تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٣٦)

يقول الله تعالى إخبارا عما أكرم به آدم : أنه أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس وأنه أباح له الجنة يسكن منها حيث يشاء ويأكل منها ما شاء رغدا أي هنيئا واسعا طيبا. وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث محمد بن عيسى الدامغاني : حدثنا سلمة بن الفضل عن ميكائيل عن ليث عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر ، قال : قلت يا رسول الله أريت آدم ، أنبيا كان؟ قال : «نعم نبيا رسولا كلمه الله قبيلا» ـ يعني عيانا ـ فقال : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم أهي في السماء أم في الأرض؟ والأكثرون على الأول ، وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض ، وسيأتي تقرير ذلك في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى. وسياق الآية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة وقد صرح بذلك محمد بن إسحاق حيث قال : لما فرغ الله من معاتبة إبليس أقبل على آدم وقد علمه الأسماء كلها فقال يا آدم أنبئهم بأسمائهم إلى قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) قال : ثم ألقيت السّنة (١) على آدم فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم عن ابن عباس وغيره ، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لحما ، وآدم نائم لم يهب من نومه حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء فسواها امرأة ليسكن إليها ، فلما كشف عنه السنة وهب من نومه رآها إلى جنبه فقال ، فيما يزعمون والله أعلم : «لحمي ودمي وزوجتي» فسكن إليها ، فلما زوجه الله وجعل له سكنا من نفسه قال له قبيلا : (يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (٢).

ويقال إن خلق حواء كان بعد دخول الجنة كما قال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة وعن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة : أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة فكان يمشي فيها وحشا ليس له زوج يسكن إليه فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه ، فسألها : ما أنت؟ قالت : امرأة ، قال : ولم خلقت؟ قالت : لتسكن إلي. قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه : ما اسمها يا آدم ، قا : حواء ، قالوا : ولم سميت حواء؟ قال : لأنها خلقت من شيء حي. قال الله : (يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما).

وأما قوله : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) فهو اختبار من الله تعالى وامتحان لآدم. وقد اختلف في هذه الشجرة ما هي ، فقال السدي عمن حدثه عن ابن عباس : الشجرة التي نهي عنها آدم عليه

__________________

(١) السّنة : النعاس.

(٢) الأثر في الطبري ١ / ٢٦٧.

١٤١

السلام هي الكرم. وكذا قال سعيد بن جبير والسدي والشعبي وجعدة بن هبيرة ومحمد بن قيس. وقال السدي أيضا في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مره عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) هي الكرم (١). وتزعم يهود أنها الحنطة. وقال ابن جرير وابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني حدثنا النضر أبو عمر الخراز عن عكرمة عن ابن عباس قال : الشجرة التي نهي عنها آدم عليه‌السلام هي السنبلة (٢). وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن عيينة وابن المبارك عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : هي السنبلة. وقال محمد بن إسحاق عن رجل من أهل العلم عن حجاج عن مجاهد عن ابن عباس قال : هي البر وقال ابن جرير : وحدثني المثنى بن إبراهيم ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا القاسم حدثني رجل من بني تميم أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم والشجرة التي تاب عندها آدم فكتب إليه أبو الجلد : سألتني عن الشجرة التي نهي عنها آدم وهي السنبلة ، وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة (٣). وكذلك فسره الحسن البصري ووهب بن منبه وعطية العوفي وأبو مالك ومحارب بن دثار وعبد الرحمن بن أبي ليلى وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل اليمن عن وهب بن منبه أنه كان يقول : هي البر ، ولكن الحبة منها في الجنة ككلى البقر وألين من الزبد وأحلى من العسل (٤). وقال سفيان الثوري عن حصين عن أبي مالك (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) قال النخلة. وقال ابن جرير عن مجاهد (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) قال التينة (٥). وبه قال قتادة وابن جريج ، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية : كانت شجرة من أكل منها أحدث ، ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث (٦). وقال عبد الرزاق : حدثنا عمر بن عبد الرحمن بن مهران قال : سمعت وهب بن منبه يقول : لما أسكن الله آدم وزوجته الجنة ونهاه عن أكل الشجرة ، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها من بعض ، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم وهي الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته.

فهذه أقوال ستة في تفسير هذه الشجرة. قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه‌الله : والصواب في ذلك أن يقال إن الله عزوجل ثناؤه : نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين ، لأن الله لم يضع

__________________

(١) الطبري ١ / ٢٦٩ ـ ٢٧٠ ؛ والدر المنثور ١ / ١٠٧.

(٢) الطبري ١ / ٢٦٨.

(٣) الطبري ١ / ٢٦٩.

(٤) رواه السيوطي في الدر المنثور ١ / ١٠٧. قال : وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم.

(٥) الذي أخرجه ابن جرير بهذا المعنى هو عن ابن جريج عن بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الطبري ١ / ٢٧٠).

وعن مجاهد أخرجه أبو الشيخ ، وعن قتادة أخرجه ابن أبي حاتم (الدر المنثور ١ / ١٠٧)

(٦) الرازي ٣ / ٦.

١٤٢

لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة ، وقد قيل : كانت شجرة البر وقيل كانت شجرة العنب وقيل كانت شجرة التين ، وجائز أن تكون واحدة منها ، وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه ، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به ، والله أعلم. وكذلك رجح الإبهام الرازي في تفسيره وغيره وهو الصواب.

وقوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) يصح أن يكون الضمير في قوله عنها عائدا إلى الجنة فيكون معنى الكلام كما قرأ عاصم بن بهدلة وهو ابن أبي النجود : فأزالهما أي فنحاهما ؛ ويصح أن يكون عائدا على أقرب المذكورين وهو الشجرة فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادة : فأزلهما أي من قبل الزلل ، فعلى هذا يكون تقدير الكلام (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) أي بسببها ، كما قال تعالى : (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) [الذاريات : ٩] أي يصرف بسببه من هو مأفوك ، ولهذا قال تعالى (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) أي من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة.

(وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي قرار وأرزاق وآجال ـ إلى حين ـ أي إلى وقت ومقدار معين ثم تقوم القيامة. وقد ذكر المفسرون من السلف كالسدي بأسانيده وأبي العالية ووهب بن منبه وغيرهم هاهنا أخبارا إسرائيلية عن قصة الحية وإبليس ، وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته ، وسنبسط ذلك إن شاء الله في سورة الأعراف فهناك القصة أبسط منها هاهنا ، والله الموفق. وقد قال ابن أبي حاتم هاهنا : حدثنا علي بن الحسن بن إشكاب ، حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق آدم رجلا طوالا كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق (١) فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه ، فأول ما بدا منه عورته ، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة فأخذت شعره شجرة فنازعها فناداه الرحمن : يا آدم مني تفر» فلما سمع كلام الرحمن قال : يا رب لا ، ولكن استحياء. قال : وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القرشي سنة أربع وخمسين ومائتين ، حدثنا سليمان بن منصور بن عمار حدثنا علي بن عاصم عن سعيد عن قتادة عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما ذاق آدم من الشجرة فر هاربا فتعلقت شجرة بشعره فنودي : يا آدم أفرارا مني؟ قال : بل حياء منك ، قال : يا آدم اخرج من جواري فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني ، ولو خلقت مثلك ملء الأرض خلقا ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين» (٢) هذا حديث غريب وفيه انقطاع بل إعضال (٣) بين قتادة وأبي بن كعب رضي الله

__________________

(١) السحوق : الطويل.

(٢) رواه السيوطي في الدر المنثور ١ / ١٠٩ ؛ قال : وأخرجه ابن إسحاق في المبتدأ ، وابن سعد ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في التوبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث والنشور ، عن أبيّ بن كعب عن النبي.

(٣) الإعضال في الحديث : أن يسقط من إسناده اثنان أو أكثر على التوالي.

١٤٣

عنهما. وقال الحاكم حدثنا أبو بكر بن بالويه عن محمد بن أحمد بن النضر عن معاوية بن عمرو عن زائدة عن عمار بن أبي (١) معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ، ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال عبد بن حميد في تفسيره : حدثنا روح عن هشام عن الحسن ، قال : لبث آدم في الجنة ساعة من نهار تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا. وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، قال : خرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة فأخرج آدم معه غصنا من شجر الجنة على رأسه تاج من شجر الجنة وهو الإكليل من ورق الجنة. وقال السدي : قال الله تعالى : (اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) [البقرة : ٣٨] فهبطوا ونزل آدم بالهند ونزل معه الحجر الأسود وقبضة من ورق الجنة ، فبثه بالهند فنبتت شجرة الطيب فإنما أصل ما يجاء به من الطيب من الهند من قبضة الورق التي هبط بها آدم ، وإنما قبضها آدم أسفا على الجنة حين أخرج منها.

وقال عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : أهبط آدم من الجنة بدحنا أرض بالهند. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن عطاء عن سعيد عن ابن عباس قال : أهبط آدم عليه‌السلام إلى أرض يقال لها دحنا بين مكة والطائف. وعن الحسن البصري قال : أهبط آدم بالهند ، وحواء بجدة ، وإبليس بدستميسان من البصرة على أميال ، وأهبطت الحية بأصبهان ، رواه ابن أبي حاتم. وقال محمد بن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار بن الحارث حدثنا محمد بن سابق حدثنا عمر بن أبي قيس عن الزبير بن عدي عن ابن عمر قال : أهبط آدم بالصفا وحواء بالمروة. وقال رجاء بن سلمة : أهبط آدم عليه‌السلام يداه على ركبتيه مطأطئا رأسه ، وأهبط إبليس مشبكا بين أصابعه رافعا رأسه إلى السماء. وقال عبد الرزاق : قال معمر : أخبرني عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى ، قال : إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض علمه صنعة كل شيء وزوده من ثمار الجنة ، فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير. وقال الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها» رواه مسلم والنسائي (٢). وقال الرازي (٣) : أعلم أن في هذه الآية تهديدا عظيما عن كل المعاصي من وجوه [أحدها] (٤) أن من تصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي ، قال الشاعر : [الكامل]

__________________

(١) الصواب «عمار بن معاوية» (موسوعة رجال الكتب التسعة ٣ / ٩٢)

(٢) مسلم (جمعة حديث ١٧ ، ١٨) والنسائي (جمعة باب ٤ ، ٥ ، ٤٥)

(٣) تفسير الرازي ٣ / ١٨.

(٤) في الأصل : «الأول». وما أثبتناه عن الرازي.

١٤٤

يا ناظرا يرنو بعيني راقد

ومشاهدا للأمر غير مشاهد

تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي

درج (١) الجنان ونيل فوز العابد

أنسيت ربك حين أخرج آدما (٢)

منها إلى الدنيا بذنب واحد

وقال ابن القاسم :

ولكننا سبي العدو فهل ترى

نعود إلى أوطاننا ونسلم

قال الرازي عن فتح الموصلي أنه قال : كنا قوما من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا ، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها (٣). فإن قيل : فإذا كانت جنة آدم التي أخرج منها في السماء كما يقوله الجمهور من العلماء ، فكيف تمكن إبليس من دخول الجنة ، وقد طرد من هنالك طردا قدريا ، والقدري لا يخالف ولا يمانع؟ فالجواب : أن هذا بعينه استدل به من يقول : إن الجنة التي كان فيها آدم في الأرض لا في السماء ، كما قد بسطنا هذا في أول كتابنا البداية والنهاية ، وأجاب الجمهور بأجوبة ، أحدها : أنه منع من دخول الجنة مكرما ، فأما على وجه السرقة والإهانة ، فلا يمتنع ، ولهذا قال بعضهم : كما جاء في التوراة أنه دخل في فم الحية إلى الجنة. وقد قال بعضهم : يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة. وقال بعضهم : يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض ، وهما في السماء ، ذكرها الزمخشري وغيره. وقد أورد القرطبي هاهنا أحاديث في الحيات وقتلهن وبيان حكم ذلك ، فأجاد وأفاد (٤).

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٣٧)

قيل إن هذه الكلمات مفسرة بقوله تعالى : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الأعراف : ٢٣] وروي هذا عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة ومحمد بن كعب القرظي وخالد بن معدان وعطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (٥). وقال أبو إسحاق السبيعي عن رجل من بني تميم قال : أتيت ابن عباس فسألته ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال : علم شأن الحج. وقال سفيان الثوري عن عبد العزيز بن رفيع ، أخبرني من سمع عبيد بن عمير ، وفي رواية قال : أخبرني مجاهد عن عبيد بن عمير ، أنه قال : قال آدم : يا رب خطيئتي التي أخطأت شيء كتبته علي قبل أن تخلقني أو

__________________

(١) في الرازي : «درك».

(٢) في الرازي «أنسيت أن الله أخرجه آدما».

(٣) انتهى نقل ابن كثير عن الرازي.

(٤) انظر تفسير القرطبي ١ / ٣١٣ ـ ٣١٩.

(٥) وفي الدر المنثور (١ / ١١٧ ـ ١١٨) آثار بهذا المعنى عن ابن عباس ، علاوة عما ورد عن الحسن والضحاك ومحمد بن كعب القرظي ومجاهد وقتادة.

١٤٥

شيء ابتدعته من قبل نفسي؟ قال «بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك» قال : فكما كتبته علي فاغفر لي ، قال : فذلك قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ). وقال السدي عمن حدثه عن ابن عباس : فتلقى آدم من ربه كلمات ، قال : قال آدم عليه‌السلام : يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قيل له : بلى ، ونفخت فيّ من روحك؟ قيل له بلى ، وعطست فقلت يرحمك الله ، وسبقت رحمتك غضبك؟ قيل له : بلى ، وكتبت علي أن أعمل هذا؟ قيل له : بلى ، قال : أرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال : نعم. وهكذا رواه العوفي وسعيد بن جبير وسعيد بن معبد عن ابن عباس بنحوه ، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن جبير عن ابن عباس ، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وهكذا فسره السدي وعطية العوفي. وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا شبيها بهذا فقال : حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب ، حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «قال آدم عليه‌السلام : أرأيت يا رب إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة؟» قال : نعم فذلك قوله (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) وهذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه. قال : إن آدم لما أصاب الخطيئة قال : أرأيت يا رب إن تبت وأصلحت؟ قال الله «إذا أدخلك الجنة» فهي الكلمات ومن الكلمات أيضا (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ). وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه كان يقول في قول الله تعالى : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ، قال : كلمات : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين ، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين ، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم. وقوله تعالى (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي إنه يتوب على من تاب إليه وأناب كقوله (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) [التوبة : ١٠٤] وقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) [النساء : ١١٠] ، وقوله : (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً) [الفرقان : ٧١] وغير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى يغفر الذنوب ، ويتوب على من يتوب ، وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده ، لا إله إلا هو التواب الرحيم.

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣٩)

يقول تعالى مخبرا عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة ، والمراد الذرية ، أنه سينزل الكتب ويبعث الأنبياء والرسل كما قال أبو العالية : الهدى : الأنبياء والرسل والبينات

١٤٦

والبيان (١). وقال مقاتل بن حيان : الهدى : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال الحسن : الهدى : القرآن ، وهذان القولان صحيحان. وقول أبي العالية أعم. (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) أي من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي فيما يستقبلونه من أمر الآخرة (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما فاتهم من أمور الدنيا كما قال في سورة طه (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) [طه : ١٢٣] قال ابن عباس : فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) [طه : ١٢٤] كما قال هاهنا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي مخلدون فيها لا محيد لهم عنها ولا محيص وقد أورد ابن جرير هاهنا حديثا ساقه من طريقين : عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيد واسمه سعد بن مالك بن سنان الخدري (٢) ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما أهل النار الذي هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم (٣) فأماتتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة» وقد رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي مسلمة به (٤). وذكر هذا الإهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول ، وزعم بعضهم : أنه تأكيد وتكرير ، كما يقال : قم قم ، وقال آخرون : بل الإهباط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا ، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض ، والصحيح الأول ، والله أعلم.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) (٤١)

يقول تعالى آمرا بني إسرائيل بالدخول في الإسلام ، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام ، ومهيجا لهم بذكر أبيهم إسرائيل وهو نبي الله يعقوب عليه‌السلام ، وتقديره : يا بني

__________________

(١) الطبري ١ / ٢٨٤ ؛ والدر المنثور (١ / ١٢٣ ، عن أبي العالية ـ وليس فيهما لفظ «البينات».

(٢) أخطأ ابن كثير هنا إذ قال إن الطبري ساق الحديث من طريقين. والصواب أنه ساقه بثلاثة أسانيد على النحو التالي : «حدثنا عقبة بن سنان البصري ، قال : حدثنا غسان بن مضر ، قال : حدثنا سعيد بن يزيد [إسناد أول] ـ وحدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا أبو مسلمة سعيد بن يزيد [إسناد ثان] ـ وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، وأبو بكر بن عون ، قالا : حدثنا إسماعيل بن عليّة ، عن سعيد بن يزيد [إسناد ثالث] ـ عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن الرسول. (الطبري ١ / ٢٨٦)

(٣) في الطبري : «ولكن أقواما أصابتهم النار بخطاياهم أو بذنوبهم» إلخ.

(٤) مسلم (إيمان حديث ٣٠٦) وابن ماجة (زهد باب ٣٦). ولم يروه من أصحاب الكتب الستة غيرهما من حديث مسلمة.

١٤٧

العبد الصالح المطيع لله ، كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق ، كما تقول : يا ابن الكريم افعل كذا ، يا ابن الشجاع بارز الأبطال ، يا ابن العالم اطلب العلم ، ونحو ذلك. ومن ذلك أيضا قوله تعالى : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) [الإسراء : ٣] فإسرائيل هو يعقوب بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي : حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب ، قال : حدثني عبد الله بن عباس قال : حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لهم «هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب؟» قالوا : اللهم نعم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اشهد» وقال الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس : أن إسرائيل كقولك عبد الله.

وقوله تعالى (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) قال مجاهد : نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى ، وفيما سوى ذلك أن فجر لهم الحجر وأنزل عليهم المن والسلوى ونجاهم من عبودية آل فرعون. وقال أبو العالية : نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل ، وأنزل عليهم الكتب ، قلت : وهذا كقول موسى عليه‌السلام لهم (يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [المائدة : ٢٠] يعني في زمانهم. وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أي بلائي (١) عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم من فرعون وقومه (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) قال : بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جاءكم أنجز لكم ما وعدتكم عليه من تصديقه واتباعه بوضع ما كان عليكم من الآصار والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من إحداثكم. وقال الحسن البصري : هو قوله تعالى (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ، وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [المائدة : ١٢] وقال آخرون : هو الذي أخذ الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبيا عظيما يطيعه جميع الشعوب والمراد به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن اتبعه غفر الله له ذنبه وأدخله الجنة وجعل له أجرين. وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال أبو العالية (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) قال عهده إلى عباده دين الإسلام وأن يتبعوه ، وقال الضحاك عن ابن عباس : (أوف بعهدكم)؟ قال : أرض عنكم وأدخلكم الجنة. وكذا قال السدي والضحاك وأبو العالية والربيع بن أنس. وقوله تعالى (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي فاخشون ، قاله أبو العالية والسدي والربيع بن أنس وقتادة ، وقال ابن عباس في قوله تعالى (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي إن نزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره ، وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع

__________________

(١) في الطبري ١ / ٢٨٧ : «آلائي».

١٤٨

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاتعاظ بالقرآن وزواجره وامتثال أوامره وتصديق أخباره والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، ولهذا قال (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) يعني به القرآن الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم النبي الأمي العربي بشيرا ونذيرا وسراجا منيرا مشتملا على الحق من الله تعالى مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل. قال أبو العالية رحمه‌الله في قوله تعالى (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) يقول : يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ، يقول لأنهم يجدون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك. وقوله : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) قال بعض المعربين : أول فريق كافر به أو نحو ذلك ، قال ابن عباس : ولا تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم ، قال أبو العالية : يقول : ولا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعكم بمبعثه ، وكذا قال الحسن والسدي والربيع بن أنس ، واختار ابن جرير (١) أن الضمير في قوله «به» عائد على القرآن الذي تقدم ذكره في قوله (بِما أَنْزَلْتُ) وكلا القولين صحيح لأنهما متلازمان ، لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن كفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد كفر بالقرآن. وأما قوله (أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) فيعني به أول من كفر به من بني إسرائيل ، لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير ، وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة ، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم.

وقوله تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) يقول : لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها ، فإنها قليلة فانية ، كما قال عبد الله بن المبارك : أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن هارون بن يزيد قال : سئل الحسن ، يعني البصري عن قوله تعالى ، (ثَمَناً قَلِيلاً) قال : الثمن القليل الدنيا بحذافيرها. قال ابن لهيعة : حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) إن آياته كتابه الذي أنزله إليهم ، وإن الثمن القليل الدنيا وشهواتها ، وقال السدي : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) يقول : لا تأخذوا طمعا قليلا ، ولا تكتموا اسم الله ، فذلك الطمع هو الثمن. وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) يقول : لا تأخذوا عليه أجرا ، قال : وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول : يا ابن آدم علّم مجانا علمت مجانا (٢). وقيل : معناه لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع بالكتمان واللبس لتستمروا على رئاستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب. وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يرح (٣) رائحة الجنة يوم القيامة» (٤) فأما

__________________

(١) الطبري ١ / ٢٩١.

(٢) راح الشيء روحا : وجد ريحه.

(٣) أبو داود (ترجّل باب ٢٠)

١٤٩

تعليم العلم بأجرة ، فإن كان قد تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة ، ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله بأجرة ، فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب ، فهو كما لم يتعين عليه ، وإذا لم يتعين عليه فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» (١) وقوله في قصة المخطوبة «زوّجتكها بما معك من القرآن» (٢) فأما حديث عبادة بن الصامت ، أنه علم رجلا من أهل الصفة (٣) شيئا من القرآن فأهدى له قوسا فسأل عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «إن أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله» فتركه ، رواه أبو داود. وروي مثله عن أبي ابن كعب مرفوعا ، فإن صح إسناده فهو محمول عند كثير من العلماء منهم : أبو عمر بن عبد البر ، على أنه لما علمه لله لم يجز بعد هذا أن يعتاض عن ثواب الله بذلك القوس ، فأما إذا كان من أول الأمر على التعليم بالأجرة فإنه يصح كما في حديث اللديغ وحديث سهل في المخطوبة ، والله أعلم. وقوله (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عمر الدوري ، حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن عاصم الأحول عن أبي العالية عن طلق بن حبيب ، قال: التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله ، ومعنى قول (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه.

(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣)

يقول تعالى ناهيا لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل ، وتمويهه به ، وكتمانهم الحق ، وإظهارهم الباطل : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فنهاهم عن الشيئين معا ، وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به ، ولهذا قال الضحاك عن ابن عباس (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) : لا تخلطوا الحق بالباطل ، والصدق بالكذب. وقال أبو العالية ـ ولا تلبسوا الحق بالباطل ـ يقول : ولا تخلطوا الحق بالباطل ، وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويروى عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس نحوه وقال قتادة (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام ، وأنتم تعلمون أن دين الله الإسلام ، وأن اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله. وروي عن الحسن البصري نحو ذلك. وقال محمد بن إسحاق :

__________________

(١) البخاري (إجارة باب ١٦)

(٢) أخرجه البخاري (فضائل القرآن باب ٢١ ؛ ونكاح باب ٢٧ ، ٤٠). وأبو داود (نكاح باب ١٧) والترمذي (نكاح باب ٢٣) والدارمي (نكاح باب ١٩)

(٣) أهل الصفّة : هم فقراء المهاجرين ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه فكانوا يأوون إلى موضع مظلّل في مسجد المدينة يسكنونه.

١٥٠

حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم. وروي عن أبي العالية نحو ذلك. وقال مجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قلت) وتكتموا يحتمل أن يكون مجزوما ، ويحتمل أن يكون منصوبا ، أي لا تجمعوا بين هذا وهذا كما يقال : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، قال الزمخشري : وفي مصحف ابن مسعود : «وتكتمون الحق» أي في حال كتمانكم الحق (وأنتم تعلمون) حال أيضا ، ومعناه وأنتم تعلمون الحق ، ويجوز أن يكون المعنى : وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار إلى أن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروّجوه عليهم ، والبيان الإيضاح وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) قال مقاتل : قوله تعالى لأهل الكتاب (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أمرهم أن يصلوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَآتُوا الزَّكاةَ) أمرهم أن يؤتوا الزكاة أي يدفعونها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : كونوا معهم ومنهم. وقال علي بن طلحة عن ابن عباس : يعني بالزكاة طاعة الله والإخلاص ، وقال وكيع عن أبي جناب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : (وَآتُوا الزَّكاةَ) ، قال : ما يوجب الزكاة قال : مائتان فصاعدا. وقال مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله تعالى (وَآتُوا الزَّكاةَ) قال : فريضة واجبة لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن أبي حيان التيمي عن الحارث العكلي في قوله تعالى (وَآتُوا الزَّكاةَ) قال : صدقة الفطر. وقوله تعالى : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم ، ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة. وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة ، وأبسط ذلك في كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله تعالى ، وقد تكلم القرطبي على مسائل الجماعة والإمامة فأجاد.

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٤٤)

يقول تعالى : كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب ، وأنتم تأمرون الناس بالبر وهو جماع الخير ، أن تنسوا أنفسكم فلا تأتمرون بما تأمرون الناس به ، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر الله؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم ، فتنتبهوا من رقدتكم ، وتتبصروا من عمايتكم ، وهذا كما قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) قال : كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه

١٥١

وبالبر ، ويخالفون ، فعيرهم الله عزوجل (١). وكذلك قال السدي. وقال ابن جريج : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة ويدعون العمل بما يأمرون به الناس ، فعيرهم الله بذلك ، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة (٢). وقال محمد بن إسحاق عن محمد [بن أبي محمد] (٣) عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس : (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) أي تتركون أنفسكم (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة وتتركون أنفسكم ، أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي وتنقضون ميثاقي وتجحدون ما تعلمون من كتابي. وقال الضحاك عن ابن عباس : في هذه الآية يقول : أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة وتنسون أنفسكم. وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني علي بن الحسن حدثنا مسلم الجرمي حدثنا مخلد بن الحسين عن أيوب السختياني ، عن أبي قلابة في قول الله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) قال : قال أبو الدرداء رضي الله عنه : لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا (٤). وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية : هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل سألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة أمروه بالحق ، فقال الله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) والغرض : أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه ، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له ، فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم ، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به ولا يتخلف عنهم كما قال شعيب عليه‌السلام : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود : ٨٨] فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف. وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها وهذا ضعيف ، وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية فإنه لا حجة لهم فيها ، والصحيح : أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله ، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه ، قال مالك عن ربيعة : سمعت سعيد بن جبير يقول : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك : وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء؟ (قلت) لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم ، ولهذا جاءت

__________________

(١) الطبري ١ / ٢٩٦)

(٢) الزيادة من الطبري.

(٣) الطبري ١ / ٢٩٧)

١٥٢

الأحاديث في الوعيد على ذلك ، كما قال الإمام أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي العمري ، قالا : حدثنا هشام بن عمار حدثنا علي بن سليمان الكلبي حدثنا الأعمش عن أبي تميمة الهجيمي عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به ، كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه» هذا حديث غريب من هذا الوجه.

حديث آخر : قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (١) : حدثنا وكيع حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد (هو ابن جدعان) عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، قال : قلت من هؤلاء؟ قالوا : خطباء أمتك (٢) من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون» ورواه عبد بن حميد في مسنده وتفسيره عن الحسن بن موسى عن حماد بن سلمة به ، ورواه ابن مردويه في تفسيره من حديث يونس بن محمد المؤدب والحجاج بن منهال كلاهما عن حماد بن سلمة به ، وكذا رواه يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة به ، ثم قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا موسى بن هارون حدثنا إسحاق بن إبراهيم التستري ببلخ حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا عمر بن قيس عن علي بن زيد عن ثمامة عن أنس ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار ، قلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم» وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، وابن أبي حاتم وابن مردويه أيضا من حديث هشام الدستوائي عن المغيرة يعني ابن حبيب ختن (٣) مالك بن دينار عن مالك بن دينار عن ثمامة عن أنس بن مالك ، قال : لما عرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ بقوم تقرض شفاههم ، فقال : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم أفلا يعقلون.

حديث آخر ـ قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يعلى بن عبيد : حدثنا الأعمش عن أبي وائل ، قال : قيل لأسامة وأنا رديفه : ألا تكلم عثمان؟ فقال : إنكم ترون أني لا أكلمه ، ألا أسمعكم إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح (٥) أمرا لا أحب أن أكون أول من افتتحه ، والله لا أقول لرجل إنك خير الناس وإن كان علي أميرا بعد إذ سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ، قالوا : وما سمعته

__________________

(١) مسند الإمام أحمد (ج ٣ ص ١٢٠)

(٢) لفظ «أمتك» غير موجود في النسخة التي بين أيدينا من المسند.

(٣) الختن : زوج البنت أو زوج الأخت.

(٤) المسند (ج ٥ ص ٢٠٥)

(٥) عبارة المسند : «إنكم ترون أن لا أكلمه إلا سمعكم ، إني لا أكلمه فيما بين وبينه ما دون أن أفتتح» إلخ.

١٥٣

يقول؟ قال : سمعته يقول : «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه (١) ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه ، فيطيف به أهل النار فيقولون : يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول : كنت أمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه» رواه البخاري ومسلم من حديث سليمان بن مهران الأعمش به نحوه. وقال أحمد. حدثنا سيار بن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء» وقد ورد في بعض الآثار : أنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يعفر للعالم مرة واحدة ، ليس من يعلم كمن لا يعلم. وقال تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ). [الزمر : ٩] وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «إن أناسا من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون بم دخلتم النار؟ فو الله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم ، فيقولون : إنا كنا نقول ولا نفعل» ورواه ابن جرير الطبري عن أحمد بن يحيى الخباز الرملي عن زهير بن عباد الرواسي عن أبي بكر الزهري عبد الله بن حكيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الوليد بن عقبة فذكره. وقال الضحاك عن ابن عباس : أنه جاءه رجل فقال : يا ابن عباس ، إن أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، قال : أبلغت ذلك؟ قال : أرجو ، قال : إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل ، قال : وما هن؟ قال : قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) أحكمت هذه؟ قال : لا ، قال : فالحرف الثاني؟ قال : قوله تعالى : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٣] أحكمت هذه؟ قال : لا ، قال : فالحرف الثالث؟ قال : قول العبد الصالح شعيب عليه‌السلام (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ) [هود : ٨٨] أحكمت هذه الآية؟ قال : لا ، قال : فابدأ بنفسك ، رواه ابن مردويه في تفسيره. وقال الطبراني : حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا زيد بن الحارث حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام بن حوشب عن المسيب بن رافع عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في ظل سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال أو دعا إليه» إسناده فيه ضعف وقال إبراهيم النخعي : إن لأكره القصص لثلاث آيات : قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) وقوله إخبارا عن شعيب : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٤٦)

__________________

(١) أقتابه : أمعاؤه.

١٥٤

يقول تعالى آمرا عبيده فيما يؤملون من خير الدنيا والآخرة بالاستعانة بالصبر والصلاة ، كما قال مقاتل بن حيان في تفسير هذه الآية : استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلاة ، فأما الصبر فقيل : إنه الصيام ، نص عليه مجاهد ، قال القرطبي وغيره : ولهذا يسمى رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث. وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن جري (١) بن كليب عن رجل من بني سليم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «الصوم نصف الصبر» وقيل : المراد بالصبر الكف عن المعاصي ، ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها فعل الصلاة.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بن حمزة بن إسماعيل حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : الصبر صبران : صبر عند المصيبة حسن ، وأحسن منه الصبر عن محارم الله. قال : وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر. وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة عن مالك بن دينار عن سعيد بن جبير ، قال : الصبر اعتراف العبد لله بما أصيب فيه واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه ، وقد يجزع الرجل وهو يتجلد لا يرى منه إلا الصبر. وقال أبو العالية في قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) قال : على مرضاة الله ، واعلموا أنهما من طاعة الله (٢). وأما قوله : والصلاة ، فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر كما قال تعالى : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت : ٤٥]. وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا خلف بن الوليد حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي قال : قال عبد العزيز أخو حذيفة : قال حذيفة ، يعني ابن اليمان رضي الله عنه : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا حزبه أمر صلى. ورواه أبو داود عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي ، وقد رواه ابن جرير من حديث ابن جريج عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة عن عبد العزيز بن اليمان عن حذيفة ، قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة (٤). ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة ، ويقال : أخي حذيفة مرسلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة : حدثنا سهل بن عثمان العسكري حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال : قال عكرمة بن عمار : قال محمد بن عبد الله الدؤلي : قال عبد العزيز : قال حذيفة : رجعت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي ، وكان إذا حزبه أمر صلى. حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي

__________________

(١) جريّ بن كليب الدوسي البصري. من الطبقة الثالثة. مقبول. أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. (موسوعة رجال الكتب التسعة ١ / ٢٣٨)

(٢) الطبري ١ / ٢٩٩)

(٣) المسند ج ٥ ص ٣٨٨.

(٤) الطبري ١ / ٢٩٨.

١٥٥

إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع عليا رضي الله عنه يقول : لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح. قال ابن جرير : وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه مر بأبي هريرة وهو منبطح على بطنه فقال له : «أشكم درد» ومعناه أيوجعك بطنك؟ قال : نعم ، قال : «قم فصل ، فإن الصلاة شفاء» (١). قال ابن جرير : وقد حدثنا محمد بن الفضل ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا ابن علية حدثنا عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه : أن ابن عباس نعي إليه أخوه قسم وهو في سفر ، فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ ، فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ). وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) قال انهما معونتان على رحمة الله. والضمير في قوله : «إنها لكبيرة» عائد إلى الصلاة ، نص عليه مجاهد ، واختاره ابن جرير. ويحتمل أن يكون عائدا على ما يدل عليه الكلام وهو الوصية بذلك ، كقوله تعالى في قصة قارون (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) [القصص : ٨٠] وقال تعالى : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت : ٣٤ ـ ٣٥] أي وما يلقى هذه الوصية إلا الذين صبروا ، وما يلقاها أي يؤتاها ويلهمها إلا ذو حظ عظيم. وعلى كل تقدير فقوله تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) أي مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني المصدقين بما أنزل الله ، وقال مجاهد : المؤمنين حقا ، وقال أبو العالية : إلا على الخاشعين الخائفين ، وقال مقاتل بن حيان : (إلا الخاشعين) يعني به المتواضعين. وقال الضحاك : (وإنها لكبيرة) ، قال : إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته الخائفين سطوته المصدقين بوعده ووعيده. وهذا يشبه ما جاء في الحديث «لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه» وقال ابن جرير (٢) : معنى الآية : واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة الله وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر المقربة من رضا (٣) الله ، العظيمة إقامتها إلا على الخاشعين أي المتواضعين المستكنّين لطاعته المتذللين من مخافته. هكذا قال. والظاهر أن الآية وإن كانت خطابا في سياق إنذار بني إسرائيل ، فإنهم لم يقصدوا على سبيل التخصيص ، وإنما هي عامة لهم ولغيرهم ، والله أعلم.

__________________

(١) الحديث ذكره الطبري معلقا ، دون إسناد. وفيه «اشكنب درد». وهو لفظ فارسي بمعنى : تشتكي بطنك؟ وثبت هذا اللفظ في رواية البخاري في التاريخ الصغير ، ص ٢١٤ : «شكم درد» وفي رواية ابن ماجة «اشكمت درد».

(٢) الطبري ١ / ٣٠٠.

(٣) في الطبري : «مراضي الله».

١٥٦

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) هذا من تمام الكلام الذي قبله ، أي وإن الصلاة أو الوصاة لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ، أي يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة معروضون عليه ، وأنهم إليه راجعون أي أمورهم راجعة إلى مشيئته يحكم فيها ما يشاء بعدله ، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سهل عليهم فعل الطاعات وترك المنكرات. فأما قوله (يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) قال ابن جرير (١) ، رحمه‌الله : العرب قد تسمي اليقين ظنا ، والشك ظنا ، نظير تسميتهم الظلمة سدفة ، والضياء سدفة ، والمغيث صارخا ، والمستغيث صارخا ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده ، كما قال دريد بن الصمة : [الطويل]

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج

سراتهم في الفارسي المسرد (٢)

يعني بذلك : تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم ، وقول عميرة بن طارق : [الطويل]

فإن يعبروا قومي وأقعد فيكم

وأجعل مني الظن غيبا مرجما (٣)

يعني ويجعل اليقين غيبا مرجما ، قال : والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من أن تحصر ، وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية ، ومنه قول الله تعالى : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) [الكهف : ٥٣] ثم قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا سفيان عن جابر عن مجاهد : كل ظن في القرآن يقين أي (٤) ظننت وظنوا. وحدثني المثنى : حدثنا إسحاق حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، قال : كل ظن في القرآن فهو علم. وهذا سند صحيح. وقال أبو جعفر الرازي (٥) عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) قال : الظن هاهنا يقين. قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد والسدي والربيع بن أنس وقتادة نحو قول أبي العالية. وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) علموا أنهم ملاقوا ربهم كقوله (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) يقول : علمت. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. (قلت) وفي الصحيح : أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة «ألم أزوّجك ألم أكرمك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول : بلى ، فيقول الله تعالى «أظننت أنك ملاقي؟» فيقول : لا ، فيقول الله «اليوم أنساك كما نسيتني» وسيأتي مبسوطا عند قوله تعالى (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) إن

__________________

(١) البيت لدريد بن الصمة في ديوانه ص ٤٧ ؛ والأصمعيات ص ٢٣ ؛ والطبري ١ / ٣٠٠ ؛ ولسان العرب (ظنن). وبلا نسبة في أسرار العربية ص ١٥٦. والفارسي المسرّد : الدروع الفارسية الجيدة النسج.

(٢) البيت في الطبري ١ / ٣٠٠ ؛ ونقائض جرير والفرزدق ص ٥٣ ؛ والأضداد لابن الأنباري ص ١٢.

والرواية : «بأن تغتزوا قومي».

(٣) في الطبري : «إني».

(٤) تفسير الرازي ٣ / ٤٨.

١٥٧

شاء الله تعالى.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (٤٧)

يذكرهم تعالى بسالف نعمه إلى آبائهم وأسلافهم ، وما كان فضلهم به من إرسال الرسل منهم وإنزال الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم ، كما قال تعالى : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) [الدخان : ٣٢] وقال تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [المائدة : ٢٠] قال أبو جعفر الرازي (١) عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) قال : بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان ، فإن لكل زمان عالما. وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك ، ويجب الحمل على هذا لأن هذه الأمة أفضل منهم لقوله تعالى ، خطابا لهذه الأمة (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) [آل عمران : ١١٠] وفي المسانيد والسنن عن معاوية بن حيدة القشيري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله» ، والأحاديث في هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وقيل : المراد تفضيل بنوع ما من الفضل على سائر الناس ، ولا يلزم تفضيلهم مطلقا ، حكاه الرازي وفيه نظر. وقيل : إنهم فضلوا على سائر الأمم لاشتمال أمتهم على الأنبياء منهم ، حكاه القرطبي (٢) في تفسيره ، وفيه نظر ، لأن العالمين عام يشمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء ، فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم ، ومحمد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة ، صلوات الله وسلامه عليه.

(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٤٨)

لما ذكرهم تعالى بنعمه أولا ، عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة ، فقال : (وَاتَّقُوا يَوْماً) يعني يوم القيامة (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) أي لا يغني أحد عن أحد ، كما قال (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤] : وقال (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٧] وقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) [لقمان : ٣٣] فهذا أبلغ المقامات أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئا. وقوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) يعني من الكافرين كما قال : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨] وكما قال عن أهل النار (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ

__________________

(١) تفسير الرازي ٣ / ٤٩.

(٢) تفسير القرطبي ١ / ٣٧٦.

١٥٨

وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء : ١٠٠] وقوله تعالى : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) أي لا يقبل منها فداء ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) [آل عمران : ٩١] وقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [المائدة : ٣٦] وقال تعالى : (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) [الأنعام : ٧٠] وقال: (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) [الحديد : ١٥]. فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة ذي جاه ، ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ذهبا ، كما قال تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) [البقرة : ٢٥٤] وقال : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) [إبراهيم : ٣١] قال سنيد : حدثني حجاج حدثني ابن جريج قال : قال مجاهد : قال ابن عباس : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) قال : بدل ، والبدل : الفدية ، وقال السدي : أما عدل ؛ فيعدلها ، من العدل. يقول : لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها (١) ، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وقال أبو جعفر الرازي (٢) عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ) يعني فداء (٣). قال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي مالك والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك ، وقال عبد الرزاق : أنبأنا الثوري عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه في حديث طويل ، قال : والصرف والعدل : التطوع والفريضة ، وكذا قال الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة عن عمير بن هانئ وهذا القول غريب هاهنا. والقول الأول أظهر في تفسير هذه الآية. وقد ورد حديث يقويه وهو ما قال ابن جرير (٤) : حدثني نجيح بن إبراهيم حدثنا علي بن حكيم حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمرو بن قيس الملائي عن رجل من بني أمية ، من أهل الشام أحسن عليه الثناء ، قال : قيل يا رسول الله ، ما العدل؟ قال : «العدل الفدية».

وقوله تعالى : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله ، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه ، ولا يقبل منهم فداء ، هذا كله من جانب التلطف ، ولا لهم ناصر من أنفسهم ولا من غيرهم ، كما قال : (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) [الطارق : ١٠] أي أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ ، ولا يخلص منه أحد ، ولا يجير منه أحد ، كما قال تعالى : (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) [المؤمنون : ٨٨] وقال : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر : ٢٦] وقال : (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) [الصافات: ٢٥] وقال : (فَلَوْ لا

__________________

(١) الطبري ١ / ٣٠٧.

(٢) تفسير الرازي ٣ / ٥١.

١٥٩

نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) [الأحقاف : ٢٨] ، وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) [الصافات : ٢٥] مالكم اليوم لا تمانعون منا ، هيهات ليس ذلك لكم اليوم ، قال ابن جرير (١) : وتأويل قوله : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر كما لا يشفع لهم شافع ، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية ، بطلت هنالك المحاباة ، واضمحلت الرشا والشفاعات ، وارتفع من القوم التناصر والتعاون ، وصار الحكم إلى الجبار العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء ، فيجزي بالسيئة مثلها ، وبالحسنة أضعافها ، وذلك نظير قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ. ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) [الصافات : ٢٤ ـ ٢٦]

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (٥٠)

يقول تعالى : اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ، أي خلصتكم منهم ، وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى عليه‌السلام ، وقد كانوا يسومونكم أي يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب ، وذلك أن فرعون لعنه الله كان قد رأى رؤيا هالته ، رأى نارا خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط ببلاد مصر إلا بيوت بني إسرائيل ، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل ، ويقال بعد تحدّث سمّاره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم يكون لهم به دولة ورفعة ، وهكذا جاء في حديث الفتون كما سيأتي في موضعه في سورة طه إن شاء الله تعالى ، فعند ذلك أمر فرعون لعنه الله بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل وأن تترك البنات ، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأرذلها ، وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء ، وفي سورة إبراهيم عطف عليه كما قال : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة القصص إن شاء الله تعالى ، به الثقة والمعونة والتأييد. ومعنى يسومونكم : يولونكم ، قاله أبو عبيدة ، كما يقال : سامه خطّة خسف إذا أولاه إياها ، قال عمرو بن كلثوم : [الوافر]

إذا ما الملك سام الناس خسفا

أبينا أن نقر الخسف فينا (٢)

وقيل معناه : يديمون عذابكم ، [والسّوم : الدوام] (٣) كما يقال : سائمة الغنم من إدامتها الرعي ، نقله القرطبي. وإنما قال هاهنا : (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) ليكون ذلك

__________________

(١) الطبري ١ / ٣٠٨.

(٢) البيت لعمرو بن كلثوم في ديوانه ص ٩١ ؛ والقرطبي ١ / ٣٨٤ ؛ وتفسير الرازي ٣ / ٦٣.

(٣) الزيادة من القرطبي.

١٦٠