تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

الذي تركناه. وقال قتادة : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) يقول : آية فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر فيها نهي.

وقوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) ، يرشد عباده تعالى بهذا ، إلى أنه المتصرف في خلقه ، بما يشاء ، فله الخلق والأمر وهو المتصرف ، فكما خلقهم كما يشاء ، ويسعد من يشاء ، ويشقي من يشاء ويصح من يشاء ويمرض من يشاء ، ويوفق من يشاء ، ويخذل من يشاء كذلك يحكم في عباده بما يشاء ، فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء ويبيح ما يشاء ويحظر ما يشاء وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى ، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا ، وامتثال ما أمروا ، وترك ما عنه زجروا. وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنهم الله ، في دعوى استحالة النسخ ، إما عقلا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا ، وإما نقلا كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا

قال الإمام أبو جعفر بن جرير (١) رحمه‌الله : فتأويل الآية : ألم تعلم يا محمد ، أن لي ملك السموات والأرض وسلطانهما دون غيري ، أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء ، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء ، وأنهى عما أشاء ، وأنسخ وأبدل وأغير ، من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ، بما أشاء إذ أشاء ، وأقر منهما ما أشاء. ثم قال : وهذا الخبر وإن كان خطابا من الله تعالى ، لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجه الخبر ، عن عظمته فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود ، الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله ، بتغيير ما غير الله من حكم التوراة ، فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما ، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته ، وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه ، وأن له أمرهم بما يشاء ونهيهم عما يشاء ، ونسخ ما يشاء ، وإقرار ما يشاء ، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه.

(قلت) الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ ، إنما هو الكفر والعناد ، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى ، لأنه يحكم ما يشاء ، كما أنه يفعل ما يريد ، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية ، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ، ثم حرم ذلك ، وكما أباح لنوح ، بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ، ثم نسخ حل بعضها ، وكان نكاح الأختين مباحا لإسرائيل وبنيه ، وقد حرم ذلك في شريعة التوراة

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٥٢٩.

٢٦١

وما بعدها ، وأمر إبراهيم عليه‌السلام بذبح ولده ، ثم نسخه قبل الفعل ، وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ، ثم رفع عنهم القتل كيلا يستأصلهم القتل ، وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية فلا يصرف الدلالة في المعنى ، إذ هو المقصود ، كما في كتبهم مشهورا من البشارة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمر باتباعه ، فإنه يفيد وجوب متابعته عليه الصلاة والسلام ، وأنه لا يقبل عمل إلا على شريعته ، وسواء قيل إن الشرائع المتقدمة مغيّاة إلى بعثه عليه‌السلام ، فلا يسمى ذلك نسخا كقوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧] ، وقيل : إنها مطلقة ، وإن شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نسختها ، فعلى كل تقدير فوجوب متابعته متعين ، لأنه جاء بكتاب هو آخر الكتب عهدا بالله تبارك وتعالى ، ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ ، ردا على اليهود عليهم لعنة الله ، حيث قال تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية ، فكما أن له الملك بلا منازع ، فكذلك له الحكم بما يشاء ، (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] وقرئ في سورة آل عمران ، التي نزل في صدرها خطابا مع أهل الكتاب ، وقوع النسخ في قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) [آل عمران : ٩٣] ، كما سيأتي تفسيره. والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى ، لما له في ذلك من الحكمة البالغة ، وكلهم قال بوقوعه. وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر : لم يقع شيء من ذلك في القرآن ، وقوله ضعيف مردود مرذول ، وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ ، فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول ، لم يجب عن ذلك بكلام مقبول ، وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس لم يجب بشيء ، ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين ، ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغير ذلك ، والله أعلم.

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (١٠٨)

نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة ، عن كثرة سؤال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الأشياء قبل كونها كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) [المائدة : ١٠١] أي وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم ، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة ، ولهذا جاء في الصحيح : «إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته» (١) ولما سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلا ، فإن تكلم تكلم بأمر عظيم ، وإن سكت سكت

__________________

(١) البخاري (اعتصام باب ٣) ومسلم (فضائل حديث ١٣٢ ، ١٣٣)

٢٦٢

عن مثل ذلك ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسائل وعابها ، ثم أنزل الله حكم الملاعنة ، ولهذا ثبت في الصحيحين ، من حديث المغيرة بن شعبة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينهى عن قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال (١). وفي صحيح مسلم «ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» (٢) وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم ، «أن الله كتب عليهم الحج ، فقال رجل : أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثا ، ثم قال عليه‌السلام : «لا ، ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم» ، ثم قال «ذروني ما تركتكم» الحديث ، ولهذا قال أنس بن مالك : نهينا أن نسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : أخبرنا أبو كريب ، أخبرنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي سنان عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب ، قال : إن كان ليأتي عليّ السنة ، أريد أن أسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشيء ، فأتهيب منه وإن كنا لنتمنى الأعراب. وقال البزار : أخبرنا محمد بن المثنى ، أخبرنا ابن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة كلها في القرآن (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) ـ و ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) ـ و (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) [البقرة : ٢١٧ ـ ٢١٩ ـ ٢٢٠] ، يعني هذا وأشباهه.

وقوله تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) أي بل تريدون ، أو هي على بابها في الاستفهام ، وهو إنكاري ، وهو يعلم المؤمنين والكافرين ، فإنه عليه‌السلام رسول الله إلى الجميع ، كما قال تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ ، فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) [النساء : ١٥٣] ، قال محمد بن إسحاق (٣) : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد عن ابن عباس ، قال : قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد : يا محمد ، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه ، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك ، فأنزل الله من قولهم ، (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).

وقال أبو جعفر الرازي (٤) عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) قال : قال رجل : يا رسول الله ، لو كانت كفارتنا ككفارات بني إسرائيل ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم لا نبغيها ـ ثلاثا ـ ما أعطاكم الله خير مما أعطى

__________________

(١) البخاري (خصومات باب ٣) ومسلم (أقضية حديث ١٤)

(٢) مسلم (حج حديث ٤١١ ، وفضائل حديث ١٣١)

(٣) تفسير الطبري ١ / ٥٣٠.

(٤) الأثر في الطبري ١ / ٥٣١.

٢٦٣

بني إسرائيل ، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها ، فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة ، فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل» ، قال (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ١١٠] ، وقال «الصلوات الخمس ومن الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن» وقال : «من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ، وإن عملها كتبت سيئة واحدة ، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة ، وإن عملها كتبت له عشر أمثالها ، ولا يهلك على الله إلا هالك» ، فأنزل الله : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ).

وقال مجاهد : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) ، أن يريهم الله جهرة ، قال : سألت قريش محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، قال : «نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل [إن كفرتم]» (١) ، فأبوا ورجعوا. وعن السدي وقتادة نحو هذا ، والله أعلم. والمراد أن الله ذم من سأل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شيء على وجه التعنت والاقتراح ، كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه‌السلام تعنتا وتكذيبا وعنادا. قال الله تعالى : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) ، أي ومن يشتر الكفر بالإيمان (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال. وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء ، واتباعهم والانقياد لهم إلى مخالفتهم وتكذيبهم ، والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر ، كما قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) [إبراهيم : ٢٨ ـ ٢٩] ، وقال أبو العالية : يتبدل الشدة بالرخاء.

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١٠)

يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب ، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر ، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين ، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم ، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال ، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح ، ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه ، كما قال محمد بن إسحاق (٢) : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال : كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب ، من أشد اليهود للعرب حسدا ، إذ خصهم الله

__________________

(١) الزيادة من الطبري ١ / ٥٣٠.

(٢) الأثر في الطبري ١ / ٥٣٤.

٢٦٤

برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا ، فأنزل الله فيهما (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) الآية.

وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ، في قوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) قال : هو كعب بن الأشرف ، وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا ، وكان يهجو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيه أنزل الله (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) إلى قوله (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا). وقال الضحاك : عن ابن عباس ، أن رسولا أميا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل والآيات ، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم ، ولكنهم جحدوا ذلك كفرا وحسدا وبغيا ، ولذلك قال الله تعالى : (كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) يقول من بعد ما أضاء لهم الحق ، لم يجهلوا منه شيئا ، ولكن الحسد حملهم على الجحود ، فعيرهم ووبخهم ولامهم أشد الملامة ، وشرع لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ، ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل الله عليهم ، وما أنزل من قبلهم ، بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم.

وقال الربيع بن أنس (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) من قبل أنفسهم ، وقال أبو العالية (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) ، من بعد ما تبين أن محمدا رسول الله ، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، فكفروا به حسدا وبغيا ، إذ كان من غيرهم ، وكذا قال قتادة والربيع بن أنس.

وقوله : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) ، مثل قوله تعالى : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) [آل عمران : ١٨٦] ، قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله ، (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) ، نسخ ذلك قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] ، وقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٢٩] ، إلى قوله (وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩] ، فنسخ هذا عفوه عن المشركين ، وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي ، إنها منسوخة بآية السيف ، ويرشد إلى ذلك أيضا قوله تعالى : (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ). وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي : أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب ، كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى. قال الله تعالى : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يتأول من العفو ما أمره الله به ، حتى أذن الله فيهم بالقتل ، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش ، وهذا إسناده صحيح ولم أره في شيء من الكتب الستة ، ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد.

وقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) ،

٢٦٥

يحثهم تعالى على الاشتغال بما ينفعهم ، وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة ، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، حتى يمكن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر : ٥٢] ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ، يعني أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل ، ولا يضيع لديه سواء كان خيرا أو شرا ، فإنه سيجازي كل عامل بعمله. وقال أبو جعفر بن جرير (١) : في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ، هذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين ، إنهم مهما فعلوا من خير أو شر ، سرا وعلانية ، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء ، فيجزيهم بالإحسان خيرا ، وبالإساءة مثلها ، وهذا الكلام وإن كان قد خرج مخرج الخبر ، فإن فيه وعدا ووعيدا وأمرا وزجرا ، وذلك أنه أعلم القوم ، أنه بصير بجميع أعمالهم ، ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مذخورا لهم عنده ، حتى يثيبهم عليه ، كما قال تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) ، وليحذروا معصيته ، قال : وأما قوله (بَصِيرٌ) فإنه مبصر ، صرف إلى بصير ، كما صرف مبدع إلى بديع ، ومؤلم إلى أليم ، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو زرعة ، أخبرنا ابن بكير ، حدثني ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يقرأ هذه الآية : سميع بصير ، يقول «بكل شيء بصير».

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١١٣)

يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه ، حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى ، أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها ، كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة ، أنهم قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم. ولو كانوا كما ادعوا ، لما كان الأمر كذلك ، وكما تقدم من دعواهم ، أنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ، ثم ينتقلون إلى الجنة ، ورد عليهم تعالى في ذلك ، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة ولا بينة ، فقال : (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ). وقال أبو العالية : أماني تمنوها على الله بغير حق ، وكذا قال قتادة والربيع بن أنس.

ثم قال تعالى (قُلْ) أي يا محمد (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) قال أبو العالية ومجاهد والسدي

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٥٣٨.

٢٦٦

والربيع بن أنس : حجتكم ، وقال قتادة بينتكم على ذلك : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، أي فيما تدعونه ، ثم قال تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) ، أي من أخلص العمل لله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) [آل عمران : ٢٠] ، وقال أبو العالية والربيع (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) يقول : من أخلص لله وقال سعيد بن جبير : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ) أخلص (وَجْهَهُ) ، قال دينه (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي اتبع فيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن للعمل المتقبل شرطين : أحدهما أن يكون صوابا خالصا لله وحده ، والآخر أن يكون صوابا موافقا للشريعة ، فمتى كان خالصا ولم يكن صوابا لم يتقبل ، ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» ، رواه مسلم (١) من حديث عائشة عنه عليه الصلاة والسلام.

فعمل الرهبان ومن شابههم ، وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله ، فإنه لا يتقبل منهم ، حتى يكون ذلك متابعا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ، وفيهم وأمثالهم قال الله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] وقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) [النور: ٣٩] ، وقال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) [الغاشية : ٥] ، وروي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي.

وأما إن كان العمل موافقا للشريعة ، في الصورة الظاهرة ، ولكن لم يخلص عامله القصد لله ، فهو أيضا مردود على فاعله ، وهذا حال المرائين والمنافقين ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ١٤٢] ، وقال تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) [الماعون : ٤ ـ ٧] ولهذا قال تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف : ١١٠] وقال في هذه الآية الكريمة : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) ، وقوله : (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور ، وآمنهم مما يخافونه من المحذور ، (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فيما يستقبلونه ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما مضى مما يتركونه ، كما قال سعيد بن جبير ، (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) يعني في الآخرة ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) يعني لا يحزنون للموت.

وقوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) ، بين به تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم ، كما قال محمد بن إسحاق (٢) : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : لما قدم أهل نجران من النصارى ، على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أتتهم أحبار يهود فتنازعوا عند

__________________

(١) صحيح مسلم (أقضية حديث ١٨)

(٢) تفسير الطبري ١ / ٥٤٢.

٢٦٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رافع بن حريملة : ما أنتم على شيء ، وكفر بعيسى وبالإنجيل ، وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود : ما أنتم على شيء ، وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة ، فأنزل الله في ذلك من قولهما : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) ، قال (١) : إن كلا يتلو في كتابه تصديق من كفر به ، أي يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة ، فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى ، وما جاء من التوراة من عند الله وكل يكفر بما في يد صاحبه.

وقال مجاهد في تفسير هذه الآية : قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء. وقال قتادة: (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) قال : بلى قد كانت أوائل النصارى على شيء ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا (وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) قال : بلى ، قد كانت أوائل اليهود على شيء ، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا ، وعنه رواية أخرى كقول أبي العالية والربيع بن أنس في تفسير هذه الآية : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذا القول يقتضي ، أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى ، ولكن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوه ، مع علمهم بخلاف ذلك ، ولهذا قال تعالى : (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) ، أي وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل ، كل منهما قد كانت مشروعة في وقت ، ولكنهم تجاحدوا فيما بينهم عنادا وكفرا ومقابلة للفاسد ، كما تقدم عن ابن عباس ومجاهد وقتادة في الرواية الأولى عنه في تفسيرها ، والله أعلم.

وقوله : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) ، بين بهذا جهل اليهود والنصارى فيما تقابلوا من القول وهذا من باب الإيماء والإشارة. وقد اختلف فيمن عنى بقوله تعالى (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فقال الربيع بن أنس وقتادة (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) قالا : وقالت النصارى مثل قول اليهود وقيلهم ، وقال ابن جريج : قلت لعطاء من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال أمم كانت قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة والإنجيل. وقال السدي كذلك (قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ، فهم العرب ، قالوا ليس محمد على شيء. واختار أبو جعفر بن جرير (٢) أنها عامة تصلح للجميع ، وليس ثم دليل قاطع يعين واحدا من هذه الأقوال ، والحمل على الجميع أولى ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ، أي أنه تعالى يجمع

__________________

(١) من هنا إلى قوله «في يد صاحبه» رواه الطبري ١ / ٥٤٣ منفصلا عن الحديث السابق لابن إسحاق ، ولكن بالإسناد نفسه. لذلك يصح ما فعله ابن كثير هنا من الجمع بينهما.

(٢) تفسير الطبري ١ / ٥٤٤.

٢٦٨

بينهم يوم المعاد ، ويفصل بينهم بقضائه العدل ، الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة ، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [الحج : ١٧] ، وكما قال تعالى : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) [سبأ : ٢٦].

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١١٤)

اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها ، على قولين : أحدهما ما رواه العوفي في تفسيره عن ابن عباس ، في قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) قال : هم النصارى وقال مجاهد : هم النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ويمنعون الناس أن يصلوا فيه ، وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : (وَسَعى فِي خَرابِها). قال هو بختنصر وأصحابه ، خرب بيت المقدس ، وأعانه على ذلك النصارى. وقال سعيد عن قتادة : قال أولئك أعداء الله ، النصارى حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس ، وقال السدي : كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس ، حتى خربه وأمر أن تطرح فيه الجيف ، وإنما أعانه الروم على خرابه ، من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا ، وروي نحوه عن الحسن البصري ، (القول الثاني) ، ما رواه ابن جرير (١) : حدثني يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها) ، قال : هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية ، وبين أن يدخلوا مكة ، حتى نحر هديه بذي طوى ، وهادنهم وقال لهم : «ما كان أحد يصد عن هذا البيت ، وقد كان الرجل ، يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يصده» فقالوا : لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق. وفي قوله : (وَسَعى فِي خَرابِها) قال : إذا قطعوا من يعمرها بذكره ويأتيها للحج والعمرة.

وقال ابن أبي حاتم ذكر عن سلمة قال : قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس ، أن قريشا منعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام ، فأنزل الله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) ، ثم اختار ابن جرير القول الأول (٢) ، واحتج بأن قريشا لم تسع في خراب الكعبة ، وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس.

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٥٤٦. والوجوه السابقة عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدّي كلها ذكرها ابن جرير.

(٢) أي أن النصارى هم الذين أعانوا بختنصر على ذلك.

٢٦٩

(قلت) والذي يظهر ، والله أعلم ، القول الثاني كما قاله ابن زيد ، وروي عن ابن عباس ، لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس ، كان دينهم أقوم من دين اليهود ، وكانوا أقرب منهم ، ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولا إذ ذاك ، لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، وأيضا فإنه تعالى ، لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى ، شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من مكة ، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام ، وأما اعتماده على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة ، فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم ، كما قال تعالى : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الأنفال : ٣٤] ، وقال تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ. إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة : ١٧ ـ ١٨] وقال تعالى : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [الفتح : ٢٥] فقال تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) [التوبة : ١٨] ، فإذا كان من هو كذلك مطرودا منها مصدودا عنها ، فأي خراب لها أعظم من ذلك؟ وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط ، إنما عمارتها بذكر الله فيها وإقامة شرعه فيها ، ورفعها عن الدنس والشرك.

وقوله تعالى : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) ، هذا خبر معناه الطلب ، أي لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها ، إلا تحت الهدنة والجزية ، ولهذا لما فتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة ، أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى : «ألا لا يحجّن بعد العام مشرك ، ولا يطوفنّ بالبيت عريان ، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته» ، وهذا إنما كان تصديقا وعملا بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨] ، وقال بعضهم : ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين ، على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين ، أن يبطشوا بهم فضلا أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها ، والمعنى : ما كان إلا الحق والواجب إلا ذلك ، لو لا ظلم الكفرة وغيرهم. وقيل إن هذا بشارة من الله للمسلمين ، أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد ، وأنه يذل المشركين لهم ، حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم ، إلا خائفا يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل ، إن لم يسلم. وقد أنجز الله هذا الوعد ، كما تقدم من منع المشركين

٢٧٠

من دخول المسجد الحرام ، وأوصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان ، وأن يجلى اليهود والنصارى منها ، ولله الحمد والمنة. وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام ، وتطهير البقعة التي بعث الله فيها رسوله إلى الناس كافة ، بشيرا ونذيرا ، صلوات الله وسلامه عليه ، وهذا هو الخزي لهم في الدنيا ، لأن الجزاء من جنس العمل ، فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام ، صدوا عنه ، وكما أجلوهم من مكة أجلوا عنها ، (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) على ما انتهكوا من حرمة البيت ، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله ، ودعاء غير الله عنده ، والطواف به عريا وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله.

وأما من فسر بيت المقدس ، فقال كعب الأحبار : إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه ، فلما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنزل عليه : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) الآية ، فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفا. وقال السدي : فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه ، أو قد أخيف بأداء الجزية ، فهو يؤديها. وقال قتادة : لا يدخلون المساجد إلا مسارقة. (قلت) وهذا لا ينفي أن يكون داخلا في معنى عموم الآية ، فإن النصارى لما ظلموا بيت المقدس بامتهان الصخرة ، التي كانت تصلي إليها اليهود ، عوقبوا شرعا وقدرا بالذلة فيه ، إلا في أحيان من الدهر امتحن بهم بيت المقدس ، وكذلك اليهود لما عصوا الله فيه أيضا ، أعظم من عصيان النصارى ، كانت عقوبتهم أعظم ، والله أعلم.

وفسر هؤلاء الخزي في الدنيا بخروج المهدي عند السدي وعكرمة ووائل بن داود ، وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون ، والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله ، وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، كما قال الإمام أحمد (١) : أخبرنا الهيثم بن خارجة ، أخبرنا محمد بن أيوب بن ميسرة بن حلبس ، سمعت أبي يحدث عن بسر بن أرطاة ، قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو : «اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة» وهذا حديث حسن ، وليس هو في شيء من الكتب الستة ، وليس لصاحبه وهو بشر بن أبي أرطاة حديث سواه ، وسوى حديث : لا تقطع الأيدي في الغزو (٢).

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) (١١٥)

وهذا ، والله أعلم ، فيه تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، الذين أخرجوا من مكة ، وفارقوا مسجدهم ومصلاهم ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه ، فلما قدم المدينة ، وجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، ثم صرفه الله إلى

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٤ ص ١٨١)

(٢) رواه أيضا الإمام أحمد في المسند ، قبل الحديث السابق ، من طريقين.

٢٧١

الكعبة بعد ، ولهذا يقول تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ).

قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ : أخبرنا حجاج بن محمد أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء ، عن عطاء عن ابن عباس قال : أول ما نسخ لنا من القرآن فيما ذكر لنا ، والله أعلم ، شأن القبلة. قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) فاستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق ، ثم صرفه إلى بيته العتيق ونسخها. فقال (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة : ١٤٩ ـ ١٥٠] وقال (١) علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : كان أول ما نسخ من القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هاجر إلى المدينة ، وكان أهلها اليهود ، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بضعة عشر شهرا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب قبلة إبراهيم ، وكان يدعو وينظر إلى السماء ، فأنزل الله (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) [البقرة : ١٤٩] إلى قوله (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة : ١٤٤] فارتاب من ذلك اليهود ، وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، فأنزل الله (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) [البقرة : ١٤٢] ، وقال : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ). وقال عكرمة عن ابن عباس (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) قال : قبلة الله أينما توجهت شرقا أو غربا ، وقال مجاهد (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها الكعبة ، وقال ابن أبي حاتم بعد رواية الأثر المتقدم عن ابن عباس في نسخ القبلة عن عطاء عنه : وروي عن أبي العالية والحسن وعطاء الخراساني وعكرمة وقتادة والسدي وزيد بن أسلم نحو ذلك.

وقال ابن جرير : وقال آخرون : بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة ، وإنما أنزلها ليعلم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاؤوا من نواحي المشرق والمغرب ، لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية ، إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية ، لأن له تعالى المشارق والمغارب وأنه لا يخلو منه مكان كما قال تعالى : (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) [المجادلة : ٧] ، قالوا : ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم التوجه إلى المسجد الحرام هكذا قال.

وفي قوله وأنه تعالى لا يخلو منه مكان ، إن أراد علمه تعالى فصحيح ، فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات ، وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. قال ابن جرير (٢) وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذنا من الله أن يصلي المتطوع ، حيث توجه من شرق أو غرب ، في مسيره في سفره ، وفي حال المسايفة

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٥٤٩.

(٢) تفسير الطبري ١ / ٥٥٠.

٢٧٢

وشدة الخوف [والتقاء الزحوف في الفرائض] (١). حدثنا أبو كريب ، أخبرنا ابن إدريس ، حدثنا عبد الملك هو ابن أبي سليمان ، عن سعيد بن جبير عن ابن عمر ، أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته ، ويذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يفعل ذلك ويتأول هذه الآية (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ). ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه ، من طرق عن عبد الملك بن أبي سليمان به ، وأصله في الصحيحين ، من حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة ، من غير ذكر الآية. وفي صحيح البخاري من حديث نافع عن ابن عمر ، وأنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها ، ثم قال : فإن كان خوف أشد من ذلك ، صلوا رجالا قياما على أقدامهم وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها قال نافع : ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[مسألة] ولم يفرق الشافعي في المشهور عنه ، بين سفر المسافة وسفر العدوى ، فالجميع عنه يجوز التطوع فيه على الراحلة ، وهو قول أبي حنيفة خلافا لمالك وجماعته ، واختار أبو يوسف وأبو سعيد الإصطخري ، التطوع على الدابة في المصر ، وحكاه أبو يوسف عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، واختاره أبو جعفر الطبري ، حتى للماشي أيضا. قال ابن جرير وقال آخرون : بل نزلت الآية في قوم عميت عليهم القبلة ، فلم يعرفوا شطرها فصلوا على أنحاء مختلفة ، فقال الله تعالى : لي المشارق والمغارب فأني وليتم وجوهكم فهناك وجهي وهو قبلتكم فيعلمهم بذلك أن صلاتهم ماضية. حدثنا (٢) أحمد بن إسحاق الأهوازي ، أخبرنا أبو أحمد الزبيري أخبرنا أبو الربيع السمان ، عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، عن أبيه قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلا ، فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا يصلي فيه ، فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة ، فقلنا يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة ، فأنزل الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) الآية. ثم رواه عن سفيان بن وكيع عن أبيه عن أبي الربيع السمان بنحوه. ورواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن وكيع وابن ماجة عن يحيى بن حكيم عن أبي داود عن أبي الربيع السمان ، ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح ، عن سعيد بن سليمان عن أبي الربيع السمان ، واسمه أشعث (٣) بن سعيد البصري ، وهو ضعيف الحديث ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، وليس إسناده بذاك ولا نعرفه إلا من حديث الأشعث السمان ، وأشعث يضعف في الحديث. قلت وشيخه عاصم أيضا ضعيف. قال البخاري منكر الحديث. وقال ابن معين : ضعيف لا يحتج به. وقال ابن حبان : متروك ، والله أعلم.

وقد روى من طريق آخر ، عن جابر فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية:

__________________

(١) الزيادة من الطبري.

(٢) الحديث للطبري ، وهو في تفسيره ١ / ٥٥٠.

(٣) وانظر موسوعة رجال الكتب التسعة ١ / ١٤٠.

٢٧٣

أخبرنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل ، أخبرنا الحسن بن علي بن شبيب ، حدثني أحمد بن عبد الله بن الحسن ، قال : وجدت في كتاب أبي أخبرنا عبد الملك العزرمي عن عطاء عن جابر قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة ، فلم نعرف القبلة ، فقالت طائفة منا : قد عرفنا القبلة هي هاهنا قبل الشمال فصلوا وخطوا خطوطا فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة ، فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسكت وأنزل الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ). ثم رواه من حديث محمد بن عبيد الله العزرمي عن عطاء عن جابر به. وقال الدارقطني : قرئ على عبد الله بن عبد العزيز وأنا أسمع حدثكم داود بن عمرو أخبرنا محمد بن يزيد الواسطي عن محمد بن سالم عن عطاء عن جابر ، قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسير فأصابنا غيم فتحيرنا فاختلفنا في القبلة فصلى كل رجل منا على حدة وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا فذكرنا ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يأمرنا بالإعادة ، وقال : قد أجزأت صلاتكم ، ثم قال الدارقطني : كذا قال عن محمد بن سالم ، وقال غيره عن محمد بن عبيد الله العزرمي عن عطاء وهما ضعيفان. ورواه ابن مردويه أيضا من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سرية فأخذتهم ضبابة فلم يهتدوا إلى القبلة فصلوا لغير القبلة ثم استبان لهم بعد أن طلعت الشمس أنهم صلوا لغير القبلة ، فلما جاءوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثوه فأنزل الله تعالى في هذه الآية (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) وهذه الأسانيد فيها ضعف ، ولعله يشد بعضها بعضا ، وأما إعادة الصلاة لمن تبين له خطؤه ففيها قولان للعلماء وهذه دلائل على عدم القضاء ، والله أعلم.

قال ابن جرير وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي كما حدثنا محمد بن بشار ، أخبرنا هشام بن معاذ حدثني أبي عن قتادة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : إن أخا لكم قد مات ، فصلوا عليه ، قالوا نصلي على رجل ليس بمسلم؟ قال : فنزلت (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ) [آل عمران : ١٩٩] قال قتادة : فقالوا إنه كان لا يصلي إلى القبلة ، فأنزل الله (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) وهذا غريب ، والله أعلم.

وقد قيل : إنه كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يبلغه الناسخ إلى الكعبة ، كما حكاه القرطبي (١) عن قتادة ، وذكر القرطبي أنه لما مات صلّى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ بذلك من ذهب إلى الصلاة على الغائب ، قال : وهذا خاص عند أصحابنا من ثلاثة أوجه ـ أحدهما ـ أنهعليه‌السلام ، شاهده حين صلّى عليه طويت له الأرض. الثاني أنه لما لم يكن عنده من يصلي عليه صلى عليه واختاره ابن العربي قال القرطبي : ويبعد أن يكون ملك مسلم ليس عنده أحد من قومه على دينه ، وقد أجاب ابن العربي عن هذا لعلهم لم يكن عندهم شرعية الصلاة على الميت.

__________________

(١) تفسير القرطبي ٢ / ٨٣.

٢٧٤

وهذا جواب جيد. الثالث أنه عليه الصلاة والسلام إنما صلّى عليه ليكون ذلك كالتأليف لبقية الملوك ، والله أعلم.

وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث أبي معشر عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق» وله مناسبة هاهنا وقد أخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي معشر واسمه نجيح بن عبد الرحمن السدي المدني به «ما بين المشرق والمغرب قبلة» (١) وقال الترمذي وقد روى من غير وجه عن أبي هريرة وتكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه ، ثم قال الترمذي : حدثني الحسن بن بكر المروزي ، أخبرنا المعلى بن منصور أخبرنا عبد الله بن جعفر المخرمي ، عن عثمان بن محمد بن الأخنسي عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما بين المشرق والمغرب قبلة» ثم قال الترمذي : هذا صحيح ، وحكي عن البخاري أنه قال : هذا أقوى من حديث أبي معشر وأصح ، قال الترمذي : وقد روي عن غير واحد من الصحابة «ما بين المشرق والمغرب قبله» منهم عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين. وقال ابن عمر : إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة ، إذا استقبلت القبلة ، ثم قال ابن مردويه : حدثنا علي بن أحمد بن عبد الرحمن أخبرنا يعقوب بن يوسف مولى بني هاشم ، أخبرنا شعيب بن أيوب أخبرنا ابن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما بين المشرق والمغرب قبلة» وقد رواه الدارقطني والبيهقي : وقال المشهور عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما قوله.

قال ابن جرير (٢) ويحتمل فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم ، كما حدثنا القاسم ، أخبرنا الحسين حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال مجاهد لما نزلت (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] قالوا إلى أين؟ فنزلت (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) قال ابن جرير : ومعنى قوله (إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال ، وأما قوله (عَلِيمٌ) فإنه يعني عليم بأعمالهم ما يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علمه بل هو بجميعها عليم.

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١١٧)

اشتملت هذه الآية الكريمة والتي تليها على الرد على النصارى عليهم لعائن الله وكذا من

__________________

(١) الترمذي (صلاة باب ١٣٩) وابن ماجة (إقامة باب ٥٦). والموطأ للإمام مالك (قبلة حديث ٨)

(٢) تفسير الطبري ١ / ٥٥٢.

٢٧٥

أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب ممن جعل الملائكة بنات الله فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم إن لله ولدا ، فقال تعالى : (سُبْحانَهُ) أي تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ليس الأمر كما افتروا وإنما له ملك السموات والأرض ومن فيهنّ وهو المتصرف فيهم وهو خالقهم ورازقهم ومقدّرهم ومسخّرهم ومسيّرهم ومصرّفهم كما يشاء والجميع عبيد له وملك له فكيف يكون له ولد منهم والولد إنما يكون متولدا من شيئين متناسبين وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له فكيف يكون له ولد؟ كما قال تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنعام : ١٠١] وقال تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم : ٨٨ ـ ٩٢] وقال تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ١ ـ ٤]. فقرر تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه السيد العظيم الذي لا نظير له ولا شبيه له وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة فكيف يكون له منها ولد؟

ولهذا قال البخاري (١) في تفسير هذه الآية من البقرة : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن عبد الله بن أبي الحسين ، حدثنا نافع بن جبير هو ابن مطعم عن ابن عباس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا» انفرد به البخاري من هذا الوجه.

وقال ابن مردويه حدثنا أحمد بن كامل أخبرنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، أخبرنا محمد بن إسحاق بن محمد الفروي أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويقول الله تعالى كذبني ابن آدم وما ينبغي له أن يكذبني وشتمني وما ينبغي له أن يشتمني ، فأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني. وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته ؛ وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا. وأنا الله الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» (٢).

وفي الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم» (٣).

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة الفاتحة باب ٥)

(٢) وأخرجه البخاري أيضا من هذا الطريق في تفسير سورة الإخلاص باب ١.

(٣) صحيح البخاري (توحيد باب ٣ ؛ وأدب باب ٧١) وصحيح مسلم (منافقين حديث ٤٩ ، ٥٠)

٢٧٦

وقوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) قال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو سعيد الأشج ، أخبرنا أسباط عن مطرف عن عطية عن ابن عباس قال : (قانِتِينَ) مصلين ، وقال عكرمة وأبو مالك : (لٌّ لَهُ قانِتُونَ) مقرون له بالعبودية ، وقال سعيد بن جبير : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) ، يقول الإخلاص ، وقال الربيع بن أنس : يقول : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي : قائم يوم القيامة ، وقال السدي : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي : مطيعون يوم القيامة ، وقال خصيف عن مجاهد : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) قال : مطيعون ، كن إنسانا فكان ، وقال : كن حمارا فكان ، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : كل له قانتون مطيعون ، قال : طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره ، وهذا القول عن مجاهد وهو اختيار ابن جرير يجمع الأقوال كلها وهو أن القنوت والطاعة والاستكانة إلى الله وهو شرعي وقدري كما قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [الرعد : ١٥].

وقد ورد حديث فيه بيان القنوت في القرآن ما هو المراد به ، كما قال ابن أبي حاتم : أخبرنا يوسف بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة» ، وكذا رواه الإمام أحمد (١) : عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة عن دراج بإسناده مثله ، ولكن في هذا الإسناد ضعف لا يعتمد عليه ، ورفع هذا الحديث منكر ، وقد يكون من كلام الصحابي أو من دونه ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : خالقهما على غير مثال سبق ؛ قال مجاهد والسدي : وهو مقتضى اللغة ، ومنه يقال للشيء المحدث بدعة ، كما جاء في صحيح مسلم : فإن كل محدثة بدعة ، والبدعة على قسمين : تارة تكون بدعة شرعية ، كقوله : «فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» ، وتارة تكون بدعة لغوية ، كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم : نعمت البدعة هذه.

وقال ابن جرير (٢) : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مبدعهما ، وإنما هو مفعل فصرف إلى فعيل ، كما صرف المؤلم إلى الأليم ، والمسمع إلى السميع ، ومعنى المبدع المنشئ والمحدث ، ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد ، قال : ولذلك سمي المبتدع في الدين ، مبتدعا لإحداثه فيه ما لم يسبق إليه غيره ، وكذلك كل محدث قولا أو فعلا ، لم يتقدم فيه متقدم ، فإن العرب تسميه مبتدعا ، ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة في مدح هوذة بن علي الحنفي : [البسيط]

يرعي إلى قول سادات الرجال إذا

أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا (٣)

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٣ ص ٧٥)

(٢) تفسير الطبري ١ / ٥٥٥.

(٣) البيت للأعشى في ديوانه ص ٨٦ ؛ وتفسير الطبري ١ / ٥٥٥.

٢٧٧

أي يحدث ما شاء ، قال ابن جرير : فمعنى الكلام سبحان الله أن يكون له ولد ، وهو مالك ما في السموات والأرض تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية ، وتقر له بالطاعة ، وهو بارئها وخالقها وموجدها ، من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه ، وهذا إعلام من الله لعباده ، أن مما يشهد له بذلك المسيح ، الذي أضافوا إلى الله بنوته ، وإخبار منه لهم ، أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل ، وعلى غير مثال ، هو الذي ابتدع المسيح عيسى ، من غير والد بقدرته ، وهذا من ابن جرير رحمه‌الله كلام جيد وعبارة صحيحة.

وقوله تعالى : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [غافر : ٦٨] يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه ، وأنه إذا قدر أمرا وأراد كونه ، فإنما يقول له كن ، أي : مرة واحدة فيكون ، أي : فيوجد ، على وفق ما أراد كما قال تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] ، وقال تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] ، وقال تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠] وقال الشاعر : [الطويل]

إذا ما أراد الله أمرا فإنما

يقول له كن قولة فيكون

ونبه بذلك أيضا ، على أن خلق عيسى بكلمة كن فكان كما أمره الله ، قال الله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩].

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (١١٨)

قال محمد بن إسحاق (١) : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد إن كنت رسولا من الله كما تقول ، فقل لله فيكلمنا حتى نسمع كلامه ؛ فأنزل الله في ذلك من قوله : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ).

وقال مجاهد : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) ، قال : النصارى تقوله ، وهو اختيار ابن جرير ، قال : لأن السياق فيهم. وفي ذلك نظر.

وحكى القرطبي (٢) : (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) ، أي : يخاطبنا بنبوتك يا محمد ، (قلت) : وهو ظاهر السياق ، والله أعلم.

وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي في تفسير هذه الآية : هذا قول كفار العرب

__________________

(١) الأثر في الطبري ١ / ٥٦٠. وقد أخرجه من حديث ابن عباس بإسنادين من طريق ابن إسحاق.

(٢) تفسير القرطبي ٢ / ٩٢.

٢٧٨

(كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) ، قالوا : هم اليهود والنصارى. ويؤيد هذا القول ، وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب ، قوله تعالى : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) [الأنعام : ١٢٤] ، وقوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] إلى قوله : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٣] ، وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان : ٢١] ، وقوله تعالى : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) [المدثر : ٥٢] ؛ إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به ، إنما هو الكفر والمعاندة ، كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم ، كما قال تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] ، وقال تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥].

وقوله تعالى : (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) ؛ أي أشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو ، كما قال تعالى : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ) [الذاريات : ٥٢] ، وقوله تعالى : (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ، أي قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل ، بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى لمن أيقن وصدق واتبع الرسل ، وفهم ما جاءوا به عن الله تبارك وتعالى ، وأما من ختم الله على قلبه وسمعه ، وجعل على بصره غشاوة ، فأولئك قال الله فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦].

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) (١١٩)

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي أخبرنا عبد الرحمن بن صالح أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الفزاري ، عن شيبان النحوي ، أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «أنزلت عليّ (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) ، قال : بشيرا بالجنة ونذيرا من النار».

وقوله : (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) قراءة أكثرهم ولا تسأل بضم التاء ، على الخبر وفي قراءة أبي بن كعب ، وما تسأل ، وفي قراءة ابن مسعود ولن تسأل عن أصحاب الجحيم ، نقلها ابن جرير (١) ، أي : لا نسألك عن كفر من كفر بك كقوله : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد : ٤٠] ، وكقوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢١] الآية ، وكقوله تعالى : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٥٦٤.

٢٧٩

مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) [ق : ٤٥] ؛ وأشباه ذلك من الآيات.

وقرأ آخرون : «ولا تسأل عن أصحاب الجحيم» بفتح التاء على النهي (١) ، أي : لا تسأل عن حالهم ، كما قال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليت شعري ما فعل أبواي ليت شعري ما فعل أبواي ليت شعري ما فعل أبواي؟» فنزلت : (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) ، فما ذكرهما حتى توفاه الله عزوجل. ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن موسى بن عبيدة ، وقد تكلموا فيه عن محمد بن كعب بمثله ، وقد حكاه القرطبي ، عن ابن عباس ومحمد بن كعب ، قال القرطبي : وهذا كما يقال لا تسأل عن فلان ، أي : قد بلغ فوق ما تحسب ، وقد ذكرنا في التذكرة أن الله أحيا له أبويه حتى آمنا به ، وأجبنا عن قوله : «إن أبي وأباك في النار» (٢) ، (قلت) : والحديث المروي في حياة أبويه عليه‌السلام ، ليس في شيء من الكتب الستة ولا غيرها ، وإسناده ضعيف ، والله أعلم.

ثم قال ابن جرير : وحدثني القاسم أخبرنا الحسين حدثني حجاج عن ابن جريج ، أخبرني داود بن أبي عاصم ، أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذات يوم : «أين أبواي»؟ فنزلت : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) ، وهذا مرسل كالذي قبله ، وقد رد ابن جرير هذا القول المروي ، عن محمد بن كعب وغيره في ذلك ، لاستحالة الشك من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر أبويه ، واختار القراءة الأولى ، وهذا الذي سلكه هاهنا فيه نظر ، لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه ، قبل أن يعلم أمرهما ، فلما علم ذلك تبرأ منهما ، وأخبر عنهما أنهما من أهل النار ، كما ثبت هذا في الصحيح ، ولهذا أشباه كثيرة ونظائر ولا يلزم ما ذكر ابن جرير ، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد : أخبرنا موسى بن داود حدثنا فليح بن سليمان ، عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار ، قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة فقال : أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن ؛ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين ، وأنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا. انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه في البيوع (٣) عن محمد بن سنان عن فليح به ، وقال تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال : وقال سعيد بن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام ، ورواه في التفسير عن عبد الله عن عبد العزيز بن أبي سلمة ، عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن

__________________

(١) ذكر القرطبي (٢ / ٩٢) أنها قراءة نافع وحده.

(٢) تفسير القرطبي ٢ / ٩٣.

(٣) صحيح البخاري (بيوع باب ٥٠) وفيه «سخّاب» في موضع «صخّاب» ، وهما بمعنى.

٢٨٠