تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

إن منهم من هو هكذا ، ومنهم من هو هكذا ، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن أيوب حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي الثلج حدثنا علي بن حفص حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن حاطب عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب ، وإن أبعد الناس من الله : القلب القاسي» رواه الترمذي في كتاب الزهد من جامعه عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج صاحب الإمام أحمد به ، ومن وجه آخر عن إبراهيم بن عبد الله بن الحارث بن حاطب به ، وقال : غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم ، وروى البزار عن أنس مرفوعا «أربع من الشقاء : جمود العين ، وقساوة القلب ، وطول الأمل ، والحرص على الدنيا».

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) (٧٧)

يقول تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ) أيها المؤمنون (أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) أي ينقاد لكم بالطاعة هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود الذين شاهد آباؤهم من الآيات البينات ما شاهدوه ، ثم قست قلوبهم من بعد ذلك : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) أي يتأولونه على غير تأويله (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) أي فهموه على الجلية ومع هذا يخالفونه على بصيرة (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله ، وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [النساء : ٤٦] قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه قال : ثم قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولمن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) وليس قوله : يسمعون كلام الله : يسمعون التوراة كلهم قد سمعها ، ولكن هم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها. وقال محمد بن إسحاق ، فيما حدثني بعض أهل العلم : أنهم قالوا لموسى : يا موسى ، قد حيل بيننا وبين رؤية ربنا تعالى فأسمعنا كلامه حين يكلمك ، فطلب ذلك موسى إلى ربه تعالى ، فقال : نعم ، مرهم فليتطهروا وليطهروا ثيابهم ويصوموا ، ففعلوا ثم خرج بهم حتى أتوا الطور ، فلما غشيهم الغمام ، أمرهم موسى أن يسجدوا ، فوقعوا سجودا ، وكلمه ربه ، فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم حتى عقلوا منه ما سمعوا ، ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل ، فلما جاءهم ، حرف فريق منهم ما أمرهم به ، وقالوا : حين قال موسى لبني إسرائيل : إن الله قد أمركم بكذا وكذا ، قال ذلك الفريق الذين

٢٠١

ذكرهم الله : إنما قال كذا وكذا خلافا لما قال الله عزوجل لهم فهم الذين عنى الله لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال السدي : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) قال : هي التوراة حرفوها ، وهذا الذي ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس وابن إسحاق ، وإن كان قد اختاره ابن جرير لظاهر السياق ، فإنه ليس يلزم من سماع كلام الله أن يكون منه كما سمعه الكليم موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام ، وقد قال الله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] أي مبلغا إليه ، ولهذا قال قتادة في قوله : (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) قال : هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ووعوه ، وقال مجاهد : الذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم ، وقال أبو العالية : عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحرفوه عن مواضعه ، وقال السدي (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي أنهم أذنبوا ، وقال ابن وهب : قال ابن زيد في قوله : (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) قال : التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرفونها ، يجعلون الحلال فيها حراما والحرام فيها حلالا ، والحق فيها باطلا والباطل فيها حقا ، إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله ، وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب فهو فيه محق ، وإذا جاءهم أحد يسألهم شيئا ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق ، فقال الله لهم : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [البقرة : ٤٤].

وقوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) الآية ، قال محمد بن إسحاق : حدثنا محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، وعن ابن عباس (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) أي بصاحبكم محمد رسول الله ، ولكنه إليكم خاصة ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : لا تحدثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم فكان منهم ، فأنزل الله (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي تقرون بأنه نبي ، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه ، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا ، اجحدوه ولا تقروا به. يقول الله تعالى (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ).

وقال الضحاك عن ابن عباس : يعني المنافقين من اليهود ، كانوا إذا لقوا أصحاب محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : آمنا ، وقال السدي : هؤلاء ناس من اليهود ، آمنوا ثم نافقوا. وكذا قال الربيع بن أنس وقتادة وغير واحد من السلف والخلف حتى قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فيما رواه ابن وهب عنه كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قال «لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن» فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق : اذهبوا فقولوا : آمنا واكفروا إذا رجعتم إلينا ، فكانوا يأتون المدينة بالبكر ويرجعون إليهم بعد العصر. وقرأ قول الله تعالى (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [آل عمران : ٧٢] وكانوا يقولون إذا

٢٠٢

دخلوا المدينة : نحن مسلمون ليعلموا خبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمره ، فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر ، فلما أخبر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطع ذلك عنهم ، فلم يكونوا يدخلون ، وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون فيقولون : أليس قد قال الله لكم كذا وكذا ، فيقولون : بلى ، فإذا وجه إلى قومهم ، يعني الرؤساء ، فقالوا : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) الآية.

وقال أبو العالية (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) يعني بما أنزل عليكم في كتابكم من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) قال : كانوا يقولون : سيكون نبي ، فخلا بعضهم ببعض ، (قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) قول آخر في المراد بالفتح. قال ابن جريج : حدثني القاسم بن أبي برزة عن مجاهد في قوله تعالى : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) قال : قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم قريظة تحت حصونهم ، فقال : يا إخوان القردة والخنازير ، ويا عبدة الطاغوت ، فقالوا : من أخبر بهذا الأمر محمدا؟ ما خرج هذا القول إلا منكم (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) بما حكم الله للفتح يكون لهم حجة عليكم. قال ابن جريج عن مجاهد : هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال السدي (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) من العذاب (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا ، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به ، فقال بعضهم لبعض (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) من العذاب ليقولوا : نحن أحب إلى الله منكم ، وأكرم على الله منكم. وقال عطاء الخراساني (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) يعني بما قضى لكم وعليكم. وقال الحسن البصري : هؤلاء اليهود كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قال بعضهم : لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم مما في كتابكم ليحاجوكم به عند ربكم فيخصموكم.

وقوله تعالى : (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) قال أبو العالية : يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكذيبهم به ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم ، وكذا قال قتادة.

وقال الحسن (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) قال : كان ما أسروا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلا بعضهم إلى بعض ، تناهوا أن يخبر أحد منهم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما فتح الله عليهم مما في كتابهم خشية أن يحاجهم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما في كتابهم عند ربهم (وَما يُعْلِنُونَ) يعني حين قالوا لأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وآمنا. كذا قال أبو العالية والربيع وقتادة.

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (٧٩)

يقول تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) أي ومن أهل الكتاب ، قاله مجاهد. والأميون جمع أمي ، وهو

٢٠٣

الرجل الذي لا يحسن الكتابة. قال أبو العالية والربيع وقتادة وإبراهيم النخعي وغير واحد : وهو ظاهر في قوله تعالى (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) أي لا يدرون ما فيه. ولهذا في صفات النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه الأمي لأنه لم يكن يحسن الكتابة ، كما قال تعالى (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت : ٤٨] وقال عليه الصلاة السلام «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا» الحديث ، أي لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتها إلى كتاب ولا حساب ، وقال تبارك وتعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) [الجمعة : ٢] وقال ابن جرير (١) : نسبت العرب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمه من جهله بالكتاب دون أبيه. قال : وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : قول خلاف هذا ، وهو ما حدثنا به أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) قال : الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله ، ولا كتابا أنزله الله ، فكتبوا كتابا بأيديهم ، ثم قالوا لقوم سفلة جهال : هذا من عند الله ، وقال : قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله ، ثم قال ابن جرير : وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم ، وذلك أن الأمي عند العرب الذي لا يكتب. قلت : ثم في صحة هذا عن ابن عباس بهذا الإسناد نظر ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (إِلَّا أَمانِيَ) قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : إلا أماني الأحاديث. وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى (إِلَّا أَمانِيَ) يقول : إلا قولا يقولون بأفواههم كذبا. وقال مجاهد إلا كذبا : وقال سنيد عن حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) قال : أناس من اليهود ، لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا ، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله ويقولون هو من الكتاب ، أماني يتمنونها. وعن الحسن البصري نحوه. وقال أبو العالية والربيع وقتادة : إلا أماني يتمنون على الله ما ليس لهم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إلا أماني ، قال : تمنوا فقالوا : نحن من أهل الكتاب وليسوا منهم. قال ابن جرير : والأشبه بالصواب قول الضحاك عن ابن عباس. وقال (٢) مجاهد : إن الأميين الذين وصفهم الله تعالى أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله تعالى على موسى شيئا ولكنهم يتخرصون الكذب ويتخرصون الأباطيل كذبا وزورا ، والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه ، ومنه الخبر المروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه : ما تغنيت ولا تمنيت ، يعني ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب. وقيل المراد بقوله إلا أماني بالتشديد والتخفيف أيضا : أي إلا تلاوة ، فعلى هذا يكون استثناء منقطعا ، واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) ـ أي تلا ـ (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) [الحج : ٥٢] ، وقال كعب بن مالك الشاعر :

__________________

(١) الطبري ١ / ٤١٧.

(٢) في الطبري : «وقول مجاهد». والكلام ما زال للطبري بصدد اختياره.

٢٠٤

[الطويل]

تمنى كتاب الله أول ليلة

وآخره لاقى حمام المقادر (١)

وقال آخر : [الطويل]

تمنى كتاب الله آخر ليلة

تمنّى داود الكتاب على رسل (٢)

وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [البقرة : ٧٨] أي ولا يدرون ما فيه ، وهم يجدون نبوتك بالظن. وقال مجاهد : (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) يكذبون. وقال قتادة وأبو العالية والربيع : يظنون بالله الظنون بغير الحق.

وقوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) الآية ، هؤلاء صنف آخر من اليهود. وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله وأكل أموال الناس بالباطل ، والويل : الهلاك والدمار ، وهي كلمة مشهورة في اللغة. وقال سفيان الثوري عن زياد بن فياض : سمعت أبا عياض يقول : ويل : صديد في أصل جهنم. وقال عطاء بن يسار : الويل واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج ، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» ورواه الترمذي عن عبد الرحمن بن حميد ، عن الحسن بن موسى ، عن ابن لهيعة ، عن دراج به ، وقال : هذا الحديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة.

(قلت) لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى ، ولكن الآفة ممن بعده ، وهذا الحديث بهذا الإسناد مرفوع منكر ، والله أعلم.

وقال ابن جرير حدثنا المثنى ، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام ، حدثنا صالح القشيري (٣) ، حدثنا علي بن جرير عن حماد بن سلمة ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن كنانة العدوي ، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) قال «الويل جبل في النار». وهو الذي أنزل في اليهود ، لأنهم حرفوا التوراة ، زادوا فيها ما أحبوا ، ومحوا منها ما يكرهون ، ومحوا اسم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوراة ولذلك غضب الله عليهم ، فرفع بعض التوراة فقال تعالى : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)

__________________

(١) البيت بلا نسبة في لسان العرب (مني) ؛ ومقاييس اللغة ٥ / ٢٧٧ ؛ وكتاب العين ٨ / ٣٩ ؛ وتاج العروس (مني). ولحسان بن ثابت في تفسير ابن حيان ٦ / ٣٨٢.

(٢) البيت بلا نسبة في لسان العرب (مني) ؛ وتاج العروس (منا)

(٣) في الطبري : «حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح التستري ..».

٢٠٥

وهذا غريب أيضا جدا. وعن ابن عباس : الويل المشقة من العذاب ، وقال الخليل بن أحمد : الويل شدة الشر ، وقال سيبويه : ويل لمن وقع في الهلكة ، وويح لمن أشرف عليها ، وقال الأصمعي : الويل تفجع ، والويح ترحم ، وقال غيره : الويل : الحزن ، وقال الخليل : وفي معنى ويل : ويح وويش وويه وويك وويب ، ومنهم من فرق بينها ، وقال بعض النحاة : إنما جاز الابتداء بها وهي نكرة لأن فيها معنى الدعاء ، ومنهم من جوز نصبها بمعنى : ألزمهم ويلا (قلت) لكن لم يقرأ بذلك أحد ، وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) قال : هم أحبار اليهود ، وكذا قال سعيد عن قتادة : هم اليهود ، وقال سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن علقمة : سألت ابن عباس رضي الله عنه ، عن قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) قال : نزلت في المشركين وأهل الكتاب ، وقال السدي : كان ناس من اليهود كتبوا كتابا من عندهم يبيعونه من العرب ويحدثونهم أنه من عند الله فيأخذوا به ثمنا قليلا ، وقال الزهري : أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أنه قال : يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء ، وكتاب الله الذي أنزله على نبيه أحدث أخبار الله تقرأونه غضا لم يشب وقد حدثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه ، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا : هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم ، ولا والله ما رأينا منهم أحدا قط سألكم عن الذي أنزل عليكم ، رواه البخاري من طرق عن الزهري. وقال الحسن بن أبي الحسن البصري : الثمن القليل الدنيا بحذافيرها. وقوله تعالى : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) أي فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان والافتراء ، وويل لهم مما أكلوا به من السحت ، كما قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما (فَوَيْلٌ لَهُمْ) يقول : فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب ، وويل لهم مما يكسبون يقول مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم.

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨٠)

يقول تعالى إخبارا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم من أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ، ثم ينجون منها ، فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) أي بذلك ، فإن كان قد وقع عهد فهو لا يخلف عهده ، ولكن هذا ما جرى ولا كان ، ولهذا أتى بأم التي بمعنى بل ، أي بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه.

قال محمد بن إسحاق عن سيف بن سليمان ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : أن اليهود كانوا يقولون أن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما في النار وإنما هي سبعة أيام معدودة فأنزل الله تعالى (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) إلى قوله (خالِدُونَ) ثم

٢٠٦

رواه عن محمد ، عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس بنحوه. وقال العوفي عن ابن عباس (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) اليهود قالوا : لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة ، زاد غيره وهي مدة عبادتهم العجل ، وحكاه القرطبي (١) عن ابن عباس وقتادة ، وقال الضحاك وعن ابن عباس : زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبا أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم التي هي نابتة في أصل الجحيم ، وقال أعداء الله إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك فذلك قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً).

وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) يعني الأيام التي عبدنا فيها العجل. وقال عكرمة : خاصمت اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا لن ندخل النار إلا أربعين ليلة ، وسيخلفنا فيها قوم آخرون ، يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده على رؤوسهم «بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم فيها أحد» فأنزل الله عزوجل (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) الآية. وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه رحمه‌الله : حدثنا عبد الرحمن بن جعفر ، حدثنا محمد بن محمد بن صخر ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ، حدثنا ليث بن سعد ، حدثني سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، قال : لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، شاة فيها سم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا» فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أبوكم»؟ قالوا فلان ، قال «كذبتم بل أبوكم فلان» فقالوا : صدقت وبررت ، ثم قال لهم «هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه»؟ قالوا نعم يا أبا القاسم ، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا ، فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أهل النار»؟ فقالوا : نكون فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبدا» ثم قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟» قالوا : نعم يا أبا القاسم ، قال : «هل جعلتم في هذه الشاة سما؟» فقالوا : نعم ، قال «فما حملكم على ذلك؟» فقالوا : أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك ، وإن كنت نبيا لم يضر ، ورواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي من حديث الليث بن سعد بنحوه (٢).

(بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ(٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٨٢)

يقول تعالى : ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون ، بل الأمر أنه من عمل سيئة وأحاطت به

__________________

(١) تفسير القرطبي ٢ / ١٠.

(٢) رواه البخاري (هبة باب ٢٨ ؛ وجزية باب ٧ ؛ وطب باب ٥٥) والدارمي (مقدمة باب ١١). وأحمد في المسند (ج ٢ ص ٤٥١)

٢٠٧

خطيئته وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة بل جميع أعماله سيئات فهذا من أهل النار.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي آمنوا بالله ورسوله ، وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة فهم من أهل الجنة ، وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) [النساء: ١٢٣ ـ ١٢٤].

قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) أي عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط به كفره ، فماله من حسنة. وفي رواية عن ابن عباس ، قال : الشرك. قال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي وائل وأبي العالية ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه. وقال الحسن أيضا والسدي : السيئة الكبيرة من الكبائر ، وقال ابن جريج ، عن مجاهد (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) قال : بقلبه. وقال أبو هريرة وأبو وائل وعطاء والحسن (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) قال : أحاط به شركه. وقال الأعمش عن أبي رزين عن الربيع بن خيثم (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) قال الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب ، وعن السدي وأبي رزين نحوه ، وقال أبو العالية ومجاهد والحسن في رواية عنهما ، وقتادة والربيع بن أنس (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) والموجبة الكبيرة ، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى ، والله أعلم.

ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد (١) حيث قال : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا عمرو بن قتادة عن عبد ربه ، عن أبي عياض ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه» وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب لهم مثلا كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة ، فحضر صنيع القوم ، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود ، والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سوادا ، وأججوا نارا فأنضجوا ما قذفوا فيها. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي من آمن بما كفرتم وعمل بما تركتم من دينه ، فلهم الجنة خالدين فيها ، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (٨٣)

__________________

(١) مسند الإمام أحمد (ج ١ ص ٤٠٢)

٢٠٨

يذكر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر وأخذه ميثاقهم على ذلك وأنهم تولوا عن ذلك كله ، وأعرضوا قصدا وعمدا وهم يعرفونه ، ويذكرونه ، فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وبهذا أمر جميع خلقه ، ولذلك خلقهم كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥] وقال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها ، وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له ، ثم بعده حق المخلوقين وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين ، ولهذا يقرن تبارك وتعالى بين حقه وحق الوالدين كما قال تعالى : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان : ١٤] وقال تبارك وتعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣] إلى أن قال (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) [الإسراء : ٢٦] وفي الصحيحين عن ابن مسعود ، قلت : يا رسول الله أيّ العمل أفضل؟ قال «الصلاة على وقتها» قلت : ثم أي؟ قال «بر الوالدين» قلت : ثم أي؟ قال «الجهاد في سبيل الله» ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رجلا قال : يا رسول الله من أبر؟ قال «أمك» قال : ثم من؟ قال «أمك» قال : ثم من؟ قال : «أباك»؟ ثم أدناك ثم أدناك».

وقوله تعالى : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) قال الزمخشري خبر بمعنى الطلب وهو آكد ، وقيل كان أصله «أن لا تعبدوا إلا الله» ونقل من قرأها من السلف ، فحذفت أن فارتفع ، وحكي عن أبيّ وابن مسعود أنهما قرءاها «لا تعبدوا إلا الله» ونقل هذا التوجيه القرطبي (١) في تفسيره عن سيبويه. قال : واختاره الكسائي والفراء ، قال (وَالْيَتامى) وهم الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء ، والمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم. وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النساء التي أمرنا الله تعالى بها صريحا في قوله (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [النساء : ٣٦] ، وقوله تعالى (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة : ٨٣] أي كلموهم طيبا ، ولينوا لهم جانبا ، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف كما قال الحسن البصري في قوله تعالى (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح ، ويقول للناس : حسنا كما قال الله ، وهو كل خلق حسن رضيه الله.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا روح ، حدثنا أبو عامر الخزاز ، عن أبي عمران الجوني ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «لا تحقرن من المعروف شيئا ، وإن لم تجد فالق أخاك بوجه منطلق» (٣) وأخرجه مسلم في صحيحه ، والترمذي ،

__________________

(١) تفسير القرطبي ٢ / ١٣.

(٢) مسند الإمام أحمد (ج ٥ ص ١٧٣)

(٣) في المسند : «طلق».

٢٠٩

وصححه من حديث أبي عامر الخزاز واسمه صالح بن رستم به ، وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسنا بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل ، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي ، ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك وهو الصلاة والزكاة ، فقال (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله ، أي تركوه وراء ظهورهم وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به إلا القليل منهم ، وقد أمر الله هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء بقوله (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) [النساء : ٣٦] فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها ، ولله الحمد والمنة.

ومن النقول الغريبة هاهنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن خلف العسقلاني ، حدثنا عبد الله بن يوسف يعني التنيسي ، حدثنا خالد بن صبيح عن حميد بن عقبة ، عن أسد بن وداعة : أنه كان يخرج من منزله فلا يلقى يهوديا ولا نصرانيا إلا سلم عليه ، فقيل له : ما شأنك تسلم على اليهودي والنصراني؟ فقال : إن الله تعالى يقول : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) وهو السلام. قال : وروي عن عطاء الخراساني نحوه (قلت) وقد ثبت في السنة أنهم لا يبدءون بالسلام ، والله أعلم.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٨٦)

يقول تبارك وتعالى منكرا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج ، وذلك أن الأوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عباد أصنام ، وكانت بينهم حروب كثيرة ، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل : بنو قينقاع ، وبنو النضير : حلفاء الخزرج ، وبنو قريظة : حلفاء الأوس ، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم ، قاتل كل فريق مع حلفائه ، فيقتل اليهودي أعداءه ، وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر ، وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم ، ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال ، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسارى من الفريق المغلوب عملا بحكم التوراة ، ولهذا قال تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [البقرة : ٨٥]

٢١٠

ولهذا قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي لا يقتل بعضكم بعضا ولا يخرجه من منزله ولا يظاهر عليه ، كما قال تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) [البقرة : ٥٤] وذلك أن اهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة كما قال عليه الصلاة والسلام «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر».

وقوله تعالى : (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أي ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) الآية ، قال محمد بن إسحاق بن يسار ، حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) الآية ، قال : أنبأهم الله بذلك من فعلهم ، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم ، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم ، فكانوا فريقين : طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير ، وقريظة وهم حلفاء الأوس ، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس ، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم ، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ولا يعرفون جنة ولا نارا ولا بعثا ولا قيامة ولا كتابا ولا حلالا ولا حراما ، فإذا وضعت الحرب أوزارها ، افتدوا أسراهم تصديقا لما في التوراة وأخذا به بعضهم من بعض ، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس ، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيد الخزرج منهم ، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم ، وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم مظاهرة لأهل الشرك عليهم يقول الله تعالى ذكره حيث أنبأهم بذلك (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [البقرة : ٨٥] أي تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا؟ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة.

وقال أسباط عن السدي : كانت قريظة حلفاء الأوس ، وكانت النضير حلفاء الخزرج فكانوا يقتتلون في حرب بينهم ، فتقاتل بنو قريظة مع حلفائهم النضير وحلفائهم ، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها ويغلبونهم ، فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها ، فإذا أسر رجل من الفريقين كلاهما ، جمعوا له حتى يفدوه ، فتعيرهم العرب بذلك يقولون : كيف تقاتلونهم وتفدونهم ، قالوا : إنا أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ، قالوا فلم تقتلونهم؟ قالوا : إنا نستحي أن تستذل حلفاؤنا ، فذلك حين عيرهم الله تبارك وتعالى فقال تعالى : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) الآية.

وقال أسباط عن السدي عن الشعبي نزلت هذه الآية في قيس بن الخطيم (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ

٢١١

تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) الآية.

وقال أسباط عن السدي ، عن عبد خير ، قال : غزونا مع سليمان (١) بن ربيعة الباهلي بلنجر (٢) فحاصرنا أهلها ، ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا ، واشترى عبد الله بن سلام يهودية بسبعمائة ، فلما مر برأس الجالوت نزل به ، فقال له عبد الله ، يا رأس الجالوت ، هل لك في عجوز هاهنا من أهل دينك تشتريها مني؟ قال : نعم ، قال : أخذتها بسبعمائة درهم ، قال : فإني أربحك سبعمائة أخرى ، قال : فإني قد حلفت أن لا أنقصها من أربعة آلاف ، قال : لا حاجة لي فيها ، قال : والله لتشرينها مني أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه ، قال : ادن مني ، فدنا منه ، فقرأ في أذنه مما في التوراة : إنك لا تجد مملوكا من بني إسرائيل إلا اشتريته ، فأعتقه (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) قال : أنت عبد الله بن سلام؟ قال : نعم : فجاء بأربعة آلاف ، فأخذ عبد الله ألفين ، ورد عليه ألفين.

وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره : حدثنا أبو جعفر يعني الرازي ، حدثنا الربيع بن أنس ، أخبرنا أبو العالية : أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة ، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب ، ولا يفادي من وقع عليه العرب ، فقال عبد الله : أما أنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن والذي أرشدت إليه الآية الكريمة ، وهذا السياق ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها ومخالفة شرعها مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة ، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها ، ولا يصدقون فيما كتموه من صفة الرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته ومبعثه ومخرجه ومهاجره وغير ذلك من شؤونه التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام ، واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم ، ولهذا قال تعالى : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي استحبوها على الآخرة واختاروها (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم منه.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (٨٧)

ينعت تبارك وتعالى بني إسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة والاستكبار على الأنبياء ، وأنهم

__________________

(١) في معجم البلدان : فتحها عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي. وفي فتوح البلدان للبلاذري : سلمان بن ربيعة الباهلي.

(٢) بلنجر : مدينة ببلاد الخزر خلف باب الأبواب. (معجم البلدان : ١ / ٤٨٩)

٢١٢

إنما يتبعون أهواءهم ، فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب وهو التوراة ، فحرفوها وبدلوها وخالفوا أوامرها وأولوها ، وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته كما قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) [المائدة : ٤٤] : ولهذا قال تعالى : (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) قال السدي عن أبي مالك : أتبعنا ، وقال غيره : أردفنا والكل قريب كما قال تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) [المؤمنون : ٤٤] حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم ، فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام ، ولهذا أعطاه الله من البينات وهي المعجزات ، قال ابن عباس من إحياء الموتى ، وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله ، وإبراء الأسقام ، وإخباره بالغيوب ، وتأييده بروح القدس وهو جبريل عليه‌السلام ـ ما يدلهم على صدقه فيما جاءهم به ، فاشتد تكذيب بني إسرائيل له ، وحسدهم وعنادهم لمخالفة التوراة في البعض ، كما قال تعالى إخبارا عن عيسى : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران : ٥٠] ، فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء أسوأ المعاملة ، ففريقا يكذبونه ، وفريقا يقتلونه ، وما ذاك إلا لأنهم يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم ، وبالإلزام بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها ، فلهذا كان ذلك يشق عليهم فكذبوهم ، وربما قتلوا بعضهم ، ولهذا قال تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ).

والدليل على أن روح القدس هو جبريل ، كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الآية ، وتابعه على ذلك ابن عباس ومحمد بن كعب وإسماعيل بن خالد والسدي والربيع بن أنس وعطية العوفي وقتادة مع قوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء : ١٩٣] ما قال البخاري (١) وقال ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن عروة عن عائشة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وضع لحسان بن ثابت منبرا في المسجد ، فكان ينافح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك» فهذا من البخاري تعليقا. وقد رواه أبو داود في سننه عن ابن سيرين والترمذي ، عن علي بن حجر وإسماعيل بن موسى الفزاري ، ثلاثتهم ، عن أبي عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه وهشام بن عروة ، كلاهما عن عروة ، عن عائشة به. قال الترمذي : حسن صحيح ، وهو حديث أبي الزناد ، وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة ، عن الزهري عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة : أن عمر بن الخطاب مر بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد ، فلحظ إليه فقال : قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال أنشدك الله ، أسمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أجب عني اللهم أيده بروح القدس» فقال : اللهم نعم ، وفي بعض الروايات : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال لحسان

__________________

(١) صحيح البخاري (صلاة باب ٦٨ ؛ وبدء الخلق باب ٦)

٢١٣

«اهجهم ـ أو هاجهم ـ وجبريل معك» وفي شعر حسان قوله : [الوافر]

وجبريل رسول الله فينا

وروح القدس ليس به خفاء (١)

وقال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي ، عن شهر بن حوشب الأشعري : أن نفرا من اليهود سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالوا : أخبرنا عن الروح ، فقال: «أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه جبرائيل وهو الذي يأتيني؟» قالوا : نعم ، وفي صحيح ابن حبان ، عن ابن مسعود : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب». أقوال أخر ـ قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا منجاب بن الحارث ، حدثنا بشر عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) قال : هو الاسم الأعظم الذي كان عيسى يحيي به الموتى. وقال ابن جرير (٢) : حدثت عن المنجاب فذكره ، وقال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك ، ونقله القرطبي (٣) عن عبيد بن عمير أيضا قال : وهو الاسم الأعظم. وقال ابن أبي نجيح : الروح هو حفظة على الملائكة ، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس : القدس هو الرب تبارك وتعالى ، وهو قول كعب ، وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا : القدس : هو الله تعالى ، وروحه : جبريل ، وهو قول كعب ، وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا : القدس : هو الله تعالى ، وروحه : جبريل. فعلى هذا يكون القول الأول ، وقال السدي : القدس البركة. وقال العوفي عن ابن عباس : القدس : الطهر ، وقال ابن جرير حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، قال ابن زيد في قوله تعالى (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) قال : أيد الله عيسى بالإنجيل روحا كما جعل القرآن روحا ، كلاهما روح من الله ، كما قال تعالى (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] ثم قال ابن جرير(٤) : وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال : الروح في هذا الموضع : جبرائيل ، فإن الله تعالى أخبر أنه أيد عيسى به كما أخبر في قوله تعالى (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [المائدة : ١١٠ ، فذكر أنه أيده به ، فلو كان الروح الذي أيده به هو الإنجيل ، لكان قوله : «إذ أيدتك بروح القدس. وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة

__________________

(١) الرواية المشهورة «ليس له كفاء» مكان «ليس به خفاء». والبيت لحسان في ديوانه ص ٧٥ ؛ ولسان العرب (كفأ ، جبر) ؛ وكتاب العين ٥ / ٤١٤ ؛ وتهذيب اللغة ١٠ / ٣٨٩ ؛ وتاج العروس (كفأ ، جبر) ؛ وأساس البلاغة (كفأ)

(٢) تفسير الطبري ١ / ٤٤٩.

(٣) تفسير القرطبي ٢ / ٢٤.

(٤) تفسير الطبري ١ / ٤٤٩.

٢١٤

والإنجيل» تكرير قول لا معنى له ، والله سبحانه وتعالى أعز وأجل أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به ، (قلت) ومن الدليل على أنه جبرائيل ما تقدم من أول السياق ، ولله الحمد.

وقال الزمخشري (بِرُوحِ الْقُدُسِ) بالروح المقدسة ، كما تقول : حاتم الجود ورجل صدق ووصفها بالقدس كما قال : (وَرُوحٌ مِنْهُ) فوصفه بالاختصاص والتقريب تكرمة ، وقيل : لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث وقيل بجبريل ، قيل بالإنجيل كما قال في القرآن (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] وقيل : باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره فتضمن كلامه قولا آخر ، وهو أن المراد روح عيسى نفسه المقدسة المطهرة ، وقال الزمخشري في قوله تعالى : (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) إنما لم يقل وفريقا قتلتم ، لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل أيضا لأنهم حاولوا قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسم والسحر وقد قال عليه‌السلام في مرض موته : «ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري» (قلت) وهذا الحديث في صحيح البخاري (١) وغيره.

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) (٨٨)

قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد ، عن ابن عباس (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي في أكنة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي لا تفقه. وقال العوفي عن ابن عباس : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) هي القلب المطبوع عليها. وقال مجاهد (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) عليه غشاوة وقال عكرمة : عليها طابع ، وقال أبو العالية : أي لا تفقه ، وقال السدي يقولون عليه غلاف ، وهو الغطاء ، وقال عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة : فلا تعي ولا تفقه ، قال مجاهد وقتادة : وقرأ ابن عباس غلف ، بضم اللام ، وهو جمع غلاف ، أي قلوبنا أوعية كل علم فلا تحتاج إلى علمك ، قاله ابن عباس وعطاء (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أي طردهم الله وأبعدهم من كل خير (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) قال قتادة : معناه لا يؤمن منهم إلا القليل (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) هو كقوله (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) [فصلت : ٥] وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله غلف ، قال : تقول قلبي في غلاف فلا يخلص إليه مما تقول شيء ، وقرأ (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) [فصلت : ٥] وهذا الذي رجحه ابن جرير ، واستشهد بما روي من حديث عمرو بن مرة الجملي عن أبي البحتري ، عن حذيفة قال : «القلوب أربعة» فذكر منها «وقلب أغلف مغضوب عليه وذاك قلب الكافر».

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الرحمن العرزمي ، أنبأنا أبي ، عن جدي ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) قال : لم تختن ، هذا القول يرجع معناه إلى ما تقدم من عدم طهارة قلوبهم وأنها بعيدة من الخير. قول آخر ـ قال الضحاك عن ابن عباس(وَقالُوا

__________________

(١) صحيح البخاري (مغازي باب ٨٣)

٢١٥

قُلُوبُنا غُلْفٌ) قال : يقولون قلوبنا غلف مملوءة لا تحتاج إلى علم محمد ولا غيره. وقال عطية العوفي عن ابن عباس (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي أوعية للعلم ، وعلى هذا المعنى جاءت قراءة بعض الأنصار فيها ، حكاه ابن جرير (١). وقالوا : قلوبنا غلف ، بضم اللام ، نقلها الزمخشري ، أي جمع غلاف ، أي أوعية ، بمعنى أنهم ادعوا أن قلوبهم مملوءة بعلم لا يحتاجون معه إلى علم آخر كما كانوا يفتون بعلم التوراة ، ولهذا قال تعالى : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) أي ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها ، كما قال في سورة النساء : (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ١٥٥] وقد اختلفوا في معنى قوله : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) وقوله : (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ٤٦] فقال بعضهم : فقليل من يؤمن منهم ، وقيل : فقليل إيمانهم بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب ، ولكنه إيمان لا ينفعهم لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال بعضهم : إنما كانوا غير مؤمنين بشيء ، وإنما قال : فقليلا ما يؤمنون وهم بالجميع كافرون ، كما تقول العرب : قلما رأيت مثل هذا قط ، تريد ما رأيت مثل هذا قط ، وقال الكسائي : تقول العرب : من زنى بأرض قلما تنبت ، أي لا تنبت شيئا ، حكاه ابن جرير (٢) رحمه‌الله ، والله أعلم.

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٨٩)

يقول تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ) ، يعني اليهود ، (كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) يعني من التوراة ، وقوله (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم يقولون : إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم ، كما قال محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمرو ، عن قتادة الأنصاري ، عن أشياخ منهم ، قال : فينا والله وفيهم ، يعني في الأنصار وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم نزلت هذه القصة يعني : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) قالوا : كنا قد علوناهم قهرا دهرا في الجاهلية ، ونحن أهل شرك ، وهم أهل كتاب ، وهم يقولون : إن نبيا سيبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به. يقول الله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ).

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٤٥٢.

(٢) الطبري ١ / ٤٥٤.

٢١٦

وقال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : (وَكانُوا (مِنْ قَبْلُ) يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : يستنصرون ، يقولون : نحن نعين محمدا عليهم ، وليسوا كذلك بل يكذبون.

وقال محمد بن إسحاق : أخبرني محمد بن أبي محمد ، أخبرني عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن يهودا كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مبعثه ، فلما بعثه الله من العرب ، كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة : يا معشر يهود ، اتقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته ، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه ، ما هو الذي كنا نذكر لكم ، فينزل الله في ذلك من قولهم :

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) الآية.

وقال العوفي عن ابن عباس (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) يقول : يستنصرون بخروج محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مشركي العرب ، يعني بذلك أهل الكتاب ، فلما بعث محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ورأوه من غيرهم ، كفروا به وحسدوه. وقال أبو العالية : كانت اليهود تستنصر بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم على مشركي العرب ، يقولون : اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم. فلما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورأوا أنه من غيرهم ، كفروا به حسدا للعرب وهم يعلمون أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال الله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) وقال قتادة (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : وكانوا يقولون : إنه سيأتي نبي. (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) وقال مجاهد (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) قال : هم اليهود.

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) (٩٠)

قال مجاهد (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) يهود شروا الحق بالباطل وكتمان ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يبينوه ، وقال السدي (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) يقول : باعوا به أنفسهم ، يقول : بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تصديقه وموازرته ونصرته ، وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية ل (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ولا حسد أعظم من هذا.

قال ابن إسحاق ، عن محمد ، عن عكرمة أو سعيد ، عن ابن عباس (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي أن الله جعله من غيرهم.

(فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) قال ابن عباس : في الغضب على الغضب عليهم فيما

٢١٧

كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم ، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم (قلت) ومعنى (فَباؤُ) استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب. وقال أبو العالية : غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى ، ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن. وعن عكرمة وقتادة مثله. قال السدي : أما الغضب الأول ، فهو حين غضب عليهم في العجل ، وأما الغضب الثاني ، فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن ابن عباس مثله.

وقوله تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) لما كان كفرهم سببه البغي والحسد ، ومنشأ ذلك التكبر ، قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦٠] أي صاغرين حقيرين ذليلين راغمين. وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يحيى ، حدثنا ابن عجلان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنا في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) (٩٢)

يقول تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدقوه واتبعوه (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أي يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) يعني بما بعده (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) أي وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) منصوبا على الحال ، أي في حال تصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل ، فالحجة قائمة عليهم بذلك ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦] ثم قال تعالى : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم ، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاءوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها ، وأنتم تعلمون صدقهم؟ قتلتموهم بغيا وعنادا واستكبارا على رسل الله ، فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي ، كما قال تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) [البقرة : ٨٧] وقال السدي : في هذه الآية يعيرهم الله تبارك وتعالى : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وقال أبو جعفر بن جرير (٢) : قل

__________________

(١) المسند (ج ٢ ص ١٧٩)

(٢) تفسير الطبري ١ / ٤٦٤. وحكى الطبري حديث السدي الوارد قبل هذا.

٢١٨

يا محمد ليهود بني إسرائيل إذا قلت لهم أمنوا بما أنزل الله ، قالوا : نؤمن بما أنزل علينا لم تقتلون ـ إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله ـ أنبياء الله يا معشر اليهود وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم ، بل أمركم باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم؟ وذلك من الله تكذيب لهم في قولهم : نؤمن بما أنزل علينا وتعيير لهم.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) أي بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات على أنه رسول الله ، وأنه لا إله إلا الله ، والآيات البينات هي : الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد ، وفلق البحر وتظليلهم بالغمام والمن والسلوى والحجر وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها (ثم اتخذتم العجل) أي معبودا من دون الله في زمان موسى وأيامه ، وقوله : من بعده ، أي من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله عزوجل ، كما قال تعالى : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) [الأعراف : ١٤٨] ، (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) ، أي وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله كما قال تعالى : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الأعراف : ١٤٩].

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٩٣)

يعدد سبحانه وتعالى عليهم خطأهم ، ومخالفتهم للميثاق ، وعتوهم وإعراضهم عنه ، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه ولهذا (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) وقد تقدم تفسير ذلك.

(وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) قال عبد الرزاق ، عن معمر عن قتادة (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) قال : أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم ، وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس. وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عصام بن خالد ، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني ، عن خالد بن محمد الثقفي ، عن بلال بن أبي الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال «حبك الشيء يعمي ويصم» ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح ، عن بقية ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به ، وقال السدي : أخذ موسى عليه‌السلام العجل فذبحه بالمبرد (٢) ، ثم ذراه في البحر ، ثم لم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء [منه] ، ثم قال لهم موسى ، اشربوا منه ، فشربوا ، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب ، فذلك حين يقول الله

__________________

(١) المسند (ج ٥ ص ١٩٤)

(٢) في الطبري ١ / ٤٦٧ : «فذبحه ثم حرقه بالمبرد». قال في لسان العرب : حرق الحديد بالمبرد : برده وحك بعضه ببعض.

٢١٩

تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمارة بن عمير وأبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي رضي الله عنه ، قال : عمد موسى إلى العجل ، فوضع عليه المبارد فبرده بها ، وهو على شاطئ نهر ، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب ، وقال سعيد بن جبير (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) قال: لما أحرق العجل ، برد ثم نسف ، فحسوا الماء حتى عادت وجوههم كالزعفران. وحكى القرطبي(١) عن كتاب القشيري : أنه ما شرب أحد «منه» ممن عبد العجل إلا جن ، ثم قال القرطبي : وهذا شيء غير ما هاهنا ، لأن المقصود من هذا السياق : أنه ظهر على شفاههم ووجوههم ، والمذكور هاهنا : أنهم أشربوا في قلوبهم العجل ، يعني في حال عبادتهم له ، ثم أنشد قول النابغة (٢) في زوجته عثمة : [الوافر]

تغلغل حب عثمة في فؤادي

فباديه مع الخافي يسير

تغلغل حيث لم يبلغ شراب

ولا حزن ولم يبلغ سرور

أكاد إذ ذكرت العهد منها

أطير لو أن إنسانا يطير (٣)

وقوله (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفركم بآيات الله ، ومخالفتكم الأنبياء ثم اعتمادكم في كفركم بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا أكبر ذنوبكم وأشد الأمر عليكم إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين ، المبعوث إلى الناس أجمعين ، فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان ، وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة : من نقضكم المواثيق ، وكفركم بآيات الله ، وعبادتكم العجل من دون الله؟.

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (٩٦)

قال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنه : يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ادعوا بالموت على أي الفريقين

__________________

(١) تفسير القرطبي ٢ / ٣٢.

(٢) لم ينسب القرطبي هذه الأبيات إلى النابغة ، وإنما إلى «أحد التابعين الذي قال في زوجته عثمة».

(٣) الأبيات منسوبة إلى أحد التابعين في القرطبي ٢ / ٣٢ ؛ وإلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة في لسان العرب (غلل) ؛ وتاج العروس (غلل) ؛ وبلا نسبة في لسان العرب (معع)

٢٢٠