تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار لا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال عبد الرزاق في تفسيره عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار قال : ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب ، فقيل لهم : اختاروا منكم اثنين فاختاروا هاروت وماروت ، فقال لهما إني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول ، انزلا لا تشركا بي شيئا ولا تزنيا ولا تشربا الخمر ، قال كعب : فو الله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه رواه ابن جرير من طريقين عن عبد الرزاق به ، ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن عصام عن مؤمل عن سفيان الثوري به ، ورواه ابن جرير أيضا حدثني المثنى أخبرنا المعلى وهو ابن أسد أخبرنا عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار فذكره ، فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الإسنادين المتقدمين وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع ، فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار عن كتب بني إسرائيل ، والله أعلم.

(ذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين)

قال ابن جرير (١) : حدثني المثنى حدثنا الحجاج أخبرنا حماد عن خالد الحذاء عن عمير بن سعيد ، قال : سمعت عليا رضي الله عنه يقول : كانت الزهرة امرأة جميلة من أهل فارس وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت فراوداها عن نفسها فأبت عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به أحد يعرج به إلى السماء فعلماها فتكلمت به ، فعرجت إلى السماء فمسخت كوكبا. وهذا الإسناد رجاله ثقات وهو غريب جدا.

وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا الفضل بن شاذان أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا معاوية عن خالد عن عمير بن سعيد عن علي رضي الله عنه قال : هما ملكان من ملائكة السماء ، يعني (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بسنده عن مغيث عن مولاه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي مرفوعا. وهذا لا يثبت من هذا الوجه. ثم رواه من طريقين آخرين عن جابر عن أبي الطفيل عن علي رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لعن الله الزهرة فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت» وهذا أيضا لا يصح وهو منكر جدا ، والله أعلم.

وقال ابن جرير (٢) : حدثني المثنى بن إبراهيم أخبرنا الحجاج بن منهال حدثنا حماد عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا جميعا : لما كثر بنو آدم

__________________

(١) الطبري ١ / ٥٠٢.

(٢) الطبري ١ / ٥٠١.

٢٤١

وعصوا ، دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال ربنا لا تمهلهم ، فأوحى الله إلى الملائكة إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ولو نزلتم لفعلتم أيضا. قال : فحدثوا أنفسهم ان لو ابتلوا اعتصموا ، فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم ، فاختاروا هاروت وماروت ، فأهبطا إلى الأرض وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت ، قال : فوقعا بالخطيئة ، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ، فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم ، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا.

وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقى أخبرنا عبيد الله يعني ابن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو ويونس بن خباب عن مجاهد ، قال : كنت نازلا على عبد الله بن عمر في سفر ، فلما كان ذات ليلة قال لغلامه : انظر هل طلعت الحمراء لا مرحبا بها ولا أهلا ولا حياها الله هي صاحبة الملكين ، قالت الملائكة : يا رب ، كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض؟ قال إني ابتليتهم فلعل إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون ، قالوا : لا ، قال : فاختاروا من خياركم اثنين ، فاختاروا هاروت وماروت ، فقال لهما : إني مهبطكما إلى الأرض وعاهد إليكما أن لا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا ، فأهبطا إلى الأرض وألقى عليهما الشهوة ، وأهبطت لهما الزهرة في أحسن صورة امرأة ، فتعرضت لهما فراوداها عن نفسها ، فقالت : إني على دين لا يصح لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله ، قالا : وما دينك؟ قالت المجوسية ، قالا : الشرك هذا شيء لا نقر به ، فمكثت عنهما ما شاء الله تعالى ، ثم تعرضت لهما فراوداها عن نفسها ، فقالت : ما شئتما غير أن لي زوجا وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح ، فإن أقررتما لي بديني وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء فعلت ، فأقرا لهما بدينها وأتياها فيما يريان ثم صعدا بها إلى السماء ، فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما وقطعت أجنحتهما فوقعا خائفين نادمين يبكيان وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين فإذا كان يوم الجمعة أجيب فقالا : لو أتينا فلانا فسألناه فطلب لنا التوبة ، فأتياه فقال : رحمكما الله كيف يطلب التوبة أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا : إنا قد ابتلينا ، قال ائتياني يوم الجمعة فأتياه ، فقال : ما أجبت فيكما بشيء ائتياني في الجمعة الثانية فأتياه ، فقال : اختارا فقد خيرتما إن اخترتما معافاة الدنيا وعذاب الآخرة وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله ، فقال أحدهما : إن الدنيا لم يمض منه إلا القليل. وقال الآخر : ويحك إني قد أطعتك في الأمر الأول فأطعني الآن إن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى. فقال : إننا يوم القيامة على حكم الله فأخاف أن يعذبنا ، قال : لا. إني أرجو إن علم الله أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة أن لا يجمعها علينا ، قال : فاختارا عذاب الدنيا فجعلا في بكرات من حديد في قليب مملوءة من نار عليهما سافلهما ـ وهذا إسناد جيد إلى

٢٤٢

عبد الله بن عمر ـ وقد تقدم في رواية ابن جرير من حديث معاوية بن صالح عن نافع عنه رفعه ، وهذا أثبت وأصح إسنادا ثم هو ـ والله أعلم ـ من رواية ابن عمر عن كعب كما تقدم بيانه من رواية سالم عن أبيه. وقوله : إن الزهرة نزلت في صورة امرأة حسناء ، وكذا في المروي عن علي فيه غرابة جدا.

وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم : أخبرنا عصام بن رواد ، أخبرنا آدم ، أخبرنا أبو جعفر ، حدثنا الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : لما وقع الناس من بعد آدم عليه‌السلام فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله ، قالت الملائكة في السماء : يا رب هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك قد وقعوا فيما وقعوا فيه ، وركبوا الكفر ، وقتل النفس ، وأكل المال الحرام ، والزنا والسرقة ، وشرب الخمر ، فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم فقيل : إنهم في غيب فلم يعذروهم ، فقيل لهم : اختاروا من أفضلكم ملكين آمرهما ، وأنهاهما ، فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض وجعل لهما شهوات بني آدم وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئا ونهيا عن قتل النفس الحرام وأكل المال الحرام وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر ، فلبثا في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق وذلك في زمن إدريس عليه‌السلام ، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب ، وإنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها فأبت إلا أن يكون على أمرها وعلى دينها ، فسألاها عن دينها ، فأخرجت لهما صنما فقالت : هذا أعبده ، فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا ، فذهبا فغبرا (١) ما شاء الله ، ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها ففعلت مثل ذلك ، فذهبا ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها ، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم ، قالت لهما : اختارا إحدى الخلال الثلاث : إما ان تعبدا هذا الصنم ، وإما أن تقتلا هذه النفس ، وإما أن تشربا هذه الخمر ، فقالا : كل هذا لا ينبغي وأهون هذا شرب الخمر فشربا الخمر فأخذت فيهما ، فواقعا المرأة فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه ، فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا وحيل بينهما وبين ذلك ، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء ، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه فعجبوا كل العجب وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية ، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض فنزل في ذلك (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٥] فقيل لهما : اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة ، فقالا : أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له ، فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلا ببابل فهما يعذبان. وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولا عن أبي زكريا العنبري عن محمد بن عبد السلام عن إسحاق بن راهوية عن حكام بن سلم الرازي وكان ثقة عن أبي جعفر الرازي به ، ثم قال : صحيح الإسناد لم يخرجاه ، فهذا أقرب ما روي في شأن

__________________

(١) غير غبورا : مضى.

٢٤٣

الزهرة ، والله أعلم (١).

وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي أخبرنا مسلم أخبرنا القاسم بن الفضل الحذائي أخبرنا يزيد يعني الفارسي عن ابن عباس : أن أهل سماء الدنيا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون بالمعاصي ، فقالوا : يا رب أهل الأرض كانوا يعملون بالمعاصي ، فقال الله : أنتم معي وهم في غيب عني ، فقيل لهم : اختاروا منكم ثلاثة فاختاروا منهم ثلاثة على أن يهبطوا إلى الأرض على أن يحكموا بين أهل الأرض ، وجعل فيهم شهوة الآدميين ، فأمروا أن لا يشربوا خمرا ولا يقتلوا نفسا ولا يزنوا ولا يسجدوا لوثن ، فاستقال منهم واحد فأقيل ، فأهبط اثنان إلى الأرض فأتتهما امرأة من أحسن الناس يقال لها : مناهية فهوياها جميعا ، ثم أتيا منزلها فاجتمعا عندها فأراداها فقالت لهما : لا حتى تشربا خمري ، وتقتلا ابن جاري ، وتسجدا لوثني ، فقالا : لا نسجد ثم شربا من الخمر ثم قتلا ثم سجدا ، فأشرف أهل السماء عليهما ، وقالت لهما : أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما ، فأخبراها فطارت ، فمسخت جمرة وهي هذه الزهرة ، وأما هما فأرسل إليهما سليمان بن داود فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا فهما مناطان بين السماء والأرض ، وهذا السياق فيه زيادة كثيرة وإغراب ونكارة ، والله أعلم بالصواب.

وقال عبد الرزاق : قال معمر قال قتادة والزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) كانا ملكين من الملائكة فأهبطا ليحكما بين الناس ، وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني آدم فحاكمت إليهما امرأة فخافا لها ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك ، ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا. قال معمر : قال قتادة فكانا يعلمان الناس السحر فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر.

وقال أسباط عن السدي أنه قال (٢) : كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم ، فقيل لهما : إني أعطيت بني آدم عشرا من الشهوات فبها يعصونني ، قال هاروت وماروت : ربنا لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل. فقال لهما : انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر فاحكما بين الناس ، فنزلا ببابل ديناوند ، فكانا يحكمان حتى إذا أمسيا عرجا فإذا أصبحا هبطا ، فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها فأعجبهما حسنها واسمها بالعربية الزهرة ، وبالنبطية بيدخت (٣) ، وبالفارسية ناهيد ، فقال أحدهما لصاحبه : إنها

__________________

(١) وقال ابن كثير في البداية والنهاية ١ / ٣٣ : فهذا أظنّه من وضع الإسرائيليين وإن كان قد أخرجه كعب الأحبار وتلقاه عنه طائفة من السلف ، فذكروه على سبيل الحكاية والتحدث عن بني إسرائيل ... وإذا أحسنا الظن قلنا هذا من أخبار بني إسرائيل ومن خرافاتهم التي لا يعوّل عليها.

(٢) الأثر في تفسير الطبري ١ / ٥٠٢.

(٣) في الطبري «بيذخت» و «أناهيذ» كلاهما بالذال المعجمة.

٢٤٤

لتعجبني ، قال الآخر : قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك ، فقال الآخر : هل لك أن أذكرها لنفسها. قال : نعم ، ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الآخر إنا لنرجو رحمة الله. فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها ، فقالت : لا حتى تقضيا لي على زوجي فقضيا لها على زوجها ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها فأتياها لذلك ، فلما أراد الذي يواقعها قالت : ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء ، وبأي كلام تنزلان منها ، فأخبراها فتكلمت فصعدت ، فأنساها الله تعالى ما تنزل به فثبتت مكانها وجعلها الله كوكبا ، فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها وقال : هذه التي فتنت هاروت وماروت ، فلما كان الليل ، أرادا أن يصعدا فلم يطيقا فعرفا الهلكة ، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فعلقا ببابل وجعلا يكلمان الناس كلامها وهو السحر.

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد (١) : أما شأن هاروت وماروت فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات ، فقال لهم ربهم تعالى : اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض فاختاروا فلم يألوا هاروت وماروت ، فقال لهما حين أنزلهما : أعجبتما من بني آدم من ظلمهم ومعصيتهم وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء وإنكما ليس بيني وبينكما رسول ، فافعلا كذا وكذا ودعا كذا وكذا ، فأمرهما بأمور ونهاهما ، ثم نزلا على ذلك ليس أحد أطوع لله منهما فحكما فعدلا ، فكانا يحكمان في النهار بين بني آدم فإذا أمسيا عرجا فكانا مع الملائكة ، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تخاصم فقضيا عليها ، فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه ، فقال أحدهما لصاحبه : وجدت مثل الذي وجدت؟ قال : نعم ، فبعثا إليها أن ائتيانا نقض لك ، فلما رجعت قالا وقضيا لها (٢) فأتتهما فكشفا لها عن عورتيهما ، وإنما كانت سوأتهما (٣) في أنفسهما ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذاتها ، فلما بلغا ذلك واستحلا افتتنا ، فطارت الزهرة فرجعت حيث كانت ، فلما أمسيا عرجا فزجرا فلم يؤذن لهما ولم تحملهما أجنحتهما ، فاستغاثا برجل من بني آدم فأتياه فقالا : ادع لنا ربك ، فقال : كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا : سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء ، فوعدهما يوما ، وغدا يدعو لهما فدعا لهما فاستجيب له ، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فنظر أحدهما إلى صاحبه فقال : ألا تعلم أن أفواج عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد وفي الدنيا تسع مرات مثلها؟ فأمرا أن ينزلا ببابل فتم عذابهما ، وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان يصفقان بأجنحتهما.

وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي والحسن

__________________

(١) رواه الطبري ١ / ٥٠٤.

(٢) عبارة الطبري : فلما رجعت قالا لها ـ وقضيا لها ـ : ائتينا! فأتتهما.

(٣) في الطبري : «شهوتهما».

٢٤٥

البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم ، وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين ، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى ، والله أعلم بحقيقة الحال.

وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك ، أحببنا أن ننبه عليه ، قال الإمام أبو جعفر بن جرير (١) رحمه‌الله تعالى : أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا ابن وهب أخبرنا ابن أبي الزناد حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها قالت : قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل (٢) جاءت تبتغي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد موته حداثة (٣) ذلك تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به ، وقالت عائشة رضي الله عنها لعروة : يا ابن أختي ، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيشفيها ، فكانت تبكي حتى إني لأرحمها ، وتقول : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، كان لي زوج فغاب عني فدخلت عليّ عجوز فشكوت ذلك إليها ، فقالت : إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك ، فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر ، فلم يكن لشيء (٤) حتى وقفنا ببابل وإذا برجلين معلقين بأرجلهما فقالا : ما جاء بك؟ قلت : أتعلم السحر ، فقالا : إنما نحن فتنة فلا تكفري فارجعي ، فأبيت وقلت : لا ، قالا : فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه ، فذهبت ففزعت ولم أفعل فرجعت إليهما فقالا : أفعلت؟ فقلت : نعم ، فقالا : هل رأيت شيئا؟ فقلت : لم أر شيئا ، فقالا لم تفعلي ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأربيت (٥) وأبيت ، فقالا : اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت فاقشعررت وخفت ، ثم رجعت إليهما وقلت : قد فعلت ، فقالا : فما رأيت؟ قلت : لم أر شيئا ، فقالا : كذبت لم تفعلي ارجعي إلى بلادك ، ولا تكفري فإنك على رأس أمرك فأربت وأبيت ، فقالا : اذهبي إلى التنور فبولي فيه ، فذهبت إليه فبلت فيه فرأيت فارسا مقنعا بحديد خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه ، فجئتهما فقلت : قد فعلت ، فقالا : فما رأيت؟ قلت : رأيت فارسا مقنعا خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه ، فقالا : صدقت ذلك إيمانك خرج منك اذهبي ، فقلت للمرأة : والله ما أعلم شيئا وما قالا لي شيئا ، فقالت : لن لم تريدي شيئا إلا كان ، خذي هذا القمح فابذري ، فبذرت وقلت : اطلعي فأطلعت ، وقلت : احقلي فأحقلت ، ثم قلت : افركي

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٥٠٦.

(٢) قال ابن خرداذبة في المسالك والممالك (ص ١١٣) : هي من المدينة على ثلاث عشرة مرحلة ، ومن الكوفة على عشر مراحل ، ومن دمشق على عشر مراحل.

(٣) أي عقيبه.

(٤) في الطبري «كشيء».

(٥) أربّ بالمكان : لزمه ولم يبرحه.

٢٤٦

فأفركت ، ثم قلت : أيبسي فأيبست ، ثم قلت : اطحني فأطحنت ، ثم قلت : اخبزي فأخبزت ، فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان سقط في يدي ، وندمت ، والله يا أم المؤمنين ما فعلت شيئا ولا أفعله أبدا. ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان به مطولا كما تقدم وزاد بعد قولها ولا أفعلها أبدا : فسألت أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حداثة وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يومئذ متوافرون ، فما دروا ما يقولون لها ، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعض من كان عنده : لو كان أبواك حيين أو أحدهما. قال هشام : فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان. قال ابن أبي الزناد : وكان هشام يقول : أنهم كانوا من أهل الورع والخشية من الله ثم يقول هشام : لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى (١) أهل حمق وتكلف بغير علم ، فهذا إسناد جيد إلى عائشة رضي الله عنها.

وقد استدل بهذا الأثر من ذهب إلى ان الساحر له تمكن في قلب الأعيان لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال. وقال آخرون : بل ليس له قدرة إلا على التخييل كما قال تعالى (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [الأعراف : ١١٦] وقال تعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [طه : ٦٦] استدل به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق لا بابل ديناوند كما قاله السدي وغيره. ثم الدليل على أنها بابل العراق ما قال ابن أبي حاتم : أخبرنا علي بن الحسين أخبرنا أحمد بن صالح حدثني ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري : أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مر ببابل وهو يسير ، فجاء المؤذن يؤذنه بصلاة العصر ، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة ، فلما فرغ قال : إن حبيبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهاني أن أصلي بأرض المقبرة ونهاني ان أصلي ببابل فإنها ملعونة وقال أبو داود : أخبرنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن عليا مرّ ببابل وهو يسير ، فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر ، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة ، فلما فرغ قال : إن حبيبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة ، ونهاني أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة. حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن حجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي بمعنى حديث سليمان بن داود ، قال : فلما خرج منها برز ، وهذا الحديث حسن عند الإمام أبي داود لأنه رواه وسكت عنه ففيه من الفقه كراهية الصلاة بأرض بابل كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الدخول إلى منازلهم إلا أن يكونوا باكين. قال أصحاب الهيئة : وبعد ما بين بابل وهي من إقليم العراق عن البحر المحيط الغربي ، ويقال له أوقيانوس سبعون درجة ويسمون هذا طولا ، وأما عرضها وهو بعد ما بينها وبين وسط الأرض من ناحية الجنوب ، وهو المسامت لخط الاستواء اثنان وثلاثون درجة ، والله أعلم.

__________________

(١) النوكى : الحمقى. واحده : أنوك.

٢٤٧

وقوله تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس قال : فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي وقالا له : إنما نحن فتنة فلا تكفر ، وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان ، فعرفا أن السحر من الكفر ، قال : فإذا أبى عليهما أمراه يأتي مكان كذا وكذا ، فإذا أتاه عاين الشيطان فعلمه ، فإذا تعلمه خرج منه النور ، فنظر إليه ساطعا في السماء فيقول : يا حسرتاه ، يا ويله ماذا صنع.

وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية : نعم انزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس ، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحدا حتى يقولا : إنما نحن فتنة فلا تكفر ، رواه ابن أبي حاتم. وقال قتادة : كان أخذ عليهما ان لا يعلما أحدا حتى يقولا : إنما نحن فتنة أي بلاء ابتلينا به فلا تكفر. وقال السدي : إذا أتاهما إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له : لا تكفر إنما نحن فتنة ، فإذا أبى قالا له : ائت هذا الرماد فبل عليه ، فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء وذلك الإيمان ، وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه ، وكل شيء ، وذلك غضب الله ، فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر ، فذلك قول الله تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) الآية ، وقال سعيد عن حجاج عن ابن جريج في هذه الآية : لا يجترئ على السحر إلا كافر ، وأما الفتنة فهي المحنة والاختيار ، ومنه قول الشاعر : [المتقارب]

وقد فتن الناس في دينهم

وخلى ابن عفان شرا طويلا (١)

وكذلك قوله تعالى إخبارا عن موسى عليه‌السلام حيث قال (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) [الأعراف: ١٥٥] أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) [الأعراف : ١٥٥] وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر ، واستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار ، حدثنا محمد بن المثنى ، أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن إبراهيم عن همام عن عبد الله قال : «من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وهذا إسناد صحيح وله شواهد أخر. وقوله تعالى : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) أي فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر وما يتصرفون به فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين ، مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف ، وهذا من صنيع الشياطين ، كما رواه مسلم في

__________________

(١) البيت للحتات بن يزيد المجاشعي عمّ الفرزدق في تاريخ الطبري ١ / ١٥١ (وفيه : لقد سفه الناس في دينهم ...) ؛ وهو منسوب لعلي بن الغدير بن المضرّس الغنوي أو لإهاب بن همام بن صعصعة أو لابن الغريرة النهشلي في أنساب الأشراف ٥ / ١٠٤ ؛ ولابن الغريرة النهشلي في معجم الشعراء ص ٣٤٩ ؛ والكامل للمبرد ٢ / ٣٤ ؛ وتاج العروس (وبل)

٢٤٨

صحيحه (١) من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس ، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة ، ويجيء أحدهم فيقول : ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا ، فيقول إبليس : لا والله ما صنعت شيئا! ويجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال : فيقربه ويدنيه ويلتزمه ويقول : نعم أنت» وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر أو خلق أو نحو ذلك أو عقد أو بغضة أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة ، والمرء عبارة عن الرجل وتأنيثه امرأة ويثنى كل منهما ولا يجمعان والله اعلم.

وقوله تعالى (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) قال سفيان الثوري : إلا بقضاء الله ، وقال محمد بن إسحاق : إلا بتخلية الله بينه وبين ما أراد ، وقال الحسن البصري (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) قال : نعم ، من شاء الله سلطهم عليه ، ومن لم يشأ الله لم يسلط ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن الله ، كما قال الله تعالى. وفي رواية عن الحسن أنه قال : لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه.

وقوله تعالى : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) أي يضرهم في دينهم وليس له نفع يوازي ضرره (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن فعل فعلهم ، ذلك أنه ما له في الآخرة من خلاق ، قال ابن عباس ومجاهد والسدي : من نصيب ، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : ما له في الآخرة من جهة عند الله ، وقال عبد الرزاق ، وقال الحسن : ليس له دين ، وقال سعد عن قتادة (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) قال : ولقد علم أهل الكتاب فيم عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة.

وقوله تعالى (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) يقول تعالى : (وَلَبِئْسَ) البديل ما استبدلوا به من السحر عوضا عن الإيمان ومتابعة الرسول لو كان لهم علم بما وعظوا به (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) أي ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم لكان مثوبة الله على ذلك خيرا لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به كما قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) [القصص : ٨٠].

وقد استدل بقوله (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا) من ذهب إلى تكفير الساحر ، كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف ، وقيل : بل لا يكفر ، ولكن حده ضرب عنقه ، لما رواه

__________________

(١) صحيح مسلم (منافقين حديث رقم ٦٦ ، ٦٧)

٢٤٩

الشافعي وأحمد بن حنبل (١) ، قالا : أخبرنا سفيان ، هو ابن عيينة عن عمرو بن دينار ، أنه سمع بجالة بن عبدة يقول : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة ، قال : فقتلنا ثلاث سواحر. وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضا ، وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها ، فأمرت بها ، فقتلت ، قال الإمام أحمد بن حنبل : صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قتل الساحر. وروى الترمذي (٢) من حديث إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب الأزدي أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حد الساحر ضربه بالسيف» ثم قال : لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، وإسماعيل بن مسلم يضعف في الحديث ، والصحيح عن الحسن عن جندب موقوفا. قلت : قد رواه الطبراني من وجه آخر عن الحسن عن جندب مرفوعا. والله أعلم. وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة ، كان عنده ساحر يلعب بين يديه فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه ، فقال الناس : سبحان الله يحيي الموتى ، ورآه رجل من صالحي المهاجرين ، فلما كان الغد جاء مشتملا على سيفه وذهب يلعب لعبه ذلك ، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر ، وقال : إن كان صادقا فليحي نفسه ، وتلا قوله تعالى : (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [الأنبياء : ٣] ، فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك ، فسجنه ثم أطلقه ، والله أعلم. وقال الإمام أبو بكر الخلال : أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبي أخبرنا يحيى بن سعيد ، حدثني أبو إسحاق عن حارثة قال : كان عند بعض الأمراء رجل يلعب فجاء جندي مشتملا على سيفه فقتله ، قال : أراه كان ساحرا ، وحمل الشافعي رحمه‌الله قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركا والله أعلم.

[فصل]

حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره (٣) عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر ، قال : وربما كفروا من اعتقد وجوده ، قال : وأما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء ويقلب الإنسان حمارا ، والحمار إنسانا إلا أنهم قالوا : إن الله يخلق الأشياء عند ما يقول الساحر تلك الرقى والكلمات المعينة فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم ، فلا ، خلافا للفلاسفة والمنجمين والصابئة ، ثم استدل على وقوع السحر وأنه بخلق الله تعالى بقوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ومن الأخبار بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سحر ، وأن السحر عمل فيه وبقصة تلك المرأة مع عائشة رضي الله عنها وما ذكرت تلك المرأة من إتيانها بابل وتعلمها السحر قال : وبما يذكر في هذا الباب من الحكايات الكثير ، ثم قال بعد هذا :

المسألة الخامسة في أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور ـ اتفق المحققون على ذلك لأن

__________________

(١) المسند (ج ١ ص ١٩٠ ، ١٩١)

(٢) سنن الترمذي (حدود باب ٢٧)

(٣) التفسير الكبير ٣ / ١٩٤.

٢٥٠

العلم لذاته شريف ، وأيضا لعموم قوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة والعلم بكون المعجز معجزا واجب ، وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا ، وما يكون واجبا كيف يكون حراما وقبيحا؟ هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة. وهذا الكلام فيه نظر من وجوه أحدها قوله : العلم بالسحر ليس بقبيح عقلا ، فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا ، وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعا ، ففي هذه الآية الكريمة تبشيع لتعلم السحر ، وفي الصحيح «من أتى عرافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد» ، وفي السنن «من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر» وقوله : ولا محظور ، اتفق المحققون على ذلك ، كيف لا يكون محظورا مع ما ذكرناه من الآية والحديث واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نص إلى هذه المسألة أئمة العلماء أو أكثرهم وأين نصوصهم على ذلك؟ ثم إدخاله في علم السحر في عموم قوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فيه نظر ، لأن هذه الآية إنما دلت على مدح العالمين بالعلم الشرعي ، ولم قلت إن هذا منه؟ ثم ترقيه إلى وجوب تعلمه بأنه لا يحصل العلم بالمعجز إلا به ضعيف بل فاسد ، لأن أعظم معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. ثم إن العلم بأنه معجزة لا يتوقف على علم السحر أصلا ، ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم ، كانوا يعلمون المعجز ، ويفرقون بينه وبين غيره ، ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلموه ولا علموه ، والله أعلم.

ثم ذكر أبو عبد الله الرازي (١) ، أن أنواع السحر ثمانية [الأول] سحر الكذابين والكشدانيين (٢) ، الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة ، وهي السيارة ، وكانوا يعتقدون أنها مدبرة العالم ، وأنها تأتي بالخير والشر ، وهم الذين بعث الله إليهم إبراهيم الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبطلا لمقالتهم وردا لمذهبهم ، وقد استقصى في (كتاب السر المكتوم ، في مخاطبة الشمس والنجوم) المنسوب إليه ، كما ذكرها القاضي ابن خلكان وغيره ، ويقال أنه تاب منه ، وقيل بل صنفه على وجه إظهار الفضيلة ، لا على سبيل الاعتقاد ، وهذا هو المظنون به إلا أنه ذكر فيه طريقهم في مخاطبة كل من هذه الكواكب السبعة وكيفية ما يفعلون وما يلبسونه وما يتمسكون به.

قال : [والنوع الثاني] سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية ، ثم استدل على أن الوهم له تأثير بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض ، ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدودا على نهر أو نحوه (٣) ، قال : وكما أجمعت الأطباء على نهي المرعوف عن

__________________

(١) التفسير الكبير ٣ / ١٨٧ ـ ١٩٣.

(٢) في تفسير الرازي : «الكلدانيين والكسدانيين».

(٣) عبارة الرازي : «أن الجذع الذي يتمكن الإنسان من المشي عليه ، لو كان موضوعا على الأرض ، لا ـ

٢٥١

النظر إلى الأشياء الحمر ، والمصروع إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران ، وما ذلك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام. قال : وقد اتفق العقلاء على أن الإصابة بالعين حق ـ وله أن يستدل على ذلك بما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» ـ قال : فإذا عرفت هذا فنقول النفس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جدا فتستغني في هذه الأفاعيل عن الاستعانة بالآلات والأدوات ، وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الآلات ، وتحقيقه أن النفس إذا كانت متعلية عن البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السماوات صارت كأنها روح من الأرواح السماوية ، فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم ، وإذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه الذات البدنية ، فحينئذ لا يكون لها تأثير البتة إلا في هذا البدن ، ثم أرشد إلى مداواة هذا الداء بتقليل الغذاء ، والانقطاع عن الناس والرياء (قلت) وهذا الذي يشير إليه هو التصرف بالحال ، وهو على قسمين ، تارة تكون حالا صحيحة شرعية يتصرف بها فيما أمر الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويترك ما نهى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهذه الأحوال مواهب من الله تعالى وكرامات للصالحين من هذه الأمة ولا يسمى هذا سحرا في الشرع. وتارة تكون الحال فاسدة لا يمتثل صاحبها ما أمر الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يتصرف بها في ذلك ، فهذه حال الأشقياء المخالفين للشريعة ولا يدل إعطاء الله إياهم هذه الأحوال على محبته لهم ، كما أن الدجال له من الخوارق للعادات ما دلت عليه الأحاديث الكثيرة مع أنه مذموم شرعا لعنه الله ، وكذلك من شابهه من مخالفي الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، وبسط هذا يطول جدا وليس هذا موضعه.

قال : [والنوع الثالث] من السحر ، الاستعانة بالأرواح الأرضية وهم الجن ، خلافا للفلاسفة والمعتزلة (١) ، وهم على قسمين : مؤمنون ، وكفار وهم الشياطين ، وقال : واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية لما بينها من المناسبة والقرب ، ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بها أعمال سهلة قليلة من الرقى والدخن والتجريد ، وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير.

قال : [النوع الرابع] من السحر التخييلات والأخذ بالعيون والشعبذة ، ومبناه على أن البصر قد يخطئ ويشتغل بالشيء المعين دون غيره ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه حتى إذا استفرغهم الشغل بذلك الشيء والتحديق نحوه عمل شيئا آخر عملا بسرعة شديدة ، وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه فيتعجبون منه جدا ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعلمه ، ولم تتحرك

__________________

ـ يمكنه المشي عليه لو كان كالجسر على هاوية تحته. وما ذاك إلا أن تخيّل السقوط متى قوي أوجبه».

(١) عبارة الرازي أوضح في المقام : «واعلم أن القول بالجن مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة والمعتزلة. أما أكابر الفلاسفة فإنهم ما أنكروا القول به ، إلا أنهم سموها بالأرواح الأرضية ...».

٢٥٢

النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه ، لفطن الناظرون لكل ما يفعله (قال) وكلما كانت الأحوال التي تفيد حسن البصر نوعا من أنواع الخلل أشد ، كان العمل أحسن مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جدا أو مظلم فلا تقف القوة الناظرة على أحوالها والحالة هذه.

(قلت) وقد قال بعض المفسرين : إن سحر السحرة بين يدي فرعون إنما كان من باب الشعبذة ولهذا قال تعالى : (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [الأعراف : ١١٦] وقال تعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [طه : ٦٦] قالوا : ولم تكن تسعى في نفس الأمر ، والله أعلم.

[النوع الخامس من السحر] : الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية [تارة وعلى ضروب الخيلاء أخرى] (١) كفارس على فرس في يده بوق كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد ـ ومنها الصور التي تصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان حتى يصورونها ضاحكة وباكية ، إلى أن قال : فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل ، قال : وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل (قلت) يعني ما قاله بعض المفسرين : إنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقا فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها. قال الرازي : ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات ، ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال بالآلات الخفيفة قال : وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر لأن لها أسبابا معلومة يقينية من اطلع عليها قدر عليها. (قلت) ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببلد القدس ، وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على العوام منهم. وأما الخواص فهم معترفون بذلك ، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم فيرون ذلك سائغا لهم. وفيهم شبهة على الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية (٢) الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب فيدخلون في عداد من قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم : «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» وقوله : «حدثوا عني ولا تكذبوا عليّ فإنه من يكذب عليّ يلج النار» ثم ذكر هاهنا حكاية عن بعض الرهبان وهو أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ضعيف الحركة فإذا سمعته الطيور ترق له فتذهب فتلقي في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به ، فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائر على شكله وتوصل إلى أن جعله أجوف فإذا دخلته الريح يسمع منه صوت كصوت الطائر وانقطع في صومعة ابتناها وزعم أنها على قبر

__________________

(١) الزيادة من الرازي.

(٢) الكرامية : فرقة من أهل السنّة ، تنسب إلى محمد بن كرام الذي نشأ في سجستان وتوفي ببيت المقدس سنة ٨٦٩ م. والكرامية مجسمون يذهبون إلى أن الله تعالى محدود من جهة العرش وأن شيئا لا يحدث في العالم قبل حدوث أعراض في ذاته.

٢٥٣

بعض صالحيهم وعلق على ذلك الطائر في مكان منها فإذا كان زمان الزيتون فتح بابا من ناحيته فيدخل الريح إلى داخل هذه الصورة ، فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضا ، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئا كثيرا ، فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة ولا يدرون ما سببه ، ففتنهم بذلك وأوهم أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة (١).

قال الرازي : النوع السادس من السحر الاستعانة بخواص الأدوية يعني في هذا الأطعمة والدهانات قال : واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص فإن تأثير المغناطيس مشاهد. (قلت) يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر ويتحيل على جهلة الناس بهذه الخواص مدعيا أنها أحوال له من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحالات (٢).

قال النوع السابع من السحر : التعليق للقلب ، وهو أن يدعي الساحر أنه عرف الاسم الأعظم وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور فإذا اتفق أن يكون السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخافة فإذا ما حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة فحينئذ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء. (قلت) هذا النمط يقال له التنبلة وإنما يروج على ضعفاء العقول من بني آدم. وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة العقل من ناقصه فإذا كان المتنبل حاذقا في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره.

قال : النوع الثامن من السحر : السعي بالنميمة والتضريب (٣) من وجوه خفيفة لطيفة وذلك شائع في الناس (قلت) النميمة على قسمين تارة تكون على وجه التحرش بين الناس وتفريق قلوب المؤمنين فهذا حرام متفق عليه ، فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين كما جاء في الحديث «ليس بالكذاب من ينم خيرا» أو يكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة ، فهذا أمر مطلوب كما جاء في الحديث «الحرب خدعة» ، وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريق كلمة الأحزاب وبني قريظة : جاء إلى هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء كلاما ، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئا آخر ، ثم لأم بين ذلك فتناكرت النفوس وافترقت ، وإنما

__________________

(١) يفهم من حكاية ابن كثير المنقولة هنا عن الرازي أن الراهب المشار إليه أعلاه نصراني. والحال أن الرازي إنما حكى عن «عمل أرجعيانوس الموسيقار في هيكل أورشليم العتيق عند تجديده إياه». قارن برواية الرازي ٣ / ١٩٣.

(٢) توجيه كلام الرازي إلى هذا المعنى غير دقيق. فقد تحدث الرازي عن «الاستعانة بخواص الأدوية مثل أن يجعل في طعامه بعض الأدوية المبلدة المزيلة للعقل والدخن المسكرة ، نحو دماغ الحمار إذا تناوله الإنسان تبلّد عقله وقلّت فطنته» فتأمّل.

(٣) التضريب : الإغراء.

٢٥٤

يحذو على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النافذة والله المستعان.

ثم قال الرازي : فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه ، (قلت) وإنما أدخل كثيرا من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها لأن السحر في اللغة عبارة عما لطف وخفي بسببه ، ولهذا جاء في الحديث «إن من البيان لسحرا» ، وسمي السحور لكونه يقع خفيا آخر الليل ، والسحر : الرئة ، وهي محل الغذاء وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه ، كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة : انتفخ سحره أي انتفخت رئته من الخوف. وقالت عائشة رضي الله عنها : توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين سحري ونحري ، وقال تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) [الأعراف : ١١٦] أي أخفوا عنهم علمهم ، والله أعلم.

وقال أبو عبد الله القرطبي (١) : وعندنا أن السحر حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما يشاء خلافا للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفرايني من الشافعية حيث قالوا : إنه تمويه وتخييل. قال : ومن السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة ، والشعوذي البريد لخفة سيره ، قال ابن فارس : وليست هذه الكلمة من كلام أهل البادية ، قال القرطبي : ومنه ما يكون كلاما يحفظ ورقى من أسماء الله تعالى وقد يكون من عهود الشياطين ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك ، قال : وقوله عليه‌السلام : «إن من البيان لسحرا» يحتمل أن يكون مدحا كما تقول طائفة ، ويحتمل أن يكون ذما للبلاغة قال : وهذا أصح ، قال لأنها تصوب الباطل حتى توهم السامع أنه حق كما قال عليه الصلاة والسلام : «فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له» الحديث.

[فصل] وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه‌الله في كتابه (الإشراف على مذاهب الأشراف) بابا في السحر فقال : أجمعوا على أن السحر له حقيقة إلا أبا حنيفة فإنه قال: لا حقيقة له عنده واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله ، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد يكفر بذلك. ومن أصحاب أبي حنيفة من قال إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر ومن تعلمه معتقدا جوازه أو أنه ينفعه كفر ، وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر. وقال الشافعي رحمه‌الله : إذا تعلم السحر قلنا له صف لنا سحرك فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر ، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر ، قال ابن هبيرة : وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله؟ فقال مالك وأحمد نعم ، وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة : يقتل حتى يتكرر منه ذلك أو يقر بذلك في حق شخص معين ، وإذا قتل فإنه يقتل حدا عندهم إلا الشافعي فإنه قال : يقتل والحالة هذه قصاصا قال : وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور

__________________

(١) تفسير القرطبي ٢ / ٤٤.

٢٥٥

عنهم : لا تقبل ، وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى تقبل ، وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم ، وقال مالك وأحمد والشافعي : لا يقتل يعني لقصة لبيد بن الأعصم. واختلفوا في المسلمة الساحرة فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ولكن تحبس ، وقال الثلاثة حكمها حكم الرجل ، والله أعلم. وقال أبو بكر الخلال : أخبرنا أبو بكر المروزي قال : قرأ على أبي عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ عمر بن هارون أخبرنا يونس عن الزهري ، قال : يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها. وقد نقل القرطبي عن مالك رحمه‌الله ، أنه قال في الذمي يقتل إن قتل سحره ، وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر : إحداهما أنه يستتاب فإن أسلم وإلا قتل ، والثانية أنه يقتل وإن أسلم ، وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفرا كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم لقوله تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) [البقرة : ١٠٢]. لكن قال مالك إذا ظهر عليه لم تقبل توبته لأنه كالزنديق فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائبا قبلناه ، فإن قتل سحره قتل قال الشافعي : فإن قال لم أتعمد القتل فهو مخطئ تجب عليه الدية.

[مسألة] وهل يسأل الساحر حلا لسحره؟ فأجاز سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري ، وقال عامر الشعبي : لا بأس بالنشرة (١) وكره ذلك الحسن البصري ، وفي الصحيح عن عائشة أنها قالت : يا رسول الله هلا تنشرت ، فقال : «أما الله فقد شفاني وخشيت أن أفتح على الناس شرا» وحكى القرطبي عن وهب أنه قال : يؤخذ سبع ورقات من سدر فتدق بين حجرين ثم تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات ثم يغتسل بباقيه فإنه يذهب ما به ، وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته (قلت) أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله في ذهاب ذلك وهما المعوذتان ، وفي الحديث «لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما» وكذلك قراءة آية الكرسي فإنها مطردة للشيطان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ(١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (١٠٥)

نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقامهم وفعالهم ، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص ، عليهم لعائن الله فإذا أرادوا أن يقولوا اسمع لنا يقولون راعنا ويورون بالرعونة كما قال تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ

__________________

(١) النّشرة (بضم النون وتسكين الشين) : الرّقية يعالج بها المريض ونحوه.

٢٥٦

أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ ، وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ٤٦] ، وكذلك جاءت الأحاديث بالأخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون السام عليكم ، والسام هو الموت ، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم ب «وعليكم» ، وإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا. والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا ، فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ).

وقال الإمام أحمد (١) : أخبرنا أبو النضر أخبرنا عبد الرحمن بن ثابت أخبرنا حسان بن عطية ، عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم».

وروى أبو داود (٢) عن عثمان بن أبي شيبة عن أبي شيبة عن أبي النضير هاشم أخبرنا ابن القاسم به «من تشبه بقوم فهو منهم» ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها.

وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي أخبرنا نعيم بن حماد أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا مسعر عن معن وعون أو أحدهما أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود فقال : اعهد إلي ، فقال : إذا سمعت الله يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأرعها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. وقال الأعمش عن خيثمة قال : ما تقرؤون في القرآن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فإنه في التوراة يا أيها المساكين. وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس (راعِنا) أي أرعنا سمعك. وقال الضحاك : عن ابن عباس (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) قال : كانوا يقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرعنا سمعك وإنما راعنا كقولك عاطنا. وقال ابن أبي حاتم وروي عن أبي العالية وأبي مالك والربيع بن أنس ، وعطية العوفي وقتادة نحو ذلك ، وقال مجاهد : (لا تَقُولُوا راعِنا) لا تقولوا خلافا ، وفي رواية لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك. وقال عطاء لا تقولوا (راعِنا) ، كانت لغة تقولها الأنصار (٣) ، فنهى الله عنها ، وقال الحسن : (لا تَقُولُوا راعِنا) ، قال : الراعن من القول السخري منه ، نهاهم الله أن يسخروا من قول محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما يدعوهم إليه من الإسلام. وكذا روي عن ابن جريج ، أنه قال مثله ، وقال أبو صخر : (لا تَقُولُوا

__________________

(١) مسند أحمد (ج ٢ ص ٥٠)

(٢) سنن أبي داوود (لباس باب ٤)

(٣) في الطبري «تقولها الأنصار في الجاهلية». والأخبار الواردة هذا في تفسير «راعنا» ذكرها الطبري في تفسيره ١ / ٥١٤ ـ ٥١٧.

٢٥٧

راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين ، فيقول أرعنا سمعك ، فأعظم الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقال ذلك له. وقال السدي : كان رجل من اليهود من بني قينقاع يدعى رفاعة بن زيد (١) يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا لقيه فكلمه قال : أرعني سمعك واسمع غير مسمع ، وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم بهذا ، فكان ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع غير صاغر ، وهي كالتي في سورة النساء ، فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا راعنا. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بنحو من هذا. قال ابن جرير : والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه راعنا. لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولوها لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نظير الذي ذكر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تقولوا للعنب الكرم ولكن قولوا الحبلة (٢) ولا تقولوا عبدي ولكن قولوا فتاي» وما أشبه ذلك.

وقوله تعالى : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) يبين بذلك تعالى شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين ، الذين حذر الله تعالى من مشابهتهم للمؤمنين ، ليقطع المودة بينهم وبينهم ، ونبه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل الذي شرعه لنبيهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث يقول تعالى : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (١٠٧)

قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) ما نبدل من آية ، وقال ابن جريج عن مجاهد (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) أي ما نمحو من آية ، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) قال نثبت خطها ونبدل حكمها ، حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم. وقال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي نحو ذلك ، وقال الضحاك (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) ما ننسك ، وقال عطاء أما (ما نَنْسَخْ) ، فما نترك من القرآن. وقال ابن أبي حاتم : يعني ترك فلم ينزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال السدي (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) نسخها قبضها وقال ابن أبي حاتم : يعني قبضها ورفعها ، مثل قوله «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» ، وقوله «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا».

وقال ابن جرير (٣) : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) ، ما ننقل من حكم آية إلى غيره ، فنبدله ونغيره ،

__________________

(١) في الطبري : رفاعة بن زيد بن السائب ، قال أبو جعفر : هذا خطأ ، إنما هو ابن التابوت ، ليس ابن السائب.

(٢) الحبلة (بالتحريك) : الأصل أو القضيب من شجر الأعناب.

(٣) تفسير الطبري ١ / ٥٢١.

٢٥٨

وذلك أن يحوّل الحلال حراما ، والحرام حلالا ، والمباح محظورا ، والمحظور مباحا ، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة ، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ ، وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها ، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيرها وسواء نسخ حكمها أو خطها ، إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة.

وأما علماء الأصول ، فاختلفت عباراتهم في حد النسخ والأمر في ذلك قريب ، لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولحظ بعضهم أن رفع الحكم بدليل شرعي متأخر. فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه والنسخ لا إلى بدل ، وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة ، في أصول الفقه.

وقال الطبراني : أخبرنا أبو سنبل (١) عبيد الله بن عبد الرحمن بن واقد ، أخبرنا أبي أخبرنا العباس بن الفضل ، عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه قال : قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكانا يقرآن بها ، فقاما ذات ليلة يصليان ، فلم يقدرا منها على حرف ، فأصبحا غاديين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكرا ذلك له ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنها مما نسخ وأنسي ، فالهوا عنها ، فكان الزهري يقرؤها : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) ، بضم النون الخفيفة ، سليمان بن الأرقم ضعيف. وقد روى أبو بكر بن الأنباري عن أبيه عن نصر بن داود عن أبي عبيد الله عن عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس وعقيل عن ابن شهاب عن أمامة بن سهل بن حنيف ، مثله مرفوعا ، ذكره القرطبي (٢).

وقوله تعالى : (أَوْ نُنْسِها) ، فقرىء على وجهين ، ننسأها وننسها ، فأما من قرأها بفتح النون والهمزة بعد السين فمعناه نؤخرها. قال علي ابن أبي طلحة : عن ابن عباس ، ما ننسخ من آية أو ننسأها ، يقول ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها ، وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود : أو ننسأها ، نثبت خطها ونبدل حكمها ، وقال عبد بن عمير ومجاهد وعطاء أو ننسأها ، نؤخرها ونرجئها. وقال عطية العوفي : أو ننسأها ، نؤخرها فلا ننسخها ، وقال السدي : مثله أيضا وكذا الربيع بن أنس ، وقال الضحاك : ما ننسخ من آية أو ننسأها ، يعني الناسخ والمنسوخ. وقال أبو العالية : ما ننسخ من آية أو ننسأها نؤخرها عندنا ، وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي ، أخبرنا خلف ، أخبرنا الخفاف ، عن إسماعيل يعني ابن أسلم ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : خطبنا عمر رضي الله عنه ، فقال : يقول الله عزوجل : ما ننسخ من آية أو ننسأها ، أي نؤخرها ، وأما على قراءة (أَوْ نُنْسِها) ، فقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) ، قال كان الله عزوجل:

__________________

(١) في المعجم الصغير للطبراني (١ / ٢٣٧) : «أبو شبل».

(٢) تفسير القرطبي ٢ / ٦٨.

٢٥٩

ينسي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يشاء ، وينسخ ما يشاء.

وقال ابن جرير (١) : أخبرنا سوار بن عبد الله ، أخبرنا خالد بن الحارث ، أخبرنا عوف ، عن الحسن أنه قال : في قوله : (أَوْ نُنْسِها) قال : إن نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قرأ علينا (٢) قرآنا ثم نسيه ، وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي أخبرنا ابن نفيل ، أخبرنا محمد بن الزبير الحراني ، عن الحجاج يعني الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان مما ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الوحي بالليل وينساه بالنهار ، فأنزل الله عزوجل : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) ، قال ابن أبي حاتم : قال لي أبو جعفر بن نفيل ، ليس هو الحجاج بن أرطأة هو شيخ لنا جزري ، وقال عبيد بن عمير : (أَوْ نُنْسِها) نرفعها من عندكم.

وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، أخبرنا هشيم ، عن يعلى بن عطاء عن القاسم بن ربيعة ، قال : سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) قال : قلت له فإن سعيد بن المسيب يقرأ (أَوْ نُنْسِها) قال : قال سعد : إن القرآن ، لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب ، قال : قال الله جل ثناؤه : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦] (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) [الكهف : ٢٤] ، وكذا رواه عبد الرزاق عن هشيم ، وأخرجه الحاكم في مستدركه ، من حديث أبي حاتم الرازي ، عن آدم عن شعبة عن يعلى بن عطاء به ، وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

قال ابن أبي حاتم وروى عن محمد بن كعب وقتادة وعكرمة نحو قول سعيد.

وقال الإمام أحمد : أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان الثوري : عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : قال عمر : علي أقضانا وأبي أقرأنا ، وإنا لندع من قول أبي ، وذلك أن أبيا يقول : ما أدع شيئا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله يقول : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها).

قال البخاري : أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : قال عمر : أقرؤنا أبيّ وأقضانا علي ، وإنا لندع من قول أبي ، وذلك أن أبيا يقول : لا أدع شيئا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد قال الله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها).

وقوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) ، أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) ويقول خير لكم في المنفعة وأرفق بكم.

وقال أبو العالية : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) فلا نعمل بها أو ننسأها ، أي نرجئها عندنا نأت بها أو نظيرها ، وقال السدي (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) يقول : نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٥٢٢.

(٢) في الطبري : «أقرىء قرآنا ثم نسيه».

٢٦٠