تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

أكذب ، فأبوا ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي بعلمهم بما عندهم من العلم بك والكفر بذلك [فيقال] (١) لو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات. وقال الضحاك عن ابن عباس : فتمنوا الموت فسلوا الموت. وقال عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة قوله : فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. قال : قال ابن عباس : لو تمنى يهود الموت ، لماتوا. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا عثام : سمعت الأعمش قال : لا أظنه إلا عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه ، وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس.

وقال ابن جرير (٢) في تفسيره : وبلغنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ، ولرأوا مقاعدهم من النار ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا» ، حدثنا (٣) بذلك أبو كريب ، حدثنا زكريا بن عدي ، حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقي ، حدثنا فرات عن عبد الكريم به. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن أحمد ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار ، حدثنا سرور بن المغيرة ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن ، قال : قول الله : ما كانوا ليتمنوه بما قدمت أيديهم ، قلت : أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم تمنوا الموت أتراهم كانوا ميتين؟ قال : لا والله ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت ، وما كانوا ليتمنوه ، وقد قال الله ما سمعت (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وهذا غريب عن الحسن. ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الآية ، هو المتعين وهو الدعاء على أي الفريقين أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة ، ونقله ابن جرير عن قتادة وأبي العالية والربيع بن أنس رحمهم‌الله تعالى.

ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة : ٦ : ٧ : ٨] فهم عليهم لعائن الله تعالى ، لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه ، قالوا : لن يدخل الجنة إلا من كانوا يهودا أو نصارى ، دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين ، لما نكلوا عن ذلك ، علم كل أحد أنهم ظالمون ، لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه ، لكانوا أقدموا على ذلك ، فلما تأخروا ، علم كذبهم

__________________

(١) الزيادة من سيرة ابن هشام ١ / ٥٤٢.

(٢) تفسير الطبري ١ / ٤٦٩.

(٣) هذا إسناد ابن جرير الطبري.

٢٢١

وهذا كما دعا رسول الله وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة ، فقال : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) [آل عمران : ٦١] فلما رأوا ذلك ، قال بعض القوم لبعض : والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف ، فعند ذلك جنحوا للسلم ، وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، فضربها عليهم ، وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح أمينا. ومثل هذا المعنى أو قريب منه قول الله تعالى لنبيه أن يقول للمشركين (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم : ٧٥] أي من كان في الضلالة منا ومنكم فزاده الله مما هو فيه ومد له واستدرجه ، كما سيأتي تقريره في موضعه ، إن شاء الله تعالى.

وأما من فسر الآية على معنى (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في دعواكم ، فتمنوا الآن الموت ، ولم يتعرض هؤلاء للمباهلة ، كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم ، ومال إليه ابن جرير بعد ما قارب القول الأول ، فإنه قال (١) : القول في تأويل قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ) الآية ، فهذه الآية مما احتج الله سبحانه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره ، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم وذلك أن الله تعالى أمر نبيه [أن يدعوهم] (٢) إلى قضية عادلة فيما كان بينه وبينهم من الخلاف ، كما أمره أن يدعو الفريق الآخر من النصارى إذ خالفوه في عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، وجادلوه فيه إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة ، فقال لفريق اليهود : إن كنتم محقين فتمنوا الموت ، فإن ذلك غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله لكم (٣) لكي يعطيكم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم ، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها والفوز بجوار الله في جناته إن كان الأمر كما تزعمون ، من أن الدار الآخرة لكم خاصة دوننا ، وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا ، وانكشف أمرنا وأمركم لهم ، فامتنعت اليهود من الإجابة إلى ذلك لعلمها ، أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها ، وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها ، كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عيسى إذ دعوا للمباهلة من (٤) المباهلة.

فهذا الكلام منه أوله حسن ، وآخره فيه نظر ، وذلك أنه لا تظهر الحجة عليهم على هذا التأويل ، إذ يقال : إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم ، أنهم يتمنون

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٤٦٨.

(٢) الزيادة من الطبري.

(٣) عبارة الطبري : «بل إن أعطيتم أمنيتكم ...».

(٤) أي : كما امتنع فريق النصارى من المباهلة.

٢٢٢

الموت ، فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت ، وكم من صالح لا يتمنى الموت ، بل يود أن يعمر ليزداد خيرا وترتفع درجته في الجنة ، كما جاء في الحديث «خيركم من طال عمره ، وحسن عمله» ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا : فها أنتم تعتقدون أيها المسلمون أنكم أصحاب الجنة وأنتم لا تتمنون في حال الصحة الموت ، فكيف تلزموننا بما لا يلزمكم؟ وهذا كله إنما نشأ من تفسير الآية على هذا المعنى ، فأما على تفسير ابن عباس : فلا يلزم عليه شيء من ذلك ، بل قيل لهم كلام نصف إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس ، وأنكم أبناء الله وأحباؤه ، وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم من أهل النار ، فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم ، واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة ، فلما تيقنوا ذلك وعرفوا صدقه ، نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق من صفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه ، فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وضلالهم وعنادهم ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. وسميت هذه المباهلة تمنيا ، لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له ، ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان حقه وظهوره ، وكانت المباهلة بالموت لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت ، ولهذا قال تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) أي على طول العمر لما يعلمون من مآلهم السيء ، وعاقبتهم عند الله الخاسرة ، لأن الدنيا سجن المؤمن ، وجنة الكافر ، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم. وما يحاذرون منه واقع بهم لا محالة حتى وهم أحرص من المشركين الذين لا كتاب لهم ، وهذا من باب عطف الخاص على العام.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا؟) قال : الأعاجم ، وكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث الثوري ، وقال : صحيح على شرطهما ، ولم يخرجاه. قال : وقد اتفقا على سند تفسير الصحابي ، وقال الحسن البصري : ولتجدنهم أحرص الناس على حياة. قال : المنافق أحرص الناس ، وأحرص من المشرك على حياة ، يود أحدهم أي يود أحد اليهود ، كما يدل عليه نظم السياق ، وقال أبو العالية : يود أحدهم ، أي أحد المجوس ، وهو يرجع إلى الأول لو يعمر ألف سنة. قال الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) قال : هو كقول الفارسي «ده هزار سال» يقول : عشرة آلاف سنة (١). وكذا روي عن سعيد بن جبير نفسه أيضا ، وقال ابن

__________________

(١) في الدرّ المنثور (١ / ١٧٣) والطبري (١ / ٤٧٤) : «هو قول الأعاجم إذا عطس أحدهم : زه هزار سال ، يعني ألفا سنة».

٢٢٣

جرير (١) : حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق : سمعت أبي يقول : حدثنا أبو حمزة ، عن الأعمش عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) قال هو قول الأعاجم هزار سال نوروز مهرجان (٢) وقال مجاهد (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) قال : حببت إليهم الخطيئة طول العمر ، وقال مجاهد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) أي وما هو بمنجيه من العذاب ، وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت ، فهو يحب طول الحياة ، وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي ، بما ضيع ما عنده من العلم ، وقال عوفي عن ابن عباس (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) قال : هم الذين عادوا جبرائيل ، قال أبو العالية وابن عمر : فما ذاك بمغيثه من العذاب ، ولا منجيه منه. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية : يهود أحرص على الحياة من هؤلاء ، وقد ودّ هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة ، وليس بمزحزحه من العذاب لو عمر كما أن عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافرا ، (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي خبير بصير بما يعمل عباده من خير وشر ، وسيجازي كل عامل بعمله.

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) (٩٨)

قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري (٣) رحمه‌الله : أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل ، إذ زعموا أن جبريل عدوّ لهم ، وأن ميكائيل ولي لهم ، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك ، فقال بعضهم : إنما كان سبب قيلهم ذلك ، من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر نبوته. (ذكر من قال ذلك) (٤) حدثنا أبو كريب ، حدثنا يونس بن بكير عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس ، أنه قال : حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، حدثنا عن خلال نسألك ، عنهن لا يعلمهن إلا نبي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سلوا عما شئتم ، ولكن اجعلوا لي

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٣٧٢ ؛ طبعة دار المعارف بتحقيق محمود محمد شاكر)

(٢) في الطبري : «هو قول الأعاجم : سال زه نوروز مهرجان حر» قال الأستاذ شاكر في تعليقه : سألت أحد أصحابنا ممن يعرف الفارسية فقال : إن هذا النص لا ينطبق على قواعد الفارسية ، وأنه يظن أن صوابها «زه در مهرجان نوروز هزار سال». ومعنى «زه» : عش. و «در» ظرف معنى «في». ومهرجان هو عيد لهم. ونيروز : عيد آخر في أول السنة. «وهزار» : ألف. وسال : سنة. فكأن «حر» التي في آخر الكلام في نص الطبري هي «در» مصحفة. وباقي النصوص الفارسية صحيح ، ومعناه : عش ألف سنة.

(٣) تفسير الطبري ١ / ٤٧٦.

(٤) هذه عبارة الطبري.

٢٢٤

ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا حدثتكم عن شيء فعرفتموه لتتابعنني على الإسلام» فقالوا : ذلك لك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سلوا عما شئتم» قالوا : أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن ، أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل ، وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في التوراة (١) ، ومن وليه من الملائكة؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعنني؟» فأعطوه ما شاء الله (٢) من عهد وميثاق ، فقال : «نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا ، فطال سقمه منه ، فنذر لله نذرا لئن عافاه الله من مرضه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام إليه : لحوم الإبل ، وأحب الشراب إليه ألبانها» فقالوا : اللهم نعم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اشهد عليهم ، وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض ، وأن ماء المرأة رقيق أصفر ، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله عزوجل ، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله ، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله عزوجل» قالوا : اللهم نعم ، «قال اللهم اشهد ، وأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه»؟ قالوا : اللهم نعم ، قال : «اللهم اشهد» ، قالوا : أنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة ، فعندها نجامعك (٣) أو نفارقك ، قال : «فإن وليي جبريل ، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه» قالوا : فعندها نفارقك ، ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك ، قال : «فما يمنعكم أن تصدقوه»؟ قالوا : إنه عدونا ، فأنزل الله عزوجل : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) ـ إلى قوله ـ (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) فعندها باؤوا بغضب على غضب.

وقد رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي النضر هاشم بن القاسم وعبد الرحمن بن حميد في تفسيره عن أحمد بن يونس كلاهما عن عبد الحميد بن بهرام به. ورواه أحمد أيضا عن الحسين بن محمد المروزي عن عبد الحميد بنحوه وقد رواه محمد بن إسحاق بن يسار ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين ، عن شهر بن حوشب ، فذكره مرسلا وزاد فيه ، قالوا فأخبرنا عن الروح ، قال : «فأنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه جبريل وهو الذي يأتيني» قالوا : اللهم نعم ، ولكنه عدو لنا ، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء ، فلو لا ذلك اتبعناك ، فأنزل الله تعالى فيهم : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) ـ إلى قوله ـ (لا يَعْلَمُونَ) وقال

__________________

(١) في الطبري : «في النوم» مكان «في التوراة».

(٢) لفظ «الله» غير موجود في الطبري.

(٣) في الطبري «نتابعك».

٢٢٥

الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو أحمد ، حدثنا عبد الله بن الوليد العجلي عن بكير بن شهاب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : أقبلت يهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، أخبرنا عن خمسة أشياء ، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك ، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال : والله على ما نقول وكيل ، قال «هاتوا» قالوا : فأخبرنا عن علامة النبي؟ قال: «تنام عيناه ولا ينام قلبه» قالوا : أخبرنا كيف تؤنث المرأة؟ وكيف يذكر الرجل؟ قال : «يلتقي الماءان ، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت ، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت» قالوا : أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال : «وكان يشتكي عرق النسا ، فلم يجد شيئا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا» قال أحمد : قال بعضهم : يعني الإبل فحرم لحومها ، قالوا : صدقت ، قالوا : أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال : «ملك من ملائكة الله عزوجل موكل بالسحاب بيديه أو في يديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله تعالى» قالوا : فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال : «صوته» قالوا : صدقت ، قالوا : إنما بقيت واحدة ، وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها ، أنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخبر ، فأخبرنا من صاحبك؟ قال : «جبريل عليه‌السلام» قالوا : جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) إلى آخر الآية. ورواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن الوليد به ، وقال الترمذي : حسن غريب وقال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج : أخبرني القاسم بن أبي بزة أن يهودا سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي ، قال : «جبريل» قالوا : فإنه عدو لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال ، فنزلت : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) الآية.

قال ابن جرير (٢) : قال مجاهد : قالت يهود : يا محمد ما نزل جبريل إلا بشدة وحرب وقتال فإنه لنا عدو ، فنزل : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) الآية. قال البخاري (٣) : قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) قال عكرمة : جبرا وميكا وإسراف : عبد. إيل : الله ، حدثنا عبد الله بن منير سمع عبد الله بن بكر ، حدثنا حميد عن أنس بن مالك ، قال : سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في أرض يخترف (٤) فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام أهل الجنة ، وما ينزع الوالد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال : «أخبرني بهذه (٥) جبرائيل آنفا» قال : جبريل؟ قال : «نعم» قال : ذاك عدو اليهود من

__________________

(١) المسند (ج ١ ص ٢٧٤)

(٢) تفسير الطبري ١ / ٤٧٨.

(٣) صحيح البخاري (تفسير سورة البقرة باب ٣)

(٤) اخترف في أرضه أو بستانه : أقام وقت اجتناء التمر في الخريف.

(٥) في البخاري «بهنّ».

٢٢٦

الملائكة ، فقرأ هذه الآية : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) «وأما أول أشراط الساعة ، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة ، فزيادة كبد الحوت ، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة ، نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت» قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. يا رسول الله ، إن اليهود قوم بهت (١) ، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني ، فجاءت اليهود ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟» قالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا ، قال : «أرأيتم إن أسلم» قالوا : أعاذه الله من ذلك ، فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله. قالوا : هو شرنا وابن شرنا وانتقضوه ، فقال : هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله ـ انفرد به البخاري من هذا الوجه. وقد أخرجه من وجه آخر عن أنس بنحوه ، وفي صحيح مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريب من هذا السياق كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

وحكاية البخاري كما تقدم عن عكرمة هو المشهور أن إيل هو الله ، وقد رواه سفيان الثوري عن خصيف ، عن عكرمة ، ورواه عبد بن حميد عن إبراهيم بن الحكم ، عن أبيه ، عن عكرمة ، ورواه ابن جرير عن الحسين بن يزيد الطحان عن إسحاق بن منصور عن قيس بن عاصم عن عكرمة أنه قال : إن جبريل اسمه عبد الله ، وميكائيل اسمه عبد الله ، إيل : الله ، ورواه يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس مثله سواء ، وكذا قال غير واحد من السلف كما سيأتي قريبا ، ومن الناس من يقول : إيل عبارة عن عبد ، والكلمة الأخرى هي اسم الله ، لأن كلمة إيل لا تتغير في الجميع فوزانه عبد الله عبد الرحمن عبد الملك عبد القدوس عبد السلام عبد الكافي عبد الجليل ، فعبد موجودة في هذا كله ، واختلفت الأسماء المضاف إليها ، وكذلك جبرائيل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل ونحو ذلك ، وفي كلام غير العرب يقدمون المضاف إليه على المضاف ، والله أعلم.

ثم قال ابن جرير (٢) ، وقال آخرون : بل كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(ذكر من قال ذلك) حدثني محمد بن المثنى ، حدثني ربعي بن علية ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، قال : نزل عمر الروحاء ، فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها ، فقال : ما بال هؤلاء؟ قالوا يزعمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى هاهنا ، قال : فكره ذلك ، وقال إنما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدركته الصلاة بواد فصلّى ، ثم ارتحل فتركه ، ثم أنشأ يحدثهم ، فقال : كنت أشهد اليهود يوم مدارسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق القرآن ومن القرآن كيف يصدق التوراة ، فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا : يا ابن الخطاب ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك قلت ولم ذلك؟

__________________

(١) أي موصوفون بالبهتان ، وهو الكذب.

(٢) تفسير الطبري ١ / ٤٧٨.

٢٢٧

قالوا : لأنك تغشانا وتأتينا ، فقلت : إني آتيكم فأعجب من القرآن كيف يصدق التوراة ومن التوراة كيف تصدق القرآن ، قال : ومر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا ابن الخطاب ، ذاك صاحبكم فالحق به ، قال : فقلت لهم عند ذلك : نشدتكم بالله الذي لا إله إلا هو ، وما استرعاكم من حقه ، وما استودعكم من كتابه ، هل تعلمون أنه رسول الله؟ قال : فسكتوا ، فقال عالمهم وكبيرهم : إنه قد عظم عليكم فأجيبوه ، قالوا : فأنت عالمنا وكبيرنا فأجبه أنت ، قال : أما إذا نشدتنا بما نشدتنا ، فإنا نعلم أنه رسول الله ، قلت : ويحكم إذا هلكتم ، قالوا : إنا لم نهلك ، قلت : كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ولا تتبعونه ولا تصدقونه؟ قالوا : إن لنا عدوا من الملائكة وسلما من الملائكة ، وأنه قرن بنبوته عدونا من الملائكة ، قلت : ومن عدوكم ، ومن سلمكم؟ قالوا : عدونا جبريل ، وسلمنا ميكائيل ، قالوا : إن جبرائيل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا ، وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة والتخفيف ونحو هذا ، قال : قلت : وما منزلتهما من ربهما عزوجل؟ قالوا : أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، قال : فقلت : فو الذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما ، وسلّم لمن سالمهما ، وما ينبغي لجبرائيل أن يسالم عدو ميكائيل ، وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبرائيل ، قال : ثم قمت فأتبعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلحقته وهو خارج من خوخة (١) لبني فلان ، فقال : «يا ابن الخطاب ألا أقرئك آيات نزلن قبل» فقرأ عليّ (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) حتى قرأ الآيات ، قال : قلت : بأبي وأمي أنت يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق لقد جئت أنا أريد أن أخبرك وأنا أسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة عن مجالد ، أنبأنا عامر ، قال : انطلق عمر بن الخطاب إلى اليهود ، فقال : أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمدا في كتبكم؟ قالوا : نعم ، قال : فما يمنعكم أن تتبعوه؟ قال : إن الله لم يبعث رسولا إلا جعل له من الملائكة كفلا وإن جبرائيل كفل محمدا وهو الذي يأتيه ، وهو عدونا من الملائكة ، وميكائيل سلمنا لو كان ميكائيل الذي يأتيه أسلمنا ، قال : فإني أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما منزلتهما عند الله تعالى؟ قالوا : جبريل عن يمينه ، وميكائيل عن شماله ، قال عمر : وإني أشهد ما ينزلان إلا بإذن الله ، وما كان ميكائيل ليسالم عدو جبرائيل ، وما كان جبرائيل ليسالم عدو ميكائيل ، فبينما هو عندهم إذ مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : هذا صاحبك يا ابن الخطاب ، فقام إليه عمر فأتاه ، وقد أنزل الله عزوجل : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) وهذان الإسنادان يدلان على أن الشعبي حدث به عن عمر ، ولكن فيه انقطاع بينه وبين عمر فإنه لم يدرك زمانه ، والله أعلم.

__________________

(١) في الطبري : مخرفة لبني فلان». والمخرفة : البستان. والخوخة : باب صغير وسط باب كبير نصب حاجزا بين دارين ، ومخترق ما بين كل دارين.

٢٢٨

وقال ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود ، فلما انصرف ورحبوا به ، فقال لهم عمر : وأما والله ما جئتكم لحبكم ولا لرغبة فيكم ، ولكن جئت لأسمع منكم ، فسألهم وسألوه ، فقالوا : من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم : جبرائيل ، فقالوا : ذاك عدونا من أهل السماء يطلع محمدا على سرنا ، وإذا جاء جاء بالحرب والسنة ، ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل ، وكان إذا جاء جاء بالخصب والسلم ، فقال لهم عمر : هل تعرفون جبرائيل ، وتنكرون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليحدثه حديثهم ، فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) الآيات.

ثم قال (١) : حدثني المثنى ، حدثنا آدم ، حدثنا أبو جعفر ، حدثنا قتادة ، قال : بلغنا أن عمر أقبل إلى اليهود يوما فذكر نحوه. وهذا في تفسير آدم وهو أيضا منقطع. وكذلك رواه أسباط عن السدي عن عمر مثل هذا أو نحوه ، وهو منقطع أيضا. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا عبد الرحمن يعني الدشتكي ، حدثنا أبو جعفر عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن وهو عبد الرحمن بن أبي ليلى : أن يهوديا لقي عمر بن الخطاب ، فقال : إن جبرائيل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا ، فقال عمر (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) قال : فنزلت على لسان عمر رضي الله عنه. ورواه عبد بن حميد عن أبي النضر هاشم بن القاسم ، عن أبي جعفر هو الرازي. وقال ابن جرير (٢) : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثني هشيم ، أخبرنا حصين بن عبد الرحمن ، عن ابن أبي ليلى في قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) قال : قالت اليهود للمسلمين : لو أن ميكائيل كان هو الذي ينزل عليكم لتبعناكم ، فإنه ينزل بالرحمة والغيث ، وإن جبرائيل ينزل بالعذاب والنقمة ، فإنه عدو لنا ، قال : فنزلت هذه الآية. حدثنا يعقوب ، أخبرنا هشيم ، أخبرنا عبد الملك عن عطاء بنحوه. وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) قال : قالت اليهود : إن جبرائيل عدو لنا. لأنه ينزل بالشدة والسنة ، وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب ، فجبرائيل عدو لنا. فقال الله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) الآية.

وأما تفسير الآية فقوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) ، أي من عادى جبرائيل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك ، فهو رسول من رسل الله ملكي ، ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل ، كما أن من آمن برسول يلزمه الإيمان بجميع الرسل ، وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ

__________________

(١) أي الطبري. وهذا الحديث والذي قبله في تفسير الطبري ١ / ٤٧٩.

(٢) تفسير الطبري ١ / ٤٨.

٢٢٩

وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) [النساء : ١٥٠ ـ ١٥١] ، فحكم عليهم بالكفر المحقق إذا آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم ، وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدو لله ، لأن جبرائيل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه وإنما ينزل بأمر ربه ، كما قال : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم : ٦٤] ، وقال تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء : ١٩٢ ـ ١٩٣ ـ ١٩٤] ، وقد روى البخاري (١) في صحيحه عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب» ولهذا غضب الله لجبرائيل على من عاداه ، فقال تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي من الكتب المتقدمة : (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة ، وليس ذلك إلا للمؤمنين ، كما قال تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) [فصلت : ٤٤] : وقال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ٨٢].

ثم قال تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) يقول تعالى : من عاداني وملائكتي ورسلي ، ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر ، كما قال تعالى (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) [الحج : ٧٥]. (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) وهذا من باب عطف الخاص على العام ، فإنهما دخلا في الملائكة في عموم الرسل ، ثم خصصا بالذكر لأن السياق في الانتصار لجبرائيل ، وهو السفير بين الله وأنبيائه ، وقرن معه ميكائيل في اللفظ ، لأن اليهود زعموا أن جبرائيل عدوهم ، وميكائيل وليهم ، فأعلمهم الله تعالى أن من عادى واحدا منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضا ، ولأنه أيضا ينزل على أنبياء الله بعض الأحيان ، كما قرن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ابتداء الأمر ، ولكن جبرائيل أكثر وهي وظيفته وميكائيل موكل بالنبات والقطر ، هذا بالهدى وهذا بالرزق ، كما أن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة ، ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قام من الليل يقول : «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» وقد تقدم ما حكاه البخاري ، ورواه ابن جرير عن عكرمة وغيره أنه قال ، جبر ، وميك ، وإسراف : عبيد ، وإيل : الله ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن أبي رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، قال : إنما كان قوله جبرائيل كقوله عبد الله وعبد الرحمن وقيل جبر : عبد ، وإيل : الله. وقال محمد بن إسحاق عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، قال : أتدرون ما اسم جبرائيل من أسمائكم؟ قلنا : لا ، قال : اسمه عبد الله ، وكل اسم مرجعه إلى إيل فهو إلى الله عز

__________________

(١) صحيح البخاري (رقاق باب ٣٨)

٢٣٠

وجل. قال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة ومجاهد والضحاك ويحيى بن يعمر ، نحو ذلك. ثم قال: حدثني أبي حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثني عبد العزيز بن عمير قال : اسم جبرائيل في الملائكة خادم الله ، قال : فحدثت به أبا سليمان الداراني فانتفض ، وقال : لهذا الحديث أحب إلى من كل شيء في دفتر كان بين يديه. وفي جبرائيل وميكائيل لغات وقراءات (١) تذكر في كتب اللغة والقراءات ، ولم نطول كتابنا هذا بسرد ذلك إلا أن يدور فهم المعنى عليه ، أو يرجع الحكم في ذلك إليه ، وبالله الثقة وهو المستعان.

وقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) فيه إيقاع المظهر مكان المضمر حيث لم يقل : فإنه عدو ، بل قال : (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) كما قال الشاعر : [الخفيف]

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (٢)

وقال الآخر : [الكامل]

ليت الغراب غداة ينعب دائبا

كان الغراب مقطع الأوداج (٣)

وإنما أظهر لله هذا الاسم هاهنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره ، وإعلامهم أن من عادى وليا لله فقد عادى الله ، ومن عادى الله فإن الله عدو له ، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة ، كما تقدم الحديث «من عادى لي وليا فقد آذنته بالمحاربة» وفي الحديث الأخر «إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب» وفي الحديث الصحيح «من كنت خصمه خصمته».

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ

__________________

(١) انظر تفسير القرطبي ٢ / ٣٧ ـ ٣٨ ؛ وتفسير الرازي ٣ / ١٧٧ ـ ١٨١.

(٢) البيت لعدي بن زيد في ديوانه ص ٦٥ ؛ والأشباه وللنظائر ٨ / ٣٠ ؛ وخزانة الأدب ١ / ٣٧٨ ؛ وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٣٦ ؛ ولسوادة بن عدي في شرح أبيات سيبويه ١ / ١٢٧ ؛ وشرح شواهد المغني ٢ / ١٧٦ ؛ والكتاب ١ / ٦٢.

(٣) البيت بلا نسبة أيضا في الطبري ١ / ٤٨٥. وهو لجرير في ديوانه ص ٨٩ ؛ وأمالي ابن الشجري ١ / ٢٤٣.

٢٣١

وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١٠٣)

قال الإمام أبو جعفر بن جرير (١) في قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) الآية ، أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات ، دالات على نبوتك ، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود ، ومكنونات سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل ، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم وما حرّفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة فأطلع الله في كتابه الذي أنزل على نبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف نفسه ولم يدعها إلى هلاكها الحسد والبغي ، إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات البينات التي وصف من غير تعلم تعلمه من بشر ، ولا أخذ شيئا منه عن آدمي ، كما قال الضحاك عن ابن عباس (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) يقول : فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك ، وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتابا ، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه ، يقول الله تعالى : في ذلك عبرة وبيان [لهم] (٢) ، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون.

وقال محمد بن إسحاق (٣) : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال ابن صوريا الفطيوني لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد ، ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك ، فأنزل الله في ذلك من قوله (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ).

وقال مالك بن الصيف (٤) حين بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكر لهم ما أخذ عليهم له من الميثاق وما عهد إليهم في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والله ما عهد إلينا في محمد عهد ، وما أخذ علينا ميثاقا (٥) ، فأنزل الله تعالى (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ).

وقال الحسن البصري : في قوله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) قال : نعم ، ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه ، يعاهدون اليوم وينقضون غدا. وقال السدي : لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال قتادة : نبذه فريق منهم ، أي نقضه فريق منهم. وقال ابن جرير : أصل النبذ الطرح والإلقاء ، ومنه سمي اللقيط منبوذا ، ومنه سمي النبيذ ، وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء ، قال أبو الأسود الدؤلي : [الطويل]

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٤٨٥.

(٢) زيادة من الطبري.

(٣) سيرة ابن هشام ١ / ٥٤٨ ؛ وتفسير الطبري ١ / ٤٨٥.

(٤) سيرة ابن هشام ١ / ٥٤٧.

(٥) في السيرة : «وما أخذ له علينا من ميثاق».

٢٣٢

نظرت إلى عنوانه فنبذته

كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا (١)

قلت : فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها ، ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة الذي في كتبهم نعته وصفته وأخباره ، وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ونصرته ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧] ، وقال هاهنا (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) الآية ، أي طرح طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم مما فيه البشارة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وراء ظهورهم ، أي تركوها كأنهم لا يعلمون ما فيها ، وأقبلوا على تعلم السحر واتباعه ، ولهذا أرادوا كيدا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسحروه في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر تحت راعوفة ببئر أروان (٢) ، وكان الذي تولى ذلك منهم رجل يقال له : لبيد بن الأعصم لعنه الله وقبحه ، فأطلع الله على ذلك رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشفاه منه وأنقذه ، كما ثبت ذلك مبسوطا في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، كما سيأتي بيانه.

قال السدي (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) قال : لما جاءهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عارضوه بالتوراة ، فخاصموه بها ، فاتفقت التوراة والقرآن ، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف ، وسحر هاروت وماروت ، فلم يوافق القرآن فذلك قوله (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ). وقال قتادة في قوله (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) قال : إن القوم كانوا يعلمون ، ولكنهم نبذوا علمهم وكتموه وجحدوا به.

وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) الآية ، وكان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئات من الجن والإنس واتبعوا الشهوات ، فلما أرجع الله إلى سليمان ملكه ، وقام الناس على الدين كما كان ، وأن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه ، وتوفي سليمان عليه‌السلام حدثان ذلك ، فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان وقالوا : هذا كتاب من الله نزل على سليمان فأخفاه عنا ، فأخذوا به فجعلوه دينا ، فأنزل الله تعالى (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) الآية واتبعوا الشهوات التي كانت تتلوا الشياطين ، وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان آصف كاتب سليمان ، وكان يعلم الاسم الأعظم ، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه ، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين ، فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا ، وقالوا : هذا الذي كان سليمان يعمل به. قال : فأكفره جهال

__________________

(١) البيت لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص ١٠٦ ؛ وتاج العروس (عنن) ؛ والطبري ١ / ٤٨٨.

(٢) أروان : اسم بئر بالمدينة. وقد جاء فيه «ذروان» و «ذو أروان». والمشاقة : الشعر الذي يسقط في الرأس واللحية عند التسريح بالمشط. وجفّ الطلع : الغشاء الذي يكون فوقه. والراعوثة : صخرة تترك في أسفل البئر إذا حفرت ، تكون ناتئة ؛ فإذا أرادوا تنقية البئر جلس المنقّي عليها.

٢٣٣

الناس وسبوه ، ووقف علماء الناس ، فلم يزل جهال الناس يسبونه حتى أنزل الله على محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا).

وقال ابن جرير (١) : حدثني أبو السائب سلّم بن جنادة السوائي ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان سليمان عليه‌السلام إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من نسائه ، أعطى الجرادة وهي امرأة خاتمه ، فلما أراد الله أن يبتلي سليمان عليه‌السلام بالذي ابتلاه به ، أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه ، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال : هاتي خاتمي ، فأخذه ولبسه ، فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال : فجاءها سليمان ، فقال لها : هاتي خاتمي ، فقالت : كذبت لست سليمان ، قال : فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال : فانطلقت الشياطين ، فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر ، فدفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أخرجوها وقرءوها على الناس وقالوا : إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب ، قال فبرئ الناس من سليمان وأكفروه حتى بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل عليه (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا).

ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عمران وهو ابن الحارث ، قال : بينا نحن عند ابن عباس رضي الله عنهما ، إذ جاء رجل فقال له [ابن عباس] (٢) : من أين جئت؟ قال : من العراق ، قال : من أيه؟ قال : من الكوفة ، قال : فما الخبر؟ قال : تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم ؛ ففزع ثم قال : ما تقول لا أبا لك؟ لو شعرنا ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه ، أما إني سأحدثكم عن ذلك ، إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها ، فإذا جرّب منه وصدق ، كذب معها سبعين كذبة ، قال : فتشربها قلوب الناس قال : فأطلع الله عليها سليمان عليه‌السلام ، فدفنها تحت كرسيه ، فلما توفي سليمان عليه‌السلام ، قام شيطان الطريق (٣) ، فقال : هل أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز له مثله؟ تحت الكرسي. فأخرجوه ، فقالوا : هذا سحر ، فتناسخها الأمم حتى بقاياها ما يتحدث به أهل العراق ، فأنزل الله عزوجل (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) الآية ، وروى الحاكم في مستدركه عن أبي زكريا العنبري ، عن محمد بن عبد السلام عن إسحاق بن إبراهيم عن جرير به.

وقال السدي في قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أي على عهد سليمان ، قال : كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع ، فيستمعون من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر ، فيأتون الكهنة فيخبرونهم ، فتحدث

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٤٩٤.

(٢) زيادة في الطبري.

(٣) في الطبري : قام شيطان بالطريق.

٢٣٤

الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا ، فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره ، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة ، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب ، وفشى ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب ، فبعث سليمان في الناس ، فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ، ثم دفنها تحت كرسيه ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق ، وقال : لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه ، فلما مات سليمان ، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ، وخلف من بعد ذلك خلف ، تمثل الشيطان في صورة إنسان ثم أتى نفرا من بني إسرائيل فقال لهم : هل أدلكم على كنز لا تأكلونه (١) أبدا؟ قالوا : نعم ، قال : فاحفروا تحت الكرسي ، فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته ، فقالوا له : فادن ، فقال : لا ولكنني هاهنا في أيديكم ، فإن لم تجدوه فاقتلوني ، فحفروا فوجدوا تلك الكتب ، فلما أخرجوها قال الشيطان : إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر ، ثم طار وذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا ، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب ، فلما جاء محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصموه بها فذلك حين يقول الله تعالى (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا).

وقال الربيع بن أنس (٢) : إن اليهود سألوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم زمانا عن أمور من التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله سبحانه وتعالى ما سألوه عنه ، فيخصمهم به فلما رأوا ذلك قالوا : هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا. وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به ، فأنزل الله عزوجل (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك ، فدفنوه تحت كرسي مجلس سليمان وكان عليه‌السلام لا يعلم الغيب ، فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس وقالوا : هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه ، فأخبرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد أدحض الله حجتهم.

وقال مجاهد (٣) في قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) قال: كانت الشياطين تستمع الوحي فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها ، فأرسل سليمان عليه‌السلام إلى ما كتبوا من ذلك ، فلما توفي سليمان وجدته الشياطين وعلمته الناس وهو السحر.

وقال سعيد بن جبير (٤) : كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه فدنت إلى الإنس فقالوا لهم

__________________

(١) أي لا ينفد أبدا.

(٢) هذا الأثر والذي قبله وردا في الطبري ١ / ٤٩٠.

(٣) الطبري ١ / ٤٩٢.

(٤) الطبري ١ / ٤٩٤.

٢٣٥

أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا : نعم ، قالوا : فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه فاستشار به الإنس واستخرجوه وعملوا بها ، فقال أهل الحجاز : كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر فأنزل الله تعالى على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم براءة سليمان عليه‌السلام فقال تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا)

وقال محمد بن إسحاق بن يسار : عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داودعليه‌السلام ، فكتبوا أصناف السحر ، من كان يحب أن يبلغ كذا فليفعل كذا وكذا حتى إذا صنفوا أصناف السحر ، جعلوه في كتاب ثم ختموه بخاتم على نقش خاتم سليمان وكتبوا في عنوانه : هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم. ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا فلما عثروا عليه قالوا : والله ما كان ملك سليمان إلا بهذا ، فأفشوا السحر في الناس فتعلموه وعلموه ، فليس هو في أحد أكثر منه في اليهود لعنهم الله ، فلما ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما نزل عليه من الله سليمان بن داود وعده فيمن عد من المرسلين ، قال من كان بالمدينة من اليهود : ألا تعجبون من محمد يزعم أن ابن داود كان نبيا والله ما كان إلا ساحرا. وأنزل الله في ذلك من قولهم (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) الآية.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا القاسم : حدثنا حسين حدثنا الحجاج عن أبي بكر عن شهر بن حوشب ، قال : لما سلب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان ، فكتبت من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا ، ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا ، فكتبته وجعلت عنوانه : هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود عليهما‌السلام من ذخائر كنوز العلم ثم دفنه تحت كرسيه ، فلما مات سليمانعليه‌السلام ، قام إبليس لعنه الله خطيبا فقال : يا أيها الناس إن سليمان لم يكن نبيا إنما كان ساحرا فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته ، ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه ، فقالوا : والله لقد كان سليمان ساحرا هذا سحره بهذا تعبدنا وبهذا قهرنا ، فقال المؤمنون : بل كان نبيا مؤمنا ، فلما بعث الله النبي محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر داود وسليمان فقالت اليهود : انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل ، يذكر سليمان مع الأنبياء إنما كان ساحرا يركب الريح ، فأنزل الله تعالى (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) الآية.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران بن حدير عن أبي مجلز قال : أخذ سليمان عليه‌السلام من كل دابة عهدا فإذا

__________________

(١) الطبري ١ / ٤٩٥ ـ ٤٩٦.

٢٣٦

أصيب رجل فسأل بذلك العهد خلي عنه ، فزاد الناس السجع والسحر ، فقالوا : هذا يعمل به سليمان بن داود عليهما‌السلام ، فقال الله تعالى : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عصام بن رواد حدثنا آدم حدثنا المسعودي عن زياد مولى ابن مصعب عن الحسن (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) قال : ثلث الشعر وثلث السحر وثلث الكهانة ، وقال : حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار الواسطي حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) وتبعته اليهود على ملكه وكان السحر قبل ذلك في الأرض لم يزل بها ، ولكنه إنما اتبع على ملك سليمان. فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام ، ولا يخفى ملخص القصة والجمع بين أطرافها وأنه لا تعارض بين السياقات على اللبيب الفهم ، والله الهادي.

وقوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أي واتبعت اليهود الذين أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ، ومخالفتهم لرسول الله محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما تتلوه الشياطين ، أي ما ترويه وتخبر به وتحدثه الشياطين على ملك سليمان ، وعداه بعلى لأنه ضمن تتلو : تكذب ، وقال ابن جرير «على» هاهنا بمعنى في ، أي تتلوا في ملك سليمان ، ونقله عن ابن جريج وابن إسحاق.

(قلت) والتضمين أحسن وأولى ، والله أعلم. وقول الحسن البصري رحمه‌الله : وكان السحر قبل زمان سليمان بن داود ـ صحيح لا شك فيه ، لأن السحرة كانوا في زمان موسى عليه‌السلام وسليمان بن داود بعده ، كما قال تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) [البقرة : ٢٤٦] ، ثم ذكر القصة بعدها وفيها (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) [البقرة : ٢٥١] وقال قوم صالح وهم قبل إبراهيم الخليل عليه‌السلام لنبيهم صالح إنما (أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) [الشعراء : ١٥٣] أي المسحورين على المشهور.

وقوله تعالى (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) اختلف الناس في هذا المقام ، فذهب بعضهم إلى أن «ما» نافية أعني التي في قوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) قال القرطبي (١) : ما نافية ومعطوف على قوله (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) ثم قال (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم الله وجعل قوله (هارُوتَ وَمارُوتَ) بدلا من الشياطين ، قال : وصح ذلك إما لأن الجمع يطلق على الاثنين كما في قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) [النساء : ١١] أو لكونهما

__________________

(١) تفسير القرطبي ٢ / ٥٠.

٢٣٧

لهما أتباع أو ذكرا من بينهم لتمردهما تقدير الكلام عنده يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت. ثم قال : وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت إلى ما سواه.

وروى ابن جرير (١) بإسناده من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ) الآية ، يقول لم ينزل الله السحر وبإسناده عن الربيع بن أنس في قوله (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) قال : ما أنزل الله عليهما السحر. قال ابن جرير فتأويل الآية على هذا (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) من السحر وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ، فيكون قوله ببابل هاروت وماروت من المؤخر الذي معناه المقدم قال : فإن قال لنا قائل : كيف وجه تقديم ذلك؟ قيل وجه تقديمه أن يقال (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) من السحر وما كفر سليمان وما أنزل الله السحر على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ، فيكون معنيا بالملكين جبريل وميكائيل عليهما‌السلام ، لأن سحرة اليهود فيما ذكرت كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود فأكذبهم الله بذلك ، أخبر نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر وبرأ سليمان عليه‌السلام مما نحلوه من السحر ، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين وأنها تعلم الناس ذلك ببابل ، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان : اسم أحدهما هاروت ، واسم الآخر ماروت ، فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس وردا عليهم. هذا لفظه بحروفه.

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثت عن عبيد الله بن موسى ، أخبرنا فضيل بن مرزوق عن عطية (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) قال : ما أنزل الله على جبريل وميكائيل السحر ، قال ابن أبي حاتم : وأخبرنا الفضل بن شاذان ، أخبرنا محمد بن عيسى ، أخبرنا يعلى يعني ابن أسد ، أخبرنا بكر يعني ابن مصعب ، أخبرنا الحسن بن أبي جعفر : أن عبد الرحمن بن أبزى كان يقرؤها «وما أنزل على الملكين داود وسليمان» وقال أبو العالية : لم ينزل عليهما السحر ، يقول : علما بالإيمان والكفر ، فالسحر من الكفر ، فهما ينهيان عنه أشد النهي ، رواه ابن أبي حاتم. ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول ، وأن ما بمعنى الذي ، وأطال القول في ذلك وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض وأذن لهما في تعليم السحر اختبارا لعباده وامتحانا بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل ، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك ، لأنهما امتثلا ما أمرا به ، وهذا الذي سلكه غريب جدا ، وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن ، كما زعمه ابن حزم.

وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقرؤها (وَما أُنْزِلَ عَلَى

__________________

(١) الطبري ١ / ٤٩٧.

٢٣٨

الْمَلَكَيْنِ) ويقول : هما علجان من أهل بابل ، ووجه أصحاب هذا القول الإنزال بمعنى الخلق لا بمعنى الإيحاء كما في قوله تعالى (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) كما قال تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦] (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) [الحديد : ٢٥] ، (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) [غافر : ١٣] وفي الحديث «ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء» وكما يقال «أنزل الله الخير والشر».

وحكى القرطبي (١) عن ابن عباس وابن أبزى والحسن البصري أنهم قرءوا (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) بكسر اللام ، قال ابن أبزى : وهما داود وسليمان ، قال القرطبي : فعلى هذا تكون ما نافية أيضا. وذهب آخرون إلى الوقف على قوله (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) وما نافية. قال ابن جرير (٢) : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا الليث عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد وسأله رجل عن قول الله (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) فقال : الرجلان يعلمان الناس ما أنزل عليهما ويعلمان الناس ما لم ينزل عليهما ، فقال القاسم : ما أبالي أيتهما كانت. ثم روى عن يونس عن أنس بن عياض عن بعض أصحابه أن القاسم قال في هذه القصة : لا أبالي أي ذلك كان (٣) ، إني آمنت به. وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء ، وأنهما أنزلا إلى الأرض ، فكان من أمرهما ما كان ، وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده رحمه‌الله كما سنورده إن شاء الله ، وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ورد من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا ، فيكون تخصيصا لهما فلا تعارض حينئذ كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق ، وفي قوله إنه كان من الملائكة لقوله تعالى (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) [البقرة : ٣٤] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك ، مع أن شأن هاروت وماروت على ما ذكر أخف مما وقع من إبليس لعنه الله تعالى. وقد حكاه القرطبي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي.

ذكر الحديث الوارد في ذلك إن صح سنده ورفعه وبيان الكلام عليه

قال الإمام أحمد بن حنبل (٤) رحمه‌الله تعالى في مسنده : أخبرنا يحيى بن بكير ، حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أنه سمع نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن آدم عليه‌السلام لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة : أي رب

__________________

(١) تفسير القرطبي ٢ / ٥٢.

(٢) الطبري ١ / ٤٩٩.

(٣) بعد ما سألوه : أأنزل أم لم ينزل ، كما ورد في الطبري.

(٤) مسند أحمد (ج ٢ ص ١٣٤)

٢٣٩

(أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠] قالوا : ربنا نحن أطوع لك من بني آدم ، قال الله تعالى للملائكة: هلموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان ، قالوا : ربنا هاروت وماروت ، فأهبطا إلى الأرض ، ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر ، فجاءتهما فسألاها نفسها ، فقالت : لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك ، فقالا : والله لا نشرك بالله شيئا أبدا ، فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله فسألاها نفسها فقالت : لا والله حتى تقتلا هذا الصبي ، فقالا : لا والله لا نقتله أبدا فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحمله فسألاها نفسها ، فقالت : لا والله حتى تشربا هذا الخمر ، فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبي ، فلما أفاقا قالت المرأة : والله ما تركتما شيئا أبيتماه علي إلا قد فعلتماه حين سكرتما ، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا».

وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن الحسن بن سفيان عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن بكير ـ به ، وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين إلا موسى بن جبير هذا وهو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء ، روى عن ابن عباس وأبي أمامة بن سهل بن حنيف ونافع وعبد الله بن كعب بن مالك وروى عنه ابنه عبد السلام وبكر بن مضر وزهير بن محمد وسعيد بن سلمة وعبد الله بن لهيعة وعمرو بن الحارث ويحيى بن أيوب ، وروى له أبو داود وابن ماجة ، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل ، ولم يحك فيه شيئا من هذا فهو مستور الحال ، وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروى له متابع من وجه آخر عن نافع ، كما قال ابن مردويه : حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا هشام بن علي بن هشام حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا سعيد بن سلمة حدثنا موسى بن سرجس عن نافع عن ابن عمر : سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : فذكره بطوله.

وقال أبو جعفر بن جرير (١) رحمه‌الله : حدثنا القاسم ، أخبرنا الحسين وهو سنيد بن داود صاحب التفسير ، أخبرنا الفرج بن فضالة عن معاوية بن صالح عن نافع ، قال : سافرت مع ابن عمر فلما كان من آخر الليل قال : يا نافع انظر طلعت الحمراء؟ قلت : لا ، مرتين أو ثلاثا ، ثم قلت : قد طلعت ، قال : لا مرحبا بها ولا أهلا ، قلت : سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع ، قال : ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الملائكة قالت يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال : إني ابتليتهم وعافيتكم ، قالوا : لو كنا مكانهم ما عصيناك ، قال : فاختاروا ملكين منكم ، قال : فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا هاروت وماروت» وهذان أيضا غريبان جدا. وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية

__________________

(١) الطبري ١ / ٥٠٤.

٢٤٠