تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

نسختها هذه الآية (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) [النساء : ٧] ثم قال ابن أبي حاتم ، وروي عن ابن عمر وأبي موسى وسعيد بن المسيب والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين وعكرمة وزيد بن أسلم والربيع بن أنس وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وطاوس وإبراهيم النخعي وشريح والضحاك والزهري : أن هذا الآية منسوخة ، نسختها آية الميراث.

والعجب من أبي عبد الله محمد بن عمر الرازي رحمه‌الله ، كيف حكى في تفسيره الكبير عن أبي مسلم الأصفهاني أن هذه الآية غير منسوخة وإنما هي مفسرة بآية المواريث ، ومعناه كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين من قوله (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١] قال : وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء : قال : ومنهم من قال : إنها منسوخة فيمن يرث ثابتة فيمن لا يرث ، وهو مذهب ابن عباس والحسن ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد (١).

(قلت) وبه قال أيضا سعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان ، ولكن على قول هؤلاء لا يسمى هذا نسخا في اصطلاحنا المتأخر ، لأن آية المواريث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم أية الوصاية ، لأن الأقربين أعم ممن يرث ولا يرث ، فرفع حكم من يرث بما عين له ، وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى ، وهذا إنما يتأتى على قول بعضهم : إن الوصاية في ابتداء الإسلام إنما كانت ندبا حتى نسخت ، فأما من يقول : إنها كانت واجبة وهو الظاهر من سياق الآية ، فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث كما قاله أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء ، فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخ بالإجماع ، بل منهي عنه للحديث المتقدم «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» فآية الميراث حكم مستقل ووجوب من عند الله لأهل الفروض والعصبات ، رفع بها حكم هذه بالكلية ، بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم يستحب له أن يوصي لهم من الثلث استئناسا بآية الوصية وشمولها ، ولما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» (٢) قال ابن عمر : ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي. والآيات والأحاديث بالأمر ببرّ الأقارب والإحسان إليهم كثيرة جدا.

وقال عبد بن حميد في مسنده : أخبرنا عبد الله عن مبارك بن حسان ، عن نافع قال : قال عبد الله : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يقول الله تعالى : يا ابن آدم ثنتان لم يكن لك واحدة منهما : جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك لأطهرك به وأزكيك ، وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء

__________________

(١) تفسير الرازي ٥ / ٥٣ ـ ٥٤.

(٢) أخرجه البخاري (وصايا باب ١) ومسلم (وصية حديث ١ و ٤)

٣٦١

أجلك».

وقوله (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا ، قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وأبو العالية وعطية العوفي والضحاك والسدي والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم.

ثم منهم من قال : الوصية مشروعة سواء قل المال أو كثر كالوراثة ومنهم من قال : إنما يوصي إذا ترك مالا جليلا ، ثم اختلفوا في مقداره ، فقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه ، قال : قيل لعلي رضي الله عنه : إن رجلا من قريش قد مات وترك ثلاثمائة دينار أو أربعمائة ولم يوص؟ قال : ليس بشيء إنما قال الله (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وقال أيضا : وحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، حدثنا عبدة يعني ابن سليمان ، عن هشام بن عروة عن أبيه : إن عليا دخل على رجل من قومه يعوده ، فقال له : أوصي؟ فقال له علي : إنما قال الله (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) إنما ترك شيئا يسيرا فاتركه لولدك.

وقال الحاكم (١) بن أبان حدثني عن عكرمة عن ابن عباس (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) قال ابن عباس : من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا ، قال الحاكم (٢) : قال طاوس : لم يترك خيرا من لم يترك ثمانين دينارا ، وقال قتادة : كان يقال : ألفا فما فوقها.

وقوله (بِالْمَعْرُوفِ) أي بالرفق والإحسان ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن أحمد ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار ، حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) فقال : نعم الوصية حق على كل مسلم أن يوصي إذا حضر الموت بالمعروف غير المنكر. والمراد بالمعروف أن يوصي لأقربيه وصية لا تجحف بورثته من غير إسراف ولا تقتير ، كما ثبت في الصحيحين أن سعدا قال : يا رسول الله ، إن لي مالا ولا يرثني إلا ابنة لي ، أفأوصي بثلثي مالي؟ قال : «لا» قال : فبالشطر؟ قال «لا» قال : فالثلث؟ قال «الثلث والثلث كثير ، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس». وفي صحيح البخاري (٣) أن ابن عباس قال : لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الثلث والثلث كثير» وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن زياد بن عتبة بن حنظلة سمعت حنظلة بن جذيم بن حنيفة : أن جده حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل ، فشق ذلك على بنيه فارتفعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال حنيفة : إني أوصيت ليتيم لي بمائة من الإبل كنا نسميها المطية ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا لا لا ، الصدقة خمس وإلا فعشر وإلا فخمس عشرة وإلا فعشرون وإلا فخمس وعشرين وإلا فثلاثون وإلا فخمس وثلاثون فإن كثرت فأربعون» وذكر الحديث بطوله.

__________________

(١) كذا. والصواب : الحكم بن أبان ـ انظر موسوعة رجال الكتب التسعة ١ / ٣٧٠.

(٢) صحيح البخاري (جنائز باب ٣٦ ؛ ووصايا باب ٢ و ٣ ؛ ونفقات باب ١ ؛ وفرائض باب ٦)

٣٦٢

وقوله (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يقول تعالى : فمن بدّل الوصية وحرفها ، فغير حكمها وزاد فيها أو نقص ، ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) قال ابن عباس وغير واحد : وقد وقع أجر الميت على الله ، وتعلق الإثم بالذين بدلوا ذلك (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي قد اطلع على ما أوصى به الميت وهو عليم بذلك وبما بدّله الموصى إليهم.

وقوله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً) قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس والسدي : الجنف الخطأ ، وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها بأن زادوا وارثا بواسطة أو وسيلة ، كما إذا أوصى ببيعة الشيء الفلاني محاباة أو أوصى لابن ابنته ليزيدها أو نحو ذلك من الوسائل ، إما مخطئا غير عامد بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر ، أو متعمدا آثما في ذلك ، فللوصي والحالة هذه ، أن يصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي ، ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به جمعا بين مقصود الموصي والطريق الشرعي ، وهذا الإصلاح والتوفيق ، ليس من التبديل في شيء ، ولهذا عطف هذا فبينه على النهي عن ذلك ، ليعلم أن هذا ليس من ذلك بسبيل ، والله أعلم.

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد قراءة ، أخبرني أبي عن الأوزاعي ، قال الزهري : حدثني عروة عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «يرد من صدقة الجانف في حياته ما يرد من وصية المجنف عند موته» وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه من حديث العباس بن الوليد به ، قال ابن أبي حاتم : وقد أخطأ فيه الوليد بن مزيد ، وهذا الكلام إنما هو عن عروة فقط ، وقد رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي فلم يجاوز به عروة ، وقال ابن مردويه أيضا : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا إبراهيم بن يوسف ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الجنف في الوصية من الكبائر» وهذا في رفعه أيضا نظر.

وأحسن ما ورد في هذا الباب ما قال عبد الرزاق : حدثنا معمر عن أشعث بن عبد الله ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة ، فإذا أوصى حاف في وصيته ، فيختم له بشر عمله فيدخل النار. وإن الرجل ليعمل بعمل الشر سبعين سنة ، فيعدل في وصيته ، فيختم له بخير عمله ، فيدخل الجنة» قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) [البقرة : ٢٢٩].

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١٨٤)

٣٦٣

يقول تعالى مخاطبا للمؤمنين من هذه الآية ، وآمرا لهم بالصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع ، بنية خالصة لله عزوجل لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة ، وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم فلهم فيه أسوة ، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك ، كما قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) [المائدة : ٤٨] ، ولهذا قال هاهنا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان ، ولهذا ثبت في الصحيحين «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (١) ثم بين مقدار الصوم وأنه ليس في كل يوم ، لئلا يشق على النفوس فتضعف عن حمله وأدائه بل في أيام معدودات. وقد كان هذا في ابتداء الإسلام ، يصومون من كل شهر ثلاثة أيام ، ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان كما سيأتي بيانه.

وقد روي أن الصيام كان أولا كما كان عليه الأمم قبلنا من كل شهر ثلاثة أيام عن معاذ وابن مسعود وابن عباس وعطاء وقتادة والضحاك بن مزاحم وزاد : لم يزل هذا مشروعا من زمان نوح إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان. وقال عباد بن منصور عن الحسن البصري (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) فقال : نعم ، والله لقد كتب الصيام على كل أمة قد خلت ، كما كتبه علينا شهرا كاملا وأياما معدودات عددا معلوما ، وروي عن السدي نحوه. وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي عبد الرحمن المقري ، حدثني سعيد بن أبي أيوب ، حدثني عبد الله بن الوليد عن أبي الربيع رجل من أهل المدينة ، عن عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم» في حديث طويل اختصر منه ذلك. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عمن حدثه عن ابن عمر قال : أنزلت (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) كتب عليهم إذا صلّى أحدهم العتمة ونام ، حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها ، قال ابن أبي العالية وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهد وسعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس وعطاء الخراساني نحو ذلك ، وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يعني بذلك أهل الكتاب ، وروي عن الشعبي والسدي وعطاء الخراساني مثله ، ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فقال (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر ، لما في ذلك من المشقة عليهما بل يفطران ويقضيان بعد ذلك من أيام أخر ، وأما الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام فقد كان مخيرا بين الصيام وبين الإطعام ، إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم

__________________

(١) البخاري (صوم باب ١٠ ؛ ونكاح باب ٢ و ٣) ومسلم (نكاح حديث ١ و ٣)

٣٦٤

مسكينا ، فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير ، وإن صام فهو أفضل من الإطعام ، قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطاوس ومقاتل بن حيان وغيرهم من السلف ، ولهذا قال تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا المسعودي حدثنا عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال : أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال ، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال ، فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قدم المدينة وهو يصلي سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس ، ثم إن الله عزوجل أنزل عليه : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) [البقرة : ١٤٤] ، فوجهه الله إلى مكة هذا حول ، قال : وكانوا يجتمعون للصلاة ويؤذن بها بعضهم بعضا ، حتى نقسوا أو كادوا ينقسون (١) ، ثم إن رجلا من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد بن عبد ربه أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إني رأيت فيما يرى النائم ، ولو قلت إني لم أكن نائما لصدقت ، إني بينا أنا بين النائم واليقظان إذ رأيت شخصا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة ، فقال : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ـ مثنى ـ حتى فرغ من الأذان ، ثم أمهل ساعة ثم قال مثل الذي قال غير أنه يزيد في ذلك : قد قامت الصلاة مرتين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «علمها بلالا فليؤذن بها» فكان بلال أول من أذن بها ، قال : وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا رسول الله ، قد طاف بي مثل الذي طاف به ، غير أنه سبقني فهذان حالان ، قال : وكانوا يأتون الصلاة وقد سبقهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببعضها ، فكان الرجل يشير إلى الرجل إذن كم صلى؟ فيقول : واحدة أو اثنتين فيصليهما ، ثم يدخل مع القوم في صلاتهم ، قال : فجاء معاذ فقال : لا أجده على حال أبدا إلا كنت عليها ، ثم قضيت ما سبقني ، قال : فجاء وقد سبقه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببعضها ، قال : فثبت معه فلما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام فقضى ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنه قد سن لكم معاذ فهكذا فاصنعوا» فهذه ثلاثة أحوال ، وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام عاشوراء ، ثم إن الله فرض عليه الصيام ، وأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) إلى قوله (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينا ، فأجزأ ذلك عنه ، ثم إن الله عزوجل أنزل الآية الأخرى (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٥] إلى قوله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة : ١٨٥] فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ، ورخص فيه للمريض والمسافر ، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام ، فهذان حالان ، قال : وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا ، فإذا

__________________

(١) النّقس : الضرب بالناقوس ، وهي خشبة طويلة تضرب بخشية أصغر منها ، وكان النصارى يعلمون بها أوقات صلاتهم.

٣٦٥

ناموا امتنعوا ، ثم إن رجلا من الأنصار يقال له صرمة ، ظل يعمل صائما حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام ، فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح صائما ، فرآه رسول الله وقد جهد جهدا شديدا ، فقال «ما لي أراك قد جهدت جهدا شديدا؟» قال : يا رسول الله ، إني عملت أمس فجئت حين جئت ، فألقيت نفسي فنمت ، فأصبحت صائما ، قال : وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر له ذلك ، فأنزل الله عزوجل : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ـ إلى قوله ـ (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (١) [البقرة : ١٨٧].

وأخرجه أبو داود في سننه ، والحاكم في مستدركه من حديث المسعودي به ، وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت : كان عاشوراء يصام ، فلما نزل فرض رمضان ، كان من شاء صام ومن شاء أفطر ، وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود مثله.

وقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) كما قال معاذ رضي الله عنه: كان في ابتداء الأمر من شاء صام ، ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا ، وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال لما نزلت (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) : كان من أراد أن يفطر يفادي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها ، وروي أيضا من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال : هي منسوخة ، وقال السدي عن مرة عن عبد الله ، قال : لما نزلت هذه الآية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) قال : يقول (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) أي يتجشمونه ، قال عبد الله : فكان من شاء صام ، ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا (فَمَنْ تَطَوَّعَ) يقول : أطعم مسكينا آخر (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) فكانوا كذلك حتى نسختها (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة : ١٨٥].

وقال البخاري أيضا : أخبرنا إسحاق ، حدثنا روح ، حدثنا زكريا بن إسحاق ، حدثنا عمرو بن دينار عن عطاء : سمع ابن عباس يقرأ (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) قال ابن عباس : ليست منسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا ، وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن أشعث بن سوار ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : نزلت هذه الآية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ، ثم ضعف فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكينا.

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد ، حدثنا الحسين بن بهرام المخزومي ، حدثنا وهب بن بقية ، حدثنا خالد بن عبد الله عن ابن أبي ليلى ، قال : دخلت على

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٥ ص ٢٤٦ ـ ٢٤٧)

٣٦٦

عطاء في رمضان وهو يأكل ، فقال : قال ابن عباس : نزلت هذه الآية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا ثم نسخت الأولى إلى الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينا وأفطر.

فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه بقوله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام ، فله أن يفطر ولا قضاء عليه ، لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء ، ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكينا إذا كان ذا جدة (١)؟ فيه قولان للعلماء : أحدهما لا يجب عليه إطعام لأنه ضعيف عنه لسنه ، فلم يجب عليه فدية كالصبي ، لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وهو أحد قولي الشافعي. والثاني ، وهو الصحيح وعليه أكثر العلماء ، أنه يجب عليه فدية عن كل يوم ، كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) أي يتجشمونه ، كما قاله ابن مسعود وغيره ، هو اختيار البخاري فإنه قال : وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام ، فقد أطعم أنس بعد ما كبر عاما أو عامين عن كل يوم ، مسكينا ، خبزا ولحما وأفطر ، وهذا الذي علقه البخاري قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده فقال : حدثنا عبد الله بن معاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا عمران عن أيوب بن أبي تميمة ، قال : ضعف أنس عن الصوم ، فصنع جفنة من ثريد ، فدعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم ، ورواه عبد بن حميد عن روح بن عبادة ، عن عمران وهو ابن حدير ، عن أيوب به. ورواه عبد أيضا من حديث ستة من أصحاب أنس عن أنس بمعناه ، ومما يلتحق بهذا المعنى الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ، ففيهما خلاف كثير بين العلماء ، فمنهم من قال : يفطران ويفديان ويقضيان ، وقيل : يفديان فقط ولا قضاء ، وقيل يجب القضاء بلا فدية ، وقيل : يفطران ولا فدية ولا قضاء ، وقد بسطنا هذه المسألة مستقصاة في كتاب الصيام الذي أفردناه ، ولله الحمد والمنة.

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٨٥)

يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم ، وكما اختصه بذلك قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء ، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه‌الله : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عمران أبو العوام

__________________

(١) أي إذا كان ذا مال.

٣٦٧

عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن وائلة يعني ابن الأسقع : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان ، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان» (١).

وقد روي من حديث جابر بن عبد الله وفيه : أن الزبور أنزل لثنتي عشرة خلت من رمضان ، والإنجيل لثماني عشرة ، والباقي كما تقدم ، رواه ابن مردويه. وأما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل ، فنزل كل منها على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة ، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، وكان ذلك في شهر رمضان في ليلة القدر منه ، كما قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١] وقال (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) [الدخان : ٣] ثم نزل بعده مفرقا بحسب الوقائع على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هكذا روي من غير وجه عن ابن عباس ، كما قال إسرائيل عن السدي ، عن محمد بن أبي المجالد ، عن مقسم ، عن ابن عباس : أنه سأل عطية بن الأسود فقال : وقع في قلبي الشك ، قول الله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وقوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١] وقد أنزل في شوال ، وفي ذي القعدة ، وفي ذي الحجة ، وفي المحرم وصفر وشهر ربيع ، فقال ابن عباس : إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة ، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلا في الشهور والأيام ، رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه وهذا لفظه.

وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ، أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى سماء الدنيا ، فجعل في بيت العزة ، ثم أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عشرين سنة لجواب كلام الناس ، وفي رواية عكرمة عن ابن عباس ، قال : نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر ، على هذه السماء الدنيا جملة واحدة ، وكان الله يحدث لنبيه ما يشاء ولا يجيء المشركون بمثل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه ، وذلك قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) [الفرقان : ٣٢].

وقوله : (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه (وَبَيِّناتٍ) أي دلائل وحجج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال ، والرشد المخالف للغي ، ومفرقا بين الحق والباطل والحلال والحرام.

وقد روي عن بعض السلف : أنه كره أن يقال إلا شهر رمضان ، ولا يقال رمضان ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن بكار بن الريان ، حدثنا ابو معشر عن محمد بن كعب

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٤ ص ١٠٧)

٣٦٨

القرظي وسعيد هو المقبري عن أبي هريرة قال : لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ولكن قولوا شهر رمضان ـ قال ابن أبي حاتم وقد روي عن مجاهد ومحمد بن كعب نحو ذلك ، ورخص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت.

(قلت) أبو معشر هو نجيح بن عبد الرحمن المدني إمام المغازي والسير ، ولكن فيه ضعف ، وقد رواه ابنه محمد عنه فجعله مرفوعا عن أبي هريرة ، وقد أنكره عليه الحافظ بن عدي ، وهو جدير بالإنكار ، فإنه متروك ، وقد وهم في رفع هذا الحديث ، وقد انتصر البخاري رحمه‌الله في كتابه لهذا فقال : باب يقال رمضان وساق أحاديث في ذلك منها «من صام رمضان إيمانا واحتسابا ، غفر له ما تقدم من ذنبه» ونحو ذلك.

وقوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) هذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر ، أي كان مقيما في البلد حين دخل شهر رمضان ، وهو صحيح في بدنه أن يصوم لا محالة ، ونسخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحا مقيما أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم كما تقدم بيانه ، ولما حتّم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر أن يفطر بشرط القضاء ، فقال (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) معناه : ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه أو يؤذيه ، أو كان على سفر ، أي في حالة السفر ، فله أن يفطر ، فإذا أفطر فعليه عدة ما أفطره في السفر من الأيام ، ولهذا قال (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) اي إنما رخص لكم في الفطر في حال المرض والسفر مع تحتمه في حق المقيم الصحيح تيسيرا عليكم ورحمة بكم.

وهاهنا مسائل تتعلق بهذه الآية [إحداها] أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر في أثنائه ، فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه لقوله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وإنما يباح الإفطار لمسافر استهل الشهر وهو مسافر ، وهذا القول غريب ، نقله أبو محمد بن حزم في كتابه المحلى عن جماعة من الصحابة والتابعين ، وفيما حكاه عنهم نظر ، والله أعلم ، فإنه قد ثبتت السنة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خرج في شهر رمضان لغزوة الفتح ، فسار حتى بلغ الكديد ثم أفطر ، وأمر الناس بالفطر ، أخرجه صاحبا الصحيح. [الثانية] ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر لقوله (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) والصحيح قول الجمهور أن الأمر في ذلك على التخيير وليس بحتم ، لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شهر رمضان ، قال : فمنا الصائم ومنا المفطر ، فلم يعب الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم ، فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم الصيام ، بل الذي ثبت من فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان في مثل هذه الحالة صائما لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة ، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعبد الله بن رواحة.

٣٦٩

[الثالثة] قالت طائفة منهم الشافعي : الصيام في السفر أفضل من الإفطار لفعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقدم ، وقالت طائفة. بل الإفطار أفضل أخذا بالرخصة ولما ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن الصوم في السفر ، فقال : «من أفطر فحسن ، ومن صام فلا جناح عليه» وقال في حديث آخر «عليكم برخصة الله التي رخص لكم» وقالت طائفة : هما سواء لحديث عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال : يا رسول الله ، إني كثير الصيام أفأصوم في السفر؟ فقال «إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر» وهو في الصحيحين ، وقيل : إن شق الصيام فالإفطار أفضل ، لحديث جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا قد ظلل عليه فقال : «ما هذا»؟ قالوا : صائم ، فقال «ليس من البر الصيام في السفر» أخرجاه ، فأما إن رغب عن السنة ورأى أن الفطر مكروه إليه ، فهذا يتعين عليه الإفطار ، ويحرم عليه الصيام ، والحالة هذه لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره عن ابن عمر وجابر وغيرهما : من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة.

[الرابعة] القضاء هل يجب متتابعا أو يجوز فيه التفريق فيه قولان : [أحدهما] أنه يجب التتابع لأن القضاء يحكى الأداء. [والثاني] لا يجب التتابع بل إن شاء فرق وإن شاء تابع ، وهذا قول جمهور السلف والخلف ، وعليه ثبتت الدلائل لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر ، فأما بعد انقضاء رمضان ، فالمراد صيام أيام عدة ما أفطر ، ولهذا قال تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ثم قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا ابن هلال عن حميد بن هلال العدوي ، عن أبي قتادة عن الأعرابي الذي سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن خير دينكم أيسره ، إن خير دينكم أيسره».

وقال أحمد (٢) أيضا : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عاصم بن هلال ، حدثنا غاضرة بن عروة الفقيمي ، حدثني أبي عروة ، قال : كنا ننتظر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج رجلا (٣) يقطر رأسه من وضوء أو غسل ، فصلى ، فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه : علينا حرج في كذا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن دين الله في يسر» ـ ثلاثا يقولها ـ ورواه الإمام أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث مسلم بن إبراهيم عن عاصم بن هلال به.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال : حدثنا أبو التياح سمعت أنس بن مالك يقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يسروا ولا تعسروا وسكنوا وتنفروا» أخرجاه في الصحيحين.

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٣ ص ٤٧٩)

(٢) المسند (ج ٥ ص ٦٩)

(٣) أي كان شعره رجلا. وترجيل الشعر : إرساله بالمشط. ويأتي بمعنى تجعيده.

(٤) المسند (ج ٣ ص ١٣١)

٣٧٠

وفي الصحيحين أيضا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن «بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا وتطاوعا ولا تختلفا» وفي السنن والمسانيد أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بعثت بالحنيفية السمحة».

وقال الحافظ أبو بكر مردويه في تفسيره : حدثنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم حدثنا يحيى بن أبي طالب حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا أبو مسعود الحريري عن عبد الله بن شقيق ، عن محجن بن الأدرع : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا يصلي فتراءاه ببصره ساعة ، فقال «أتراه يصلي صادقا؟» قال : قلت يا رسول الله ، هذا أكثر أهل المدينة صلاة ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تسمعه فتهلكه» وقال «إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليسر ولم يرد بهم العسر».

ومعنى قوله (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) أي إنما أرخص لكم في الإفطار للمرض والسفر ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم.

وقوله : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) أي ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم ، كما قال : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) [البقرة : ٢٠٠] وقال (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة : ١٠] وقال (سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) [ق : ٣٩ ـ ٤٠] ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات ، وقال ابن عباس : ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بالتكبير ، ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر لظاهر الأمر في قوله : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) وفي مقابلته مذهب أبي حنيفة رحمه‌الله أنه لا يشرع التكبير في عيد الفطر ، والباقون على استحبابه على اختلاف في تفاصيل بعض الفروع بينهم ، وقوله : (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه وترك محارمه وحفظ حدوده فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك.

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (١٨٦)

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة أخبرنا جرير عن عبدة بن أبي برزة السجستاني ، عن الصلب بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده ، أن أعرابيا قال يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) إذا أمرتهم أن يدعوني فدعوني

٣٧١

استجبت ، ورواه ابن جرير (١) عن محمد بن حميد الرازي ، عن جرير به ، ورواه ابن مردويه وأبو الشيخ الأصبهاني من حديث محمد بن أبي حميد عن جرير به.

وقال عبد الرزاق (٢) أخبرنا جعفر بن سليمان عن عوف عن الحسن قال سأل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أين ربنا؟ فأنزل الله عزوجل (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) الآية وقال ابن جريج (٣) عن عطاء أنه بلغه لما نزلت (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] قال الناس لو نعلم أي ساعة فنزلت (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ).

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، حدثنا خالد الحذاء عن أبي عثمان النهدي ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة ، فجعلنا لا نصعد شرفا (٤) ولا نعلو شرفا ولا نهبط واديا ، إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير ، قال : فدنا منا ، فقال «يا أيها الناس ، اربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إنما تدعون سميعا بصيرا ، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ، يا عبد الله بن قيس ، ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله» أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة من حديث أبي عثمان النهدي واسمه عبد الرحمن بن علي عنه بنحوه.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا شعبة ، حدثنا قتادة عن أنس رضي الله عنه : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني».

وقال الإمام أحمد (٦) حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا عبد الله ، أنبأنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثنا إسماعيل بن عبيد الله عن كريمة بنت خشخاش المزنية ، قالت : حدثنا أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : «قال الله تعالى أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه».

(قلت) وهذا كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل : ١٢٨] ، وقوله لموسى وهارون عليهما‌السلام (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه : ٤٦] والمراد من هذا أنه تعالى لا يخيب دعاء داع ، ولا يشغله عنه شيء ، بل هو سميع الدعاء ، ففيه ترغيب في الدعاء ، وأنه لا يضيع لديه تعالى ، كما قال الإمام أحمد (٧) : حدثنا يزيد ، حدثنا رجل : أنه سمع أبا عثمان هو النهدي ، يحدث عن سلمان يعني الفارسي رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله تعالى ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرا فيردهما خائبتين» ـ قال يزيد: سموا لي

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ١٦٤ ـ ١٦٥.

(٢) الشرف : الموضع العالي يشرف على ما حوله.

(٣) المسند (ج ٣ ص ٢١٠)

(٤) المسند (ج ٢ ص ٥٤٠)

(٥) المسند (ج ٥ ص ٤٣٨)

٣٧٢

هذا الرجل ، فقالوا : جعفر بن ميمون ـ وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث جعفر بن ميمون صاحب الأنماط به ، وقال الترمذي : حسن غريب ، ورواه بعضهم ولم يرفعه ، قال الشيخ الحافظ أبو الحجاج المزي رحمه‌الله في أطرافه ، وتابعه أبو همام محمد بن الزبرقان عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي به.

وقال الإمام أحمد (١) أيضا : حدثنا أبو عامر ، حدثنا علي بن دؤاد أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «ما من مسلم يدعو الله عزوجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم ، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الأخرى ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها» قالوا : إذا نكثر؟ قال : «الله أكثر».

وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن منصور الكوسج ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا ابن ثوبان عن أبيه ، عن مكحول ، عن جبير بن نفير : أن عبادة بن الصامت ، حدثهم : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو الله عزوجل بدعوة إلا آتاه الله إياها ، أو كف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم» ورواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن محمد بن يوسف الفريابي ، عن ابن ثوبان وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان به ، وقال : حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

وقال الإمام مالك (٢) عن ابن شهاب ، عن أبي عبيد مولى ابن أزهر ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول دعوت فلم يستجب لي» أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به ، وهذا لفظ البخاري رحمه‌الله وأثابه الجنة.

وقال مسلم (٣) في صحيحه : حدثني أبو الطاهر ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل» قيل : يا رسول الله ، وما الاستعجال؟ قال «يقول قد دعوت وقد دعوت ، فلم أر يستجاب لي ، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء».

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبو هلال عن قتادة ، عن أنس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل» قالوا : وكيف يستعجل؟ قال : «يقول قد دعوت ربي فلم يستجب لي».

__________________

(١) المسند (ج ٣ ص ١٨)

(٢) الموطأ (قرآن حديث ٢٩)

(٣) صحيح مسلم (ذكر حديث ٩٢)

(٤) المسند (ج ٣ ص ١٩٣)

٣٧٣

وقال الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، حدثني أبو صخر : أن يزيد بن عبد الله بن قسيط حدثه عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : ما من عبد مؤمن يدعو الله بدعوة فتذهب حتى تعجل له في الدنيا أو تدخر له في الآخرة إذا لم يعجل أو يقنط ، قال عروة : قلت : يا أماه كيف عجلته وقنوطه؟ قالت : يقول : سألت فلم أعط ودعوت فلم أجب. قال ابن قسيط : وسمعت سعيد بن المسيب يقول كقول عائشة سواء.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا بكر بن عمرو عن أبي عبد الرحمن الحبلى عن عبد الله بن عمرو : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «القلوب أوعية ، وبعضها أوعى من بعض ، فإذا سألتم الله أيها الناس ، فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة ، فإنه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل».

وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن إسحاق بن أيوب ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن أبيّ بن نافع بن معد يكرب ببغداد ، حدثني أبيّ بن نافع حدثني أبي نافع بن معد يكرب ، قال : كنت أنا وعائشة سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن آية (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) قال : «يا رب مسألة عائشة» فهبط جبريل فقال «الله يقرؤك السلام هذا عبدي الصالح بالنية الصادقة وقلبه نقي يقول يا رب فأقول لبيك فأقضي حاجته» وهذا حديث غريب من هذا الوجه.

وروى ابن مردويه من حديث الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، حدثني جابر بن عبد الله : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) الآية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم أمرت بالدعاء وتوكلت بالإجابة ، لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ، أشهد أنك فرد أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، وأشهد أن وعدك حق ، ولقاءك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والساعة آتية لا ريب فيها ، وأنت تبعث من في القبور».

وقال الحافظ أبو بكر البزار : وحدثنا الحسن بن يحيى الأزدي ومحمد بن يحيى القطعي ، قالا : حدثنا الحجاج بن منهال ، حدثنا صالح المدي عن الحسن ، عن أنس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله تعالى يا ابن آدم واحدة لك وواحدة لي وواحدة فيما بيني وبينك ، فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا وأما التي لك فما عملت من شيء وفيتكه وأما الذي بيني وبينك ، فمنك الدعاء وعلي الإجابة».

وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام ، إرشاد إلى اجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة ، بل وعند كل فطر ، كما رواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده :

__________________

(١) المسند (ج ٢ ص ١٧٧)

٣٧٤

حدثنا أبو محمد المليكي عن عمرو ، هو ابن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عمرو ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة» فكان عبد الله بن عمرو إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا.

وقال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة في سننه : حدثنا هشام بن عمار ، أخبرنا الوليد بن مسلم عن إسحاق بن عبد الله المدني ، عن عبيد الله بن أبي مليكة ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد» قال عبيد الله بن أبي مليكة : سمعت عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر : اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي.

وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم ، يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة وتفتح لها أبواب السماء ، يقول بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين»(١).

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١٨٧)

هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين ، ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام ، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك ، فمتى نام أو صلّى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة ، فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة ، والرفث هنا هو الجماع ، قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وطاوس وسالم بن عبد الله وعمرو بن دينار والحسن وقتادة والزهري والضحاك وإبراهيم النخعي والسدي وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان.

وقوله (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان : يعني هن سكن لكم وأنتم سكن لهن ، وقال الربيع بن أنس : هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن ، وحاصله : أن الرجل والمرأة كل منهما يخالط الآخر ويماسه ويضاجعه ، فناسب أن يرخص لهم في المجامعة في ليل رمضان لئلا يشق ذلك عليهم ويحرجوا ،

__________________

(١) أخرجه الترمذي (جنة باب ٣ ، ودعوات باب ١٢٨) وابن ماجة (صيام باب ٤٨) وأحمد في المسند (ج ٤ ص ١٥٤)

٣٧٥

قال الشاعر : [المتقارب]

إذا ما الضّجيع ثنى جيدها

تداعت فكانت عليه لباسا (١)

وكان السبب في نزول هذه الآية كما تقدم في حديث معاذ الطويل ، وقال أبو إسحاق عن البراء بن عازب : كان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كان الرجل صائما فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها ، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما وكان يومه ذلك يعمل في أرضه ، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : هل عندك طعام؟ قالت : لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك ، فغلبته عينه فنام ، وجاءت امرأته ، فلما رأته نائما قالت : خيبة لك أنمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ـ إلى قوله ـ (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) ففرحوا بها فرحا شديدا.

ولفظ البخاري هاهنا من طريق أبي إسحاق سمعت البراء ، قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم ، فينزل الله (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ).

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء ، حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة ، ثم إن أناسا من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء ، منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله تعالى : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) الآية ، وكذا روى العوفي عن ابن عباس.

وقال موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس ، قال : إن الناس كانوا قبل أن ينزل في الصوم ما نزل فيهم ، يأكلون ويشربون ويحل لهم شأن النساء ، فإذا نام أحدهم لم يطعم ولم يشرب ولا يأتي أهله حتى يفطر من القابلة ، فبلغنا أن عمر بن الخطاب بعد ما نام ووجب عليه الصوم وقع على أهله ، ثم جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أشكو إلى الله وإليك الذي صنعت. قال : «وما صنعت»؟ قال : إني سولت لي نفسي ، فوقعت على أهلي بعد ما نمت ، وأنا أريد الصوم ، فزعموا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما كنت خليقا أن تفعل» فنزل الكتاب (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ).

وقال سعد بن أبي عروبة عن قيس بن سعد ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي هريرة في قول الله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ـ إلى قوله ـ (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ

__________________

(١) البيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص ٨١ ؛ ومقاييس اللغة ٥ / ٢٣٠ ؛ وتهذيب اللغة ١٢ / ٤٤٤ ؛ ومجمل اللغة ٤ / ٢٦٢ ؛ وتاج العروس (لبس) ؛ ولسان العرب (لبس) ؛ والشعر والشعراء ص ٣٠٢.

٣٧٦

إِلَى اللَّيْلِ) قال : كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية إذا صلوا العشاء الآخرة ، حرم عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا ، وأن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء ، وأن صرمة بن قيس الأنصاري غلبته عيناه بعد صلاة المغرب ، فنام ولم يشبع من الطعام ، ولم يستيقظ حتى صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العشاء ، فقام فأكل وشرب ، فلما أصبح أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بذلك ، فأنزل الله عند ذلك (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) يعني بالرفث مجامعة النساء (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) يعني تجامعون النساء وتأكلون وتشربون بعد العشاء (فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) يعني جامعوهن (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) يعني الولد (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) فكان ذلك عفوا من الله ورحمة.

وقال هشيم عن حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله ، إني أردت أهلي البارحة على ما يريد الرجل أهله ، فقالت : إنها قد نامت فظننتها تعتل فواقعتها ، فنزل في عمر (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) وهكذا رواه شعبة عن عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى به.

وقال أبو جعفر بن جرير (١) : حدثني المثنى ، حدثنا سويد ، أخبرنا ابن المبارك ، عن أبي لهيعة ، حدثني موسى بن جبير مولى بني سلمة ، أنه سمع عبد الله بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال : كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد ، فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده ، فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت : إني قد نمت ، فقال : ما نمت ، ثم وقع بها ، وصنع كعب بن مالك مثل ذلك ، فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره فأنزل الله : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) الآية ، وهكذا روي عن مجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغيرهم في سبب نزول هذه الآية في عمر بن الخطاب ومن صنع كما صنع ، وفي صرمة بن قيس ، فأباح الجماع والطعام الشراب في جميع الليل رحمة ورخصة ورفقا.

وقوله : (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) قال أبو هريرة وابن عباس وأنس وشريح القاضي ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء والربيع بن أنس والسدي وزيد بن أسلم والحكم بن عتبة ومقاتل بن حيان والحسن البصري والضحاك وقتادة وغيرهم : يعني الولد : وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) يعني الجماع ، وقال عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) قال : ليلة القدر ، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (٢). وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، قال : قال قتادة : ابتغوا الرخصة التي

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ١٧١.

(٢) تفسير الطبري ٢ / ١٧٦.

٣٧٧

كتب الله لكم ، يقول : ما أحل الله لكم ، وقال عبد الرزاق أيضا : أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء بن ابي رباح ، قال : قلت لابن عباس : كيف تقرأ هذه الآية (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ)؟ قال : أيتهما شئت ، عليك بالقراءة الأولى ، واختار ابن جرير أن الآية أعم من هذا كله.

قوله (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) أباح تعالى الأكل والشرب مع ما تقدم من إباحة الجماع في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل ، وعبر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود ، ورفع اللبس بقوله (مِنَ الْفَجْرِ) كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الله البخاري : حدثني ابن أبي مريم ، حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف ، حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد ، قال : أنزلت (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ) وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله بعد (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أنه يعني الليل والنهار.

وقال الإمام أحمد : حدثنا هشام ، أخبرنا حصين عن الشعبي ، أخبرني عدي بن حاتم قال: لما نزلت هذه الآية (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) عدت إلى عقالين : أحدهما أسود والآخر أبيض ، قال : فجعلتهما تحت وسادتي ، قال : فجعلت أنظر إليهما ، فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت ، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله فأخبرته بالذي صنعت ، فقال «إن وسادك إذا لعريض إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل» أخرجاه في الصحيحين من غير وجه عن عدي.

ومعنى قوله : إن وسادك إذا لعريض ، أي إن كان ليسع الخيطين : الخيط الأسود والأبيض المرادين من هذه الآية تحتها ، فإنهما بياض النهار وسواد الليل ، فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب.

وهكذا وقع في رواية البخاري مفسرا بهذا ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة عن حصين ، عن الشعبي ، عن عدي ، قال : أخذ عدي عقالا أبيض وعقالا أسود ، حتى كان بعض الليل نظر فلم يستبينا ، فلما أصبح قال يا رسول الله جعلت تحت وسادتي ، قال «إن وسادك إذا لعريض ، إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك» وجاء في بعض الألفاظ «إنك لعريض القفا» ففسره بعضهم بالبلادة ، وهو ضعيف ، بل يرجع إلى هذا لأنه إذا كان وساده عريضا فقفاه أيضا عريض ، والله أعلم. ويفسره رواية البخاري أيضا : حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن مطرف عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال : قلت يا رسول الله ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، أهما الخيطان؟ قال : «إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين ، ثم قال : لا بل هو سواد الليل وبياض النهار».

٣٧٨

وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر دليل على استحباب السحور لأنه من باب الرخصة والأخذ بها محبوب ، ولهذا وردت السنة الثابتة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحث على السحور. ففي الصحيحين عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تسحروا فإن في السحور بركة» وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور» وقال الإمام أحمد ، حدثنا إسحاق بن عيسى هو ابن الطباع ، حدثنا عبد الرحمن بن زيد عن أبيه ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «السحور أكلة بركة فلا تدعوه ، ولو أن أحدكم تجرع جرعة ماء ، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين».

وقد ورد في الترغيب في السحور أحاديث كثيرة حتى ولو بجرعة ماء تشبها بالآكلين ، ويستحب تأخيره إلى وقت انفجار الفجر ، كما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك ، عن زيد بن ثابت قال : تسحرنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قمنا إلى الصلاة ، قال أنس : قلت لزيد : كم كان بين الآذان والسحور؟ قال : قدر خمسين آية.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لهيعة ، عن سالم بن غيلان ، عن سليمان بن أبي عثمان ، عن عدي بن حاتم الحمصي ، عن أبي ذر ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور».

وقد ورد أحاديث كثيرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سماه الغذاء المبارك ، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة من رواية حماد بن سلمة ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زر بن حبيش عن حذيفة ، قال : تسحرنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان النهار إلا أن الشمس لم تطلع ، وهو حديث تفرد به عاصم بن أبي النجود ، قاله النسائي ، وحمله على أن المراد قرب النهار ، كما قال تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي قارين انقضاء العدة فإما إمساك بمعروف أو ترك للفراق ، وهذا الذي قاله هو المتعين حمل الحديث عليه أنهم تسحروا ولم يتيقنوا طلوع الفجر ، حتى أن بعضهم ظن طلوعه وبعضهم لم يتحقق ذلك.

وقد روى عن طائفة كثيرة من السلف ، أنهم تسامحوا في السحور عند مقاربة الفجر ، روي مثل هذا عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وحذيفة وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت ، وعن طائفة كثيرة من التابعين منهم محمد بن علي بن الحسين وأبو مجلز وإبراهيم النخعي وأبو الضحى وأبو وائل وغيره من أصحاب ابن مسعود وعطاء والحسن والحاكم بن عيينة ومجاهد وعروة بن الزبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد ، وإليه ذهب الأعمش وجابر بن راشد ، وقد حررنا أسانيد ذلك في كتاب الصيام المفرد ، ولله الحمد.

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٤ ص ١٤٧)

٣٧٩

وحكى أبو جعفر بن جرير (١) في تفسيره عن بعضهم : أنه إنما يجب الإمساك من طلوع الشمس كما يجوز الإفطار بغروبها. (قلت) وهذا القول ما أظن أحدا من أهل العلم يستقر له قدم عليه ، لمخالفته نص القرآن في قوله (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ).

وقد ورد في الصحيحين (٢) من حديث القاسم عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم ، فإنه ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر» لفظ البخاري.

وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا محمد بن جابر عن قيس بن طلق عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ليس الفجر المستطيل في الأفق ولكن المعترض الأحمر» ورواه الترمذي ولفظهما «كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر».

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا شعبة عن شيخ من بني قشير ، سمعت سمرة بن جندب يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض حتى ينفجر الفجر أو يطلع الفجر» ، ثم رواه من حديث شعبة وغيره ، عن سواد بن حنظلة ، عن سمرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكنه الفجر المستطير في الأفق» ، قال : وحدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا بن علية عند عبد الله بن سوادة القشيري عن أبيه ، عن سمرة بن جندب ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض ـ لعمود الصبح ـ حتى يستطير» رواه مسلم في صحيحه عن زهير بن حرب ، عن إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية مثله سواء.

وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا ابن المبارك عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يمنعن أحدكم أذان بلال عن سحوره ، أو قال نداء بلال ، فإن بلالا يؤذن بليل أو قال ينادي لينبه نائمكم وليرجع قائمكم ، وليس الفجر أن يقول هكذا وهكذا حتى يقول هكذا» ، ورواه من وجه آخر عن التيمي به ، وحدثني الحسن بن الزبرقان النخعي حدثني أبو أسامة عن محمد بن أبي ذئب ، عن الحارث بن عبد الرحمن ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان : «وإنما هو المستطير الذي يأخذ الأفق فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام» وهذا مرسل جيد.

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ١٧٧.

(٢) البخاري (أذان باب ١٣ ، وصوم باب ١٧) ومسلم (صيام حديث ٣٩ ، ٤٢ ، ٤٣)

(٣) تفسير الطبري ٢ / ١٧٩.

٣٨٠