تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٩)

لما ذكر تعالى دلالة من خلقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ذكر دليلا آخر مما يشاهدونه من خلق السموات والأرض فقال (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) أي قصد إلى السماء. والاستواء هاهنا مضمن معنى القصد والإقبال ، لأنه عدّي بإلى فسواهن أي فخلق السماء سبعا ، والسماء هاهنا اسم جنس فلهذا قال (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي وعلمه محيط بجميع ما خلق ، كما قال : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك : ١٤] وتفصيل هذه الآية في سورة حم السجدة وهو قوله تعالى (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [فصلت : ٩ ـ ١٢] ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولا ثم خلق السموات سبعا ، وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك ، وقد صرح المفسرون بذلك كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله. فأما قوله تعالى (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها. وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها. أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها. وَالْجِبالَ أَرْساها. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) [النازعات : ٢٧ ـ ٣٣] فقد قيل إن (ثم) هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر لا لعطف الفعل على الفعل (١) ، كما قال الشاعر : [الخفيف]

قل لمن ساد ثم ساد أبوه

ثم قد ساد قبل ذلك جدّه (٢)

وقيل إنّ الدحى كان بعد خلق السموات ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وقد قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء ، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في

__________________

(١) عبارة القرطبي : «ثم» لترتيب الإخبار لا لترتيب الأمر في نفسه. (تفسير القرطبي ١ / ٢٥٤)

(٢) البيت لأبي نواس في ديوانه ١ / ٣٥٥ ؛ وخزانة الأدب ١١ / ٣٧ ؛ والدرر ٦ / ٩٣ ؛ وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٤٢٨ ؛ وجواهر الأدب ص ٣٦٤ ؛ ورصف المباني ص ١٧٤ ؛ ومغني اللبيب ١ / ١١٧. والرواية المشهورة : «إن من ساد ...».

١٢١

الأحد والاثنين فخلق الأرض على حوت ، والحوت هو [النون] (١) الذي ذكره الله في القرآن (ن وَالْقَلَمِ) والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح ، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ، ليست في السماء ولا في الأرض ، فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال فقرت فالجبال تفخر على الأرض فذلك قوله تعالى (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [النحل : ١٥] وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء والأربعاء وذلك حين يقول (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها) [فصلت : ٩ ـ ١٠] يقول أنبت شجرها (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) لأهلها (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) [فصلت : ١٠] يقول : لمن يسألك : هكذا الأمر (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) [فصلت : ١١] وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة ، إنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض ، وأوحى في كل سماء أمرها قال : خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار والجبال والبرد ومما لا يعلم ، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب فجعلها زينة حفظا تحفظ من الشياطين ، فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش فذلك حيث يقول (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤] ويقول (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠] وقال ابن جرير : حدثني المثنى حدثنا عبد الله بن صالح حدثني أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد عن عبد الله بن سلام أنه قال : إن الله بدأ الخلق يوم الأحد فخلق الأرضين في الأحد والاثنين ، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السموات في الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم على عجل ، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة (٢).

وقال مجاهد في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) قال خلق الله الأرض قبل السماء فلما خلق الأرض ثار منها دخان فذلك حين يقول : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) ... (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) قال : بعضهن فوق بعض وسبع أرضين يعني بعضها تحت بعض. وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء كما قال في سورة السجدة : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي

__________________

(١) الزيادة من الطبري ١ / ٢٣١.

(٢) تفسير الطبري ١ / ٢٣٢.

١٢٢

يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء ، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض ، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها. وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها ، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها. أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها. وَالْجِبالَ أَرْساها) قالوا : فذكر خلق السماء قبل الأرض ، وفي صحيح البخاري أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء ، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديما وحديثا ، وقد حررنا ذلك في سورة النازعات وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها. أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها. وَالْجِبالَ أَرْساها) ففسر الدحي بأخرج ما كان مودعا فيها بالقوة إلى الفعل لما أكملت صورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية دحى بعد ذلك الأرض فأخرجت ما كان مودعا فيها من المياه فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها ، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة ، والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسير هذه الآية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في التفسير أيضا من رواية ابن جريج ، قال : أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سملة عن أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي فقال : «خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم (١) ، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ وجعلوه من كلام كعب ، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار ، وإنما اشتبه على بعض الرواة ، فجعلوه مرفوعا ، وقد حرر ذلك البيهقي.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٠)

يخبر تعالى بامتنانه على بني أدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم ، فقال تعالى :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) أي واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك. وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية وهو أبو عبيدة أنه زعم أن «إذ» هاهنا زائدة وأن تقدير

__________________

(١) صحيح مسلم (منافقين حديث ٢٧)

١٢٣

الكلام : وقال ربك ، وردّه ابن جرير (١). قال القرطبي : وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج هذا اجتراء من أبي عبيدة (٢).

(إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أي قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) [الأنعام : ١٦٥] قال : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) [النمل : ٦٢] وقال : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) [الزخرف : ٦٠] وقال : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) [مريم : ٥٩] وقرئ في الشاذ : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) حكاها الزمخشري وغيره. ونقل القرطبي عن زيد بن علي (٣) وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم عليه‌السلام فقط كما يقوله طائفة من المفسرين ، وعزاه القرطبي إلى ابن عباس وابن مسعود وجميع أهل التأويل ، وفي ذلك نظر بل الخلاف في ذلك كثير ، حكاه الرازي في تفسيره وغيره ، والظاهر أنه لم يرد آدم عينا إذ لو كان ذلك لما حسن قول الملائكة : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) فإنهم أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك ، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص أو بما فهموه من الطبيعة البشرية ، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمإ مسنون ، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس في ما يقع بينهم من المظالم ويردعهم عن المحارم والمآثم ، قاله القرطبي ؛ أو أنهم قاسوهم على من سبق كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك.

وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه بعض المفسرين ـ وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول (٤) أي لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه ، وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقا ، قال قتادة : وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها ، فقالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) الآية ـ وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك يقولون : يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك أي نصلي لك كما سيأتي. أي ولا يصدر منا شيء من ذلك ، وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أي إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها مالا تعلمون أنتم فإني سأجعل فيهم الأنبياء

__________________

(١) تفسير الطبري ١ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

(٢) في القرطبي (١ / ٢٦٢) : «هذا اجترام». وقال : فالتقدير : وابتدأ خلقكم إذ قال. فكان هذا من المحذوف الذي دل عليه الكلام ، كما قال الشاعر :

فإن المنيّة من يخشها

فسوف تصادفه أينما

قال : يريد أينما ذهب. ويحتمل أن تكون متعلقة بفعل مقدر تقديره : واذكر إذ قال.

(٣) العبارة غير واضحة. والحال أن القرطبي يذكر هنا أن زيد بن علي قرأ «خليقة» بالقاف.

(٤) كما جاء في سورة الأنبياء ، الآية ٢٧ : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ).

١٢٤

وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء والعاملون والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم. وقد ثبت في الصحيح (١) أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده يسألهم وهم أعلم : كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون. وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر ، فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه الصلاة والسلام : «يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل» فقولهم : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم هم يصلون من تفسير قوله لهم : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) ، وقيل معنى قوله تعالى جوابا لهم : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) إني لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها ، قيل إنه جواب (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) فقال : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أي من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به. وقيل بل تضمن قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) طلبا منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم ، فقال الله تعالى لهم :

(إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم. ذكرها الرازي مع غيرها من الأجوبة ، والله أعلم.

ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه

قال ابن جرير : حدثني القاسم بن الحسن قال : حدثنا الحسين قال : حدثني الحجاج عن جرير بن حازم ومبارك عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالوا : قال الله للملائكة : (إِنِّيجاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، قال لهم إني فاعل وهذا معناه أنه أخبرهم بذلك (٢). وقال السدي : استشار الملائكة في خلق آدم ، رواه ابن أبي حاتم قال : وروي عن قتادة (٣) نحوه. وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل (٤) ، وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن والله أعلم. (فِي الْأَرْضِ). قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد حدثنا عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن سابط أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «دحيت الأرض من مكة وأول من طاف بالبيت الملائكة. فقال الله : إني جاعل في الأرض خليفة ، يعني مكة» وهذا مرسل ، وفي سنده ضعف وفيه مدرج وهو أن المراد بالأرض مكة ، والله أعلم ، فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك.

__________________

(١) البخاري (بدء الخلق باب ٦) والنسائي (صلاة باب ٢١) وموطأ مالك (سفر حديث ٨٢)

(٢) تفسير الطبري ١ / ٢٣٥.

(٣) تفسير الطبري ١ / ٢٤٦.

(٤) التساهل لجهة الاستشارة.

١٢٥

(خَلِيفَةً) قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة أن الله تعالى قال للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة.

قالوا : ربنا وما يكون ذاك الخليفة؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. قال ابن جرير : فكان تأويل الآية على هذا إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بالعدل بين خلقي وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه ، وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه. قال ابن جرير : وإنما معنى الخلافة التي ذكرها الله ، إنما هي خلافة قرن منهم قرنا ، قال : والخليفة الفعلية من قولك : خلف فلان فلانا في هذا الأمر إذا قام مقامه فيه بعده كما قال تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس : ١٤] ، ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم خليفة لأنه خلف الذي كان قبله فقام بالأمر مكانه فكان منه خلفا ، قال : وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، يقول ساكنا وعامرا يعمرها ويسكنها خلفا ليس منكم. قال ابن جرير : وحدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال : إن أول من سكن الأرض الجن ، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضا ، قال : فبعث الله إليهم إبليس [في جند من الملائكة] (١) فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ، ثم خلق آدم فأسكنه إياها ، فلذلك قال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً). وقال سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن ابن سابط : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ، قالُوا : أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) قال : يعنون به بني آدم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال الله للملائكة : إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة ، وليس لله عزوجل [يومئذ] (٢) خلق إلا الملائكة والأرض ليس فيها خلق ، قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها (٣). وقد تقدم ما رواه السدي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة : أن الله أعلم الملائكة بما تفعله ذرية آدم فقالت الملائكة ذلك ، وتقدم آنفا ما رواه الضحاك عن ابن عباس أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم ، فقالت الملائكة ذلك فقاسوا هؤلاء بأولئك.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن عبد الله بن عمر ، قال : كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة ، فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء فبعث الله جندا من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور فقال الله للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة ، قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ قال : إني أعلم ما لا تعلمون. وقال

__________________

(١) الزيادة من الطبري.

(٢) تفسير الطبري ١ / ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

١٢٦

أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ـ إلى قوله ـ (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) قال : خلق الله الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن يوم الخميس وخلق آدم يوم الجمعة ، فكفر قوم من الجن فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ببغيهم فكانت الدماء بينهم ، وكان الفساد في الأرض ، فمن ثم قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها كما أفسدت الجن ويسفك الدماء كما سفكوا. قال ابن أبي حاتم : وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا مبارك بن فضالة حدثنا الحسن قال : قال الله للملائكة (إني جاعل في الأرض خليفة) ، قال لهم : إني فاعل ، فآمنوا بربهم فعلمهم علما وطوى علما علمه ولم يعلموه ، فقالوا بالعلم الذي علمهم : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ قال : إني أعلم ما لا تعلمون. قال الحسن : إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء ، ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون ، فقالوا بالقول الذي علمهم. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، فذلك حين قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام الرازي حدثنا ابن المبارك عن معروف يعني ابن خربوذ المكي عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول : السجل ملك (١) ، وكان هاروت وماروت من أعوانه ، وكان له في كل يوم ثلاث لمحات ينظرهن في أم الكتاب ، فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من الأمور فأسر ذلك إلى هاروت وماروت وكانا في أعوانه فلما قال تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ). قالا ذلك استطالة على الملائكة. وهذا أثر غريب وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين الباقر فهو نقله عن أهل الكتاب ، وفيه نكارة توجب رده ، والله أعلم ، ومقتضاه أن الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين فقط ، وهو خلاف السياق. وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم أيضا حيث قال : حدثنا أبي حدثنا هشام بن أبي عبيد الله حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير قال : سمعت أبي يقول : إن الملائكة الذين قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) كانوا عشرة آلاف فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم ، وهذا أيضا إسرائيلي منكر كالذي قبله ، والله أعلم. قال ابن جريج : وإنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم فقالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. وقال ابن جرير (٢) : وقال بعضهم إنما قالت الملائكة ما قالت (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم ، فسألته الملائكة فقالت على التعجب منها : وكيف

__________________

(١) هو المذكور في سورة الأنبياء ، الآية ١٠٤ (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ). قال الزمخشري في الكشاف ١ / ١٠٨ : وقيل : السجل ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه.

(٢) تفسير الطبري ١ / ٢٤٥.

١٢٧

يعصونك يا رب وأنت خالقهم؟ فأجابهم ربهم (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) يعني أن ذلك كائن منهم ، وإن لم تعلموه أنتم ، ومن بعض من ترونه لي طائعا. قال : وقال بعضهم ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموه من ذلك ، فكأنهم قالوا : يا رب خبرنا ـ مسألة استخبار منهم لا على وجه الإنكار (١) ـ واختاره ابن جرير. وقال سعيد عن قتادة قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) قال : استشار الملائكة في خلق آدم ، فقالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ـ وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره عند الله من سفك الدماء والفساد في الأرض ـ (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ، قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنوا الجنة ، قال : وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول : إن الله لما أخذ في خلق آدم عليه‌السلام قالت الملائكة : ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا فابتلوا بخلق آدم ، وكل خلق مبتلى ، كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة فقال الله تعالى : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] (٢).

وقوله تعالى : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ، قال : التسبيح التسبيح (٣) والتقديس الصلاة ، وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة (ونحن نسبح بحمد ونقدس لك) قال: يقولون : نصلي لك. وقال : مجاهد (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) ، قال : نعظمك ونكبرك. وقال الضحاك : التقديس التطهير. وقال محمد بن إسحاق (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) ، قال : لا نعصي ولا نأتي شيئا تكرهه. وقال ابن جرير : التقديس هو التعظيم والتطهير. ومنه قولهم : سبّوح قدوس. يعني بقولهم سبوح : تنزيه لله ، وبقولهم قدوس : طهارة وتعظيم له ، وكذلك قيل للأرض أرض مقدسة يعني بذلك المطهرة ، فمعنى قول الملائكة إذا (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك (وَنُقَدِّسُ لَكَ) ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك (٤). وفي صحيح

__________________

(١) عبارة الطبري : «لا على وجه مسألة التوبيخ».

(٢) الطبري ١ / ٢٤٢. قال أبو جعفر الطبري : وهذا الخبر عن قتادة يدل على أن قتادة كان يرى أن الملائكة قالت ما قالت من قولها (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) على غير يقين علم تقدم منها بأن ذلك كائن ، ولكن على الرأي منها والظن. ثم قال الطبري : وقد روي عن قتادة خلاف هذا التأويل وهو ما حدثنا به الحسن بن يحيى ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : كان الله أعلمهم إذ كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء.

(٣) أي أن التسبيح المذكور في الآية هو عينه التسبيح المعروف.

(٤) الطبري ١ / ٢٤٨. وكان رسول الله يقول في ركوعه وسجوده : «سبّوح قدّوس ، ربّ الملائكة والروح» روته عائشة وأخرجه مسلم (القرطبي ١ / ٢٧٧)

١٢٨

مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل أي الكلام أفضل؟ قال : «ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده» (١) وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحا في السموات العلا «سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى».

(قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) قال قتادة : فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقوال في حكمة قوله تعالى : (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).

وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويقطع تنازعهم وينتصر لمظلومهم من ظالمهم ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر ، أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم ، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر ، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له فيجب التزامها عند الجمهور ، وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع. والله أعلم. أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف. وقد نص عليه الشافعي. وهل يجب الإشهاد على عقد الإمام؟ فيه خلاف ، فمنهم من قال لا يشترط وقيل بلى ويكفي شاهدان ، وقال الجبائي : يجب أربعة وعاقد ومعقود له ، كما ترك عمر رضي الله عنه الأمر شورى بين ستة فوقع الأمر على عاقد وهو عبد الرحمن بن عوف ، ومعقود له وهو عثمان ، واستنبط وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين وفي هذا نظر ، والله أعلم.

ويجب أن يكون ذكرا حرا بالغا عاقلا مسلما عدلا مجتهدا بصيرا سليم الأعضاء خبيرا بالحروب والآراء ، قرشيا على الصحيح ، ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافا للغلاة الروافض. ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا؟ فيه خلاف ، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام ، «إلا أن تروا كفرا بواحا (٢) عندكم من الله فيه برهان» وهل له أن يعزل نفسه؟

فيه خلاف. وقد عزل الحسن بن علي رضي الله عنه نفسه وسلم الأمر إلى معاوية ، لكن هذا لعذر ، وقد مدح على ذلك. فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة

__________________

(١) صحيح مسلم (كتاب الذكر والدعاء ، حديث ٨٤)

(٢) أي جهارا. من قولهم : باح بالشيء ، إذا أعلنه. وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه (إمارة حديث ٤٢). قال النووي : معنى الحديث : لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام. فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم. وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين ، وإن كانوا فسقة ظالمين.

١٢٩

والسلام «من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنا من كان» وهذا قول الجمهور ، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد منهم إمام الحرمين ، وقالت الكرامية (١) يجوز اثنان فأكثر ، كما كان علي ومعاوية إمامين (٢) واجبي الطاعة ، قالوا : وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمام لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف. وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما ، وتردد إمام الحرمين في ذلك. قلت : وهذا يشبه حال الخلفاء بني العباس بالعراق والفاطميين بمصر والأمويين بالمغرب ولنقرر هذا كله في موضع آخر من كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى (٣).

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٣٣)

هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة بما اختصه من علم أسماء كل شيء دونهم ، وهذا كان بعد سجودهم له ؛ وإنما قدم هذا الفصل على ذلك لمناسبة ما بين المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة حين سألوا عن ذلك ، فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون ، ولهذا ذكر الله هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم فقال تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها).

قال السدي عمن حدثه عن ابن عباس (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) قال : علمه أسماء ولده إنسانا إنسانا والدواب فقيل : هذا الحمار ، هذا الجمل ، هذا الفرس. وقال الضحاك عن ابن عباس (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) قال : هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس : إنسان ودابة وسماء وأرض وسهل وبحر وخيل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عاصم بن كليب عن سعيد بن معبد عن ابن عباس (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ

__________________

(١) الكرامية : فرقة من أهل السنة تنسب إلى محمد بن كرام الذي نشأ في سجستان وتوفي ببيت المقدس سنة ٨٦٩ م. والكرامية مجسمون يذهبون إلى أن الله محدود من جهة العرش ، وأن شيئا لا يحدث في العالم قبل حدوث أعراض في ذاته. تعددت فروعهم دون اختلاف في الأصول ، وعرفوا بالزهد والتقوى ، وكثر أتباعهم في خراسان وما وراء النهر وبيت القدس حتى أوائل القرن الثالث عشر.

(٢) الحال أن معاوية لم يدّع الإمامة لنفسه وإنما ادّعى ولاية الشام.

(٣) بسط القرطبي هذه الأمور المتعلقة بالإمام في تفسيره ١ / ٢٦١ ـ ٢٧٢.

١٣٠

كُلَّها) قال : علمه اسم الصحفة والقدر ، قال نعم حتى الفسوة والفسية (١). وقال مجاهد (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) قال : علمه اسم كل دابة وكل طير وكل شيء. كذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف أنه علمه أسماء كل شيء. وقال الربيع في رواية عنه (٢) قال : أسماء الملائكة. وقال حميد الشامي : أسماء النجوم. وقال عبد الرحمن بن زيد : علمه أسماء ذريته كلهم. واختار ابن جرير أنه علمه أسماء الملائكة وأسماء الذرية [دون أسماء سائر أجناس الخلق] (٣) لأنه قال (ثُمَّ عَرَضَهُمْ). وهذا عبارة عما يعقل (٤). وهذا الذي رجح به ليس بلازم ، فإنه لا ينفي أن يدخل معهم غيرهم ، ويعبر عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب كما قال تعالى (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [النور : ٤٥] وقد قرأ عبد الله بن مسعود : ثم عرضهن ، وقرأ أبي بن كعب : ثم عرضها أي المسميات. والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها ذواتها وصفاتها وأفعالها كما قال ابن عباس حتى الفسوة والفسية ، يعني أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر. ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية في كتاب التفسير من صحيحه : حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وقال لي خليفة : حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون : أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا ، فيقول : لست هناكم (٥) ، ويذكر ذنبه فيستحي. ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتونه فيقول : لست هناكم ، ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم فيستحي. فيقول ائتوا خليل الرحمن ، فيأتونه فيقول : لست هناكم ، فيقول : ائتوا موسى عبدا كلمه الله وأعطاه التوراة فيقول : لست هناكم ويذكر قتل النفس بغير نفس فيستحي من ربه. فيقول : ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمة الله وروحه فيأتونه فيقول : لست هناكم ائتوا محمدا عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيأذن لي فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله ثم يقال : ارفع رأسك وسل تعطه وقل يسمع واشفع تشفّع ، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه فإذا رأيت ربي

__________________

(١) أخرج الطبري أربعة أحاديث بنحو هذا عن ابن عباس من طريق عاصم بن كليب. (الطبري ١ / ٢٥٢ ـ ٢٥٣)

(٢) الإسناد في الطبري : حدّثت عن عمار ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع.

(٣) الزيادة من الطبري ١ / ٢٥٣.

(٤) قال الطبري موضحا رأيه ومدعما هذا الاختيار : ولا تكاد العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بين آدم والملائكة.

(٥) لست هناكم : لست أهلا لذلك.

١٣١

مثله ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة ثم أعود الرابعة فأقول ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود» هكذا ساق البخاري (١) هذا الحديث هاهنا ، وقد رواه مسلم والنسائي من حديث هشام وهو ابن أبي عبد الله الدستوائي عن قتادة به ، وأخرجه مسلم (٢) والنسائي وابن ماجة من حديث سعيد وهو ابن أبي عروبة عن قتادة ، ووجه إيراده هاهنا ، والمقصود منه قوله عليه الصلاة والسلام «فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء». فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات ، ولهذا قال (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) يعني المسميات كما قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ، قال : ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة (فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) ثم عرض الخلق على الملائكة. وقال ابن جريج عن مجاهد (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) : عرض أصحاب الأسماء على الملائكة ، وقال ابن جرير :

حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني الحجاج عن جرير بن حازم ومبارك بن فضالة عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالا : علمه اسم كل شيء ، وجعل يسمي كل شيء باسمه وعرضت عليه أمة أمة (٣). وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إني لم أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. وقال الضحاك عن ابن عباس (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إن كنتم تعلمون أني لم أجعل في الأرض خليفة. وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. وقال ابن جرير وأولى الأقوال في ذلك تأويل ابن عباس ومن قال بقوله ، ومعنى ذلك : فقال أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيها الملائكة القائلون أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء من غيرنا أم منا فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ إن كنتم صادقين في قيلكم إني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عصاني ذريته وأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس ، فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم وأنتم [من خلقي ، وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم ، وعلمه غيركم بتعليمي إياه] (٤) فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين.

__________________

(١) صحيح البخاري (تفسير سورة ٢ باب ١)

(٢) صحيح مسلم (إيمان حديث ٣٢٢ ـ ٣٢٤). وأحاديث مسلم الثلاثة المذكورة هي عن قتادة عن أنس بن مالك مرفوعة.

(٣) الطبري ١ / ٢٥٥.

(٤) بين معقوفين من الطبري. ومكانه في الأصل : «وأنتم تشاهدونهم».

١٣٢

(قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) هذا تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء وأن يعلموا شيئا إلا ما علمهم الله تعالى ولهذا قالوا (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أي العليم بكل شيء الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك من تشاء ومنعك من تشاء لك الحكمة في ذلك والعدل التام. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس : سبحان الله ، قال تنزيه الله نفسه عن السوء ، ثم قال عمر لعلي وأصحابه عنده : لا إله إلا الله قد عرفناها ، فما سبحان الله؟ فقال له علي : كلمة أحبها الله لنفسه ورضيها وأحب أن تقال. قال : وحدثنا أبي حدثنا ابن نفيل حدثنا النضر بن عربي قال : سأل رجل ميمون بن مهران عن سبحان الله ، قال : اسم يعظم الله به ، ويحاشي به من السوء.

قوله تعالى : (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) قال زيد بن أسلم : قال : أنت جبرائيل أنت ميكائيل أنت إسرافيل حتى عدد الأسماء كلها حتى بلغ الغراب. وقال مجاهد في قول الله (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) قال اسم الحمامة والغراب واسم كل شيء. وروي عن سعيد بن جبير والحسن وقتادة نحو ذلك ، فلما ظهر آدم عليه‌السلام على الملائكة عليهم‌السلام في سرده ما علمه الله تعالى من أسماء الأشياء ، قال الله تعالى للملائكة (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أي ألم أتقدم إليكم إني أعلم الغيب الظاهر والخفي كما قال تعالى (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه : ٧] وكما قال إخبارا عن الهدهد أنه قال لسليمان (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ. اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [النمل : ٢٥ ـ ٢٦] وقيل في قوله تعالى : (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) غير ما ذكرناه ، فروى الضحاك عن ابن عباس (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) قال يقول : أعلم السر كما أعلم العلانية يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار. وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قال : قولهم (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) الآية ، فهذا الذي أبدوا (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر. وكذلك قال سعيد بن جبير ومجاهد والسدي والضحاك والثوري ، واختار ذلك ابن جرير. وقال أبو العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة : هو قولهم : لم يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) فكان الذي أبدوا هو قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، وكان الذي كتموا بينهم هو قولهم : لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم ، فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم. وقال ابن جرير : حدثنا يونس حدثنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في

١٣٣

قصة الملائكة وآدم ، فقال الله للملائكة : كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها ، هذا عندي قد علمته ولذلك أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني ، قال : وقد سبق من الله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود : ١١٩] قال : ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه ، فقال : فلما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا له بالفضل. وقال ابن جرير : وأولى الأقوال في ذلك قول ابن عباس وهو أن معنى قوله تعالى : (وَأَعْلَمُ ، ما تُبْدُونَ) وأعلم مع علمي غيب السموات والأرض ، ما تظهرونه بألسنتكم وما كنتم تخفون في أنفسكم ، فلا يخفى علي أي شيء سواء عندي سرائركم وعلانيتكم. والذي أظهروه بألسنتهم قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها ، والذي كانوا يكتمون ما كان عليه منطويا إبليس من الخلاف على الله في أوامره والتكبر عن طاعته ، قال : وصح ذلك كما تقول العرب : قتل الجيش وهزموا ، وإنما قتل الواحد أو البعض وهزم الواحد أو البعض ، فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) [الحجرات : ٤] ذكر أن الذي نادى إنما كان واحدا من بني تميم ، قال : وكذلك قوله (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (١).

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٣٤)

وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها على ذريته حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم ، وقد دل على ذلك أحاديث أيضا كثيرة منها حديث الشفاعة المتقدم ، وحديث موسى عليه‌السلام «رب أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة ، فلما اجتمع به قال : أنت آدم الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته» وقال وذكر الحديث كما سيأتي إن شاء الله.

وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا عثمان بن سعيد ، حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن ، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة ، وكان اسمه الحارث ، وكان خازنا من خزان الجنة ، قال : وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي ، قال : وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار وهو لسان النار الذي يكون فيه طرفها إذا ألهبت. قال : وخلق الإنسان من طين ، فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها ، وسفكوا الدماء ، وقتل بعضهم بعضا ، قال : فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة وهم هذا الحي الذي يقال لهم الجن (٢) فقتلهم إبليس

__________________

(١) الطبري ١ / ٢٦٠ ـ ٢٦١.

(٢) كذا أيضا في الطبري : «الجن» بالجيم. وقد خطأه الأستاذ محمود شاكر في تحقيقه لتفسير الطبري (طبقة دار المعارف بمصر) وقال إن الصواب «الحن» بالحاء المهملة ، مستشهدا بسياق الأثر الذي ميز بين إبليس وبين ـ

١٣٤

ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه ، فقال : قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد ، قال : فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه فقال الله للملائكة الذين كانوا معه : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً). فقالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء كما أفسدت الجن وسفكت الدماء ، وإنما بعثتنا عليهم لذلك؟ فقال الله تعالى. (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) يقول : إني اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه ، من كبره واغتراره ، قال : ثم أمر بتربة آدم فرفعت ، فخلق الله آدم من طين لازب ، واللازب اللازج الصلب من حمأ مسنون منتن ، وإنما كان حمأ مسنونا بعد التراب ، فخلق منه آدم بيده ، قال : فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى ، وكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل [أي] فيصوت ، فهو قول الله تعالى (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) يقول كالشيء المنفرج الذي ليس بمصمت ، قال : ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره ، ويخرج من فيه ، ثم يقول : لست شيئا للصلصلة ولشيء ما خلقت ، ولئن سلطت عليك لأهلكنك ، ولئن سلطت عليّ لأعصينك ، قال : فلما نفخ الله فيه روحه أتت النفخة من قبل رأسه فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحما ودما ، فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده فذهب لينهض فلم يقدر ، فهو قول الله تعالى (وخلق الإنسان عجولا) قال : ضجرا لا صبر له على سراء ولا ضراء قال : فلما تمت النفخة في جسده عطس فقال (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) بإلهام الله ، فقال الله له «يرحمك الله يا آدم» قال : ثم قال تعالى للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات : اسجدوا لآدم فسجدوا كلهم إلا إبليس أبى واستكبر لما كان حدث نفسه من الكبر والاغترار ، فقال : لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا ، خلقتني من نار وخلقته من طين ، يقول : إن النار أقوى من الطين ، قال : فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله ، أي آيسه من الخير كله وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته ، ثم علم آدم الأسماء كلها وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس : إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس الذين خلقوا من نار السموم ، وقال لهم (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) أي يقول

__________________

ـ الجن. فإبليس مخلوق من نار السموم ، والآخرون خلقوا من مارج من نار. والجن (بالجيم) أول من سكن الأرض ، وإبليس جاء لقتالهم في جند من الملائكة. وقد قال الجاحظ في الحيوان ٧ / ١٧٧ : وبعض الناس يقسم الجن على قسمين فيقول : هم جنّ (بالجيم) وحنّ (بالحاء) ، ويجعل التي بالحاء أضعفهما. وقال في موضع آخر من كتاب الحيوان (١ / ٢٩١ ـ ٢٩٢) : وبعض الناس يزعم أن الحن والجن صنفان مختلفان. وذهبوا إلى قول الأعرابي حين أتى باب بعض الملوك ليكتتب في الزمنى فقال في ذلك :

إن تكتبوا الزّمنى فإني لزمن

من ظاهر الداء وراء مستكنّ

أبيت أهوي في شياطين ترنّ

مختلف نجارهم جنّ وحنّ

١٣٥

أخبروني (بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة ، قال : فلما علمت الملائكة موجدة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب الذي لا يعلمه غيره الذي ليس لهم به علم (قالُوا سُبْحانَكَ) تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره وتبنا إليك (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) تبريا منهم من علم الغيب إلا ما علمتنا كما علمت آدم فقال (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) يقول : أخبرهم بأسمائهم (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ ، قالَ : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) أيها الملائكة خاصة (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولا يعلم غيري (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) يقول ما تظهرون (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) يقول : أعلم السر كما أعلم العلانية ، يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار. هذا سياق غريب وفيه أشياء فيها نظر يطول مناقشتها. وهذا الإسناد إلى ابن عباس يروى به تفسير مشهور.

وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة ، عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش. فجعل إبليس على ملك السماء الدنيا ، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن ، وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة ، وكان إبليس مع ملكه خازنا فوقع في صدره الكبر وقال : ما أعطاني الله هذا إلا لميزة لي على الملائكة ، فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك منه ، فقال الله للملائكة (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فقالوا : ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا ، قالوا : ربنا (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ، وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) يعني من شأن إبليس. فبعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها ، فقالت الأرض : إني أعوذ بالله منك أن تنقص (١) مني أو تشينني ، فرجع ولم يأخذ ، وقال : يا رب إنها عاذت بك فأعذتها ، فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها ، فرجع فقال كما قال جبريل ، فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال : وأنا أعوذ بالله أو أرجع ولم أنفذ أمره ، فأخذ من وجه الأرض وخلط ولم يأخذ من مكان واحد وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفين فصعد به فبلّ التراب حتى عاد طينا لازبا ، واللازب هو الذي يلتزق بعضه ببعض (٢) ، ثم قال للملائكة (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [ص : ٧١ ـ ٧٢] فخلفه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه ليقول له : تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه؟ فخلقه بشرا ، فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة ، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه ، فكان أشدهم فزعا منه إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار وتكون له

__________________

(١) في الأصل «تقبض». وما أتيناه من الطبري.

(٢) بعد هذا في رواية الطبري : «ثم ترك حتى أنتن وتغيّر. وذلك حين يقول (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر : ٢٨] ـ قال : منتن».

١٣٦

صلصلة ، فذلك حين يقول (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) [الرحمن : ١٤] يقول : لأمر ما خلقت ، ودخل من فيه وخرج من دبره وقال للملائكة : لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف ، لئن سلطت عليه لأهلكنه ، فلما بلغ الحين الذي يريد الله عزوجل أن ينفخ فيه الروح ، قال الملائكة : إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له ، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس فقالت الملائكة قل الحمد لله ، فقال الحمد لله ، فقال له الله «رحمك ربك» فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخل الروح إلى جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول الله تعالى (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء : ٣٧] فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبي أن يكون مع الساجدين ، أبى واستكبر وكان من الكافرين ، قال الله له : ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي؟ قال :

أنا خير منه لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين. قال الله له : (فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ) يعني ما ينبغي لك (أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) [الأعراف : ١٣] والصغار هو الذل ، قال (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) ثم عرض الخلق على الملائكة فقال (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، فقالوا : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) قال الله : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) قال : قولهم (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) فهذا الذي أبدوا وأعلم ما تكتمون يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر (١) ، فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي ويقع فيه إسرائيليات كثيرة ، فلعل بعضها مدرج (٢) ليس من كلام الصحابة ، أو أنهم أخذوا من بعض الكتب المتقدمة ، والله أعلم (٣). والحاكم يروي في مستدركه بهذا الإسناد بعينه ويقول أشياء ويقول على شرط البخاري.

والغرض أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم ، دخل إبليس في خطابهم لأنه وإن لم يكن من عنصرهم إلا أنه كان قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم ، فلهذا دخل في الخطاب لهم وذم في مخالفة الأمر ، وسنبسط المسألة إن شاء الله تعالى عند قوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ

__________________

(١) خبر السدّي بالإسناد المذكور نقله الطبري في تفسيره ١ / ٢٤٠ ـ ٢٤١.

(٢) حديث مدرج : هو الحديث الذي يرويه الراوي فيذكر في آخره كلاما لنفسه أو لغيره من غير فصل أو تمييز ، فيأتي بعده من يرويه متصلا متوهما أنه من أصل الحديث.

(٣) الإسناد المذكور الذي أورده السّدي في تفسيره «عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ـ وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود ـ وعن ناس من الصحابة» هو من أكثر الأسانيد دورانا في تفسير الطبري ، علما أن الطبري نفسه قد ارتاب به ولكنه لم يبيّن علّة ارتيابه. وللاستاذ محمود شاكر بحث وتدقيق ورأي حول هذا الأمر ، فانظر تفسير الطبري (طبعة دار المعارف) ١ / ١٥٦ ـ ١٦٠ (حاشية طويلة استغرقت نحو ٤ صفحات)

١٣٧

أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف : ٥٠] ولذا قال محمد بن إسحاق عن خلاد عن عطاء عن طاوس عن ابن عباس ، قال : كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل وكان من سكان الأرض وكان من أشد الملائكة اجتهادا ، وأكثرهم علما ، فذلك دعاه إلى الكبر ، وكان من حي يسمونه جنا (١). وفي رواية عن خلاد عن عطاء عن طاوس أو مجاهد عن ابن عباس أو غيره بنحوه. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد يعني ابن العوام عن سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : كان إبليس اسمه عزازيل ، وكان من أشرف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة ، ثم أبلس بعد. وقال سنيد ، عن حجاج عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة ، وكان خازنا على الجنان ، وكان له سلطان سماء الدنيا ، وكان له سلطان الأرض (٢). وهكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس سواء. وقال صالح مولى التوأمة (٣) عن ابن عباس : إن من الملائكة قبيلا يقال لهم الجن : وكان إبليس منهم ، وكان يسوس ما بين السماء والأرض ، فعصى ، فمسخه الله شيطانا رجيما ، رواه ابن جرير (٤). وقال قتادة عن سعد بن المسيب : كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا (٥). وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار حدثنا عدي بن أبي عدي عن عوف عن الحسن ، قال : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط ، وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس. وهذا الإسناد صحيح عن الحسن. وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم سواء. وقال شهر بن حوشب : كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء ، رواه ابن جرير. وقال سنيد بن داود : حدثنا هشيم أنبأنا عبد الرحمن بن يحيى عن موسى بن نمير وعثمان بن سعيد بن كامل عن سعد بن مسعود ، قال : كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيرا فكان مع الملائكة يتعبد معها فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا ، فأبى إبليس ، فلذلك قال تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن القزاز حدثنا أبو عاصم عن شريك عن رجل عن عكرمة عن ابن عباس قال : إن الله خلق خلقا فقال اسجدوا لآدم فقالوا : لا نفعل ، فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم ، ثم خلق خلقا آخر فقال : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) اسجدوا لآدم قال : فأبوا فبعث الله عليهم نارا

__________________

(١) كذا أيضا في الطبري ١ / ١٦٢ : «جنا» ـ بالجيم. وصوابه بالحاء المهملة. راجع ص ١٣٠ حاشية ٢.

(٢) هذا الخبر في الطبري ١ / ٥٠٣. وفيه زيادة عما هنا : «قال : قال ابن عباس : وقوله : (كانَ مِنَ الْجِنِ) إنما يسمى بالجنان أنه كان خازنا عليها ، كما يقال للرجل مكي ومدني وكوفي وبصري».

(٣) هو صالح بن نبهان (أبي صالح) المتوفى نحو ١٢٥ ه‍. من الطبقة الرابعة. أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة. صدوق ، اختلط بآخره ، فقال ابن عدي : لا بأس برواية القدماء عنه كابن أبي ذئب وابن جريج. وقد أخطأ من زعم أن البخاري أخرج له. (موسوعة رجال الكتب التسعة ٢ / ١٦٨)

(٤) تفسير الطبري ١ / ٢٦٤.

(٥) أخرجه الطبري ١ / ٢٦٢.

١٣٨

فأحرقتهم ، ثم خلق هؤلاء فقال : اسجدوا لآدم ، قالوا : نعم ، وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم (١) ـ وهذا غريب ولا يكاد يصح إسناده فإن فيه رجلا مبهما (٢) ومثله لا يحتج به ، والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة حدثنا صالح بن حيان حدثنا عبد الله بن بريدة : قوله تعالى : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) من الذين أبوا فأحرقتهم النار. وقال أبو جعفر رضي الله عنه عن الربيع عن أبي العالية (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) يعني من العاصين. وقال السدي (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) الذين لم يخلقهم الله يومئذ يكونون بعد. وقال محمد بن كعب القرضي : ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر والضلالة وعمل بعمل الملائكة فصيره الله إلى ما أبدى عليه خلقه على الكفر ، قال الله تعالى : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ). وقال قتادة في قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم ، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته. وقال بعض الناس : كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام كما قال تعالى : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ، وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) [يوسف : ١٠٠] وقد كان هذا مشروعا في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا. قال معاذ : قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم ، فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك ، فقال : «لا لو كنت آمرا بشرا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها» (٣) ورجحه الرازي. وقال بعضهم : بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها ، كما قال تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] وفي هذا التنظير نظر ، والأظهر أن القول الأول أولى ، والسجدة لآدم إكراما وإعظاما واحتراما وسلاما ، وهي طاعة لله عزوجل لأنها امتثال لأمره تعالى ، وقد قواه الرازي في تفسيره وضعف ما عداه من القولين الآخرين وهما كونه جعل قبلة إذ لا يظهر فيه شرف والآخر أن المراد بالسجود الخضوع لا الانحناء ووضع الجبهة على الأرض وهو ضعيف كما قال. وقال قتادة في قوله تعالى : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) حسد عدو الله إبليس آدم عليه‌السلام ما أعطاه من الكرامة ، وقال : أنا ناريّ وهذا طينيّ ، وكان بدء الذنوب الكبر ، استكبر عدو الله أن يسجد لآدم عليه‌السلام. قلت : وقد ثبت في الصحيح «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر» (٤) وقد كان في إبليس من الكبر والكفر والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن جناب الرحمة وحضرة القدس ، قال بعض

__________________

(١) الطبري ١ / ٢٦٤.

(٢) قوله : «عن رجل عن عكرمة».

(٣) أخرجه أبو داود (نكاح باب ٤٠) والترمذي (رضاع باب ١٠) وابن ماجة (نكاح باب ٤) وأحمد في المسند (ج ٥ ص ٢٤٨)

(٤) أخرجه مسلم (إيمان حديث ١٤٨ ، ١٤٩)

١٣٩

المعربين (١) : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي وصار من الكافرين بسبب امتناعه كما قال (فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود : ٤٣] وقال : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة : ٣٥] وقال الشاعر: [الطويل]

بتيهاء قفر والمطيّ كأنها

قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها (٢)

أي قد صارت. وقال ابن فورك : [«كان» هنا بمعنى «صار» خطأ تردّه الأحول. وقال جمهور المتأوّلين (٣)] تقديره وقد كان في علم الله من الكافرين ، ورجحه القرطبي. وذكر هاهنا مسألة فقال : قال علماؤنا من أظهر الله على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالا على ولايته خلافا لبعض الصوفية والرافضة ، هذا لفظه. ثم استدل على ما قال بقوله : ولما اتفقنا على أننا بأنا لا نقطع بهذا الذي جرى الخارق على يديه أن يوافي الله بالإيمان وهو لا يقطع لنفسه ، علم أن ذلك ليس يدلّ على ولايته لله (٤) قلت : وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد يكون على يدي غير الولي بل قد يكون على يد الفاجر والكافر أيضا بما ثبت عن ابن صياد أنه قال : هو الدخ حين خبأ له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) وبما كان يصدر عنه أنه كان يملأ الطريق إذا غضب حتى ضربه عبد الله بن عمر ، وبما ثبت به الأحاديث عن الدجال بما يكون على يديه من الخوارق الكثيرة من أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر ، والأرض أن تنبت فتنبت ، وتتبعه كنوز الأرض مثل اليعاسيب ، وأنه يقتل ذلك الشاب ثم يحييه إلى غير ذلك من الأمور المهولة. وقد قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي : قلت للشافعي : كان الليث بن سعد يقول : إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة ، فقال الشافعي : قصر الليث رحمه‌الله ، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة (٥). وقد حكى الرازي وغيره قولين للعلماء : هل المأمور بالسجود لآدم خاص بملائكة الأرض أو عام في ملائكة السموات والأرض ، وقد رجح كلا من القولين طائفة ، وظاهر الآية الكريمة العموم (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) فهذه أربعة أوجه مقوية للعموم ، والله أعلم.

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ

__________________

(١) أي بعض المفسرين أو المتأولين.

(٢) البيت لعمرو بن أحمر في ديوانه ص ١١٩ ؛ والحيوان ٥ / ٥٧٥ ؛ وخزانة الأدب ٩ / ٢٠١ ؛ ولسان العرب (عرض ، كون). وله أو لابن كنزة في شرح شواهد الإيضاح ص ٥٢٥ ؛ وبلا نسبه في أسرار العربية ص ١٣٧ ؛ وشرح الأشموني ١ / ١١١؟ والمعاني الكبير ١ / ٣١٣ ؛ والقرطبي ١ / ٢٩٦.

(٣) الزيادة من القرطبي ١ / ٢٩٧. وهي ضرورية لصحة العبارة.

(٤) عبارة الأصل : «لذلك يعني والولي الذي يقطع له بذلك في نفس الأمرة ، وهي غير واضحة. وما أثبتناه عن القرطبي ، وكذا الزيادة قبل هذا بين معقوفين.

(٥) كذا بالأصل. ولا فرق بين عبارتي الليث والشافعي ، فتأمل.

١٤٠