تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

أي لا يزالون مستذلين ، من وجدهم استذلهم وأهانهم وضرب عليهم الصغار ، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكون. قال الضحاك ، عن ابن عباس : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) قال : هم أصحاب النيالات يعني الجزية. وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الحسن ، وقتادة في قوله تعالى : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) قال : يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون ، وقال الضحاك : وضربت عليه الذلة ، قال : الذل. وقال الحسن : أذلهم الله فلا منعة لهم ، وجعلهم تحت أقدام المسلمين ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية ، وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي : المسكنة الفاقة ، وقال عطية العوفي : الخراج ، وقال الضحاك : الجزية ، وقوله تعالى : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) قال الضحاك : استحقوا الغضب من الله ، وقال الربيع بن أنس : فحدث عليهم غضب من الله ، وقال سعيد بن جبير : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) يقول : استوجبوا سخطا ، وقال ابن جرير : يعني بقوله : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) انصرفوا ورجعوا ، ولا يقال : باء إلا موصولا إما بخير وإما بشر يقال منه : باء فلان بذنبه يبوء به بوءا وبواء ، ومنه قوله تعالى : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) [المائدة : ٢٩] يعني تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني. فمعنى الكلام : إذا رجعوا منصرفين متحملين غضب الله قد صار عليهم من الله غضب ، ووجب عليهم من الله سخط.

وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) يقول تعالى : هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة ، وإحلال الغضب بهم من الذلة ، بسبب استكبارهم عن اتباع الحق وكفرهم بآيات الله ، وإهانتهم حملة الشرع ، وهم الأنبياء وأتباعهم ، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم ، فلا كفر أعظم من هذا ، إنهم كفروا بآيات الله ، وقتلوا أنبياء الله بغير الحق ، ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته : أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الكبر بطر الحق وغمط الناس» (١) وقال الإمام أحمد رحمه‌الله : حدثنا إسماعيل ، عن ابن عون ، عن عمرو بن سعيد ، عن حميد بن عبد الرحمن ، قال : قال ابن مسعود : كنت لا أحجب عن النجوى ، ولا عن كذا ولا عن كذا ، فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي ، فأدركته من آخر حديثه وهو يقول : يا رسول الله ، قد قسم لي من الجمال ما ترى ، فما أحب أن أحدا من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما ، أفليس ذلك هو البغي؟ فقال : «لا ليس ذلك من البغي ولكن البغي من بطر» ، أو قال : «سفه الحق وغمط الناس» (٢) يعني رد الحق ، وانتقاص الناس ، والازدراء بهم ، والتعاظم عليهم ، ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله ، وقتلهم أنبياءه ، أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد ،

__________________

(١) أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعا. (إيمان حديث ١٤٧). وبطر الحق : هو دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا. وغمط الناس احتقارهم.

(٢) مسند أحمد (ج ١ ص ٣٨٥)

١٨١

وكساهم ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة جزاء وفاقا. قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي ، ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار ، وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبان ، حدثنا عاصم ، عن أبي وائل عن عبد الله يعني ابن مسعود ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتله نبيّ أو قتل نبيا وإمام ضلالة وممثل من الممثلين. وقوله تعالى : (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به أنهم كانوا يعصون ويعتدون فالعصيان فعل المناهي ، والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه والمأمور به ، والله أعلم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢)

لما بيّن تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم وما أحل بهم من النكال ، نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى ، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه كما قال تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس : ٦٢] وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت : ٣٠] قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عمر بن أبي عمر العدني حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : قال سلمان رضي الله عنه : سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أهل دين كنت معهم ، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم ، فنزلت (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى آخر الآية ، وقال السدي (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) الآية ، نزلت في أصحاب سلمان الفارسي بينا هو يحدث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم ، فقال كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون لك ويشهدون أنك ستبعث نبيا ، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا سلمان هم من أهل النار» ، فاشتد ذلك على سلمان فأنزل الله هذه الآية. فكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى عليه‌السلام حتى جاء عيسى فلما جاء كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكا ، وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه حتى جاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن لم يتبع محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكا.

__________________

(١) المسند (ج ١ حديث ص ٤٠٧)

١٨٢

قال ابن أبي حاتم ، وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا. قلت : وهذا لا ينافي ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية ـ قال ـ فأنزل الله بعد ذلك (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا إلا ما كان موافقا لشريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن بعثه بما بعثه به ، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة ، فاليهود أتباع موسى عليه‌السلام الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم. واليهود من الهوادة وهي المودة ، أو التهود وهي التوبة ، كقول موسى عليه‌السلام (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٥٦] أي تبنا ، فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض ، وقيل : لنسبتهم إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب ، وقال أبو عمرو بن العلاء : لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة ، فلما بعث عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له ، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى ، سموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم ، وقد يقال لهم أنصار أيضا ، كما قال عيسى عليه‌السلام (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) وقيل : إنهم إنما سموا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها ناصرة ، قاله قتادة وابن جريج ، وروي عن ابن عباس أيضا ، والله أعلم. والنصارى جمع نصران ، كنشاوى جمع نشوان ، وسكارى جمع سكران ، ويقال للمرأة نصرانة وقال الشاعر : [الطويل]

[فكلتاهما خرّت وأسجد رأسها

كما سجدت] نصرانة لم تحنّف (١)

فلما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتما للنبيين ، ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق ، وجب عليهم تصديقه فيما أخبر ، وطاعته فيما أمر ، والانكفاف عما عنه زجر ، وهؤلاء هم المؤمنون حقا وسميت أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم ، وشدة إيقانهم ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية ، وأما الصابئون فقد اختلف فيهم ، فقال سفيان الثوري ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، قال : الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى وليس لهم دين ، وكذا رواه ابن أبي نجيح عنه ، وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك. وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي وأبو الشعثاء ، جابر بن زيد ، والضحاك وإسحاق بن راهويه : الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور ، ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق : لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم ، وقال هشيم ، عن مطرف : كنا عند الحكم بن عتبة ، فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن أنه كان يقول في الصابئين : إنهم كالمجوس فقال الحكم : ألم أخبركم بذلك ، وقال عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن عبد الكريم : سمعت الحسن ذكر الصابئين فقال : هم قوم يعبدون

__________________

(١) البيت لأبي الأخرز الحماني في الإنصاف ٢ / ٤٤٥ ، والكتاب ٣ / ٤١١ ؛ ولسان العرب (نصر) ؛ وبلا نسبة في الكتاب ٣ / ٢٥٦ ؛ والطبري ١ / ٣٥٩.

١٨٣

الملائكة. وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن الحسن ، قال : أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة ، ويصلون الخمس قال : فأراد أن يضع عنهم الجزية ، قال : فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة (١). وقال أبو جعفر الرازي : بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة ، ويقرءون الزبور ويصلون للقبلة (٢) ، وكذا قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه قال : الصابئون قوم مما يلي العراق وهم بكوثى ، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما ، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات. وسئل وهب بن منبه عن الصابئين فقال : الذي يعرف الله وحده وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرا وقال عبد الله بن وهب : قال عبد الرحمن بن زيد : الصابئون أهل دين من الأديان ، كانوا بجزيرة الموصل ، يقولون : لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلا الله ، قال : ولم يؤمنوا برسول فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه هؤلاء الصابئون يشبهونهم بهم ، يعني في قول لا إله إلا الله ، وقال الخليل : هم قوم يشبه دينهم دين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب ، يزعمون أنهم على دين نوح عليه‌السلام. وحكى القرطبي (٣) عن مجاهد والحسن وابن نجيح ، أنهم قوم تركب دينهم بين اليهود والمجوس (٤) ، ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم ، قال القرطبي : والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم ، وأنها فاعلة (٥) ، ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري بكفرهم للقادر بالله حين سأله عنهم. واختار الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب بمعنى أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء ، أو بمعنى أن الله فوض تدبير أمر هذا العالم إليها ، قال : وهذا القول هو المنسوب إلى الكلدانيين (٦) الذين جاءهم إبراهيم عليه‌السلام رادا عليهم ومبطلا لقولهم. وأظهر الأقوال والله أعلم ، قول مجاهد ومتابعيه ووهب بن منبه : أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين ، وإنما هم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتنونه ، ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئ ، أي أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك. وقال بعض العلماء : الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي ، والله أعلم.

__________________

(١) الطبري ١ / ٣٦١.

(٢) تفسير الرازي ٣ / ٩٨. وقد نقله من قول قتادة.

(٣) القرطبي ١ / ٤٣٤.

(٤) عبارة القرطبي : «بين اليهودية والمجوسية».

(٥) في القرطبي : «فعّالة».

(٦) في الأصل «الكشرانيين». والتصحيح عن الرازي.

١٨٤

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٦٤)

يقول تعالى مذكرا بني إسرائيل ما أخد عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له ، واتباع رسله ، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق ، رفع الجبل فوق رؤوسهم ليقروا بما عوهدوا عليه ، ويأخذوه بقوة وجزم وامتثال ، كما قال تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأعراف : ١٧١] فالطور هو الجبل كما فسره به في الأعراف ، ونص على ذلك ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن والضحاك والربيع بن أنس وغير واحد ، وهذا ظاهر. وفي رواية عن ابن عباس : الطور ما أنبت من الجبال ، وما لم ينبت فليس بطور. وفي حديث الفتون عن ابن عباس أنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا. وقال السدي : فلما أبوا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم فنظروا إليه وقد غشيهم فسقطوا سجدا فسجدوا على شق ونظروا بالشق الآخر فرحمهم‌الله فكشفه عنهم ، فقالوا : والله ما سجدة أحب إلى الله من سجدة كشف بها العذاب عنهم فهم يسجدون كذلك ، وذلك قول الله تعالى (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ). وقال الحسن في قوله (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) يعني التوراة. وقال أبو العالية والربيع بن أنس : بقوة أي بطاعة ، وقال مجاهد : بقوة بعمل ما فيه ، وقال قتادة (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) القوة : الجد وإلا قذفته عليكم ، قال : فأقروا بذلك أنهم يأخذون ما أوتوا به بقوة ، ومعنى قوله وإلا قذفته عليكم أي أسقطته عليكم ، يعني الجبل. وقال أبو العالية والربيع (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) يقول : اقرءوا ما في التوراة واعملوا به ، وقوله تعالى (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) يقول تعالى : ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) أي بتوبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (٦٦)

يقول تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) يا معشر اليهود ما أحل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره إذ كان مشروعا لهم ، فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الشصوص (١) والحبائل والبرك قبل يوم السبت فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل

__________________

(١) الشصوص : جمع شصّ ، وهو حديدة معقوفة يصاد بها السمك.

١٨٥

والحيل ، فلم تخلص منها يومها ذلك ، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت ، فلما فعلوا ذلك ، مسخهم الله إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة ، فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن ، كان جزاؤهم من جنس عملهم وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف : ١٦٣] القصة بكمالها. وقال السدي : أهل هذه القرية هم أهل أيله ، وكذا قال قتادة ، وسنورد أقوال المفسرين هناك مبسوطة إن شاء الله وبه الثقة.

وقوله تعالى : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) قال : مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة. وإنما هو مثل ضربه الله (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة : ٥] ورواه ابن جرير عن المثنى ، عن أبي حذيفة وعن محمد بن عمر الباهلي وعن أبي عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد به (١) ، وهذا سند جيد عن مجاهد ، وقول غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره. قال الله تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) [المائدة : ٦٠] ، وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) فجعل الله منهم القردة والخنازير فزعم أن شباب القوم صاروا قردة وأن المشيخة صاروا خنازير. وقال شيبان النحوي عن قتادة (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) فصار القوم قردة تعاوى ، لها أذناب بعد ما كانوا رجالا ونساء وقال عطاء الخراساني : نودوا يا أهل القرية (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون يا فلان ألم ننهكم؟ فيقولون برءوسهم : أي بلى ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا عبد الله بن محمد بن ربيعة بالمصيصية (٢) ، حدثنا محمد بن مسلم ، يعني الطائفي ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فواقا (٣) ، ثم هلكوا ما كان للمسخ نسل. وقال الضحاك ، عن ابن عباس : فمسخهم الله قردة بمعصيتهم ، يقول : إذ لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام ، قال : ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكرها الله في كتابه ، فمسخ هؤلاء القوم في صورة

__________________

(١) الطبري ١ / ٣٧٣.

(٢) كذا. ولعلها المصيصة : مدينة على شاطئ جيحان من ثغور الشام بين أنطاكية وبلاد الروم تقارب طرسوس (معجم البلدان)

(٣) الفواق : ما بين الحلبتين من الراحة.

١٨٦

القردة ، وكذلك يفعل بمن يشاء كما يشاء ، ويحوله كما يشاء ، وقال أبو جعفر (١) ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) قال : يعني أذلة صاغرين. وروي عن مجاهد وقتادة والربيع وأبي مالك نحوه.

وقال محمد بن إسحاق عن داود بن أبي الحصين عن عكرمة ، قال : قال ابن عباس : إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم يوم الجمعة فخالفوا إلى السبت فعظموه وتركوا ما أمروا به ، فلما أبوا إلا لزوم السبت ابتلاهم الله فيه ، فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره ، وكانوا في قرية بين أيلة والطور ، يقال لها : مدين ، فحرم الله عليهم في السبت الحيتان صيدها وأكلها ، وكانوا إذا كان يوم السبت ، أقبلت إليهم شرعا إلى ساحل بحرهم ، حتى إذا ذهب السبت ذهبن فلم يروا حوتا صغيرا ولا كبيرا ، حتى إذا كان يوم السبت أتين شرعا ، حتى إذا ذهب السبت ذهبن ، فكانوا كذلك ، حتى إذا طال عليهم الأمد وقرموا (٢) إلى الحيتان ، عمد رجل منهم فأخذ حوتا سرا يوم السبت فحزمه بخيط ثم أرسله في الماء وأوتد له وتدا في الساحل فأوثقه تم تركه ، حتى إذا كان الغد جاء فأخذه أي إني لم آخذه في يوم السبت (٣) ، فانطلق به فأكله ، حتى إذا كان يوم السبت الآخر عاد لمثل ذلك ، ووجد الناس ريح الحيتان ، فقال أهل القرية : والله لقد وجدنا ريح الحيتان ، ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل ، قال : ففعلوا كما فعل ، وصنعوا سرا زمانا طويلا لم يعجل الله عليهم العقوبة حتى صادوها علانية وباعوها في الأسواق ، فقالت طائفة منهم من أهل البقية : ويحكم اتقوا الله ، ونهوهم عما كانوا يصنعون ، فقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان ، ولم تنه القوم عما صنعوا ، (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً؟ قالُوا : مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٦٤] لسخطنا أعمالهم (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). قال ابن عباس : فبينما هم على ذلك ، أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم وفقدوا الناس فلم يروهم ، قال : فقال بعضهم لبعض : إن للناس شأنا ، فانظروا ما هو فذهبوا ينظرون في دورهم ، فوجدوها مغلقة عليهم ، قد دخلوها ليلا فغلقوها على أنفسهم كما يغلق الناس على أنفسهم ، فأصبحوا فيها قردة ، وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد ، والمرأة وإنها لقردة ، والصبي بعينه وإنه لقرد ، قال : قال ابن عباس : فلو لا ما ذكر الله أنه نجى الذين نهوا عن السوء لقلنا أهلك الله الجميع منهم ، قال : وهي القرية التي قال جل ثناؤه لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) [الأعراف : ١٦٣] ، وروى الضحاك عن ابن عباس نحوا من هذا. وقال السدي في قوله تعالى (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) قال : هم أهل أيلة ، وهي القرية التي كانت حاضرة البحر ،

__________________

(١) الطبري ١ / ٣٧٤.

(٢) أي اشتدت شهوتهم إلى لحم الحيتان.

(٣) أي مدعيا ، على سبيل الاحتيال والمخادعة ، أنه لم يأخذه في يوم السبت.

١٨٧

فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت ، وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئا ، فلم يبق في البحر حوت إلا خرج حتى يخرجن خراطيمهن من الماء ، فإذا كان يوم الأحد لزمن سفل البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت ، فذلك قوله تعالى (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) فاشتهى بعضهم السمك ، فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر ، فإذا كان يوم السبت فتح النهر فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة ، فيريد الحوت أن يخرج فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر ، فيمكث فيها ، فإذا كان يوم الأحد ، جاء فأخذه ، فجعل الرجل يشوي السمك ، فيجد جاره روائحه ، فيسأله فيخبره ، فيصنع مثل ما صنع جاره حتى فشا فيهم أكل السمك ، فقال لهم علماؤهم : ويحكم ، إنما تصطادون يوم السبت وهو لا يحل لكم ، فقالوا : إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه ، قال الفقهاء : لا ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل ، قال : وغلبوا أن ينتهوا. فقال بعض الذين نهوهم لبعض (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) يقول : لم تعظونهم وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم؟ فقال بعضهم (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) فلما أبوا ، قال المسلمون : والله لا نساكنكم في قرية واحدة ، فقسموا القرية بجدار وفتح المسلمون بابا والمعتدون في السبت بابا ولعنهم داود عليه‌السلام ، فجعل المسلمون يخرجون من بابهم ، والكفار من بابهم ، فخرج المسلمون ذات يوم ولم يفتح الكفار بابهم فلما أبطئوا عليهم ، تسور المسلمون عليهم الحائط ، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض ، ففتحوا عنهم فذهبوا في الأرض ، فذلك قول الله تعالى : (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) وذلك حين يقول (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [المائدة : ٧٨] : فهم القردة.

(قلت) والغرض من هذا السياق عن هؤلاء الأئمة ، بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهدرحمه‌الله ، من أن مسخهم إنما كان معنويا لا صوريا ، بل الصحيح أنه معنوي وصوري ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (فَجَعَلْناها نَكالاً) قال بعضهم : الضمير في فجعلناها عائد على القردة وقيل على الحيتان وقيل على العقوبة وقيل على القرية ، حكاها ابن جرير (١). والصحيح أن الضمير عائد على القرية ، أي فجعل الله هذه القرية والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم (نَكالاً) أي عاقبناهم عقوبة فجعلناها عبرة كما قال الله عن فرعون (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) [النازعات : ٢٥] وقوله تعالى (لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) أي من القرى ، قال ابن عباس : يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى كما قال تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأحقاف : ٢٧] ومنه قوله تعالى (أَوَلَمْ

__________________

(١) الطبري ١ / ٣٧٤ ـ ٣٧٥.

١٨٨

يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الرعد : ٤١] ، على أحد الأقوال في المكان ، كما قال محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس : لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى ، فالمراد لما بين يديها وما خلفها من القرى ، وكذا قال سعيد بن جبير: لما بين يديها وما خلفها ، قال : من بحضرتها من الناس يومئذ. وروي عن إسماعيل بن أبي خالد وقتادة وعطية العوفي (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها) قال : ما قبلها من الماضين في شأن السبت. وقال أبو العالية والربيع وعطية : (وَما خَلْفَها) لما بقي بعدهم من الناس من بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم ، وكان هؤلاء يقولون : المراد لما بين يديها وما خلفها في الزمان. وهذا مستقيم بالنسبة إلى من يأتي بعدهم من الناس أن يكون أهل تلك القرية عبرة لهم ، وأما بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس فكيف يصح هذا الكلام أن تفسر الآية به ، وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم؟ وهذا لعل أحدا من الناس لا يقوله بعد تصوره فتعين أن المراد بما بين يديها وما خلفها في المكان ، وهو ما حولها من القرى ، كما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ، والله أعلم.

وقال أبو جعفر الرازي (١) ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) أي عقوبة لما خلا من ذنوبهم. وقال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة ومجاهد والسدي والفراء وابن عطية : لما بين يديها من ذنوب القوم وما خلفها ، لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب. وحكى الرازي ثلاثة أقوال : أحدها : أن المراد بما بين يديها وما خلفها ، من تقدمها من القرى (٢) بما عندهم من العلم بخبرها بالكتب المتقدمة ومن بعدها. والثاني : المراد بذلك من بحضرتها من القرى (٣) والأمم. والثالث : أنه تعالى ، جعلها عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده ، وهو قول الحسن. (قلت) وأرجح الأقوال المراد بما بين يديها وما خلفها ، من بحضرتها من القرى ، يبلغهم خبرها وما حل بها ، كما قال تعالى (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) [الأحقاف : ٢٧] ، وقال تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) [الرعد : ٣١] ، وقال تعالى (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الرعد : ٤١] فجعلهم عبرة ونكالا لمن في زمانهم ، وموعظة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم ، ولهذا قال (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ).

وقوله تعالى : (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) قال محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) الذين من بعدهم إلى يوم القيامة ، وقال الحسن وقتادة (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) بعدهم فيتقون نقمة الله ويحذرونها ، وقال السدي وعطية العوفي

__________________

(١) تفسير الرازي ٣ / ١٠٤.

(٢) في الرازي : «من الأمم والقرون».

(٣) في الرازي : «القرون».

١٨٩

(وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) قال أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قلت) المراد بالموعظة هاهنا الزاجر أي جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله ، وما تحيلوا به من الحيل ، فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم ، كما قال الإمام أبو عبد الله بن بطة : حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم ، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا محمد بن عمر ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» وهذا إسناد جيد ، وأحمد بن محمد بن مسلم هذا ، وثقه الحافظ أبو بكر البغدادي وباقي رجاله مشهورون على شرط الصحيح ، والله أعلم.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٦٧)

يقول تعالى : واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة ، وبيان القاتل من هو بسببها ، وإحياء الله المقتول ، ونصه على من قتله منهم.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني ، قال : كان رجل من بني إسرائيل عقيما لا يولد له ، وكان له مال كثير ، وكان ابن أخيه وارثه ، فقتله ثم احتمله ليلا ، فوضعه على باب رجل منهم ، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض. فقال ذوو الرأي منهم والنهي : علام يقتل بعضكم بعضا ، وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى عليه‌السلام ، فذكروا ذلك له ، فقال (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) قال : فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ، ولكنهم شددوا ، فشدد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها ، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها ، فقال : والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا ، فأخذوها بملء جلدها ذهبا ، فذبحوها ، فضربوه ببعضها ، فقام فقالوا : من قتلك؟ فقال : هذا ـ لابن أخيه ، ثم مال ميتا ، فلم يعط من ماله شيئا ، فلم يورث قاتل بعد. ورواه ابن جرير من حديث أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة بنحو من ذلك (١) ، والله أعلم. ورواه عبد بن حميد في تفسيره : أنبأنا يزيد بن هارون به ، ورواه آدم بن أبي إياس في تفسيره ، عن أبي جعفر هو الرازي ، عن هشام بن حسان به ، وقال آدم بن أبي إياس في تفسره : أنبأنا أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية في قول الله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) قال : كان رجل من بني إسرائيل ، وكان غنيا ، ولم يكن له ولد ، وكان له قريب ، وكان وراثه ، فقتله ليرثه ، ثم ألقاه على مجمع الطريق ، وأتى موسى عليه‌السلام فقال له : إن قريبي قتل وأني إلى أمر عظيم ، وإني لا أجد أحدا يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله ، قال : فنادى

__________________

(١) الطبري ١ / ٣٧٩.

١٩٠

موسى في الناس ، فقال : أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا يبينه لنا ، فلم يكن عندهم علم، فأقبل القاتل على موسى عليه‌السلام ، فقال له : أنت نبي الله ، فسل لنا ربك أن يبين لنا ، فسأل ربه ، فأوحى الله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فعجبوا من ذلك ، فقالوا : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟ قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ؟ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ) يعني لا هرمة (وَلا بِكْرٌ) يعني ولا صغيرة (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) أي نصف بين البكر والهرمة (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها؟ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) أي صاف لونها (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) أي تعجب الناظرين (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ؟ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) أي لم يذللها العمل (تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) يعني وليست بذلول ، تثير الأرض ولا تسقي الحرث يعني ولا تعمل في الحرث (مُسَلَّمَةٌ) يعني مسلمة من العيوب (لا شِيَةَ فِيها) يقول : لا بياض فيها (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) قال : ولو أن القوم حين أمروا بذبح بقرة ، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها ، ولكن شددوا على أنفسهم ، فشدد الله عليهم ، ولو لا أن القوم استثنوا فقالوا : إنا إن شاء الله لمهتدون ، لما هدوا إليها أبدا ، فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم إلا عند عجوز وعندها يتامى وهي القيمة عليهم ، فلما علمت أنه لا يزكو لهم غيرها ، أضعفت عليهم الثمن ، فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة ، وأنها سألت أضعاف ثمنها ، فقال موسى : إن الله قد خفف عليكم ، فشددتم على أنفسكم ، فأعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا واشتروها فذبحوها ، فأمرهم موسى عليه‌السلام أن يأخذوا عظما منها فيضربوا القتيل ، ففعلوا ، فرجع إليه روحه ، فسمى لهم قاتله ، ثم عاد ميتا كما كان ، فأخذ قاتله ، وهو الذي كان أتى موسى عليه‌السلام ، فشكا إليه ، فقتله الله على أسوأ عمله.

وقال محمد بن جرير : حدثني محمد بن سعيد ، حدثني أبي ، حدثني عمي ، حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله في شأن البقرة ، وذلك أن شيخا من بني إسرائيل على عهد موسى عليه‌السلام كان مكثرا من المال ، وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم ، وكان الشيخ لا ولد له ، وكان بنو أخيه ورثته فقالوا ليت عمنا قد مات فورثنا ماله ، وإنه لما تطاول عليهم ألا يموت عمهم ، أتاهم الشيطان فقال لهم : هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم فترثوا ماله ، وتغرموا أهل المدينة التي لستم بها ديته؟ وذلك أنهما كانتا مدينتين كانوا في إحداهما ، وكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين ، قيس ما بين القتيل والقريتين ، فأيتهما كانت أقرب إليه ، غرمت الدية ، وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك ، وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم ، عمدوا إليه فقتلوه ، ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها ، فلما أصبح أهل المدينة ، جاء بنو أخي الشيخ فقالوا : عمنا قتل على باب مدينتكم ، فو الله لتغرمن لنا دية عمنا ، قال أهل المدينة : نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا ، وإنهم عمدوا إلى موسى عليه

١٩١

السلام ، فلما أتوه ، قال بنو أخي الشيخ : عمنا وجدناه مقتولا على باب مدينتهم ، وقال أهل المدينة : نقسم بالله ما قتلناه ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا ، وإن جبرائيل جاء بأمر السميع العليم إلى موسى عليه‌السلام ، فقال : قل لهم : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فتضربوه ببعضها ، وقال السدي (١) : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) قال : كان رجل من بني إسرائيل مكثرا من المال ، فكانت له ابنة ، وكان له ابن أخ محتاج ، فخطب إليه ابن أخيه ابنته ، فأبى أن يزوجه ، فغضب الفتى وقال : والله لأقتلن عمي ولآخذن ماله ، ولأنكحن ابنته ، ولآكلن ديته ، فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل ، فقال يا عم ، انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم لعلي أن أصيب منها ، فإنهم إذا رأوك معي أعطوني فخرج العم مع الفتى ليلا فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى ، ثم رجع إلى أهله ، فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمه ، كأنه لا يدري أين هو ، فلم يجده ، فانطلق نحوه ، فإذا بذلك السبط مجتمعين عليه ، فأخذهم وقال : قتلتم عمي ، فأدوا إليّ ديته ، فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادي وأعماه ، فرفعهم إلى موسى فقضى عليهم بالدية ، فقالوا له : يا رسول الله ادع لنا ربك حتى يبين لنا من صاحبه فيؤخذ صاحب القضية (٢) ، فو الله إن ديته علينا لهينة ، ولكن نستحي أن نعير به فذلك حين يقول تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) [البقرة : ٧٢] فقال لهم موسى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) قالوا : نسألك عن القتيل وعمن قتله ، وتقول اذبحوا بقرة أتهزأ بنا (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) قال ابن عباس : فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ، ولكن شددوا وتعنتوا على موسى ، فشدد الله عليهم ، فقالوا : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) والفارض : الهرمة التي لا تولد ، والبكر التي لم تلد إلا ولدا واحدا ، والعوان النصف التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) قال : نقي لونها (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) قال : تعجب الناظرين (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها) من بياض ولا سواد ولا حمرة (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) فطلبوها فلم يقدروا عليها ، وكان رجل من بني إسرائيل من أبر الناس بأبيه ، وإن رجلا مرّ به معه لؤلؤ يبيعه ، وكان أبوه نائما تحت رأسه المفتاح ، فقال له الرجل : تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا؟ فقال له الفتى : كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه منك بثمانين ألفا ، قال الآخر : أيقظ أباك وهو لك بستين ألفا ، فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفا ، وزاد الآخر على أن ينتظر أباه حتى يستيقظ حتى بلغ مائة

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٣٨٠.

(٢) في الطبري : «صاحب الجريمة».

١٩٢

ألف ، فلما أكثر عليه قال : والله لا أشتريه منك بشيء أبدا ، وأبى أن يوقظ أباه ، فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة ، فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة ، وأبصروا البقرة عنده فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة ، فأبى ، فأعطوه اثنتين فأبى ، فزادوه حتى بلغوا عشرا ، فقالوا : والله لا نتركك حتى نأخذها منك ، فانطلقوا به إلى موسى عليه‌السلام ، فقالوا : يا نبي الله ، إنا وجدناها عند هذا وأبى أن يعطيناها وقد أعطيناه ثمنا ، فقال له موسى : أعطهم بقرتك ، فقال يا رسول الله ، أنا أحق بمالي ، فقال : صدقت ، وقال للقوم : أرضوا صاحبكم فأعطوه وزنها ذهبا ، فأبى فأضعفوه له حتى أعطوه وزنها عشر مرات ذهبا ، فباعهم إياها وأخذ ثمنها ، فقال : اذبحوها فذبحوها ، قال : اضربوه ببعضها ، فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين ، فعاش ، فسألوه : من قتلك؟ فقال لهم : ابن أخي ، قال : أقتله فآخذ ماله وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه.

وقال سنيد : حدثنا حجاج هو ابن محمد ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وحجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس ـ دخل حديث بعضهم في حديث بعض ـ ، قالوا : إن سبطا من بني إسرائيل لما رأوا كثرة شرور الناس ، بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس ، فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدا منهم خارجا إلا أدخلوه ، وإذا أصبحوا قام رئيسهم فنظر وأشرف ، فإذا لم ير شيئا فتح المدينة ، فكانوا مع الناس حتى يمسوا ، قال : وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير ، ولم يكن له وارث غير أخيه ، فطال عليه حياته ، فقتله ليرثه ، ثم حمله فوضعه على باب المدينة ، ثم كمن في مكان هو وأصحابه ، قال : فأشرف رئيس المدينة فنظر ، فلم ير شيئا ففتح الباب ، فلما رأى القتيل رد الباب ، فناداه أخو المقتول وأصحابه : هيهات قتلتموه ثم تردون الباب ، وكان موسى لما رأى القتل كثيرا في بني إسرائيل كان إذا رأى القتيل بين ظهراني القوم أخذهم فكاد يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتال حتى لبس الفريقان السلاح ثم كف بعضهم عن بعض ، فأتوا موسى ، فذكروا له شأنهم ، قالوا : يا موسى إن هؤلاء قتلوا قتيلا ثم ردوا الباب ، قال أهل المدينة : يا رسول الله قد عرفت اعتزالنا الشرور ، وبنينا مدينة كما رأيت نعتزل شرور الناس ، والله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ، فأوحى الله تعالى إليه أن يذبحوا بقرة ، فقال لهم موسى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) وهذه السياقات عن عبيدة وأبي العالية والسدي وغيرهم ، فيها اختلاف ما ، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل ، وهي مما يجوز نقلها ، ولكن لا تصدق ولا تكذب ، فلهذا لا يعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا ، والله أعلم.

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا

١٩٣

الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) (٧١)

أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم ، لهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق الله عليهم ، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم ، كما قال ابن عباس وعبيدة وغير واحد ، ولكنهم شددوا فشدد عليهم فقالوا : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) أي ما هذه البقرة وأي شيء صفتها ، قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا تمّام بن علي ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها ، ولكنهم شددوا فشدد عليهم ـ اسناد صحيح ـ وقد رواه غير واحد عن ابن عباس ، وكذا قال عبيدة والسدي ومجاهد وعكرمة وأبو العالية وغير واحد ، وقال ابن جريج : قال لي عطاء : لو أخذوا أدنى بقرة لكفتهم ، قال ابن جريج : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما أمروا بأدنى بقرة ولكنهم لما شددوا شدد الله عليهم وايم الله لو أنهم لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد» قال : (إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) أي لا كبيرة هرمة ولا صغيرة لم يلحقها الفحل ، كما قاله أبو العالية والسدي ومجاهد وعكرمة وعطية العوفي وعطاء الخراساني ووهب بن منبه والضحاك والحسن وقتادة ، وقاله ابن عباس أيضا ، وقال الضحاك عن ابن عباس : عوان بين ذلك ، يقول نصف بين الكبير والصغيرة ، وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر ، وأحسن ما تكون ، وروي عن عكرمة ومجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وعطاء الخراساني والضحاك نحو ذلك ، وقال السدي : العوان : النصف التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها ، وقال هشيم ، عن جويبر ، عن كثير بن زياد ، عن الحسن في البقرة : كانت بقرة وحشية ، وقال ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : من لبس نعلا صفراء لم يزل في سرور ما دام لا لابسها ، وذلك قوله تعالى : (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) وكذا قال مجاهد ووهب بن منبه : كانت صفراء ، وعن ابن عمر : كانت صفراء الظلف ، وعن سعيد بن جبير : كانت صفراء القرن والظلف ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نصر بن علي ، حدثنا نوح بن قيس ، أنبأنا أبو رجاء عن الحسن في قوله تعالى : (بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) قال سوداء شديدة السواد ، وهذا غريب ، والصحيح الأول ولهذا أكد صفرتها بأنه (فاقِعٌ لَوْنُها) وقال عطية العوفي (فاقِعٌ لَوْنُها) تكاد تسود من صفرتها ، وقال سعيد بن جبير (فاقِعٌ لَوْنُها) قال : صافية اللون. وروي عن أبي العالية والربيع بن أنس والسدي والحسن وقتادة نحوه ، وقال شريك عن معمر عن ابن عمر (فاقِعٌ لَوْنُها) قال : صاف ، وقال العوفى في تفسيره عن ابن عباس (فاقِعٌ لَوْنُها) تكاد تسود من صفرتها ، وقال سعيد بن جبير (فاقِعٌ لَوْنُها) صافية اللون ، وروي عن أبي العالية والربيع بن أنس والسدي والحسن وقتادة نحوه ، وقال شريك عن معمر عن ابن عمر (فاقِعٌ لَوْنُها) شديدة الصفرة ، تكاد من صفرتها تبيض ، وقال السدي (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) أي تعجب الناظرين ، وكذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس. وقال وهب بن منبه : إذا نظرت إلى جلدها تخيلت أن شاع الشمس يخرج من جلدها. وفي التوراة :

١٩٤

أنها كانت حمراء وسواد ، فلعل هذا خطأ في التعريب ، أو كما قال الأول : إنها كانت شديدة الصفرة تضرب إلى حمرة وسواد ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) أي لكثرتها ، فميز لنا هذه البقرة وصفها وحلها لنا (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ) إذا بينتها لنا (لَمُهْتَدُونَ) إليها ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن يحيى الأودي الصوفي ، حدثنا أبو سعيد أحمد بن داود الحداد ، حدثنا سرور بن المغيرة الواسطي بن أخي منصور بن زاذان ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو لا أن بني إسرائيل قالوا (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) ما أعطوا أبدا ، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم ، ولكن شددوا ، فشدد الله عليهم» وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة كما تقدم مثله على السدي ، والله أعلم.

(قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) أي إنها ليست مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي في الساقية ، بل هي مكرمة ، حسنة ، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : مسلمة يقول : لا عيب فيها ، وكذا قال أبو العالية والربيع. وقال مجاهد : مسلمة من الشية ، وقال عطاء الخراساني : مسلمة القوائم والخلق لا شية فيها ، قال مجاهد : لا بياض ولا سواد ، وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتادة : ليس فيها بياض ، وقال عطاء الخراساني : لا شية فيها ، قال : لونها واحد بهيم ، وروي عن عطية العوفي ووهب بن منبه وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك ، وقال السدي : لا شية فيها من بياض ولا سواد ولا حمرة. وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى. وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) ليست بمذللة بالعمل ، ثم استأنف فقال : (تُثِيرُ الْأَرْضَ) أي يعمل عليها بالحراثة ، لكنها لا تسقي الحرث ، وهذا ضعيف لأنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث ، كذا قرره القرطبي (١) وغيره.

(قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) قال قتادة : الآن بينت لنا ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : وقبل ذلك والله قد جاءهم الحق (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) قال الضحاك ، عن ابن عباس : كادوا أن لا يفعلوا ولم يكن ذلك الذي أرادوا ، لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها ، يعني أنهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة والأجوبة والإيضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد ، وفي هذا ذم لهم ، وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت ، فلهذا ما كادوا يذبحونها. وقال محمد بن كعب ومحمد بن قيس : فذبحوها وما كادوا يفعلون لكثرة ثمنها. وفي هذا نظر ، لأن كثرة الثمن لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل كما تقدم من حكاية أبي العالية والسدي ، ورواه العوفي عن ابن عباس ، وقال عبيدة

__________________

(١) تفسير القرطبي ١ / ٤٥٣.

١٩٥

ومجاهد ووهب بن منبه وأبو العالية وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أنهم اشتروها بمال كثير ، وفيه اختلاف ، ثم قد قيل في ثمنها غير ذلك ، وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن عيينة ، أخبرني محمد بن سوقة عن عكرمة ، قال : ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير ، وهذا إسناد جيد عن عكرمة والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب أيضا ، وقال ابن جرير (١) ، وقال آخرون : لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة إن اطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه [إلى موسى] (٢) ولم يسنده عن أحد ، ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلاء ثمنها وللفضيحة ، وفي هذا نظر ، بل الصواب ، والله أعلم ، ما تقدم من رواية الضحاك عن ابن عباس على ما وجهناه ، وبالله التوفيق.

[مسألة] استدل بهذه الآية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت أو تم تقييدها بعد الإطلاق على صحة السلم في الحيوان ، كما هو مذهب مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وجمهور من العلماء سلفا وخلفا بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها» وكما وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إبل الدية في قتل الخطأ ، وشبه العمد بالصفات المذكورة بالحديث ، وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون : لا يصح السلم في الحيوان لأنه لا تنضبط أحواله ، وحكي مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن بن سمرة وغيرهم.

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٧٣)

قال البخاري : (فَادَّارَأْتُمْ فِيها) اختلفتم ، وهكذا قال مجاهد ، قال فيما رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أبي حذيفة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، إنه قال في قوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) اختلفتم. وقال عطاء الخراساني والضحاك : اختصمتم فيها ، وقال ابن جريج (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) قال بعضهم : أنت قتلتموه ، وقال آخرون : بل أنتم قتلتموه ، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسم (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) قال مجاهد : ما تغيبون ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن مسلم البصري ، حدثنا محمد بن الطفيل العبدي ، حدثنا صدقة بن رستم ، سمعت المسيب بن رافع يقول : ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله ، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله ، وتصديق ذلك في كلام الله (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة ، فالمعجزة حاصلة به ، وخرق العادة به كائن ، وقد كان معينا في نفس

__________________

(١) الطبري ١ / ٣٩٧.

(٢) الزيادة من الطبري.

١٩٦

الأمر ، فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا ، ولكنه أبهمه ولم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانه ، فنحن نبهمه كما أبهمه الله ، ولهذا قال ابن أبي حاتم : حدّثنا أحمد بن سنان حدّثنا عفان بن مسلم حدّثنا عبد الواحد بن زياد حدّثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إن أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له وكانت بقرة تعجبه ، قال : فجعلوا يعطونه بها فيأبى حتى أعطوه ملء مسكها (١) دنانير ، فذبحوها ، فضربوه ـ يعني القتيل ـ بعضو منها ، فقام تشخب أوداجه دما ، فقالوا له من قتلك؟ قال : قتلني فلان ، وكذا قال الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أنه ضرب ببعضها ، وفي رواية عن ابن عباس أنه ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر ، قال : قال أيوب عن ابن سيرين ، عن عبيدة : ضربوا القتيل ببعض لحمها ، قال معمر : قال قتادة : ضربوه بلحم فخذها فعاش ، فقال : قتلني فلان ، وقال وكيع بن الجراح في تفسيره : حدثنا النضر بن عربي عن عكرمه (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) فضرب بفخذها ، فقام فقال : قتلني فلان ، قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد وقتادة وعكرمة نحو ذلك. وقال السدي : فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين ، فعاش ، فسألوه فقال : قتلني ابن أخي ، وقال أبو العالية : أمرهم موسى عليه‌السلام ، أن يأخذوا عظما من عظامها فيضربوا به القتيل ، ففعلوا فرجع إليه روحه ، فسمى لهم قاتله ، ثم عاد ميتا كما كان ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : فضربوه ببعض آرابها (٢) وقيل : بلسانها وقيل بعجب (٣) ذنبها.

وقوله تعالى : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) أي فضربوه فحيي ، ونبه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل ، جعل تبارك وتعالى ذلك الصنيع حجة لهم على المعاد ، وفاصلا ما كان بينهم من الخصومة والعناد ، والله تعالى قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) وهذه القصة ، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، وقصة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها ، وقصة إبراهيم عليه‌السلام والطيور الأربعة. ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميما ، كما قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبه ، أخبرني يعلى بن عطاء ، قال : سمعت وكيع بن عدس يحدث عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه ، قال : قلت يا رسول الله ، كيف يحيي الله الموتى؟ قال : «أما مررت بواد ممحل ، ثم مررت به خضرا»؟ قال بلى. قال : «كذلك النشور» أو قال : «كذلك يحيي الله الموتى» وشاهد هذا قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ

__________________

(١) أي ملء جلدها.

(٢) الآراب : جمع إرب ، وهو العضو. أي ضربوه ببعض أعضائها.

(٣) عجب الذنب : الجزيء في أصل الذنب عند رأس العصعص.

١٩٧

وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ) [يس : ٣٣ ـ ٣٥].

[مسألة] استدل لمذهب الإمام مالك في كون قول الجريح : فلان قتلني ، لوثا (١) بهذه القصة ، لأن القتيل لما حيي سئل عمن قتله ، فقال فلان قتلني ، فكان ذلك مقبولا منه ، لأنه لا يخبر حينئذ إلا بالحق ، ولا يتهم والحالة هذه. ورجحوا ذلك لحديث أنس أن يهوديا قتل جارية على أوضاح (٢) لها ، فرضخ رأسها بين حجرين ، فقيل : من فعل بك هذا ، أفلان؟ أفلان؟ حتى ذكروا اليهودي ، فأومأت برأسها ، فأخذ اليهودي ، فلم يزل به حتى اعترف ، فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرض رأسه بين حجرين ، وعند مالك إذا كان لوثا ، حلف أولياء القتيل قسامة ، وخالف الجمهور في ذلك ، ولم يجعلوا قول القتيل في ذلك لوثا.

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٧٤)

يقول تعالى توبيخا لبني إسرائيل وتقريعا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى وإحيائه الموتى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) كله ، فهي كالحجارة التي لا تلين أبدا ، ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم ، فقال : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [الحديد : ١٦] قال العوفى في تفسيره عن ابن عباس : لما ضرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط ، فقيل له : من قتلك؟ قال : بنو أخي قتلوني ثم قبض ، فقال بنو أخيه حين قبضه الله : والله ما قتلناه فكذبوا بالحق بعد أن رأوه فقال الله (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ، يعني أبناء أخى الشيخ فهي كالحجارة أو أشد قسوة ، فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات ، فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة فإن من الحجارة ما يتفجر منها العيون بالأنهار الجارية ، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء وإن لم يكن جاريا ، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله وفيه إدراك لذلك بحسبه ، كما قال : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [الإسراء : ٤٤].

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : إنه كان يقول : كل حجر يتفجر منه الماء : أو يتشقق عن ماء أو يتردى من رأس جبل لمن خشية الله نزل بذلك القرآن. وقال محمد بن إسحاق حدثني

__________________

(١) اللّوث عند الإمام الشافعي : شبه الدلالة ، ولا يكون بنية تامة. وفي حديث القسامة ذكر اللوث ، وهو أن يشهد شاهد واحد على إقرار المقتول ، قبل أن يموت ، بأن فلانا قتلني أو يشهد شاهدان على عداوة بينهما ، أو تهديد منه له ، أو نحو ذلك. وهو من التلوّث : التلطّخ (لسان العرب)

(٢) الأوضاح : الحليّ من الدراهم الصحاح ، والخلاخل.

١٩٨

محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

وقال أبو علي الجياني في تفسيره (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) هو سقوط البرد من السحاب. قال القاضي الباقلاني : وهذا تأويل بعيد ، وتبعه في استبعاده الرازي ، وهو كما قال فإن هذا خروج عن اللفظ بلا دليل ، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا الحكم بن هشام الثقفي ، حدثني يحيى بن أبي طالب يعني يحيى بن يعقوب في قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) قال : كثرة البكاء (وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) قال : قليل البكاء (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) قال : بكاء القلب من غير دموع العين.

وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز ، وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله : (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) [الكهف : ٧٧] قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة : ولا حاجة إلى هذا ، فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) [الأحزاب: ٧٢] وقال : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) [الإسراء : ١٧] ، وقال : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن : ٦] (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) [النحل : ٤٨] ، (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) [الحشر : ٢١] : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ) [فصلت : ٢١] ، وفي الصحيح «هذا جبل يحبنا ونحبه» وكحنين الجذع المتواتر خبره ، وفي صحيح مسلم «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن» وفي صفة الحجر الأسود : إنه يشهد لمن استلم بحق يوم القيامة ، وغير ذلك مما في معناه. وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير أي مثلا لهذا وهذا وهذا مثل : جالس الحسن أو ابن سيرين. وكذا حكاه الرازي في تفسيره وزاد قولا آخر : إنها للإبهام بالنسبة إلى المخاطب ، كقول القائل : أكلت خبزا أو تمرا ، وهو يعلم أيهما أكل ، وقال آخر : إنها بمعنى قول القائل : كل حلوا أو حامضا ، أي لا يخرج عن واحد منهما ، أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين الشيئين ، والله أعلم.

[تنبيه] اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) بعد الإجماع على استحالة كونها للشك ، فقال بعضهم : أو هاهنا بمعنى الواو ، تقديره : فهي كالحجارة وأشد قسوة ، كقوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] (عُذْراً أَوْ نُذْراً) [المرسلات : ٦] وكما قال النابغة الذبياني : [البسيط]

١٩٩

قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلى حمامتنا أو نصفه فقد (١)

تريد ونصفه ، قاله ابن جرير (٢) ، وقال جرير بن عطية : [البسيط]

نال الخلافة أو كانت له قدرا

كما أتى ربه موسى على قدر (٣)

قال ابن جرير : يعني نال الخلافة وكانت له قدرا وقال آخرون : أو هاهنا بمعنى بل فتقديره: فهي كالحجارة بل أشد قسوة ، وكقوله : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) [النساء : ٧٧] ، (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧] ، فكان (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) [النجم : ٩] وقال آخرون : معنى ذلك : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) عندكم حكاه ابن جرير. وقال آخرون : المراد بذلك الإبهام على المخاطب ، كما قال أبو الأسود : [الوافر]

أحب محمدا حبا شديدا

وعباسا وحمزة والوصيّا

فإن يك حبهم رشدا أصبه

وليس بمخطئ إن كان غيّا (٤)

وقال ابن جرير : قالوا : ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكا في أن حب من سمى رشد ، ولكنه أبهم على من خاطبه [به] (٥) ، قال : وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات ، قيل له : شككت؟ فقال : كلا والله ، ثم انتزع. يقول الله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] فقال : أو كان شاكا من أخبر بهذا من الهادي منهم ومن الضال؟ وقال بعضهم : معنى ذلك فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين ، إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة ، وإما أن تكون أشد منها في القسوة. قال ابن جرير ومعنى ذلك على هذا التأويل ، فبعضها كالحجارة قسوة ، وبعضها أشد قسوة من الحجارة ؛ وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره.

(قلت) وهذا القول الأخير يبقى شبيها بقوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : ١٧] مع قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ١٩] وكقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) [النور : ٣٩] مع قوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) [النور : ٤٠] ، أي

__________________

(١) البيت للنابغة في ديوانه ص ٢٤ : والأزهية ص ٨٩ ؛ والأغاني ١١ / ٣١ ؛ والإنصاف ٢ / ٤٧٩ ؛ وتذكرة النحاة ص ٣٥٣ ؛ وخزانة الأدب ١٠ / ٢٥١ ؛ والخصائص ٢ / ٤٦٠.

(٢) تفسير الطبري ٢ / ٢٣٦.

(٣) ويروى «جاء الخلافة». والبيت لجرير في ديوانه ص ٤١٦ ؛ والأزهية ص ١١٤ ؛ وخزانة الأدب ١١ / ٦٩ ؛ والدرر ٦ / ١١٨ ؛ وشرح شواهد المغني ١ / ١٩٦ ؛ والمقاصد النحوية ٢ / ٤٨٥.

(٤) البيتان لأبي الأسود في القرطبي ١ / ٤٦٣. وفيه : «وحمزة أو عليا» مكان «وحمزة والوصيّا». وتفسير الطبري ١ / ٤٠٥.

(٥) الزيادة من الطبري.

٢٠٠