تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما الهدى إلا ما نحن عليه ، فاتبعنا يا محمد تهتد ، وقالت النصارى مثل ذلك ، فأنزل الله عزوجل (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا).

وقوله (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أي لا نريد ما دعوتمونا إليه من اليهودية والنصرانية بل نتبع (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أي مستقيما ، قاله محمد بن كعب القرظي وعيسى بن جارية ، وقال خصيف عن مجاهد : مخلصا ، وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : حاجا ، وكذا روي عن الحسن والضحاك وعطية والسدي ، وقال أبو العالية : الحنيف الذي يستقبل البيت بصلاته ، ويرى أن حجه عليه إن استطاع إليه سبيلا. وقال مجاهد والربيع بن أنس : حنيفا أي متبعا. وقال أبو قلابة : الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى أخرهم ، وقال قتادة : الحنيفية شهادة أن لا إله إلا الله ، يدخل فيها تحريم الأمهات والبنات والخالات والعمات وما حرم الله عزوجل والختان (١).

(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (١٣٦)

أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم مفصلا وما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملا ، ونص على أعيان من الرسل ، وأجمل ذكر بقية الأنبياء ، وأن لا يفرقوا بين أحد منهم بل يؤمنوا بهم كلهم ، ولا يكونوا كمن قال الله فيهم (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) [النساء : ١٥٠].

وقال البخاري : حدثنا محمد بن بشار ، أخبرنا عثمان بن عمرة ، أخبرنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل الله».

وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث عثمان بن حكيم عن سعيد بن يسار عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر ما يصلي الركعتين اللتين قبل الفجر ب (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) الآية ، والأخرى ب (آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ٥٢].

وقال أبو العالية والربيع وقتادة : الأسباط بنو يعقوب اثنا عشر رجلا ، ولد كل رجل منهم أمة

__________________

(١) الآثار الواردة في تفسير هذه الآية حكاها الطبري في تفسيره ١ / ٦١٦ ـ ٦١٧.

٣٢١

من الناس ، فسموا الأسباط (١).

وقال الخليل بن أحمد وغيره : الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل ، وقال الزمخشري في الكشاف : الأسباط قبائل بني إسرائيل ، وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط هاهنا شعوب بني إسرائيل ، وما أنزل الله من الوحي على الأنبياء الموجودين منهم ، كما قال موسى لهم (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) [المائدة : ٢٠] ، وقال تعالى : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً) [الأعراف : ١٠٦] قال القرطبي (٢) : وسموا الأسباط من السبط ، وهو التتابع ، فهم جماعة ، وقيل أصله من السبط ، بالتحريك ، وهو الشجر ، أي في الكثرة بمنزلة الشجر ، الواحدة سبطة. قال الزجاج : ويبين لك أصله ما حدثنا محمد بن جعفر الأنباري ، حدثنا أبو نجيد الدقاق ، حدثنا الأسود بن عامر ، حدثنا إسرائيل عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة : نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام ، قال القرطبي : والسبط الجماعة والقبيلة الراجعون إلى أصل واحد.

وقال قتادة : أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به ويصدقوا بكتبه كلها وبرسله. وقال سليمان بن حبيب : إنما أمرنا أن نؤمن بالتوراة والإنجيل ، ولا نعمل بما فيهما. وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا محمد بن محمد بن مصعب الصوري ، أخبرنا مؤمل ، أخبرنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح ، عن معقل بن يسار ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن».

(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) (١٣٨)

يقول تعالى : فإن آمنوا ، يعني الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ، بمثل ما آمنتم به يا أيها المؤمنون من الإيمان بجميع كتب الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم (فَقَدِ اهْتَدَوْا) أي فقد أصابوا الحق وأرشدوا إليه (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي عن الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) ، أي فسينصرك عليهم ويظفرك بهم (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

قال ابن أبي حاتم : قرأ عليّ يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا زياد بن يونس ، حدثنا نافع بن أبي نعيم ، قال : أرسل إلى بعض الخلفاء مصحف عثمان بن عفان ليصلحه ، قال زياد : فقلت له : إن الناس ليقولون إن مصحفه كان في حجره حين قتل فوقع الدم على (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فقال نافع : بصرت عيني بالدم على هذه الآية ، وقد قدم.

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٦١٩.

(٢) تفسير القرطبي ٢ / ١٤١.

٣٢٢

وقوله (صِبْغَةَ اللهِ) ، قال الضحاك عن ابن عباس : دين الله ، وكذا روي عن مجاهد وأبي العالية وعكرمة وإبراهيم والحسن وقتادة والضحاك وعبد الله بن كثير وعطية العوفي والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك. وانتصاب صبغة الله إما على الإغراء كقوله (فِطْرَتَ اللهِ) أي الزموا ذلك عليكموه ، وقال بعضهم : بدلا من قوله (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) [الروم : ٣٠] وقال سيبويه : هو مصدر مؤكد انتصب عن قوله (آمَنَّا بِاللهِ) كقوله (وَعَدَ الله).

وقد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه من رواية أشعث بن إسحاق عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن بني إسرائيل قالوا : يا رسول الله ، هل يصبغ ربك؟ فقال : اتقوا الله. فناداه ربه : يا موسى سألوك هل يصبغ ربك؟ فقل : نعم ، أنا أصبغ الألوان : الأحمر والأبيض والأسود ، والألوان كلها من صبغي» وأنزل الله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) كذا وقع في رواية ابن مردويه مرفوعا ، وهو في رواية ابن أبي حاتم موقوف وهو أشبه إن صح إسناده والله أعلم.

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ(١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤١)

يقول الله تعالى مرشدا نبيه صلوات الله وسلامه عليه إلى درء مجادلة المشركين : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ) أي تناظروننا في توحيد الله والإخلاص له والانقياد واتباع أوامره وترك زواجره (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) المتصرف فينا وفيكم المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي نحن براء منكم ومما تعبدون وأنتم براء منا ، كما قال في الآية الأخرى (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ. أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس : ٤١ ـ ٤٢] وقال تعالى : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) [آل عمران : ٢٠] إلى آخر الآية ، وقال تعالى إخبارا عن إبراهيم (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ) [الأنعام : ٨٠] إلى آخر الآية ، وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) [البقرة : ٢٥٨] ، وقال في هذه الآية الكريمة (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) أي نحن براء منكم كما أنتم براء منا ، ونحن له مخلصون أي في العبادة والتوجه ، ثم أنكر تعالى عليهم في دعواهم أن إبراهيم ومن ذكر بعده من الأنبياء والأسباط ، كانوا على ملتهم إما اليهودية وإما النصرانية ، فقال : (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) يعني بل الله أعلم ، وقد أخبر أنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى كما قال تعالى : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [آل عمران : ٦٧] والتي بعدها.

٣٢٣

وقوله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) قال الحسن البصري : كانوا يقرءون في كتاب الله الذي أتاهم إن الدين الإسلام وإن محمدا رسول الله وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، كانوا براء من اليهودية والنصرانية فشهدوا لله بذلك ، وأقروا على أنفسهم لله ، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك.

وقوله (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) تهديد ووعيد شديد ، أي أن علمه محيط بعلمكم وسيجزيكم عليه. ثم قال تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) أي قد مضت ، (لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) أي لهم أعمالهم ولكم أعمالكم (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم من غير متابعة منكم لهم ، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا منقادين مثلهم لأوامر الله واتباع رسله الذين بعثوا مبشرين ومنذرين ، فإنه من كفر بنبي واحد ، فقد كفر بسائر الرسل ولا سيما بسيد الأنبياء وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من المكلفين صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين.

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٤٣)

قيل : المراد بالسفهاء ـ هاهنا مشركوا العرب ، قاله الزجاج ، وقيل أحبار يهود ، قاله مجاهد ، وقيل : المنافقون ، قاله السدي ، والآية عامة في هؤلاء كلهم ، والله أعلم.

قال البخاري (١) : أخبرنا أبو نعيم ، سمع زهيرا عن أبي إسحاق ، عن البراء رضي الله عنه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ، أو سبعة عشر شهرا ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وأنه صلّى أول صلاة (٢) صلاها صلاة العصر ، وصلّى معه قوم فخرج رجل ممن كان يصلي (٣) معه ، فمر على أهل المسجد وهم راكعون ، قال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت ، وكان الذي مات على القبلة قبل ان تحول قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) انفرد به البخاري من هذا الوجه ، ورواه مسلم من وجه آخر.

وقال محمد بن إسحاق : حدثني إسماعيل بن أبي خالد عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال:

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة البقرة باب ٨)

(٢) عبارة الصحيح : «وأنه صلّى أو صلاها صلاة العصر».

(٣) في الصحيح : «صلى معه».

٣٢٤

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي نحو بيت المقدس ، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله ، فأنزل الله (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٤٤] فقال رجل من المسلمين : وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة ، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس ، فأنزل الله (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) وقال السفهاء من الناس ، وهم أهل الكتاب : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، فأنزل الله (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) إلى آخر الآية.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا الحسن بن عطية ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ، وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة ، فأنزل الله (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قال : فوجه نحو الكعبة وقال السفهاء من الناس وهم اليهود (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) فأنزل الله (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بضعة عشر شهرا وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب قبلة إبراهيم ، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء ، فأنزل الله عزوجل : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة : ١٤٤ ـ ١٥٠] أي نحوه ، فارتاب من ذلك اليهود وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة ، وحاصل الأمر أنه قد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس ، فكان بمكة يصلي بين الركنين ، فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس ، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما ، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس ، قال ابن عباس والجمهور : ثم اختلف هؤلاء ، هل كان الأمر به بالقرآن أو بغيره على قولين.

وحكى القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري : إن التوجه إلى بيت المقدس كان باجتهاده عليه‌السلام.

والمقصود : إن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهرا وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم عليه‌السلام ، فأجيب إلى ذلك وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق ، فخطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس فأعلمهم بذلك ، وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر ، كما تقدم في الصحيحين رواية البراء.

٣٢٥

ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى أنها الظهر ، وقال : كنت أنا وصاحبي أول من صلّى إلى الكعبة.

وذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم : أن تحويل القبلة نزل على رسول الله وقد صلى ركعتين من الظهر ، وذلك في مسجد بني سلمة ، فسمي مسجد القبلتين ، وفي حديث نويلة بنت مسلم : أنهم جاءهم الخبر بذلك وهم في صلاة الظهر ، قالت : فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال ، ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري ، وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر اليوم الثاني ، كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أنه قال :

بينما الناس بقباء في صلاة الصبح ، إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وفي هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به ، وإن تقدم نزوله وإبلاغه ، لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء ، والله أعلم. ولما وقع هذا ، حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتياب ، وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك ، وقالوا (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) أي قالوا : ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا؟ فأنزل الله جوابهم في قوله (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي الحكم والتصرف والأمر كله لله (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥] و (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ١٧٧] أي الشأن كله في امتثال أوامر الله ، فحيثما وجهنا توجهنا ، فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة : فنحن عبيده وفي تصرفه ، وخدامه حيثما وجهنا توجهنا ، وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه وأمته عناية عظيمة إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم خليل الرحمن ، وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له أشرف بيوت الله في الأرض ، إذ هي بناء إبراهيم الخليل عليه‌السلام ولهذا قال : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

وقد روى الإمام أحمد (١) عن علي بن عاصم عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عمرو (٢) بن قيس ، عن محمد بن الأشعث ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعني في أهل الكتاب : «إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى قولنا خلف الإمام : آمين».

وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) يقول تعالى : إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه‌السلام ، واخترناها لكم

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٦ ص ١٣٥)

(٢) في المسند «عمر».

٣٢٦

لنجعلكم خيار الأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم ، لأن الجميع معترفون لكم بالفضل ، والوسط هاهنا الخيار والأجود كما يقال : قريش أوسط العرب نسبا ودارا ، أي خيرها ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسطا في قومه ، أي أشرفهم نسبا ، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي العصر ، كما ثبت في الصحاح وغيرها. ولما جعل الله هذه الأمة وسطا ، خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب ، كما قال تعالى : (هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [الحج : ٧٨].

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يدعى نوح يوم القيامة ، فيقال له : هل بلغت؟ فيقول : نعم ، فيدعى قومه فيقال لهم : هل بلغكم فيقولون : ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد ، فيقال لنوح : من يشهد لك؟ فيقول : محمد وأمته ، قال فذلك قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) قال : والوسط العدل ، فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم» رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة من طرق عن الأعمش.

وقال الإمام أحمد (٢) أيضا : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك ، فيدعى قومه ، فيقال : هل بلغكم هذا؟ فيقولون : لا فيقال له : هل بلغت قومك؟ فيقول : نعم ، فيقال : من يشهد لك؟ فيقول : محمد وأمته ، فيدعى محمد وأمته ، فيقال لهم : هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون : نعم ، فيقال : وما علمكم؟ فيقولون : جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا ، فذلك قوله عزوجل (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) قال : عدلا (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).

وقال أحمد أيضا : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) قال عدلا.

وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه وابن أبي حاتم ، من حديث عبد الواحد بن زياد عن أبي مالك الأشجعي عن المغيرة بن عتيبة بن نهاس ، حدثني مكاتب لنا عن جابر بن عبد الله عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا وأمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق ، ما من الناس أحد إلا ود أنهمنا وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه عزوجل».

وروى الحاكم في مستدركه وابن مردويه أيضا ، واللفظ له من حديث مصعب بن ثابت عن محمد بن كعب القرظي عن جابر بن عبد الله قال : شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جنازة في بني مسلمة

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٣ ص ٣٢)

(٢) مسند أحمد (ج ٣ ص ٥٨)

٣٢٧

وكنت إلى جانب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال بعضهم : والله يا رسول الله لنعم المرء كان ، لقد كان عفيفا مسلما وكان ... وأثنوا عليه خيرا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنت بما تقول. فقال الرجل : الله يعلم بالسرائر ، فأما الذي بدا لنا منه فذاك ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجبت وجبت ، ثم شهد جنازة في بني حارثة وكنت إلى جانب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال بعضهم : يا رسول الله بئس المرء كان إن كان لفظا غليظا فأثنوا عليه شرا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبعضهم : أنت بالذي تقول. فقال الرجل : الله أعلم بالسرائر ، فأما الذي بدا لنا منه فذاك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وجبت. قال مصعب بن ثابت : فقال لنا عند ذلك محمد بن كعب : صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قرأ (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) ثم قال الحاكم : هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد حدثنا داود بن أبي الفرات عن عبد الله بن بريدة عن أبي الأسود أنه قال : أتيت المدينة فوافقتها وقد وقع بها مرض فهم يموتون موتا ذريعا ، فجلست إلى عمر بن الخطاب فمرت به جنازة فأثني على صاحبها خيرا ، فقال : وجبت وجبت ، ثم مر بأخرى فأثني عليها شرا ، فقال عمر : وجبت. فقال أبو الأسود : ما وجبت يا أمير المؤمنين قال ، قلت كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة» قال : فقلنا وثلاثة قال : فقال «وثلاثة» قال : فقلنا واثنان : قال «واثنان». ثم لم نسأله عن الواحد. وكذا رواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث داود بن أبي الفرات به.

وقال ابن مردويه حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى حدثنا أبو قلابة الرقاشي ، حدثني أبو الوليد حدثنا نافع بن عمر حدثني أمية بن صفوان عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنباوة (١) يقول : «يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم» قالوا : بم يا رسول الله؟ قال : «بالثناء الحسن والثناء السيء أنتم شهداء الله في الأرض» ، ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون ، ورواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وعبد الملك بن عمر وشريح عن نافع عن ابن عمر به.

وقوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ، وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) يقول تعالى : إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولا إلى بيت المقدس ، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ، ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبه ، أي مرتدا عن دينه وإن كانت لكبيرة ، أي هذه الفعلة وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة ، أي وإن كان هذا الأمر عظيما في النفوس إلا على الذين هدى الله قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول ، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه ، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء ، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك بخلاف الذين في قلوبهم مرض ، فإنه كلما حدث

__________________

(١) النباوة : موضع بالطائف.

٣٢٨

أمر أحدث لهم شكا كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق ، كما قال الله تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥] ، وقال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء : ٨٢] ولهذا كان من ثبت على تصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتباعه في ذلك وتوجه حيث أمره الله من غير شك ولا ريب من سادات الصحابة ، وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلوا إلى القبلتين.

وقال البخاري (١) في تفسير هذه الآية : حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : بينا الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاء رجل (٢) فقال : قد أنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، فتوجهوا إلى الكعبة. وقد رواه مسلم من وجه آخر عن ابن عمر ورواه الترمذي من حديث سفيان الثوري وعنده أنهم كانوا ركوعا فاستداروا كما هم إلى الكعبة وهم ركوع ، وكذا رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مثله ، وهذا يدل على كمال طاعتهم لله ولرسوله وانقيادهم لأوامر الله عزوجل رضي الله عنهم أجمعين.

وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك ما كان يضيع ثوابها عند الله ، وفي الصحيح من حديث أبي إسحاق السبيعي عن البراء قال : مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس ، فقال الناس : ما حالهم في ذلك؟ فأنزل الله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه.

وقال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أي بالقبلة الأولى وتصديقكم نبيكم واتباعه إلى القبلة الأخرى ، أي ليعطيكم أجرهما جميعا (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

وقال الحسن البصري (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أي ما كان الله ليضيع محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم وانصرافكم معه حيث انصرف. (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها فجعلت كلما وجدت صبيا من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها ، فما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه»؟ قالوا : لا يا رسول الله. قال : «فو الله لله أرحم بعباده من هذه

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة البقرة باب ٧)

(٢) في الصحيح : «إذ جاء جاء».

٣٢٩

بولدها» (١).

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (١٤٤)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : كان أول ما نسخ من القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بضعة عشر شهرا ، وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء فأنزل الله (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) إلى قوله : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فارتابت من ذلك اليهود وقالوا : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) [البقرة : ١٤٢] وقال : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥] وقال الله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) [البقرة : ١٤٣].

وروى ابن مردويه من حديث القاسم العمري عن عمه عبيد الله بن عمر عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سلم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء ، فأنزل الله (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) إلى الكعبة إلى الميزاب يؤم به جبرائيل عليه‌السلام.

وروى الحاكم في مستدركه من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء عن يحيى بن قمطة قال : رأيت عبد الله بن عمرو جالسا في المسجد الحرام بإزاء الميزاب فتلى هذه الآية ، (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) قال : نحو ميزاب الكعبة. ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن عرفة عن هشام عن يعلى بن عطاء به. وهكذا قال غيره وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنه : إن الغرض إصابة عين القبلة ، والقول الآخر وعليه الأكثرون : أن المراد المواجهة ، كما رواه الحاكم من حديث محمد بن إسحاق عن عمير بن زياد الكندي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قال شطره : قبله ، ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه ، وهذا قول أبي العالية ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم. وكما تقدم في الحديث الآخر «ما بين المشرق والمغرب قبلة».

وقال القرطبي (٢) : روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) صحيح مسلم (توبة حديث ٢٢)

(٢) تفسير القرطبي ٢ / ١٥٩.

٣٣٠

قال : «البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي».

وقال أبو نعيم الفضل بن دكين : حدثنا زهير عن أبي إسحاق عن البراء أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا ، أو سبعة عشر شهرا ، وكان يعجبه قبلته قبل البيت وأنه صلّى صلاة العصر وصلّى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان يصلي معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال : أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت.

وقال عبد الرزاق : أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال : لما قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب أن يحول نحو الكعبة ، فنزلت (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) فصرف إلى الكعبة.

وروى النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فنصلي فيه فمررنا يوما ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاعد على المنبر ، فقلت : لقد حدث أمر فجلست ، فقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) حتى فرغ من الآية ، فقلت لصاحبي : تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنكون أول من صلى ، فتوارينا فصليناها. ثم نزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلّى للناس الظهر يومئذ.

وكذا روى ابن مردويه عن ابن عمر : أن أول صلاة صلاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكعبة صلاة الظهر وإنها الصلاة الوسطى ، والمشهور أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر ولهذا تأخر الخبر عن أهل قباء إلى صلاة الفجر.

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ، حدثنا رجاء بن محمد السقطي حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا إبراهيم بن جعفر ، حدثني أبي عن جدته أم أبيه نويلة بنت مسلم قالت : صلينا الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد إيلياء (١) فصلينا ركعتين ، ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء ، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام ، فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أولئك رجال يؤمنون بالغيب».

وقال ابن مردويه أيضا ، حدثنا محمد بن علي بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي حدثنا قيس عن زياد بن علامة عن عمارة بن أوس قال : بينما نحن في الصلاة نحو بيت المقدس ونحن ركوع إذ نادى مناد بالباب : إن القبلة قد حولت إلى الكعبة ، قال فأشهد على إمامنا أنه انحرف فتحول هو والرجال والصبيان وهم ركوع نحو الكعبة.

__________________

(١) إيلياء : بيت المقدس.

٣٣١

وقوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ، ولا يستثنى من هذا شيء سوى النافلة في حال السفر فإنه يصليها حيثما توجه قالبه وقلبه نحو الكعبة ، وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال. وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده وإن كان مخطئا في نفس الأمر ، لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها.

[مسألة] وقد استدل المالكية بهذه الآية على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ، قال المالكية بقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء وهو ينافي كمال القيام ، وقال بعضهم : ينظر المصلي في قيامه إلى صدره. وقال شريك القاضي : ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده كما قال جمهور الجماعة ، لأنه أبلغ في الخضوع وآكد في الخشوع وقد ورد به الحديث ، وأما في حال ركوعه فإلى موضع قدميه ، وفي حال سجوده إلى موضع أنفه وفي حال قعوده إلى حجره.

وقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي واليهود الذين أنكروا استقبالكم وانصرافكم عن بيت المقدس ، يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها بما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت والصفة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته ، وما خصه الله تعالى به وشرفه من الشريعة الكاملة العظيمة ، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدا وكفرا وعنادا ولهذا تهددهم تعالى بقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (١٤٥)

يخبر تعالى عن كفر اليهود وعنادهم ومخالفتهم ما يعرفونه من شأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به لما اتبعوه وتركوا أهواءهم كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧] ولهذا قال هاهنا (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) وقوله (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) إخبار عن شدة متابعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أمره الله تعالى به وأنه كما هم مستمسكون بآرائهم وأهوائهم ، فهو أيضا مستمسك بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته ، وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله ولا كونه متوجها إلى بيت المقدس لكونها قبلة اليهود ، وإنما ذلك عن أمر الله تعالى ، ثم حذر تعالى عن مخالفة الحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى ، فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره ، ولهذا قال مخاطبا للرسول والمراد به الأمة (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ

٣٣٢

ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ).

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١٤٧)

يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب ، يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يعرف أحدهم ولده ، والعرب كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا ، كما جاء في الحديث (١). أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل معه صغير «ابنك هذا»؟ قال : نعم يا رسول الله أشهد به ، قال «أما أنه لا يجني عليك ولا تجني عليه».

قال القرطبي (٢) : ويروى عن عمر أنه قال لعبد الله بن سلام : أتعرف محمدا كما تعرف ولدك؟ قال ، نعم وأكثر ، نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته (٣) ، وأبني لا أدري ما كان من أمه (قلت) وقد يكون المراد (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) من بين أبناء الناس كلهم ، لا يشك أحد ولا يمتري في معرفة ابنه إذا رآه من أبناء الناس كلهم. ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق والإتقان العلمي (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَ) أي ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ، ثم ثبت تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وأخبرهم بأن ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ، فقال : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٤٨)

قال العوفي عن ابن عباس. ولكل وجهة هو موليها يعني بذلك أهل الأديان ، يقول لكل قبيلة قبلة يرضونها ووجهة الله حيث توجه المؤمنون. وقال أبو العالية : لليهودي وجهة هو موليها ، وللنصراني وجهة هو موليها ، وهداكم أنتم أيتها الأمة إلى القبلة التي هي القبلة. وروي عن مجاهد وعطاء والضحاك والربيع بن أنس والسدي نحو هذا ، وقال مجاهد في الرواية الأخرى والحسن : أمر كل قوم أن يصلوا إلى الكعبة ، وقرأ ابن عباس وأبو جعفر الباقر وابن عامر «ولكل وجهة هو مولّيها» ، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) [المائدة : ٤٨] وقال هاهنا (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي هو قادر على جمعكم من الأرض وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم.

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٥ ص ٨١)

(٢) تفسير القرطبي ٢ / ١٦٣.

(٣) عبارة القرطبي : «بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه فعرفته».

٣٣٣

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥٠)

هذا أمر ثالث من الله تعالى باستقبال المسجد الحرام من جميع أقطار الأرض ، وقد اختلفوا في حكمة هذا التكرار ثلاث مرات ، فقيل ، تأكيد لأنه أول ناسخ وقع في الإسلام على ما نص فيه ابن عباس وغيره ، وقيل : بل هو منزل على أحوال ، فالأمر الأول لمن هو مشاهد الكعبة ، والثاني لمن هو في مكة غائبا عنها ، والثالث لمن هو في بقية البلدان ، هكذا وجهه فخر الدين الرازي.

وقال القرطبي : الأول لمن هو بمكة ، والثاني لمن هو في بقية الأمصار ، والثالث لمن خرج في الأسفار ، ورجح هذا الجواب القرطبي.

وقيل : إنما ذكر ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق ، فقال : أولا (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) [البقرة : ١٤٤] إلى قوله (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) [البقرة : ١٤٤] فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته وأمره بالقبلة التي كان يود التوجه إليها ويرضاها ، وقال في الأمر الثاني ، (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فذكر أنه الحق من الله وارتقاءه المقام الأول ، حيث كان موافقا لرضا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم فبين أنه الحق أيضا من الله يحبه ويرتضيه ، وذكر في الأمر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يتحججون باستقبال الرسول إلى قبلتهم وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم عليه‌السلام إلى الكعبة ، وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صرف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف ، وقد كانوا يعظمون الكعبة وأعجبهم استقبال الرسول إليها ، وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار ، وقد بسطها الرازي وغيره ، والله أعلم.

وقوله ، (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) أي : أهل الكتاب فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة ، فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين ، ولئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس ، وهذا أظهر.

قال أبو العالية : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) يعني به أهل الكتاب حين قالوا : صرف محمد إلى الكعبة. وقالوا : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه وكان حجتهم على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم انصرافه إلى البيت الحرام ، أن قالوا ، سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا.

٣٣٤

قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد وعطاء والضحاك والربيع بن أنس وقتادة والسدي نحو هذا ، وقال هؤلاء في قوله (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) يعني مشركي قريش.

ووجه بعضهم حجة الظلمة وهي داحضة ، أن قالوا : إن هذا الرجل يزعم أنه على دين إبراهيم ، فلم يرجع عنه والجواب أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس ، أولا لما له تعالى في ذلك من الحكمة ، فأطاع ربه تعالى في ذلك ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم وهي الكعبة ، فامتثل أمر الله في ذلك أيضا ، فهو صلوات الله وسلامه عليه مطيع لله في جميع أحواله لا يخرج عن أمر الله طرفة عين وأمته تبع له.

وقوله ، (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) أي لا تخشوا شبه الظلمة المتعنتين وأفردوا الخشية لي ، فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه ، وقوله : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) عطف على (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) ، أي ، لأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة ، لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي إلى ما ضلت عنه الأمم هديناكم إليه وخصصناكم به ، ولهذا كانت هذه الأمة أشرف الأمم وأفضلها.

(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (١٥٢)

يذكر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم يتلو عليهم آيات الله مبينات ، ويزكيهم ، أي يطهرهم من رذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويعلمهم الكتاب ، وهو القرآن ، والحكمة وهي السنة ، ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ، فكانوا في الجاهلية الجهلاء يسفهون بالعقول الغراء ، فانتقلوا ببركة رسالته ، ويمن سفارته ، إلى حال الأولياء ، وسجايا العلماء. فصاروا أعمق الناس علما ، وأبرهم قلوبا ، وأقلهم تكلفا ، وأصدقهم لهجة. وقال تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ) [آل عمران : ١٦٤] ، وذمّ من لم يعرف قدر هذه النعمة ، فقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) [إبراهيم : ٢٨] قال ابن عباس : يعني بنعمة الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا ندب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره ، وقال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ).

قال مجاهد ، في قوله : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) يقول : كما فعلت فاذكروني ، قال عبد الله بن وهب : عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم أن موسى عليه‌السلام قال : يا رب كيف أشكرك؟ قال له ربه : «تذكرني ولا تنساني ، فإذا ذكرتني فقد شكرتني ، وإذا نسيتني فقد كفرتني» قال الحسن البصري وأبو العالية والسدي والربيع بن أنس : أن الله يذكر من ذكره ويزيد من شكره

٣٣٥

ويعذب من كفره.

وقال بعض السلف في قوله تعالى ، (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] قال ، هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر.

وقال ابن أبي حاتم ، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، أخبرنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عمارة الصيدلاني ، أخبرنا مكحول الأزدي ، قال : قلت لابن عمر : أرأيت قاتل النفس وشارب الخمر والسارق والزاني يذكر الله ، وقد قال الله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)؟ قال : إذا ذكر الله هذا ذكره الله بلعنته حتى يسكت.

وقال الحسن البصري في قوله : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) قال : اذكروني فيما افترضت عليكم أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي ، وعن سعيد بن جبير : اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي ، وفي رواية ، برحمتي. وعن ابن عباس في قوله : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) قال : ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه.

وفي الحديث الصحيح : «يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه».

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال الله عزوجل : يا ابن آدم ، إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ، إن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة ـ أو قال ، في ملأ خير منه ـ وإن دنوت مني شبرا دنوت منك ذراعا ، وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا ، وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة» ، صحيح الإسناد أخرجه البخاري من حديث قتادة ، وعنده قال قتادة : الله أقرب بالرحمة (٢).

وقوله : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) أمر الله تعالى بشكره ووعد على شكره بمزيد الخير فقال : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم : ٧] وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا روح ، حدثنا شعبة عن الفضيل بن فضالة ـ رجل من قيس ـ حدثنا أبو رجاء العطاردي ، قال : خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطرف من خز لم نره عليه قبل ذلك ولا بعده ، فقال ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ، «من أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه» ، وقال روح مرة : على عبده.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٣ ص ١٣٨)

(٢) عبارة المسند : «قال قتادة : فالله عزوجل أسرع بالمغفرة».

(٣) مسند أحمد (ج ٤ ص ٤٣٨)

٣٣٦

اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (١٥٤)

لما فرغ تعالى من بيان الأمر بالشكر ، شرع في بيان الصبر والإرشاد والاستعانة بالصبر والصلاة ، فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها ، أو في نقمة فيصبر عليها كما جاء في الحديث «عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له : إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له».

وبين تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر والصلاة كما تقدم في قوله : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة : ٤٥] ، وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا حزبه أمر صلى ، والصبر صبران فصبر على ترك المحارم والمآثم وصبر على فعل الطاعات والقربات ، والثاني أكثر ثوابا لأنه المقصود. وأما الصبر الثالث وهو الصبر على المصائب والنوائب ، فذلك أيضا واجب كالاستغفار من المعايب ، كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الصبر في بابين : الصبر لله بما أحب وإن ثقل على الأنفس والأبدان ، والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء ، فمن كان هكذا فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم إن شاء الله.

وقال علي بن الحسين زين العابدين : إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد ، أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب؟ قال : فيقوم عنق (١) من الناس فتتلقاهم الملائكة فيقولون : إلى أين يا بني آدم؟ فيقولون : إلى الجنة ، فيقولون : قبل الحساب؟ قالوا : نعم ، قالوا : ومن أنتم؟ قالوا : نحن الصابرون ، قالوا : وما كان صبركم ، قالوا : صبرنا على طاعة الله وصبرنا عن معصية الله حتى توفانا الله ، قالوا : أنتم كما قلتم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين.

(قلت) ويشهد لهذا قوله تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر: ١٠] وقال سعيد بن جبير : الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه ، واحتسابه عند الله رجاء ثوابه وقد يجزع الرجل وهو متجلد لا يرى منه إلا الصبر.

وقوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) ، يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون ، كما جاء في صحيح مسلم (٢) : أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش ، فاطلع عليهم ربك إطلاعة ، فقال : ماذا تبغون؟ فقالوا : يا ربنا وأي شيء نبغي ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا ، قالوا : نريد أن تردنا

__________________

(١) العنق (بالتحريك) : الطائفة من الناس.

(٢) صحيح مسلم (إمارة حديث ١٢١). والحديث الذي يرويه ابن كثير هنا يختلف بلفظه كثيرا عما جاء في رواية مسلم. قارن أيضا بسنن الترمذي (تفسير سورة ٣ باب ١٩)

٣٣٧

إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى ـ لما يرون من ثواب الشهادة ـ فيقول الرب جل جلاله : إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون.

وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد (١) عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه» ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضا وإن كان الشهداء قد خصصوا بالذكر في القرآن تشريفا وتكريما وتعظيما.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (١٥٧)

أخبرنا تعالى أنه يبتلي عباده ، أي يختبرهم ويمتحنهم كما قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [محمد : ٣١] فتارة بالسراء وتارة بالضراء من خوف وجوع كما قال تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) [النحل : ١١٢] فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه ، ولهذا قال لباس الجوع والخوف. وقال هاهنا : (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) أي بقليل من ذلك (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ) أي ذهاب بعضها (وَالْأَنْفُسِ) كموت الأصحاب والأقارب والأحباب (وَالثَّمَراتِ) أي لا تغل الحدائق والمزارع كعادتها.

قال بعض السلف : فكانت بعض النخيل لا تثمر غير واحدة ، وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده فمن صبر أثابه ومن قنط أحل به عقابه ، ولهذا قال تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) وقد حكى بعض المفسرين أن المراد من الخوف هاهنا خوف الله ، وبالجوع صيام رمضان ، وبنقص الأموال الزكاة ، والأنفس الأمراض ، والثمرات الأولاد ، وفي هذا نظر ، والله أعلم.

ثم بين تعالى من الصابرين الذين شكرهم فقال : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) أي تسلوا بقولهم هذا عما أصابهم وعلموا أنهم ملك لله يتصرف في عبيده بما يشاء ، وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة. ولهذا أخبر تعالى عما أعطاهم على ذلك ، فقال : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) أي ثناء من الله عليهم. قال سعيد بن جبير : أي أمنة من العذاب (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : نعم العدلان ونعمت العلاوة (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) فهذان العدلان (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) فهذه العلاوة وهي ما توضع بين العدلين وهي زيادة في الحمل فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٣ ص ٤٥٥)

٣٣٨

وزيدوا أيضا.

وقد ورد في ثواب الاسترجاع وهو قول (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) عند المصائب أحاديث كثيرة. فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد (١) حيث قال : حدثنا يونس بن محمد حدثنا ليث يعني ابن سعد عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد عن عمرو بن أبي عمرو ، عن المطلب عن أم سلمة قالت : أتاني أبو سلمة يوما من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : لقد سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قولا سررت به. قال : «لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول : اللهم أجرني في مصيبتي وأ خلف لي خيرا منها ، إلا فعل ذلك به» ، قالت أم سلمة : فحفظت ذلك منه ، فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت : اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها ، ثم رجعت إلى نفسي ، فقلت : من أين لي خير من أبي سلمة؟ فلما انقضت عدتي استأذن عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا أدبغ إهابا لي فغسلت يدي من القرظ وأذنت له ، فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف فقعد عليها فخطبني إلى نفسي ، فلما فرغ من مقالته قلت : يا رسول الله ما بي أن لا يكون بك الرغبة ، لكني امرأة في غيرة شديدة فأخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به ، وأنا امرأة قد دخلت في السن وأنا ذات عيال ، فقال : «أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبها الله عزوجل عنك وأما ما ذكرت من السن قد أصابني مثل الذي أصابك وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي». قالت : فقد سلمت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت أم سلمة بعد : أبدلني الله بأبي سلمة خيرا منه : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي صحيح مسلم (٢) عنها أنها قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها» قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت : كما أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخلف الله لي خيرا منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا يزيد وعباد بن عباد قالا : حدثنا هشام بن أبي هشام حدثنا عباد بن زياد عن أمه عن فاطمة ابنة الحسين عن أبيها الحسين بن علي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها ـ وقال عباد قدم عهدها ـ فيحدث لذلك استرجاعا إلا جدد الله له عن ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب». ورواه ابن ماجة في سننه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن هشام بن زياد عن أمه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها. وقد رواه إسماعيل بن علية ويزيد بن هارون عن هشام بن زياد عن أبيه (كذا) عن فاطمة عن أبيها.

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٤ ص ٢٨)

(٢) صحيح مسلم (جنائز حديث ٣ ، ٤)

(٣) مسند أحمد (ج ١ ص ٢٠١)

٣٣٩

وقال الإمام أحمد (١) حدثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني (٢) حدثنا حماد بن سلمة عن أبي سنان قال : دفنت ابنا لي وإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة يعني الخولاني فأخرجني وقال لي: ألا أبشرك؟ قلت : بلى. قال : حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قال الله : يا ملك الموت قبضت ولد عبدي؟ قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال : نعم. قال : فما قال؟ قال : حمدك واسترجع. قال : «ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد»

ثم رواه عن علي بن إسحاق عن عبد الله بن المبارك فذكره. وهكذا رواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به ، وقال حسن غريب واسم أبي سنان عيسى بن سنان.

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) (١٥٨)

قال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود الهاشمي أخبرنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عروة عن عائشة ، قال : قلت أرأيت قول الله تعالى. (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)؟ قلت : فو الله ما على أحد جناح أن لا يطّوّف بهما ، فقالت عائشة : بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أوّلتها عليه كانت فلا جناح أن عليه لا يطوف بهما ، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل (٣) ، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة ، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية. فأنزل الله عزوجل : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) قالت عائشة : ثم قد سن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطواف بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما أخرجاه في الصحيحين.

وفي رواية عن الزهري أنه قال : فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. فقال : إن هذا العلم ما كنت سمعته ، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون : إن الناس ـ إلا من ذكرت عائشة ـ كانوا يقولون : إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية. وقال آخرون من الأنصار : إنما أمرنا بالطواف بالبيت ، ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) قال أبو بكر بن عبد الرحمن : فلعلها نزلت في هؤلاء وهؤلاء.

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٤ ص ٤١٥)

(٢) في المسند : «السالحيني». وفي موسوعة رجال الكتب التسعة ٤ / ١٩٥ : «السيلحيني».

(٣) المشلل : جبل يهبط منه إلى قديد من ناحية البحر (معجم البلدان)

٣٤٠