تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

ورواه البخاري من حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بنحو ما تقدم. ثم قال البخاري : حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عاصم بن سليمان قال : سألت أنسا عن الصفا والمروة ، قال : كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية ، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله عزوجل : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ).

وذكر القرطبي (١) في تفسيره عن ابن عباس قال : كانت الشياطين تفرق (٢) بين الصفا والمروة الليل كله وكانت بينهما آلهة ، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الطواف بينهما ، فنزلت هذه الآية. وقال الشعبي : كان إساف على الصفا وكانت نائلة على المروة ، وكانوا يستلمونها فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما فنزلت هذه الآية (قلت) ذكر محمد بن إسحاق (٣) في كتاب السيرة أن إسافا ونائلة كانا بشرين ، فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس ، فلما طال عهدهما عبدا ، ثم حولا إلى الصفا والمروة ، فنصبا هنالك فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما ، ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته المشهورة : [الطويل]

وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم

لمفضى (٤) السيول من إساف ونائل

وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل ، وفيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه ، ثم خرج من باب الصفا وهو يقول (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ثم قال : «أبدأ بما بدأ الله به» وفي رواية النسائي «ابدءوا بما بدأ الله به».

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا شريح حدثنا عبد الله بن المؤمل عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى ، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول : «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي».

ثم رواه الإمام أحمد (٦) عن عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة ، أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الصفا والمروة يقول : «كتب عليكم السعي فاسعوا».

وقد استدل بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج ،

__________________

(١) تفسير القرطبي ٢ / ١٧٩.

(٢) في القرطبي : «تعزف».

(٣) سيرة ابن هشام ١ / ٨٣.

(٤) في السيرة : «بمفضى».

(٥) مسند أحمد (ج ٦ ص ٤٢١)

(٦) مسند أحمد (ج ٦ ص ٤٣٧)

٣٤١

كما هو مذهب الشافعي ومن وافقه ، ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك. وقيل أنه واجب وليس بركن ، فإن تركه عمدا أو سهوا جبره بدم ، وهو رواية عن أحمد وبه يقول طائفة ، وقيل بل مستحب ، وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين ، وروي عن أنس وابن عمر وابن عباس ، وحكي عن مالك في العتبية قال القرطبي : واحتجوا بقوله تعالى : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) والقول الأول أرجح لأنه عليه‌السلام طاف بينهما ، وقال : «لتأخذوا عني مناسككم» فكل ما فعله في حجته تلك واجب لا بد من فعله في الحج ، إلا ما خرج بدليل ، والله أعلم.

وقد تقدم قوله عليه‌السلام «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» فقد بين الله تعالى أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله ، أي مما شرع الله تعالى لإبراهيم في مناسك الحج ، وقد تقدم في حديث ابن عباس ، أن أصل ذلك مأخوذ من طواف هاجر وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها لما نفذ ماؤهما وزادهما حين تركهما إبراهيم عليه‌السلام هنالك ، وليس عندهما أحد من الناس ، فلما خافت على ولدها الضيعة هنالك ، ونفذ ما عندهما ، قامت تطلب الغوث من الله عزوجل ، فلم تزل تتردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة ، متذللة خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى الله عزوجل ، حتى كشف الله كربتها ، وآنس غربتها ، وفرج شدتها ، وأنبع لها زمزم التي ماؤها «طعام طعم ، وشفاء سقم» فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله ، في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه ، وأن يلتجئ إلى الله عزوجل ، لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب ، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم ، وأن يثبته عليه إلى مماته وأن يحوله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي ، إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة كما فعل بهاجر عليها‌السلام.

وقوله (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) قيل زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب ، ثامنة وتاسعة ونحو ذلك ، وقيل يطوف بينهما في حجة تطوع أو عمرة تطوع ، وقيل : المراد تطوع خيرا في سائر العبادات ، حكى ذلك الرازي ، وعزي الثالث إلى الحسن البصري ، والله أعلم ، وقوله (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) أي يثيب على القليل بالكثير ، عليم بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا ثوابه ، و (لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ٤٠].

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (١٦٢)

هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاء به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة ، والهدى النافع للقلوب من بعد ما بينه الله تعالى لعباده من كتبه التي أنزلها على رسله.

٣٤٢

قال أبو العالية : نزلت في أهل الكتاب ، كتموا صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أخبر أنهم يلعنهم كل شيء على صنيعهم ذلك ، فكما أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء ، والطير في الهواء ، فهؤلاء بخلاف العلماء ، فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ، وقد ورد في الحديث المسند من طرائق يشد بعضها بعضا عن أبي هريرة وغيره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «من سئل عن علم فكتمه ، ألجم يوم القيامة بلجام من نار» والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال : لو لا آية في كتاب الله ، ما حدثت أحدا شيئا (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) الآية.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عمار بن محمد عن ليث بن أبي سليم عن المنهال بن عمرو ، عن زاذان بن عمرو ، عن البراء بن عازب ، قال : كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جنازة ، فقال : «إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه ، فيسمع صوته كل دابة غير الثقلين ، فتلعنه كل دابة سمعت صوته ، فذلك قول الله تعالى ، (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) يعني دواب الأرض» ورواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح ، عن عامر بن محمد به ، وقال عطاء بن أبي رباح : كل دابة والجن والإنس ، وقال مجاهد : إذا أجدبت الأرض ، قال البهائم : هذا من أجل عصاة بني آدم ، لعن الله عصاة بني آدم ، وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) يعني تلعنهم الملائكة والمؤمنون ، وقد جاء في الحديث أن العالم يستغفر له كل شيء ، حتى الحيتان في البحر ، وجاء في هذه الآية أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون واللاعنون أيضا ، وهم كل فصيح وأعجمي ، إما بلسان المقال ، أو الحال ، أو لو كان له عقل ويوم القيامة والله أعلم.

ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه ، فقال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) أي رجعوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وبينوا للناس ما كانوا يكتمونه (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر ، أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه. وقد ورد أن الأمم السالفة لم تكن التوبة تقبل من مثل هؤلاء منهم ولكن هذا من شريعة نبي التوبة ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه.

ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمر به الحال إلى مماته بأنّ (عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها) أي في اللعنة التابعة لهم إلى يوم القيامة ثم المصاحبة فهم في نار جهنم التي (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) فيها أي لا ينقص عما هم فيه (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا يغير عنهم ساعة واحدة ولا يفتر بل هو متواصل دائم فنعوذ بالله من ذلك. قال أبو العالية وقتادة إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة ، ثم يلعنه الناس أجمعون.

[فصل] لا خلاف في جواز لعن الكفار ، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة ، يلعنون الكفرة في القنوت وغيره ، فأما الكافر المعين ، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم الله له ، واستدل بعضهم بالآية (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا

٣٤٣

وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وقالت طائفة أخرى : بل يجوز لعن الكافر المعين ، واختاره الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي ولكنه احتج بحديث فيه ضعف ، واستدل غيره بقوله عليه‌السلام في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده ، فقال رجل لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن ، والله أعلم.

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (١٦٣)

يخبر تعالى عن تفرده بالإلهية ، وأنه لا شريك له ولا عديل له ، بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا إله إلا هو ، وأنه الرحمن الرحيم وقد تقدم تفسير هذين الاسمين في أول الفاتحة ، وفي الحديث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ٢٥٥] و (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ») ثم ذكر الدليل على تفرده بالإلهية بخلق السموات والأرض وما فيهما وما بين ذلك مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته ، فقال :

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٦٤)

يقول تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تلك في ارتفاعها ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها ـ وهذه الأرض في كثافتها وانخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع ، واختلاف الليل والنهار. هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه ، لا يتأخر عنه لحظة ، كما قال تعالى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء : ٣٣] وتارة يطول هذا ويقصر هذا ، وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتعاوضان ، كما قال تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) [الحديد : ٦] أي يزيد من هذا في هذا ومن هذا في هذا.

(وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) أي في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى جانب لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل ذلك الإقليم ، ونقل هذا إلى هؤلاء (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) كما قال تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) ـ إلى قوله ـ (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس : ٣٣] (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) أي على اختلاف أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها ، وهو يعلم ذلك

٣٤٤

كله ويرزقه ، لا يخفى عليه شيء من ذلك ، كما قال تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [هود : ٦] (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي فتارة تأتي بالرحمة ، وتارة تأتي بالعذاب ، وتارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب ، وتارة تسوقه ، وتارة تجمعه ، وتارة تفرقه ، وتارة تصرفه ، ثم تارة تأتي من الجنوب وهي الشامية ، وتارة تأتي من ناحية اليمن وتارة صبا ، وهي الشرقية التي تصدم وجه الكعبة ، وتارة دبورا وهي غربية تنفذ من ناحية دبر الكعبة. وقد صنف الناس في الرياح والمطر والأنواء كتبا كثيرة فيما يتعلق بلغاتها وأحكامها ، وبسط ذلك يطول هاهنا ، والله أعلم.

(وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي سائر بين السماء والأرض ، مسخر إلى ما يشاء الله من الأراضي والأماكن ، كما يصرفه تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي في هذه الأشياء دلالات بينة على وحدانية الله تعالى ، كما قال تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) [آل عمران : ١٩٠ ـ ١٩١].

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : أخبرنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا أبو سعيد الدشتكي ، حدثني أبي عن أبيه ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : أتت قريش محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد ، إنا نريد أن تدعو ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا فنشتري به الخيل والسلاح ، فنؤمن بك ونقاتل معك ، قال «أوثقوا لي لئن دعوت ربي فجعل لكم الصفا ذهبا لتؤمنن بي» فأوثقوا له ، فدعا ربه ، فأتاه جبريل فقال: إن ربك قد أعطاهم الصفا ذهبا على أنهم إن لم يؤمنوا بك عذبهم عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين ، قال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رب لا بل دعني وقومي فلأدعهم يوما بيوم» ، فأنزل الله هذه الآية : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) الآية.

ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن جعفر بن أبي المغيرة به ، وزاد في آخره : وكيف يسألونك الصفا وهم يرون من الآيات ما هو أعظم من الصفا؟ وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، قال : نزلت على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ١٦٣] فقال كفار قريش بمكة : كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) إلى قوله : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فبهذا يعلمون أنه إله واحد ، وأنه إله كل شيء ، وخالق كل شيء.

وقال وكيع بن الجراح : حدثنا سفيان عن أبيه ، عن أبي الضحى ، قال : لما نزلت (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) إلى آخر الآية ، قال المشركون : إن كان هكذا ، فليأتنا بآية ، فأنزل اللهعزوجل (إِنَ

٣٤٥

فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) إلى قوله : (يَعْقِلُونَ) رواه آدم بن أبي إياس عن أبي جعفر هو الرازي ، عن سعيد بن مسروق والد سفيان ، عن أبي الضحى به (١).

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (١٦٧)

يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا ومالهم في الدار الآخرة حيث جعلوا له أندادا أي أمثالا ونظراء ، يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه ، وهو الله لا إله إلا هو ، ولا ضد له ، ولا ندّ له ، ولا شريك معه.

وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود ، قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم؟ قال «أن تجعل لله ندّا وهو خلقك» (٢).

وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) ولحبهم لله وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم ، له ، لا يشركون به شيئا بل يعبدونه وحده ، ويتوكلون عليه ، ويلجئون في جميع أمورهم إليه. ثم توعد تعالى المشركين به الظالمين لأنفسهم بذلك ، فقال (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) قال بعضهم : تقدير الكلام ، لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعا ، أي أن الحكم له وحده لا شريك له ، وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه.

(وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) كما قال (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر : ٢٥ ـ ٢٦] يقول لو يعلمون ما يعاينونه هنالك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم لانتهوا عما هم فيه من الضلال ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم وتبري المتبوعين من التابعين ، فقال : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا ، فيقول الملائكة : (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) [القصص : ٦٣] ويقولون : (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) ، [سبأ : ٤١] والجن أيضا تتبرأ منهم ، ويتنصلون من عبادتهم لهم ، كما قال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) [الأحقاف : ٤٦ ـ ٤٧] وقال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ

__________________

(١) ورواه الطبري في تفسيره ٢ / ٦٦ ، به وبالإسناد نفسه.

(٢) رواه البخاري (تفسير سورة ٢ باب ٣ ، وتوحيد باب ٤٠) ومسلم (إيمان حديث ١٤١ ، ١٤٢)

٣٤٦

عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم : ٨١ ـ ٨٢] وقال الخليل لقومه (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [العنكبوت : ٢٥] وقال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ. وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سبأ : ٣١ ـ ٣٢ ـ ٣٣] وقال تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم : ٢٢].

وقوله : (وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) أي عاينوا عذاب الله وتقطعت بهم الحيل وأسباب الخلاص ولم يجدوا عن النار معدلا ولا مصرفا. قال عطاء عن ابن عباس (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) قال المودة ، وكذا قال مجاهد في رواية ابن أبي نجيح (١).

وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) أي لو أن لنا عودة إلى الدار الدنيا حتى نتبرأ من هؤلاء ومن عبادتهم ، فلا نلتفت إليهم بل نوحد الله تعالى عنهم بذلك ، ولهذا قال : (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) أي تذهب وتضمحل كما قال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] وقال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) [إبراهيم: ١٨] ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) [النور : ٣٩] ، ولهذا قال تعالى : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (١٦٩)

لما بين تعالى أنه لا إله إلا هو ، وأنه المستقل بالخلق ، شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه ، فذكر في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبا ، أي مستطابا في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول ، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان وهي طرائقه ومسالكه فيما أضلّ اتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها ، مما كان زينه لهم في جاهليتهم ، كما في حديث عياض بن حماد الذي في صحيح

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٧٦.

٣٤٧

مسلم (١) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «يقول الله تعالى : إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال ـ وفيه ـ وإني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم».

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا محمد بن عيسى بن شيبة المصري ، حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الاحتياطي ، حدثنا أبو عبد الله الجوزجاني رفيق إبراهيم بن أدهم ، حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ، قال تليت هذه الآية عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) فقام سعد بن أبي وقاص فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة ، فقال «يا سعد أطب مطعمك ، تكن مستجاب الدعوة ، والذي نفس محمد بيده ، إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما ، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به».

وقوله : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) تنفير عنه وتحذير منه ، كما قال : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [فاطر : ٦] وقال تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) [الكهف : ٥٠].

وقال قتادة والسدي في قوله : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) : كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان ، وقال عكرمة : هي نزغات الشيطان ، وقال مجاهد : خطاه أو قال خطاياه ، وقال أبو مجلز : هي النذور في المعاصي (٢).

وقال الشعبي : نذر رجل أن ينحر ابنه ، فأفتاه مسروق بذبح كبش ، وقال : هذا من خطوات الشيطان.

وقال أبو الضحى عن مسروق أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح ، فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم ، فقال : لا أريده ، فقال : أصائم أنت قال : لا ، قال : فما شأنك؟ قال : حرمت أن آكل ضرعا أبدا ، فقال ابن مسعود : هذا من خطوات الشيطان ، فاطعم وكفّر عن يمينك ، رواه ابن أبي حاتم.

وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا حسان بن عبد الله المصري عن سليمان التيمي ، عن أبي رافع ، قال : غضبت يوما على امرأتي ، فقالت : هي يوما يهودية ويوما نصرانية ، وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك ، فأتيت عبد الله بن عمر فقال : إنما هذه من خطوات الشيطان ، وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة ، وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة : وأتيت عاصما وابن عمر فقالا مثل ذلك.

__________________

(١) صحيح مسلم (جنة حديث ٦٣)

(٢) أورد هذه الآثار الطبري في تفسيره ٢ / ٨١ ـ ٨٢.

٣٤٨

وقال عبد بن حميد : حدثنا أبو نعيم عن شريك ، عن عبد الكريم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ما كان من يمين أو نذر في غضب ، فهو من خطوات الشيطان ، وكفارته كفارة يمين.

وقوله : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة ، وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه ، وأغلظ من ذلك وهو القول على الله بلا علم ، فيدخل في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضا.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (١٧١)

يقول تعالى : وإذا قيل لهؤلاء الكفرة من المشركين : اتبعوا ما أنزل الله على رسوله ، واتركوا ما أنتم عليه من الضلال والجهل ، قالوا في جواب ذلك : بل نتبع ما ألفينا ، أي وجدنا عليه آباءنا ، أي من عبادة الأصنام والأنداد ، قال الله تعالى منكرا عليهم : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) أي الذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم (لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) أي ليس لهم فهم ولا هداية.

وروى ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس: أنها نزلت في طائفة من اليهود دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام ، فقالوا : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، فأنزل الله هذه الآية (١).

ثم ضرب لهم تعالى مثلا. كما قال تعالى : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) [النحل : ٦٠] فقال (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها بل إذا نعق بها راعيا ، أي دعاها إلى ما يرشدها لا تفقه ما يقول ولا تفهمه بل إنما تسمع صوته فقط. هكذا روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وعكرمة وعطاء والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع بن أنس نحو هذا. وقيل : إنما هذا مثل ضرب لهم في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئا واختاره ابن جرير (٢) ، والأول أولى ، لأن الأصنام لا تسمع شيئا ولا تعقله ولا تبصره ولا بطش لها ولا حياة فيها.

وقوله (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) أي صم عن سماع الحق ، بكم لا يتفوهون به ، عمي عن رؤية طريقه ومسلكه (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي لا يعلمون شيئا ولا يفهمونه.

__________________

(١) ورواه الطبري تفسيره ٢ / ٨٣. وفيه أن من قال ذلك هما رافع بن خارجة ومالك بن عوف ، قالا : «بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فإنهم كانوا أعلم منا وخيرا منا».

(٢) تفسير الطبري ٢ / ٨٦.

٣٤٩

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٧٣)

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى ، وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده ، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة ، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة. كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو النضر ، حدثنا الفضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون : ٥١] ، وقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ثم يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام ، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟» ورواه مسلم في صحيحه والترمذي من ذلك حديث فضيل بن مرزوق.

ولما امتن تعالى عليهم برزقه وأرشدهم إلى الأكل من طيبه ، ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة ، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية وسواء كانت منخنقة أو موقوذة (٢) أو متردية أو نطيحة أو قد عدا عليها السبع ، وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) [المائدة : ٩٦] على ما سيأتي إن شاء الله ، وحديث العنبر في الصحيح وفي المسند والموطأ والسنن قوله عليه‌السلام في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته».

وروى الشافعي وأحمد وابن ماجة والدارقطني حديث ابن عمر مرفوعا «أحل لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال» وسيأتي تقرير ذلك إن شاء الله في سورة المائدة.

[مسألة] ولبن الميتة وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي وغيره. لأنه جزء منها. وقال مالك في رواية : هو طاهر إلا أنه ينجس بالمجاورة ، وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف والمشهور عندهم أنها نجسة ، وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس ، فقال القرطبي (٣) في التفسير هاهنا يخالط اللبن منها يسير ، ويعف عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع.

وقد روى ابن ماجة (٤) من حديث سيف بن هارون عن سليمان التميمي ، عن أبي عثمان

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٢ ص ٣٢٨)

(٢) الموقوذة : التي ضربت بالعصا حتى ماتت.

(٣) تفسير القرطبي ٢ / ٢١٦.

(٤) سنن ابن ماجة (أطعمة باب ٦٠)

٣٥٠

النهدي ، عن سلمان رضي الله عنه : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السمن والجبن والفراء ، فقال «الحلال ما أحل الله في كتابه ، والحرام ما حرم الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه».

وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير سواء ذكي أم مات حتف أنفه ، ويدخل شحمه في حكم لحمه إما تغليبا أو أن اللحم يشمل ذلك أو بطريق القياس على رأي وكذلك حرم عليهم ما أهل به لغير الله ، وهو ما ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له.

وذكر القرطبي (١) عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري : أنه سئل عن امرأة عملت عرسا للعبها فنحرت فيه جزورا ، فقال : لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم ، وأورد القرطبي عن عائشة رضي الله عنها : أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت : ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه ، وكلوا من أشجارهم.

ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها عند فقد غيرها من الأطعمة ، فقال (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) أي في غير بغي ولا عدوان وهو مجاوزة الحد (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي في أكل ذلك (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، وقال مجاهد : فمن اضطر غير باغ ولا عاد ، قاطعا للسبيل أو مفارقا للأئمة ، أو خارجا في معصية الله ، فله الرخصة ، ومن خرج باغيا أو عاديا أو في معصية الله ، فلا رخصة له وإن اضطر إليه ، وكذا روي عن سعيد ، بن جبير. وقال سعيد في رواية عنه ومقاتل بن حيان : غير باغ يعني غير مستحلة ، وقال السدي : غير باغ ، يبتغي فيه شهوته ، وقال آدم بن أبي إياس : حدثنا ضمرة عن عثمان بن عطاء وهو الخراساني ، عن أبيه ، في قوله (غَيْرَ باغٍ) قال : لا يشوي من الميتة ليشتهيه ، ولا يطبخه ، ولا يأكل إلا العلقة ، ويحمل معه ما يبلغه الحلال ، فإذا بلغه ألقاه ، وهو قوله (وَلا عادٍ) ويقول لا يعدو به الحلال ، وعن ابن عباس : لا يشبع منها ، وفسره السدي بالعدوان ، وعن ابن عباس (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) قال (غَيْرَ باغٍ) في الميتة ولا عاد في أكله ، وقال قتادة : فمن اضطر غير باغ ولا عاد ، قال : غير باغ في الميتة أي في أكله أن يتعدى حلالا إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة ، وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله : فمن اضطر ، أي أكره على ذلك بغير اختياره.

[مسألة] إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا أذى ، فإنه لا يحل له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير بغير خلاف ـ كذا قال (٢) ـ ثم قال : وإذا أكله ، والحالة هذه ، هل يضمن أم لا؟ فيه قولان هما روايتان عن مالك ، ثم أورد (٣) من سنن ابن ماجة من حديث شعبة

__________________

(١) تفسير القرطبي ٢ / ٢٢٤.

(٢) أي القرطبي.

(٣) تفسير القرطبي ٢ / ٢٢٦.

٣٥١

عن أبي إياس جعفر بن أبي وحشية (١) : سمعت عباد بن شرحبيل الغبري قال : أصابتنا عاما مخمصة ، فأتيت المدينة ، فأتيت حائطا (٢) ، فأخذت سنبلا ففركته وأكلته ، وجعلت منه في كسائي ، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي ، فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فقال للرجل «ما أطعمته إذ كان جائعا ، ولا ساغيا ولا علمته إذ كان جاهلا» فأمره فرد إليه ثوبه ، فأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق ، إسناد صحيح قوي جيد وله شواهد كثيرة ، من ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الثمر المعلق ، فقال «من أصاب منه من ذي حاجة بفيه غير متخذ خبنة (٣) ، فلا شيء عليه» الحديث.

وقال مقاتل بن حيان في قوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : فيما أكل من اضطرار ، وبلغنا ، والله أعلم. أنه لا يزاد على ثلاث لقم ، وقال سعيد بن جبير : غفور لما أكل من الحرام ، رحيم إذ أحل له الحرام في الاضطرار ، وقال وكيع : أخبرنا الأعمش عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال : من اضطر فلم يأكل ولم يشرب ثم مات ، دخل النار ، وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة. قال أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا الهراسي رفيق الغزالي في الاشتغال : وهذا هو الصحيح عندنا ، كالإفطار للمريض ونحو ذلك (٤).

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (١٧٦)

يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتبهم التي بأيديهم مما تشهد له بالرسالة والنبوة ، فكتموا ذلك لئلا تذهب رئاستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم إياهم ، فخشوا ـ لعنهم الله ـ إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم ، فكتموا ذلك إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك وهو نزر يسير ، فباعوا أنفسهم بذلك واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله ، بذلك النزر اليسير ، فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صدق رسوله بما نصبه وجعله معه من الآيات الظاهرات والدلائل القاطعات ، فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه ، وصاروا عونا له على قتالهم ، وباءوا بغضب على غضب ،

__________________

(١) في القرطبي : «حدثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس» وقد أخرجه ابن ماجة بإسنادين.

(٢) الحائط : البستان ، سمي كذلك لأنه يجعل من حوله حائط.

(٣) الخبنة : ما يحمله الإنسان في حضنه أو تحت إبطه.

(٤) انظر تفسير القرطبي ٢ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

٣٥٢

وذمهم الله في كتابه في غير موضع فمن ذلك هذه الآية الكريمة (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) وهو عرض الحياة الدنيا (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) أي إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق ، نارا تأجج في بطونهم يوم القيامة ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [النساء : ١٠] وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال ، «الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم»

وقوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وذلك لأنه تعالى غضبان عليهم ، لأنهم كتموا وقد علموا ، فاستحقوا الغضب ، فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم ، أي يثني عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذابا أليما ، وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه ، هاهنا حديث الأعمش عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ثلاثة لا يكلمهم الله ، ولا ينظر إليهم ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم : شيخ زان ، وملك كذاب ، وعائل مستكبر» ثم قال تعالى مخبرا عنهم (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أي اعتاضوا عن الهدى ، وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به من كتب الأنبياء واتباعه وتصديقه ، استبدلوا عن ذلك واعتاضوا عنه الضلالة وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في كتبهم (وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) أي اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب ، وهو ما تعاطوه من أسبابه المذكورة.

وقوله تعالى : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) يخبر تعالى أنهم في عذاب شديد عظيم هائل ، يتعجب من رآهم فيها من صبرهم على ذلك مع شدة ما هم فيه من العذاب والنكال والأغلال ، عياذا بالله من ذلك ، وقيل معنى قوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) أي فما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار.

وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي إنما استحقوا هذا العذاب الشديد لأن الله تعالى أنزل على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى الأنبياء قبله كتبه بتحقيق الحق وإبطال الباطل ، وهؤلاء اتخذوا آيات الله هزوا ، فكتابهم أمرهم بإظهار العلم ونشره فخالفوه وكذبوه ، وهذا الرسول الخاتم يدعوهم إلى الله تعالى ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، وهم يكذبونه ويخالفونه ويجحدونه ويكتمون صفته ، فاستهزأوا بآيات الله المنزلة على رسله ، فلهذا استحقوا العذاب والنكال ، ولهذا قال (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ)

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ

٣٥٣

وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (١٧٧)

اشتملت هذه الآية على جمل عظيمة وقواعد عميمة ، وعقيدة مستقيمة ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبيد بن هشام الحلبي ، حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عامر بن شفي ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد ، عن أبي ذر : أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما الإيمان؟ فتلا عليه (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) إلى آخر الآية ، قال : ثم سأله أيضا ، فتلاها عليه ، ثم سأله فقال : «إذا عملت حسنة أحبها قلبك ، وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك» وهذا منقطع ، فإن مجاهدا لم يدرك أبا ذر ، فإنه مات قديما ، وقال المسعودي : حدثنا القاسم بن عبد الرحمن قال : جاء رجل إلى أبي ذر ، فقال : ما الإيمان؟ فقرأ عليه هذه الآية (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) حتى فرغ منها ، فقال الرجل : ليس عن البر سألتك ، فقال أبو ذر : جاء رجل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله عمّا سألتني عنه فقرأ عليه هذه الآية فأبى أن يرضى كما أبيت أن ترضى فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأشار بيده «المؤمن إذا عمل حسنة سرته ورجا ثوابها ، وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها» ورواه ابن مردويه ،. وهذا أيضا منقطع ، والله أعلم.

وأما الكلام على تفسير هذه الآية ، فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس ثم حولهم إلى الكعبة ، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين ، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عزوجل ، وامتثال أوامره ، والتوجه حيثما وجّه واتباع ما شرع ، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل ، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق أو المغرب بر ولا طاعة إن لم يكن عن أمر الله وشرعه ، ولهذا قال (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية ، كما قال في الأضاحي والهدايا (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) [الحج : ٣٧].

وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية : ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا ، فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود ، فأمر الله بالفرائض والعمل بها ، وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك ، وقال أبو العالية : كانت اليهود تقبل قبل المغرب ، وكانت النصارى تقبل قبل المشرق ، فقال الله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) يقول : هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل ، وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله ؛ وقال مجاهد ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله عزوجل ، وقال الضحاك : ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها وقال الثوري : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) الآية قال : هذه أنواع البر كلها ، وصدق رحمه‌الله ، فإن من اتصف بهذه الآية ، فقد دخل في عرى الإسلام كلها ، وأخذ بمجامع الخير كله ، وهو الإيمان بالله وأنه لا إله إلا هو ، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله.

٣٥٤

(والكتاب) وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء ، حتى ختمت بأشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب الذي انتهى إليه كل خير ، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله ، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

وقوله (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) أي أخرجه وهو محب له راغب فيه ، نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف ، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا : «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى وتخشى الفقر»(١).

وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث شعبة والثوري عن منصور ، عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) أن تعطيه وأنت صحيح شحيح ، تأمل العيش وتخشى الفقر» ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

(قلت) وقد رواه وكيع عن الأعمش ، وسفيان عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود موقوفا ، وهو أصح ، والله أعلم.

وقال تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) [الإنسان : ٨ ـ ٩] وقال تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢] وقوله : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر : ٩] نمط آخر أرفع من هذا ، وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما هم محبون له.

وقوله : (ذَوِي الْقُرْبى) وهم قرابات الرجل وهم أولى من أعطي من الصدقة كما ثبت في الحديث «الصدقة على المساكين صدقة ، وعلى ذي الرحم اثنتان : صدقة وصلة ، فهم أولى الناس بك وببرك وإعطائك» وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير موضع من كتابه العزيز.

(وَالْيَتامى) هم الذين لا كاسب لهم ، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب ، وقد قال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن جويبر ، عن الضحاك عن النزال بن سبرة ، عن علي ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يتم بعد حلم».

(وَالْمَساكِينَ) وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم ، فيعطون ما تسد به حاجتهم وخلتهم ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه» (٢).

__________________

(١) أخرجه البخاري (نفقات باب ٢) ومسلم (زكاة حديث ٩٥)

(٢) أخرجه البخاري (تفسير سورة ٢ باب ٤٨ ؛ وزكاة باب ٥٣) وأبو داود (زكاة باب ٢٤) والنسائي (زكاة ـ

٣٥٥

(وَابْنَ السَّبِيلِ) وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى بلده ، وكذا الذي يريد سفرا في طاعة فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه ، ويدخل في ذلك الضيف ، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين ، وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو جعفر الباقر والحسن وقتادة والضحاك والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان.

(وَالسَّائِلِينَ) وهم الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات ، كما قال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع وعبد الرحمن قالا : حدثنا سفيان عن مصعب بن محمد ، عن يعلى بن أبي يحيى ، عن فاطمة بنت الحسين ، عن أبيها ـ قال عبد الرحمن حسين بن علي ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «للسائل حق وإن جاء على فرس» رواه أبو داود.

(وَفِي الرِّقابِ) وهم المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم ، وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف في آية الصدقات من براءة إن شاء الله تعالى ، وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا شريك عن أبي حمزة عن الشعبي ، حدثتني فاطمة بنت قيس ، أنها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفي المال حق سوى الزكاة؟ قالت : فتلا علي (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) ورواه ابن مردويه من حديث آدم بن إياس ويحيى بن عبد الحميد كلاهما عن شريك عن أبي حمزة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس ، قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «في المال حق سوى الزكاة» ثم قرأ (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) ـ إلى قوله ـ (وَفِي الرِّقابِ) وأخرجه ابن ماجة والترمذي ، وضعف أبا حمزة ميمونا الأعور ، وقد رواه سيار وإسماعيل بن سالم عن الشعبي.

وقوله (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) أي وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي ، وقوله : (وَآتَى الزَّكاةَ) يحتمل أن يكون المراد به زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنيئة الرذيلة كقوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس : ٩ ـ ١٠] وقول موسى لفرعون (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) [النازعات : ١٨] وقوله تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت : ٧] ويحتمل أن يكون المراد زكاة المال ، كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان ، ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين ، إنما هو التطوع والبر والصلة ، ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس أن في المال حقا سوى الزكاة ، والله أعلم.

وقوله : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) ، كقوله : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ

__________________

ـ باب ٧٦) والدارمي (زكاة باب ٢) ومالك في الموطأ (صفة النبي حديث ٢٤).

(١) المسند (ج ١ ص ٢٠١)

٣٥٦

الْمِيثاقَ) [الرعد : ٢٠] وعكس هذه الصفة النفاق كما صح في الحديث «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان» وفي الحديث الآخر : «وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر».

وقوله : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) أي في حال الفقر وهو البأساء ، وفي حال المرض والأسقام وهو الضراء (وَحِينَ الْبَأْسِ) اي في حال القتال والتقاء الأعداء وقاله ابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومرة الهمداني ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وأبو مالك والضحاك وغيرهم ، وإنما نصب (الصَّابِرِينَ) على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته والله أعلم ، وهو المستعان وعليه التكلان.

وقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) ، أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم ، لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال ، فهؤلاء هم الذين صدقوا (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧٩)

يقول تعالى : كتب عليكم العدل في القصاص أيها المؤمنون ، حركم بحركم ، وعبدكم بعبدكم ، وأنثاكم بأنثاكم ، ولا تتجاوزوا وتعتدوا كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم ، وسبب ذلك قريظة والنضير ، كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم ، فكان إذا قتل النضري القرظي لا يقتل به ، بل يفادى بمائة وسق من التمر ، وإذا قتل القرظي النضري قتل ، وإن فادوه فدوه بمائتي وسق من التمر ضعف دية قريظة ، فأمر الله بالعدل في القصاص ، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين المخالفين لأحكام الله فيهم كفرا وبغيا ، فقال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ، الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثني عبد الله بن لهيعة ، حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) ، يعني إذا كان عمدا الحر بالحر ، وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل ، فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء ، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا ، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال ، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل العبد منا الحر منهم ، والمرأة منا الرجل منهم ، فنزل فيهم (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) منها منسوخة نسختها (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)

٣٥٧

[المائدة : ٤٥] ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ، ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة ، فأنزل الله : النفس بالنفس والعين بالعين ، فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس وفيما دون النفس ، وجعل العبيد مستويين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم ، وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله النفس بالنفس.

[مسألة] ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة ، وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود ، وهو مروي عن علي وابن مسعود وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والحكم ، قال البخاري وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي والثوري في رواية عنه : ويقتل السيد بعبده ، لعموم حديث الحسن عن سمرة «ومن قتل عبده قتلناه ، ومن جدع عبده جدعناه ، ومن خصاه خصيناه» وخالفهم الجمهور فقالوا : لا يقتل الحر بالعبد ، لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم يجب فيه دية ، وإنما تجب فيه قيمته ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى ، وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر ، لما ثبت في البخاري عن علي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ولا يقتل مسلم بكافر» ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا ، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة.

[مسألة] قال الحسن وعطاء : لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية ، وخالفهم الجمهور لآية المائدة ولقوله عليه‌السلام : «المسلمون تتكافأ دماؤهم» وقال الليث : إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة.

[مسألة] ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد ، قال عمر في غلام : قتله سبعة فقتلهم ، وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم. ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة ، وذلك كالإجماع ، وحكي عن الإمام أحمد رواية : أن الجماعة لا يقتلون بالواحد ، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة ، وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير وعبد الملك بن مروان والزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت ، ثم قال ابن المنذر : وهذا أصح ، ولا حجة لمن أباح قتل الجماعة ، وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه ، وإذا اختلف الصحابة فسبيله النظر.

وقوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) فالعفو أن يقبل الدية في العمد ، وكذا روي عن أبي العالية وأبي الشعثاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان وقال الضحاك عن ابن عباس : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) يعني : فمن ترك له من أخيه شيء يعني أخذ الدية بعد استحقاق الدم ، وذلك العفو ، (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) يقول : فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية ، (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) يعني من

٣٥٨

القاتل من غير ضرر ولا معك (١) يعني المدافعة ، وروى الحاكم من حديث سفيان عن عمرو ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : ويؤدي المطلوب بإحسان. وكذا قال سعيد بن جبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان.

[مسألة] قال مالك رحمه‌الله في رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور ، وأبو حنيفة وأصحابه ، والشافعي وأحمد في أحد قوليه : ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إلا برضا القاتل. وقال الباقون : له أن يعفو عليها وإن لم يرض.

[مسألة] وذهب طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو ، منهم الحسن وقتادة والزهري وابن شبرمة والليث والأوزاعي ، وخالفهم الباقون.

وقوله : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) يقول تعالى : إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفا من الله عليكم ورحمة بكم مما كان محتوما على الأمم قبلكم من القتل أو العفو ، كما قال سعيد بن منصور : حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار ، أخبرني مجاهد عن ابن عباس قال : كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى ، ولم يكن فيهم العفو ، فقال الله لهذه الأمة (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ، فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) فالعفو أن يقبل الدية في العمد وقد رواه غير واحد عن عمرو ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن عمرو بن دينار ، ورواه جماعة عن مجاهد عن ابن عباس بنحوه. وقال قتادة (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ) رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية ولم تحل لأحد قبلهم فكان أهل التوراة : إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أرش ، وكان أهل الإنجيل : إنما هو عفو أمروا به وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش (٢) ، وهكذا روي عن سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس نحو هذا.

وقوله (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) يقول تعالى : فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها ، فله عذاب من الله أليم موجع شديد ، وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية ، كما قال محمد بن إسحاق عن الحارث بن فضيل ، عن سفيان بن أبي العوجاء ، عن أبي شريح الخزاعي ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أصيب بقتل أو خبل (٣) فإنه يختار إحدى ثلاث : إما أن يقتص ، وإما أن يعفو ، وإما أن يأخذ الدية ، فإن أراد الرابعة ، فخذوا على يديه ، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها» رواه أحمد (٤) ، وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن

__________________

(١) معكه : بالقتال والخصومة. لواه ، ومعكه في دينه : مطله به.

(٢) الأرش : دية الجراحة. وما يستردّ من ثمن المبيع إذا ظهر فيه عيب.

(٣) الخبل : الجراح ، كما في رواية المسند.

(٤) المسند (ج ٤ ص ٣١)

٣٥٩

سمرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية» يعني لا أقبل منه الدية ، بل أقتله.

وقوله (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) يقول تعالى : وفي شرع القصاص لكم ، وهو قتل القاتل حكمة عظيمة وهي بقاء المهج وصونها ، لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه ، فكان في ذلك حياة للنفوس ، وفي الكتب المتقدمة : القتل أنفى للقتل فجاءت هذه العبارة في القرآن افصح وأبلغ وأوجز (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) قال أبو العالية : جعل الله القصاص حياة ، فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل. وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي مالك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان.

(يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يقول : يا أولي العقول والأفهام والنهى ، لعلكم تنزجرون وتتركون محارم الله ومآثمه ، والتقوى اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٨٢)

اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين ، وقد كان ذلك واجبا على أصح القولين قبل نزول آية المواريث ، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه ، وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله يأخذها أهلوها حتما من غير وصية ولا تحمل منة الموصى ، ولهذا جاء في الحديث الذي في السنن وغيرها عن عمرو بن خارجة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب وهو يقول «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث» (١).

وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية عن يونس بن عبيد عن محمد بن سيرين ، قال : جلس ابن عباس فقرأ سورة البقرة حتى أتى هذه الآية (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) فقال : نسخت هذه الآية وكذا رواه سعيد بن منصور ، عن هشيم ، عن يونس به ، ورواه الحاكم في مستدركه ، وقال : صحيح على شرطهما ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) قال : كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلا وصية للأقربين ، فأنزل الله آية الميراث ، فبين ميراث الوالدين وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج بن محمد ، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء ، عن ابن عباس ، في قوله (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) :

__________________

(١) أخرجه البخاري (وصايا باب ٦) وأبو داود (وصايا باب ٦) والترمذي (وصايا باب ٥) والنسائي (وصايا باب ٥) وابن ماجة (وصايا باب ٦) والدارمي (وصايا باب ٢٨) وأحمد في المسند (ج ٤ ص ١٨٦)

٣٦٠