تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

فجعلوا ذلك من تمام دعاء (١) إبراهيم ، كما رواه أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية قال : كان ابن عباس يقول ذلك قول إبراهيم ، يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا.

وقال أبو جعفر عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) يقول ، ومن كفر فأرزقه قليلا أيضا (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

قال محمد بن إسحاق : لما عزل إبراهيم الدعوة أبى الله أن يجعل له الولاية ـ انقطاعا إلى الله ومحبته ، وفراقا لمن خالف أمره وإن كانوا من ذريته ، حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا يناله عهده بخبر الله له بذلك ، قال الله تعالى : ومن كفر فإني أرزق البر والفاجر وأمتعه قليلا.

وقال حاتم بن إسماعيل عن حميد الخراط ، عن عمار الدهني ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله تعالى : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) قال ابن عباس : كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس فأنزل الله : ومن كفر أيضا أرزقهم كما أرزق المؤمنين ، أأخلق خلقا لا أرزقهم؟ أمتعهم قليلا ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير ، ثم قرأ ابن عباس (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) [الإسراء : ٢٠] رواه ابن مردويه ، وروي عن عكرمة ومجاهد نحو ذلك أيضا.

وهذا كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) [يونس : ٧٠] وقوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان : ٢٣ ـ ٢٤] وقوله : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ. وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٣٣ ـ ٣٤ ـ ٣٥].

وقوله : (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه من ظلها إلى عذاب النار وبئس المصير ، ومعناه أن الله تعالى ينظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) [الحج : ٤٨] وفي الصحيحين «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم» وفي الصحيح أيضا «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود : ١٠٢] وقرأ بعضهم (قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) الآية ، جعله من تمام دعاء إبراهيم وهي قراءة شاذة مخالفة

__________________

(١) أي قراءة «وأمتعه» بتخفيف التاء المكسورة وجزم العين ، بصيغة الطلب. وكذلك «ثم اضطرّه» على سبيل الطلب.

٣٠١

للقراء السبعة ، وتركيب السياق يأبى معناها ، والله أعلم ، فإن الضمير في قال : راجع إلى الله تعالى في قراءة الجمهور ، والسياق يقتضيه ، وعلى هذه القراءة الشاذة يكون الضمير في قال عائدا على إبراهيم ، وهذا خلاف نظم الكلام ، والله سبحانه هو العلام.

وأما قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) فالقواعد جمع قاعدة وهي السارية والأساس ، يقول تعالى : واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام البيت ورفعهما القواعد منه ، وهما يقولان (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وحكى القرطبي (١) وغيره عن أبي وابن مسعود أنهما كانا يقرآن «وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم» ، (قلت) ويدل على هذا قولهما بعده (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) الآية ، فهما في عمل صالح ، وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما ، كما روى ابن أبي حاتم من حديث محمد بن يزيد بن خنيس المكي عن وهيب بن الورد أنه قرأ (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) ثم يبكي ويقول : يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك. وهذا كما حكى الله تعالى عن حال المؤمنين الخلص في قوله (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) [المؤمنون : ٦٠] أي يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون : ٦٠] أي خائفة أن ألّا يتقبل منهم ، كما جاء به الحديث الصحيح عن عائشة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما سيأتي في موضعه.

وقال بعض المفسرين : الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم والداعي إسماعيل ، والصحيح أنهما كانا يرفعان ويقولان كما سيأتي بيانه.

وقد روى البخاري هاهنا حديثا سنورده ثم نتبعه بآثار متعلقة بذلك ، قال البخاري (٢) رحمه‌الله حدثنا عبد الله بن محمد ، أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب السختياني وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة ـ يزيد أحدهما على الآخر ـ عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقا ليعفّى أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه ، حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء ، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر ، وسقاء فيه ماء ، ثم قفا إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل ، فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي ليس فيه أنيس؟ ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا ، وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت : آلله أمرك بذا؟ قال : نعم : قالت : إذا لا يضيعنا. ثم رجعت. فانطلق إبراهيم

__________________

(١) تفسير القرطبي ٢ / ١٢٦.

(٢) صحيح البخاري (أنبياء باب ٩). ورواه أيضا الإمام أحمد في مسنده (ج ١ ص ٣٤٧)

٣٠٢

حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه ، فقال (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) حتى بلغ (يَشْكُرُونَ) [إبراهيم : ٣٧] وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى ـ أو قال : يتلبط (١) ـ فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي : رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات ، قال ابن عباس : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلذلك سعى الناس بينهما» فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت «صه» ـ تريد نفسها ـ ثم تسمعت فسمعت أيضا ، فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه ، أو قال : بجناحه ، حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوّضه (٢) وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف ، قال ابن عباس : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم ـ أو قال : لو لم تغرف من الماء ـ لكانت زمزم عينا معينا» (٣) قال : فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة ، فإن هاهنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله ، وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء ، فنزلوا في أسفل مكة ، فرأوا طائرا عائفا (٤) ، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء ، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جريا أو جريين (٥) ، فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء ، فأقبلوا ، قال : وأم إسماعيل عند الماء ، فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت : نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء عندنا ، قالوا : نعم ، قال ابن عباس : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس» فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم ، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم ، وشب الغلام وتعلم العربية منهم ، وأنفسهم (٦) وأعجبهم حين شب ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم ، وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل ليطالع تركته (٧) فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتغي لنا ، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت :

__________________

(١) أي يتمرّغ.

(٢) أي تجعل له حوضا يجتمع فيه الماء.

(٣) قوله : «يرحم الله أم إسماعيل ... عينا معينا» منسوب في المسند إلى ابن عباس لا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) عاف الطائر : دار حول الشيء يريد الوقوع عليه.

(٥) أي رسولا أو رسولين.

(٦) أنفسهم وأعجبهم بمعنى.

(٧) أي زوجته وابنه ، لما تركهما بمكة.

٣٠٣

نحن بشر ، نحن في ضيق وشدة ، فشكت إليه ، قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه‌السلام ، وقولي له يغير عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل ، كأنه أنس شيئا ، فقال : هل جاءكم من أحد؟ قالت : نعم ، جاءنا شيخ كذا وكذا ، فسألنا عنك فأخبرته ، وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أننا في جهد وشدة ، قال : فهل أوصاك بشيء؟ قالت : نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول غير عتبة بابك ، قال : ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك ، فالحقي بأهلك ، وطلقها وتزوج منهم بأخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد ، فلم يجده ، فدخل على امرأته فسألها عنه ، فقالت : خرج يبتغي لنا ، قال : كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بخير وسعة ، وأثنت على الله عزوجل ، قال : ما طعامكم؟ قالت : اللحم ، قال : فما شرابكم؟ قالت : الماء. قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم لدعا لهم فيه» قال : فهما لا يخلو (١) عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه ، قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه‌السلام ومريه يثبت عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل قال : هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم ، أتانا شيخ حسن الهيئة ، وأثنت عليه ، فسألني عنك فأخبرته ، فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير ، قال : فأوصاك بشيء؟ قالت : نعم ، وهو يقرأ عليك السلام ، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك ، قال : ذاك أبي وأنت العتبة ، أمرني أن أمسكك ، ثم لبث عنهم ما شاء الله ، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم ، فلما رآه قام إليه ، وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ، ثم قال : يا إسماعيل ، إن الله أمرني بأمر ، قال : فاصنع ما أمرك ربك ، قال : وتعينني؟ قال : وأعينك ، قال : فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا ، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها ، قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له ، فقام عليه ، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، قال : فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، ورواه عبد بن حميد عن عبد الرزاق بن مطولا ، ورواه ابن أبي حاتم عن أبي عبد الله بن حماد الطبراني ، وابن جرير عن أحمد بن ثابت الرازي ، كلاهما عن عبد الرزاق به مختصرا.

وقال أبو بكر بن مردويه : أخبرنا إسماعيل بن علي ، أخبرنا بشر بن موسى ، أخبرنا أحمد بن محمد الأزرقي ، أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي عن عبد الملك بن جريج ، عن كثير بن كثير ، قال : كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين في ناس مع سعيد بن جبير في أعلى المسجد ليلا ، فقال سعيد بن جبير : سلوني قبل أن لا تروني ، فسألوه عن المقام ، فأنشأ يحدثهم عن ابن عباس ، فذكر الحديث بطوله.

ثم قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، أخبرنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو ، أخبرنا

__________________

(١) خلا على طعام كذا وكذا : اقتصر عليه.

٣٠٤

إبراهيم بن نافع عن كثير بن كثير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان ، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة (١) فيها ماء ، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها ، حتى قدم مكة ، فوضعهما تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله ، فاتبعته أم إسماعيل حتى بلغوا كداء (٢) ، نادته من ورائه : يا إبراهيم ، إلي من تتركنا؟ قال : إلى الله ، قالت : رضيت بالله قال : فرجعت فجعلت تشرب من الشنة ويدر لبنها على صبيها ، حتى لما فني الماء قالت : لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا ، فصعدت الصفا ، فنظرت هل تحس أحدا ، فلم تحس أحدا فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة وفعلت ذلك أشواطا حتى أتمت سبعا ، ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي ، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ (٣) للموت ، فلم تقرها نفسها ، فقالت : لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا ، فذهبت فصعدت الصفا ، فنظرت ونظرت هل تحس أحدا فلم تحس ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل ، فإذا هي بصوت فقالت : أغث إن كان عندك خير ، فإذا جبريل عليه‌السلام ، قال : فقال بعقبه : هكذا ، وغمز عقبه على الأرض ، فانبثق الماء ، فدهشت أم إسماعيل ، فجعلت تحفر ، قال : فقال أبو القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو تركته لكان الماء ظاهرا» قال : فجعلت تشرب من الماء ويدر لبنها على صبيها ، قال : فمر ناس من جرهم ببطن الوادي ، فإذا هم بطير كأنهم أنكروا ذلك ، وقالوا : ما يكون الطير إلا على ماء فبعثوا رسولهم ، فنظر فإذا هو بالماء ، فأتاهم فأخبرهم ، فأتوا إليها ، فقالوا : يا أم إسماعيل ، أتأذنين لنا أن نكون معك ونسكن معك؟ فبلغ ابنها ونكح منهم امرأة ، قال : ثم إنه بدا لإبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لأهله : إني مطلع تركتي ، قال : فجاء فسلم ، فقال : أين إسماعيل؟ قالت امرأته : ذهب يصيد ، قال : قولي له إذا جاء: غيّر عتبة بابك ، فلما أخبرته ، قال : أنت ذاك فاذهبي إلى أهلك ، قال : ثم إنه بدا لإبراهيم فقال: إني مطلع تركتي ، قال : فجاء فقال : أين إسماعيل؟ فقالت امرأته : ذهب يصيد ، فقالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب؟ فقال ، ما طعامكم ، وما شرابكم؟ فقالت : طعامنا اللحم ، وشرابنا الماء ، قال : اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم ، قال : فقال أبو القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بركة بدعوة إبراهيم» ، قال : ثم إنه بدا لإبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لأهله : إني مطلع تركتي ، فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلا له ، فقال : يا إسماعيل ، إن ربك عزوجل أمرني أن أبني له بيتا : فقال : أطع ربك عزوجل ، قال : إنه قد أمرني أن تعينني عليه ، فقال : إذن أفعل ـ أو كما قال ـ قال : فقام فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ، ويقولان (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) قال : حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة ، فقام على حجر المقام فجعل يناوله

__________________

(١) الشنة : القربة.

(٢) كداء : جبل بأعلى مكة.

(٣) ينشغ : يشهق.

٣٠٥

الحجارة ويقولان (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) هكذا رواه من هذين الوجهين في كتاب الأنبياء.

والعجب أن الحافظ أبا عبد الله الحاكم رواه في كتابه المستدرك عن أبي العباس الأصم عن محمد بن سنان القزاز عن أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي عن إبراهيم بن نافع به ، وقال ، صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه كذا قال ، وقد رواه البخاري كما ترى من حديث إبراهيم بن نافع ، وكأن فيه اختصارا فإنه لم يذكر فيه شأن الذبح ، وقال : جاء في الصحيح أن قرني الكبش كانا معلقين بالكعبة ، وقد جاء أن إبراهيم عليه‌السلام كان يزور أهله بمكة على البراق سريعا ثم يعود إلى أهله بالبلاد المقدسة ، والله أعلم ، إنما فيه مرفوع أماكن صرح بها ابن عباس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في هذا السياق ما يخالف بعض هذا ، كما قال ابن جرير (١) : حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا : أخبرنا مؤمل ، أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرب ، عن علي بن أبي طالب ، قال : لما أمر إبراهيم ببناء البيت خرج معه إسماعيل وهاجر ، قال : فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس فكلمه فقال : يا إبراهيم ، ابن على ظلي ، أو قال : على قدري ، ولا تزد ولا تنقص ، فلما بنى خرج وخلف إسماعيل وهاجر ، فقالت هاجر : يا إبراهيم ، إلى من تكلنا؟ قال : إلى الله ، قالت : انطلق فإنه لا يضيعنا ، قال : فعطش إسماعيل عطشا شديدا ، قال فصعدت هاجر إلى الصفا ، فنظرت فلم تر شيئا ، حتى أتت المروة فلم تر شيئا ، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئا ، ففعلت ذلك سبع مرات ، فقالت : يا إسماعيل مت حيث لا أراك ، فأتته وهو يفحص برجله من العطش ، فناداها جبريل فقال لها : من أنت؟ قالت : أنا هاجر أم ولد إبراهيم ، قال : فإلى من وكلكما؟ قالت : وكلنا إلى الله ، قال : وكلكما إلى كاف ، قال : ففحص الغلام الأرض بإصبعه ، فنبعت زمزم فجعلت تحبس الماء ، فقال : دعيه فإنها رواء (٢) ، ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقها ، وقد يحتمل أنه كان محفوظا أن يكون أولا وضع له حوطا وتحجيرا لا أنه بناه إلى أعلاه ، حتى كبر إسماعيل فبنياه معا كما قال الله تعالى.

ثم قال ابن جرير (٣) : أخبرنا هناد بن السري ، حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن خالد بن عرعرة : أن رجلا قام إلى علي رضي الله عنه ، فقال : ألا تخبرني عن البيت ، أهو أول بيت وضع في الأرض؟ فقال : لا ، ولكنه أول بيت وضع في البركة مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا ، وإن شئت أنبأتك كيف بني : إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا في الأرض ، فضاق إبراهيم بذلك

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٦٠٠.

(٢) أي كثيرة الماء.

٣٠٦

ذرعا فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج (١) ولها رأسان ، فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة فتطوّت على موضع البيت كطي الحجفة (٢) ، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة ، فبنى إبراهيم وبقي الحجر فذهب الغلام يبغي شيئا ، فقال إبراهيم : أبغني حجرا كما آمرك ، قال : فانطلق الغلام يلتمس له حجرا فأتاه به فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه ، قال : يا أبت من أتاك بهذا الحجر؟ قال : أتاني به من لم يتكل على بنائك ، جاء به جبريل عليه‌السلام من السماء فأتماه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، أخبرنا سفيان عن بشر بن عاصم ، عن سعيد بن المسيب عن كعب الأحبار ، قال : كان البيت غثاءة (٣) على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين عاما ، ومنه دحيت الأرض. قال سعيد : وحدثنا علي بن أبي طالب : أن إبراهيم أقبل من أرض أرمينية ومعه السكينة تدله على تبوء البيت كما تتبوأ العنكبوت بيتا ، قال : فكشفت عن أحجار لا يطيق الحجر إلا ثلاثون رجلا ، فقلت : يا أبا محمد فإن الله يقول (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) [البقرة : ١٢٧] قال : كان ذلك بعد ، وقال السدي : إن الله عزوجل أمر إبراهيم أن يبني البيت هو وإسماعيل ، ابنيا بيتي للطائفين والعاكفين والركع والسجود. فانطلق إبراهيم حتى أتى مكة فقام هو وإسماعيل وأخذا المعاول لا يدريان أين البيت ، فبعث الله ريحا يقال لها الريح الخجوج ، لها جناحان ورأس في صورة حية ، فكشفت لهما حول الكعبة عن أساس البيت الأول ، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس ، فذلك حين يقول تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) ، (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن ، قال إبراهيم لإسماعيل : يا بني ، اطلب لي حجرا حسنا أضعه هاهنا. قال : يا أبت إني كسلان لغب (٤) ، قال : عليّ بذلك ، فانطلق يطلب له حجرا فجاءه بحجر فلم يرضه فقال : ائتني بحجر أحسن من هذا فانطلق يطلب له حجرا ، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند ، وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل الثغامة (٥) ، وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس ، فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن ، فقال : يا أبت من جاءك بهذا؟ قال : جاء به من هو أنشط منك ، فبينا هما يدعوان الكلمات التي ابتلى إبراهيم ربه ، فقال (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

وفي هذا السياق ما يدل على أن قواعد البيت كانت مبنية قبل إبراهيم ، وإنما هدي إبراهيم إليها وبوئ لها ، وقد ذهب إلى هذا ذاهبون ، كما قال الإمام عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن

__________________

(١) ريح خجوج : شديدة ملتوية في هبوبها.

(٢) الجحفة : الترس.

(٣) الغثاءة : ما يحتمله السيل.

(٤) لغب : تعب.

(٥) الثغامة : شجرة بيضاء الثمر والزهر ، تنبت في قنة الجبل. وإذا يبست اشتدّ بياضها.

٣٠٧

أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) قال ، القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك. وقال عبد الرزاق أيضا : أخبرنا هشام بن حسان عن سوار ختن عطاء ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : لما أهبط الله آدم من الجنة كانت رجلاه في الأرض ورأسه في السماء ، يسمع كلام أهل السماء ودعاؤهم يأنس إليهم ، فهابت الملائكة حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها ، فخفضه الله تعالى إلى الأرض ، فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش ، حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته ، فوجه إلى مكة فكان موضع قدميه قرية ، وخطوه مفازة ، حتى انتهى إلى مكة وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة ، فكانت على موضع البيت الآن ، فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان ، فرفعت تلك الياقوتة ، حتى بعث الله إبراهيم عليه‌السلام فبناه ، ذلك قول الله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ).

وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج عن عطاء ، قال : قال آدم : إني لا أسمع أصوات الملائكة ، فقال : بخطيئتك ، ولكن اهبط إلى الأرض فابن لي بيتا ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل : من حراء وطور زيتا وطور سيناء [وجبل لبنان] (١) والجودي ، وكان ربضه من حراء ، فكان هذا بناء آدم حتى بناه إبراهيم عليه‌السلام بعد ، وهذا صحيح إلى عطاء ولكن في بعضه نكارة ، والله أعلم.

وقال عبد الرزاق (٢) أيضا أخبرنا معمر عن قتادة ، قال : وضع الله البيت مع آدم حين أهبط الله آدم إلى الأرض ، وكان مهبطه بأرض الهند ، وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض ، فكانت الملائكة تهابه ، فنقص إلى ستين ذراعا ، فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم ، فشكا ذلك إلى الله عزوجل ، فقال الله : يا آدم إني أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي ، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي ، فانطلق إليه آدم ، فخرج ومدّ له في خطوه ، فكان بين كل خطوتين مفازة ، فلم تزل تلك المفازة بعد ذلك ، فأتى آدم البيت فطاف به ومن بعده من الأنبياء.

وقال ابن جرير (٣) : أخبرنا ابن حميد ، أخبرنا يعقوب العمىّ ، عن حفص بن حميد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال ، وضع الله البيت على أركان الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ، ثم دحيت الأرض من تحت البيت.

وقال محمد بن إسحاق (٤) : حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد وغيره من أهل العلم : إن الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام ، وخرج معه إسماعيل وأمه هاجر وإسماعيل طفل صغير يرضع ، وحملوا فيما حدثني على البراق ، ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم ، فخرج وخرج معه جبريل ، فكان لا يمر بقرية إلا قال : أبهذه أمرت

__________________

(١) الزيادة من الطبري.

(٢) تفسير الطبري ١ / ٥٩٦.

٣٠٨

يا جبريل؟ فيقول جبريل : امضه (١) ، حتى قدم به مكة ، وهي إذ ذاك عضاه وسلم وسمر (٢) ، وبها أناس يقال لهم العماليق خارج مكة وما حولها ، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة (٣) ، فقال إبراهيم لجبريل : أههنا أمرت أن أضعهما؟ قال : نعم ، فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه ، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا ، فقال (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) [إبراهيم : ٣٧] إلى قوله : (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).

وقال عبد الرزاق : أخبرنا هشام بن حسان ، أخبرني حميد ، عن مجاهد ، قال : خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا بألفي سنة ، وأركانه في الأرض السابعة. وكذا قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : القواعد في الأرض السابعة. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، أخبرنا عمرو بن رافع أخبرنا عبد الوهاب بن معاوية عن عبد المؤمن بن خالد ، عن علياء بن أحمر : إن ذا القرنين قدم مكة ، فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان قواعد البيت من خمسة أجبل. فقال : ما لكما ولأرضي؟ فقال : نحن عبدان مأموران ، أمرنا ببناء هذه الكعبة. قال : فهاتا البينة على ما تدعيان. فقامت خمسة أكبش فقلن : نحن نشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران أمرا ببناء هذه الكعبة. فقال : قد رضيت وسلمت ، ثم مضى ، وذكر الأزرقي في تاريخ مكة أن ذا القرنين طاف مع إبراهيم عليه‌السلام بالبيت ، وهذا يدل على تقدم زمانه ، والله أعلم.

وقال البخاري (٤) رحمه‌الله : قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) الآية ، القواعد : أساسه ، واحدها قاعدة ، والقواعد من النساء واحدتها قاعد. حدثنا إسماعيل : حدثني مالك عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر عن عائشة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألم تري أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا على قواعد إبراهيم؟» (٥) فقلت : يا رسول الله ، ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال «لولا حدثان قومك بالكفر» فقال عبد الله بن عمر : لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر ، إلا أن البيت لم يتمّم على قواعد إبراهيم عليه‌السلام. وقد رواه في الحج عن القعنبي ، وفي أحاديث الأنبياء عن عبد الله بن يوسف ومسلم ، عن يحيى بن يحيى ، ومن حديث ابن وهب والنسائي من حديث عبد الرحمن بن القاسم كلهم عن مالك به.

ورواه مسلم أيضا من حديث نافع قال : سمعت عبد الله بن أبي بكر بن أبي قحافة ، يحدث

__________________

(١) امضه : بمعنى امضي ، والهاء زائدة.

(٢) العضاه والسلم والسمر : أنواع من الشجر.

(٣) أي من طين لزج متماسك.

(٤) صحيح البخاري (تفسير سورة البقرة باب ٧)

(٥) عبارة البخاري : «أن قومك بنوا الكعبة واقتصروا ...».

٣٠٩

عبد الله بن عمر عن عائشة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية أو قال : بكفر ـ لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ، ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها الحجر».

وقال البخاري : أخبرنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود ، قال : قال لي ابن الزبير : كانت عائشة تسر إليك حديثا كثيرا ، فما حدثتك في الكعبة؟ قال : قلت : قالت لي : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم ـ فقال ابن الزبير ـ بكفر لنقضت الكعبة ، فجعلت لها بابين : بابا يدخل منه الناس ، وبابا يخرجون منه» ففعله ابن الزبير ، انفرد بإخراجه البخاري فرواه هكذا في كتاب العلم من صحيحه.

وقال مسلم (١) في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، أخبرنا أبو معاوية عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ولولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم ، فإن قريشا حين بنت البيت استقصرت ، ولجعلت لها خلفا» (٢) قال : وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة ، وأبو كريب ، قالا : أخبرنا ابن نمير عن هشام بهذا الإسناد انفرد به مسلم ، قال : وحدثني محمد بن حاتم ، حدثني ابن مهدي ، أخبرنا سليم بن حيان عن سعيد يعني ابن ميناء ، قال : سمعت عبد الله بن الزبير يقول : حدثتني خالتي ، يعني عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا عائشة لولا قومك حديثو عهد بشرك ، لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض ، ولجعلت لها بابا شرقيا ، وبابا غربيا ، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حيث (٣) بنت الكعبة» انفرد به أيضا.

ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل عليه‌السلام بمدد طويلة ،

وقبل مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمس سنين

وقد نقل معهم في الحجارة وله من العمر خمس وثلاثون سنة صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين. قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة (٤) : ولما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسا وثلاثين سنة ، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة ، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها ، وإنما كانت رضما (٥) فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة ، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة ، وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى بني مليح بن عمرو من خزاعة ، فقطعت قريش يده ، ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك ، وكان البحر

__________________

(١) صحيح مسلم (حج حديث ٣٩٨)

(٢) خلفا : أي بابا من خلفها.

(٣) حيث هنا بمعنى حين. وذكر ابن هشام في مغني اللبيب أن كلمة حيث قد ترد للزمان.

(٤) سيرة ابن هشام ١ / ١٩٢.

(٥) الرضم : أن تنضد الحجارة بعضها على بعض من غير ملاط.

٣١٠

قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم ، فتحطمت ، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها ، وكان بمكة رجل قبطي نجار ، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها ، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كان يطرح فيها ما يهدي لها كل يوم تتشرّق (١) على جدار الكعبة وكانت مما يهابون ، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألّت (٢) وكشت وفتحت فاها ، فكانوا يهابونها ، فبينا هي يوما تتشرّق على جدار الكعبة كما كانت تصنع ، بعث الله إليها طائرا فاختطفها فذهب بها ، فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا ، عندنا عامل رفيق ، وعندنا خشب ، وقد كفانا الله الحية ، فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها ، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم ، فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه ، فقال : يا معشر قريش ، لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا ، لا يدخل فيها مهر بغي ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس ، قال ابن إسحاق : والناس ينتحلون هذا الكلام للوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ، قال : ثم إن قريشا تجزأت الكعبة ، فكان شق (٣) الباب لبني عبد مناف وزهرة ، وكان ما بين الركن الأسود ، والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم ، وكان ظهر الكعبة ، لبني جمح وسهم ، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب بن لؤي وهو الحطيم ، ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه ، فقال الوليد بن المغيرة ، أنا أبدؤكم في هدمها ، فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول : اللهم لم ترع (٤) ، اللهم إنا لا نريد إلا الخير ، ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة ، وقالوا : ننظر ، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ، ورددناها كما كانت ، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا ، فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله ، فهدم وهدم الناس معه ، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس ، أساس إبراهيم عليه‌السلام ، أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضا ، قال : فحدثني بعض من يروي الحديث : أن رجلا من قريش ممن كان يهدمها ، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أيضا أحدهما ، فلما تحرك الحجر تنقضت (٥) مكة بأسرها ، فانتهوا عن ذلك الأساس.

قال ابن إسحاق : ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها ، كل قبيلة تجمع على حدة ، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن ، يعني الحجر الأسود ، فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى ، حتى تحاوروا (٦) وتخالفوا وأعدوا للقتال ، فقربت بنو

__________________

(١) تتشرّق : تبرز للشمس.

(٢) احزألّت : رفعت رأسها. كشّت : صوتت باحتكاك بعض جلدها ببعض.

(٣) الشقّ : الناحية والجانب.

(٤) لم ترع : لم تفزع. والضمير فيها يعود على الكعبة. قال ابن هشام : ويقال : لم نزغ.

(٥) تنقضت : اهتزت.

(٦) كذا أيضا في أكثر المصادر. ولعل الصواب ، تحاوزوا (بالزاي) أي انحازت كل قبيلة إلى جهة ، كما جاء ـ

٣١١

عبد الدار جفنة مملوءة دما ، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت ، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا «لعقة الدم» فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا ، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ، وكان عامئذ أسن قريش كلهم ، قال : يا معشر قريش ، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه ، ففعلوا ، فكان أول داخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رأوه قالوا : هذا الأمين رضينا ، هذا محمد. فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هلم إلي ثوبا ، فأتي به فأخذ الركن ، يعني الحجر الأسود ، فوضعه فيه بيده ، ثم قال : لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه ، وضعه هو بيده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم بني عليه ، وكانت قريش تسمي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن ينزل الوحي الأمين فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا ، قال الزبير بن عبد المطلب ، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها : [الوافر]

عجبت لما تصوبت العقاب

إلى الثعبان وهي لها اضطراب

وقد كانت يكون لها كشيش

وأحيانا يكون لها وثاب

إذا قمنا إلى التأسيس شدت

تهيبنا البناء وقد تهاب

فلما إن خشينا الرجز (١) جاءت

عقاب تتلئب (٢) لها انصباب

فضمتها إليها ثم خلت

لنا البنيان ليس له حجاب

فقمنا حاشدين إلى باء

لنا منه القواعد والتراب

غداة نرفّع التأسيس منه

وليس على مساوينا (٣) ثياب

أعز به المليك بني لؤي

فليس لأصله منهم ذهاب

وقد حشدت هناك بنو عدي

ومرة قد تقدمها كلاب

فبوأنا المليك بذاك عزا

وعند الله يلتمس الثواب

قال ابن إسحاق : وكانت الكعبة على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثماني عشر ذراعا ، وكانت تكسى القباطي (٤) ، ثم كسيت بعد البرود (٥) ، وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف.

(قلت) ولم تزل على بناء قريش حتى احترقت في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين

__________________

ـ في طبعة دار الكتب العلمية من السيرة ١ / ١٩٦.

(١) الرجز : العذاب.

(٢) تتلئبّ : تتابع في انقضاضها.

(٣) مساوينا : سوآتنا.

(٤) القباطي : ثياب بيض كانت تصنع بمصر.

(٥) البرود : ضرب من ثياب اليمن.

٣١٢

وفي أخر ولاية يزيد بن معاوية ، لما حاصروا ابن الزبير ، فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم عليه‌السلام ، وأدخل فيها الحجر ، وجعل لها بابا شرقيا وبابا غربيا ملصقين بالأرض كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم تزل كذلك مدة إمارته حتى قتله الحجاج ، فردها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مروان له بذلك ، كما قال مسلم بن الحجاج في صحيحه :

أخبرنا هناد بن السري ، أخبرنا ابن أبي زائدة ، أخبرنا ابن أبي سليمان عن عطاء ، قال : لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام ، فكان من أمره ما كان ، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم ، يريد أن يحزبهم أو يجرئهم على أهل الشام ، فلما صدر الناس قال : يا أيها الناس ، أشيروا عليّ في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها ، أو أصلح ما وهي منها؟ قال ابن عباس : فإني قد فرق (١) لي رأي فيها ، أرى أن تصلح ما وهي منها ، وتدع بيتا أسلم الناس عليه ، وأحجارا أسلم الناس عليها ، وبعث عليها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال ابن الزبير : لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده ، فكيف بيت ربكم عزوجل؟ إني مستخير ربي ثلاثا ، ثم عازم على أمري ، فلما مضت ثلاث ، أجمع رأيه على أن ينقضها فتحاماها الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء ، حتى صعده رجل فألقى منه حجارة ، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض ، فجعل ابن الزبير أعمدة يستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه ، وقال ابن الزبير : إني سمعت عائشة رضي الله عنها تقول إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر ، وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ، ولجعلت له بابا يدخل الناس منه ، وبابا يخرجون منه» قال : فأنا أجد ما أنفق ، ولست أخاف الناس ، قال : فزاد فيه خمسة أذرع من الحجر حتى أبدى له أسا ، فنظر الناس إليه ، فبنى عليه البناء ، وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعا فلما زاد فيه استقصره فزاد في أوله عشرة أذرع وجعل له بابين : أحدهما يدخل منه ، والآخر يخرج منه. فلما قتل ابن الزبير ، كتب الحجاج إلى عبد الملك يستجيزه بذلك ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة ؛ فكتب إليه عبد الملك : إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء ، أما ما زاده في طوله فأقره ، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه ، وسد الباب الذي فتحه ، فنقضه وأعاده إلى بنائه.

وقد رواه النسائي في سننه عن هناد ، عن يحيى بن أبي زائدة ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن ابن الزبير عن عائشة بالمرفوع منه ، ولم يذكر القصة وقد كانت السنة إقرار ما فعله عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ، لأنه هو الذي ودّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقرب عهدهم من الكفر ، ولكن خفيت هذه السنة على عبد الملك بن مروان ، ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن

__________________

(١) في الأصل «خرق». والمثبت عن صحيح مسلم. والمراد : قد ظهر لي أمر ورأي فيها.

٣١٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وددنا أن تركناه وما تولى ، كما قال مسلم :

حدثني محمد بن حاتم ، حدثنا محمد بن بكر ، أخبرنا ابن جريج : سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير والوليد بن عطاء يحدثان عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة ، قال عبد الله بن عبيد : وفد الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته ، فقال عبد الملك : ما أظن أبا خبيب ، يعني ابن الزبير ، سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها ، قال الحارث : بلى ، أنا سمعته منها. قال : سمعتها تقول ماذا؟ قال : قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن قومك استقصروا من بنيان البيت ، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه ، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه ، فهلمي لأريك ما تركوه منه» فأراها قريبا من سبعة أذرع ، هذا حديث عبد الله بن عبيد بن عمير ، وزاد عليه الوليد بن عطاء قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض : شرقيا وغربيا ، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها» قالت : لا. قال «تعززا أن لا يدخلها إلا من أرادوا ، فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه حتى يرتقي ، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط» قال عبد الملك : فقلت للحارث : أنت سمعتها تقول هذا؟ قال : نعم ، قال فنكت ساعة بعصاه ، ثم قال : وددت أني تركته وما تحمل.

قال مسلم : وحدثناه محمد بن عمرو بن جبلة ، حدثنا أبو عاصم (ح) ، وحدثنا عبد بن حميد ، أخبرنا عبد الرزاق كلاهما عن ابن جريج بهذا الإسناد مثل حديث أبي بكر ، قال : وحدثنا محمد بن حاتم ، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، حدثنا حاتم بن أبي صغيرة عن أبي قزعة : أن عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال : قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين ، يقول سمعتها تقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا عائشة لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة حتى أزيد فيها من الحجر. فإن قومك قصروا في البناء» فقال الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة : لا تقل هذا يا أمير المؤمنين ، فإني سمعت أم المؤمنين تحدث هذا. قال : لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير. فهذا الحديث كالمقطوع به إلى عائشة ، لأنه قد روي عنها من طرق صحيحة متعددة عن الأسود بن يزيد والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن محمد بن أبي بكر وعروة بن الزبير ، فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير ، فلو ترك لكان جيدا.

ولكن بعد ما رجع الأمر إلى هذا الحال ، فقد كره بعض العلماء أن يغير عن حاله كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد أو أبيه المهدي أنه سأل الإمام مالكا عن هدم الكعبة وردها إلى ما فعله ابن الزبير. فقال له مالك : يا أمير المؤمنين ، لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها ، فترك ذلك الرشيد ، نقله عياض والنووي ولا تزال ـ والله أعلم ـ هكذا إلى آخر الزمان ، إلى أن يخربها ذو السويقتين من الحبشة ، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة» أخرجاه. وعن ابن

٣١٤

عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كأني به أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا» رواه البخاري. وقال الإمام أحمد (١) بن حنبل في مسنده : أخبرنا أحمد بن عبد الملك الحراني ، أخبرنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، قال: سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ، ويسلبها حليتها ، ويجردها من كسوتها ، ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله» ـ الفدع : زيغ بين القدم وعظم الساق ـ وهذا ، والله أعلم ، إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج ، لما جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليحجن البيت وليعتمرنّ بعد خروج يأجوج ومأجوج».

وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) قال ابن جرير (٢) : يعنيان بذلك واجعلنا مستسلمين لأمرك ، خاضعين لطاعتك ، ولا نشرك معك في الطاعة أحدا سواك ، ولا في العبادة غيرك.

وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي ، أخبرنا إسماعيل عن رجاء بن حبان الحصني القرشي ، أخبرنا معقل بن عبيد الله عن عبد الكريم (وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) قال : مخلصين لك ، (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) قال : مخلصة ، وقال أيضا : أخبرنا علي بن الحسين ، أخبرنا المقدمي ، أخبرنا سعيد بن عامر عن سلام بن أبي مطيع في هذه الآية (وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ) قال : كانا مسلمين ، ولكنهما سألاه الثبات.

وقال عكرمة (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) قال الله : قد فعلت ، (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) قال الله : قد فعلت.

وقال السدي (٣) (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) يعنيان العرب. قال ابن جرير : والصواب أنه يعم العرب وغيرهم ، لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل ، وقد قال الله تعالى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف : ١٥٩].

(قلت) وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي ، فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم ، والسياق إنما هو العرب ، ولهذا قال بعده (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ). والمراد بذلك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد بعث فيهم كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) [الجمعة : ٢] ومع هذا لا ينفي رسالته إلى

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٢ ص ٢٢٠)

(٢) تفسير الطبري ١ / ٦٠٢.

(٣) رواه الطبري ١ / ٦٠٣.

٣١٥

الأحمر والأسود لقوله تعالى (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨] وغير ذلك من الأدلة القاطعة ، وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام كما أخبرنا الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين في قوله (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) [الفرقان : ٧٤] وهذا القدر مرغوب فيه شرعا ، فإن من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له. ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم عليه‌السلام (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) قال (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وهو قوله (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له».

(وَأَرِنا مَناسِكَنا) قال ابن جرير عن عطاء (وَأَرِنا مَناسِكَنا) أخرجها لنا علمناها ، وقال مجاهد (أَرِنا مَناسِكَنا) مذابحنا. وروي عن عطاء أيضا وقتادة نحو ذلك. وقال سعيد بن منصور : أخبرنا عتاب بن بشير عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : قال إبراهيم (أَرِنا مَناسِكَنا) فأراه جبرائيل فأتى به البيت ، فقال : ارفع القواعد ، فرفع القواعد وأتم البنيان ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا ، قال : هذا من شعائر الله ، ثم انطلق به إلى المروة ، فقال : وهذا من شعائر الله ، ثم انطلق به نحو منى ، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة ، فقال : كبر وارمه ، فكبر ورماه ، ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى ، فلما جاز به جبريل وإبراهيم قال له : كبر وارمه ، فكبر ورماه ، فذهب الخبيث إبليس وكان الخبيث أراد أن يدخل في الحج شيئا ، فلم يستطع ، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام ، فقال : هذا المشعر الحرام ، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات ، قال : قد عرفت ما أريتك؟ قالها ثلاث مرات ، قال : نعم.

وروي عن أبي مجلز وقتادة نحو ذلك ، وقال أبو داود الطيالسي : أخبرنا حماد بن سلمة عن أبي العاصم الغنوي ، عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس ، قال : إن إبراهيم لما أري أوامر المناسك ، عرض له الشيطان عند المسعى ، فسابقه إبراهيم ثم انطلق به جبريل حتى أتى به منى ، قال : هذا مناخ الناس ، فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم أتى به إلى الجمرة القصوى فعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب فأتى به جمعا ، فقال : هذا المشعر ، ثم أتى به عرفة ، فقال : هذه عرفة ، فقال له جبريل : أعرفت؟.

(رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٢٩)

يقول تعالى إخبارا عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولا منهم ، أي من ذرية إبراهيم ، وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد صلوات الله

٣١٦

وسلامه عليه رسولا في الأميين إليهم وإلى سائر الأعجميين من الإنس والجن ، كما قال الإمام أحمد (١) : أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح ، عن سعيد بن سويد الكلبي ، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي ، عن العرباض بن سارية ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني عبد الله لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك ، دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يرين» وكذلك رواه ابن وهب والليث وكاتبه عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح وتابعه أبو بكر بن أبي مريم عن سعيد بن سويد به.

وقال الإمام أحمد (٢) أيضا : أخبرنا أبو النضر ، أخبرنا الفرج ، أخبرنا لقمان بن عامر ، قال : سمعت أبا أمامة قال : قلت يا رسول الله : ما كان أول بدء أمرك؟ قال «دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى بي. ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام».

والمراد أن أول من نوه بذكره وشهره في الناس إبراهيم عليه‌السلام ، ولم يزل ذكره في الناس مذكورا مشهورا سائر حتى أفصح باسمه خاتم أنبياء بني إسرائيل نسبا ، وهو عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، حيث قام في بني إسرائيل خطيبا ، وقال (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦] ولهذا قال في هذا الحديث دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى بن مريم. وقوله : ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ، قيل كان مناما رأته حين حلمت به ، وقصته على قومها ، فشاع فيهم واشتهر بينهم ، وكان ذلك توطئة ؛ وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام ، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله ، وبها ينزل عيسى بن مريم إذ نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها ، ولهذا جاء في الصحيحين «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» وفي صحيح البخاري «وهم بالشام».

قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) يعني أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقيل له : قد استجيب لك ، وهو كائن في آخر الزمان ، وكذا قال السدي وقتادة ، وقوله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) يعني القرآن ، (وَالْحِكْمَةَ) يعني السنة ، قاله الحسن وقتادة ومقاتل بن حيان وأبو مالك وغيرهم ، وقيل : الفهم في الدين ولا منافاة ، (وَيُزَكِّيهِمْ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني طاعة الله وقال محمد بن إسحاق (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) قال الخير فيفعلوه والشر فيتقوه ، ويخبرهم برضا الله عنهم إذا أطاعوه ليستكثروا من طاعته ويجتنبوا ما يسخطه من معصيته.

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٤ ص ١٢٧)

(٢) مسند أحمد (ج ٥ ص ٢٦٢)

٣١٧

وقوله (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي العزيز الذي لا يعجزه شيء ، وهو قادر على كل شيء الحكيم في أفعاله وأقواله ، فيضع الأشياء في محالها لعلمه وحكمته وعدله.

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٣٢)

يقول تبارك وتعالى ردا على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله ، المخالف لملة إبراهيم الخليل إمام الحنفاء ، فإنه جرد توحيد ربه تبارك وتعالى فلم يدعو معه غيره ولا أشرك به طرفة عين ، وتبرأ من كل معبود سواه خالف في ذلك سائر قومه حتى تبرأ من أبيه ، فقال (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٧٨ ـ ٧٩] وقال تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) [الزخرف : ٢٦ ـ ٢٧] وقال تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة : ١١٤] وقال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [النحل : ١٢١ ـ ١٢٢] ولهذا وأمثاله قال تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) عن طريقته ومنهجه فيخالفها ويرغب عنها (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)؟ أي ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال حيث خالف طريق من اصطفي في الدنيا للهداية والرشاد من حداثة سنه إلى أن اتخذه الله خليلا ، وهو في الآخرة من الصالحين السعداء ، فمن ترك طريقه هذا ومسلكه وملته ، واتبع طريق الضلالة والغيّ ، فأي سفه أعظم من هذا؟ أم أي ظلم أكبر من هذا؟ كما قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣].

قال أبو العالية وقتادة : نزلت هذه الآية في اليهود ، أحدثوا طريقا ليست من عند الله ، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه ، ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ٦٧ ـ ٦٨].

وقوله تعالى (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي أمره الله بالإخلاص والاستسلام والانقياد ، فأجاب إلى ذلك شرعا وقدرا ، وقوله (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) أي وصى بهذه الملة ، وهي الإسلام لله ، أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) لحرصهم عليها ومحبتهم لها ، حافظوا عليها إلى حين الوفاة ، ووصوا أبناءهم بها من بعدهم كقوله تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) [الزخرف : ٢٨] وقد قرأ بعض السلف

٣١٨

«ويعقوب» بالنصب (١) عطفا على بنيه ، كأن إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرا ذلك ، وقد ادعى القشيري فيما حكاه القرطبي (٢) عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم ، ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح ، والظاهر ، والله أعلم ، أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة ، لأن البشارة وقعت بهما في قوله (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧١] وقد قرئ بنصب يعقوب هاهنا على نزع الخافض ، فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق كبير فائدة ، وأيضا فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) [العنكبوت : ٢٧] ، وقال في الآية الأخرى (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) [الأنبياء : ٧٢] وهذا يقضي أنه وجد في حياته ، وأيضا فإنه باني بيت المقدس ، كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة.

وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت : يا رسول الله ، أي مسجد وضع أول؟ قال : «المسجد الحرام» قلت : ثم أي؟ قال «بيت المقدس» ، قلت : كم بينهما؟ قال «أربعون سنة» الحديث (٣) ، فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس ـ وإنما كان جدّده بعد خرابه وزخرفه ـ وبين إبراهيم أربعين سنة ، وهذا مما أنكر على ابن حبان ، فإن المدة بينهما تزيد على ألوف السنين ، والله أعلم ، وأيضا فإن وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبا ، وهذا يدل على أنه هاهنا من جملة الموصين.

وقوله (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي أحسنوا في حال الحياة ، والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه ، فإن المرء يموت غالبا على ما كان عليه ، ويبعث على ما مات عليه ، وقد أجرى الله الكريم عادته بأنه من قصد الخير وفق له ويسر عليه ، ومن نوى صالحا ثبت عليه. وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ويعمل أهل النار فيما يبدو للناس ، وقد قال الله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) [الليل : ٥ ـ ١٠].

__________________

(١) هي قراءة عمرو بن فائد الأسواري وإسماعيل بن عبد الله المكي ، كما جاء في تفسير القرطبي.

(٢) تفسير القرطبي ٢ / ١٣٦.

(٣) أخرجه مسلم (مساجد حديث ١) وأحمد في المسند (ج ٥ ص ١٥٠). وتتمة الحديث : ثم أي؟ قال : «ثم حيثما أدركت الصلاة فصلّ فكلها مسجد».

٣١٩

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٣٤)

يقول تعالى محتجا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل وعلى الكفار من بني إسرائيل ـ وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام ـ بأن يعقوب لما حضرته الوفاة ، وصى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له ، فقال لهم (ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) وهذا من باب التغليب ، لأن إسماعيل عمه ، قال النحاس : والعرب تسمي العم أبا ، نقله القرطبي ، وقد استدل بهذه الآية الكريمة من جعل الجد أبا وحجب به الإخوة ، كما هو قول الصديق ، حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس وابن الزبير ، ثم قال البخاري : ولم يختلف عليه ، وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين ، وبه يقول الحسن البصري وطاوس وعطاء ، وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من السلف والخلف ، وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه أنه يقاسم الإخوة ، وحكي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وجماعة من السلف والخلف ، واختاره صاحبا أبي حنيفة القاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن ، ولتقريرها موضع آخر.

وقوله (إِلهاً واحِداً) أي نوحده بالألوهية ولا نشرك به شيئا غيره ، (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي مطيعون خاضعون ، كما قال تعالى : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [آل عمران : ٨٣] والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة وإن تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم ، كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥] ، والآيات في هذا كثيرة والأحاديث فمنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نحن معشر الأنبياء أولاد علات (١) ديننا واحد».

وقوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) أي مضت ، (لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) أي إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إذا لم تفعلوا خيرا يعود نفعه عليكم ، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) وقال أبو العالية والربيع وقتادة (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط ولهذا جاء في الأثر «من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه».

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٣٥)

__________________

(١) بنو العلّات : بنو رجل واحد من أمهات شتّى. والمراد بقوله «أولاد علّات» أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة.

٣٢٠