عمرو الأنصاري ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من كسر أو وجع أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى» قال : فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا : صدق ، وأخرجه أصحاب الكتب الأربعة من حديث يحيى بن أبي كثير به ، وفي رواية لأبي داود وابن ماجة : من عرج أو كسر أو مرض ، فذكر معناه. ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن عرفة ، عن إسماعيل بن علية ، عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف به ، ثم قال : وروي عن ابن مسعود وابن الزبير وعلقمة وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ومجاهد والنخعي وعطاء ومقاتل بن حيان : الإحصار من عدو أو مرض أو كسر وقال الثوري : الإحصار من كل شيء آذاه وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ، فقالت : يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية ، فقال «حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني» ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله ، فذهب من ذهب من العلماء إلى صحة الاشتراط في الحج لهذا الحديث ، وقد علق الإمام محمد بن إدريس الشافعي القول بصحة هذا المذهب على صحة هذا الحديث ، قال البيهقي وغيره من الحفاظ : وقد صح ولله الحمد.

وقوله (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) قال الإمام مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب ، أنه كان يقول : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) شاة ، وقال ابن عباس : الهدي من الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والمعز والضأن ، وقال الثوري عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن

__________________

(١) المسند (ج ٣ ص ٤٥٠)

٣٩٥

عباس في قوله (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) قال : شاة ، وكذا قال عطاء ومجاهد وطاوس وأبو العالية ومحمد بن علي بن الحسين وعبد الرحمن بن القاسم والشعبي والنخعي والحسن وقتادة والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم مثل ذلك ، وهو مذهب الأئمة الأربعة ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة وابن عمر : أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر. قال : وروي عن سالم والقاسم وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير نحو ذلك.

(قلت) والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قصة الحديبية ، فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذلك شاة ، وإنما ذبحوا الإبل والبقر ، ففي الصحيحين عن جابر ، قال : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة ، وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) قال : بقدر يسارته ، وقال العوفي ، عن ابن عباس : إن كان موسرا فمن الإبل ، وإلا فمن البقر ، وإلا فمن الغنم. وقال هشام بن عروة عن أبيه (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) قال : إنما ذلك فيما بين الرخص والغلاء ، والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجزاء ذبح الشاة في الإحصار أن الله أوجب ذبح ما استيسر من الهدي أي مهما تيسر مما يسمى هديا ، والهدي من بهيمة الأنعام ، وهي الإبل والبقر والغنم ، كما قاله الحبر البحر ترجمان القرآن وابن عم (١) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت : أهدى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مرة غنما.

وقوله (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) معطوف على قوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وليس معطوفا على قوله (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) كما زعمه ابن جرير رحمه‌الله ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم ، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم ، فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة إن كان قارنا ، أو من فعل أحدهما إن كان منفردا أو متمتعا ، كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت : يا رسول الله ، ما شأن الناس حلوا من العمرة ، ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال «إني لبدت رأسي وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر» (٢).

وقوله (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) قال البخاري : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، سمعت عبد الله بن معقل قال : قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ فسألته عن فدية من صيام ، فقال : حملت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقمل يتناثر على وجهي ، فقال «ما كنت أرى أن الجهد

__________________

(١) هذه النعوت تطلق عادة على عبد الله بن عباس.

(٢) صحيح البخاري (حج باب ٣٤) ومسلم (حج حديث ١٧٥ ، ١٧٧)

٣٩٦

بلغ بك هذا ، أما تجد شاة»؟ قلت : لا ، قال : «صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع من طعام ، واحلق رأسك» فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة ، قال : أتى عليّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا أوقد تحت قدر والقمل يتناثر على وجهي ، أو قال حاجبي ، فقال «يؤذيك هوام رأسك»؟ قلت : نعم ، قال «فاحلقه ، وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، أو أنسك نسيكة» قال أيوب : لا أدري بأيتهن بدأ.

وقال أحمد (٢) أيضا : حدثنا هشيم ، حدثنا أبو بشر عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة ، قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية ونحن محرمون وقد حصرنا المشركون ، وكانت لي وفرة ، فجعلت الهوام تساقط على وجهي ، فمر عليّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أيؤذيك هوام رأسك»؟ فأمره أن يحلق قال : ونزلت هذه الآية (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ).

وكذا رواه عفان عن شعبة عن أبي بشر وهو جعفر بن إياس به ، وعن شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى به ؛ وعن شعبة عن داود عن الشعبي عن كعب بن عجرة نحوه ؛ ورواه الإمام مالك عن حميد بن قيس ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة ، فذكره نحوه ، وقال سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن أبان بن صالح ، عن الحسن البصري : أنه سمع كعب بن عجرة يقول : فذبحت شاة ، ورواه ابن مردويه ، وروي أيضا من حديث عمر بن قيس وهو ضعيف عن عطاء عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «النسك شاة ، والصيام ثلاثة أيام ، والطعام فرق بين ستة» وكذا روي عن علي ومحمد بن كعب وعكرمة وإبراهيم ومجاهد وعطاء والسدي والربيع بن أنس.

وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا عبد الله بن وهب أن مالك بن أنس حدثه عن عبد الكريم بن مالك الجزري ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة : أنه كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآذاه القمل في رأسه ، فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحلق رأسه ، وقال : «صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، مدين مدين لكل إنسان ، أو أنسك شاة ، أي ذلك فعلت أجزأ عنك» وهكذا روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) قال : إذا كان أو فأيه أخذت أجزأ عنك ، قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد وعكرمة وعطاء وطاوس والحسن وحميد الأعرج وإبراهيم والنخعي والضحاك نحو ذلك.

(قلت) وهو مذهب الأئمة الأربعة ، وعامة العلماء أنه يخير في هذا المقام ، إن شاء صام وإن

__________________

(١) المسند (ج ٤ ص ٢٤١)

(٢) المسند (ج ٤ ص ٢٤١)

٣٩٧

شاء تصدق بفرق ، وهو ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع وهو مدان ، وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء أيّ ذلك فعل أجزأه ، ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاء بالأسهل فالأسهل (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) ولما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كعب بن عجرة بذلك ، أرشده إلى الأفضل فالأفضل ، فقال : أنسك شاة ، أو أطعم ستة مساكين ، أو صم ثلاثة أيام ، فكل حسن في مقامه ، ولله الحمد والمنة.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : ذكر الأعمش ، قال : سأل إبراهيم سعيد بن جبير عن هذه الآية (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) فأجابه بقوله : يحكم عليه إطعام ، فإن كان عنده اشترى شاة ، وإن لم يكن قومت الشاة دراهم وجعل مكانها طعام فتصدق ، وإلا صام لكل نصف صاع يوما ، قال إبراهيم : كذلك سمعت علقمة يذكر ، قال : لما قام لي سعيد بن جبير : من هذ ما أظرفه؟ قال : قلت : هذا إبراهيم ، فقال : ما أظرفه كان يجالسنا ، قال : فذكرت ذلك لإبراهيم قال : فلما قلت : يجالسنا انتفض منها.

وقال ابن جرير (٢) أيضا : حدثنا ابن أبي عمران ، حدثنا عبيد الله بن معاذ عن أبيه ، عن أشعث ، عن الحسن في قوله (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) قال : إذا كان بالمحرم أذى من رأسه ، حلق وافتدى بأي هذه الثلاثة شاء ، والصيام عشرة أيام ، والصدقة على عشرة مساكين ، كل مسكين مكوكين : مكوكا من تمر ، ومكوكا من بر ، والنسك شاة.

وقال قتادة عن الحسن وعكرمة في قوله (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) قال : إطعام عشرة مساكين ، وهذان القولان من سعيد بن جبير وعلقمة والحسن وعكرمة ، قولان غريبان فيهما نظر ، لأنه قد ثبتت السنة في حديث كعب بن عجرة الصيام ثلاثة أيام لا ستة ، أو إطعام ستة مساكين ، أو نسك شاة ، وأن ذلك على التخيير كما دل عليه سياق القرآن ، وأما هذا الترتيب فإنما هو معروف في قتل الصيد كما هو نص القرآن وعليه أجمع الفقهاء هناك بخلاف هذا ، والله أعلم.

وقال هشيم : أخبرنا ليث عن طاوس أنه كان يقول : ما كان من دم أو طعام فبمكة ، وما كان من صيام فحيث شاء ، وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن ، وقال هشيم : أخبرنا حجاج وعبد الملك وغيرهما عن عطاء أنه كان يقول : ما كان من دم فبمكة ، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء ، وقال هشيم : أخبرنا يحيى بن سعيد عن يعقوب بن خالد ، أخبرنا أبو أسماء مولى ابن جعفر ، قال : حج عثمان بن عفان ومعه علي والحسين بن علي فارتحل عثمان ، قال أبو أسماء وكنت مع ابن جعفر فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه ، قال : فقلت : أيها النائم ، فاستيقظ فإذا الحسين بن علي ، قال : فحمله ابن جعفر حتى أتينا به السقيا ، قال : فأرسل إلي علي ومعه أسماء بنت عميس ، قال : فمرضناه نحوا من عشرين ليلة ، قال : قال علي للحسين :

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٢٤٤.

(٢) تفسير الطبري ٢ / ٢٤٤.

٣٩٨

ما الذي تجد؟ قال : فأومأ بيده إلى رأسه ، قال : فأمر به علي فحلق رأسه ، ثم دعا ببدنة فنحرها فإن كانت هذه الناقة عن الحلق ، ففيه أنه نحرها دون مكة. وإن كانت عن التحلل فواضح.

وقوله (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي فإذا تمكنتم من أداء المناسك فمن كان منكم متمتعا بالعمرة إلى الحج ، وهو يشمل من أحرم بهما ، أو أحرم بالعمرة أولا ، فلما فرغ منها أحرم بالحج ، وهذا هو التمتع الخاص ، وهو المعروف في كلام الفقهاء ، والتمتع العام يشمل القسمين ، كما دلت عليه الأحاديث الصحاح ، فإن من الرواة من يقول : تمتع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآخر يقول : قرن ولا خلاف أنه ساق هديا ، وقال تعالى : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي فليذبح ما قدر عليه من الهدي ، وأقله شاة ، وله أن يذبح البقر ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذبح عن نسائه البقر ، وقال الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذبح البقر عن نسائه وكن متمتعات ، رواه أبو بكر بن مردويه.

وفي هذا دليل على مشروعية التمتع ، كما جاء في الصحيحين عن عمران بن حصين ، قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله وفعلناها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم لم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها ، حتى مات ، قال رجل برأيه ما شاء. قال البخاري (١) : يقال إنه عمر ، وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحا به أن عمر كان ينهى الناس عن التمتع ويقول : إن نأخذ بكتاب الله فإن الله يأمر بالتمام ، يعني قوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وفي نفس والأمر لم يكن عمر رضي الله عنه ينهى عنها محرما لها ، إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين ، كما قد صرح به رضي الله عنه.

وقوله (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) يقول تعالى : فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج ، أي في أيام المناسك ، قال العلماء : والأولى أن يصومها قبل عرفة في العشر ، قاله عطاء ، أو من حين يحرم قاله ابن عباس وغيره لقوله في الحج ، ومنهم من يجوز صيامها من أول شوال ، قاله طاوس ومجاهد وغير واحد ، وجوز الشعبي صيام يوم عرقة وقبله يومين ، وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والسدي وعطاء وطاوس والحكم والحسن وحماد وإبراهيم وأبو جعفر الباقر والربيع ومقاتل بن حيان ، وقال العوفي عن ابن عباس : إذا لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة ، فإذا كان يوم عرفة الثالث ، فقد تم صومه ، وسبعة إذا رجع إلى أهله ، وكذا روى أبو إسحاق عن وبرة عن ابن عمر قال : يصوم يوما قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة وكذا روى جعفر بن محمد عن أبيه ، عن علي أيضا :

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة ٢ باب ١٣)

٣٩٩

فلو لم يصمها أو بعضها قبل العيد ، فهل يجوز أن يصومها في أيام التشريق؟ فيه قولان للعلماء وهما للإمام الشافعي أيضا ، القديم منهما : أنه يجوز له صيامها لقول عائشة وابن عمر في صحيح البخاري : لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي هكذا رواه مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة وعن سالم عن ابن عمر وقد روي من غير وجه عنهما ، ورواه سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي ، أنه كان يقول : من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج ، صامهن أيام التشريق ، وبهذا يقول عبيد بن عمير الليثي عن عكرمة والحسن البصري وعروة بن الزبير ، وإنما قالوا ذلك لعموم قوله (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) والجديد من القولين أنه لا يجوز صيامها أيام التشريق لما رواه مسلم عن قتيبة الهذلي رضي الله عنه ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيام التشريق أيام أكل وشرب ، وذكر الله عزوجل».

وقوله (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) فيه قولان : [أحدهم] إذا رجعتم إلى رحالكم ، ولهذا قال مجاهد : هي رخصة إذا شاء صامها في الطريق ، وكذا قال عطاء بن أبي رباح. والقول [الثاني] إذا رجعتم إلى أوطانكم ، قال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري عن يحيى بن سعيد عن سالم ، سمعت ابن عمر قال : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ، وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) قال : إذا رجع إلى أهله ، وكذا روي عن سعيد بن جبير وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وقتادة والزهري والربيع بن أنس ، وحكى على ذلك أبو جعفر بن جرير الإجماع ، وقد قال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، أن ابن عمر قال : تمتع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، فأهل بعمرة ، ثم أهل بالحج ، فتمتع الناس مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبدأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعمرة إلى الحج ، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ، ومنهم من لم يهد ، فلما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة قال للناس : «من كان منكم أهدى فإنه لا يحل بشيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج ، فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله» وذكر تمام الحديث ، قال الزهري : وأخبرني عورة عن عائشة بمثل ما أخبرني سالم عن أبيه ، والحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري به.

وقوله (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) قيل : تأكيد ، كما تقول العرب : رأيت بعيني ، وسمعت بأذني ، وكتبت بيدي ، وقال الله تعالى : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] وقال (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت : ٤٨] وقال (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [الأعراف : ١٤٢] وقيل : معنى كاملة الأمر بإكمالها وإتمامها ، اختاره ابن جرير ، وقيل معنى كاملة أي مجزئة عن الهدي ، قال هشيم عن عباد بن راشد عن الحسن البصري في قوله (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) قال : من الهدي.

٤٠٠