تفسير القرآن العظيم - ج ١

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ١

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٨٤

إلى (١) صنعاء فدون ذلك ، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء له نوره إلا موضع قدميه [والناس منازل بأعمالهم]» (٢) ، رواه ابن جرير. ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن داور القطان عن قتادة بنحوه. وهذا كما قال المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم ، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نورا على إبهامه يطفأ مرة ويتقد مرة ، وهكذا رواه ابن جرير عن ابن مثنى عن ابن إدريس عن أبيه عن المنهال. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمد بن علي بن محمد الطنافسي حدثنا ابن إدريس سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) قال : على قدر أعمالهم يمرون على الصراط ، منهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من نوره مثل النخلة ، وأدناهم نورا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى. وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني حدثنا عتبة بن اليقظان عن عكرمة عن ابن عباس قال : ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نورا يوم القيامة ، فأما المنافق فيطفأ نوره فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين ، فهم يقولون : ربنا أتمم لنا نورنا. وقال الضحاك بن مزاحم : يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نورا فإذا انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين ، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا فقالوا : ربنا أتمم لنا نورنا.

فإذا تقرر هذا صار الناس أقساما ، مؤمنون خلص وهم الموصوفون بالآيات الأربع في أول البقرة ، وكفار خلص وهم الموصوفون بالآيتين بعدها. ومنافقون وهم قسمان : خلص وهم المضروب لهم المثل الناري (٣) ، ومنافقون يترددون تارة يظهر لهم لمع الإيمان وتارة يخبو ، وهم أصحاب المثل المائي (٤) وهم أخف حالا من الذين قبلهم. وهذا المقام يشبه من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور (٥) من ضرب مثل المؤمن وما جعل الله في قلبه من الهدى والنور بالمصباح في الزجاجة التي كأنها كوكب دري وهي قلب المؤمن المفطور على الإيمان واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية الواصلة إليه من غير كدر ولا تخليط كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله. ثم ضرب مثل العباد من الكفار الذين يعتقدون أنهم على شيء وليسوا على شيء ، وهم أصحاب الجهل المركب في قوله تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) [النور : ٣٩] ثم ضرب مثل الكفار الجهال الجهل

__________________

(١) في الأصل «إلى عدن أو بين صنعاء ودون ذلك» وما أثبتنا عن الدر المنثور ٦ / ٢٥٠.

(٢) الزيادة عن الدر المنثور. قال السيوطي : وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة.

(٣) أي في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) الآية.

(٤) أي في قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) الآية.

(٥) سورة النور ، الآية ٣٥.

١٠١

البسيط وهم الذين قال تعالى فيهم (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور : ٤٠] فقسم الكفار هاهنا إلى قسمين : داعية ومقلد ، كما ذكرهما في أول سورة الحج (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) [الحج : ٣] وقال (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) [الحج : ٨] وقد قسم الله المؤمنين في أول الواقعة وفي آخرها ، وفي سورة الإنسان إلى قسمين : سابقون وهم المقربون ، وأصحاب يمين وهم الأبرار.

فتلخّص من مجموع هذه الآيات الكريمات أن المؤمنين صنفان : مقربون وأبرار ، وأن الكافرين صنفان : دعاة ومقلدون ، وأن المنافقين أيضا صنفان : منافق خالص ، ومنافق فيه شعبة من نفاق ، كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ثلاث من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان» (١) استدلوا به على أن الإنسان قد تكون فيه شعبة من إيمان وشعبة من نفاق. إما عملي لهذا الحديث أو اعتقادي كما دلت عليه الآية كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض العلماء كما تقدم وكما سيأتي إن شاء الله. قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو النضر حدثنا أبو معاوية يعني شيبان عن ليث عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «القلوب أربعة : قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر ، وقلب أغلف مربوط على غلافه ، وقلب منكوس ، وقلب مصفح ، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن فسراجه فيه نوره وأما القلب الأغلف فقلب الكافر وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق ، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه» وهذا إسناد جيد حسن.

وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) قال : لما تركوا من الحق بعد معرفته (٣) (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال ابن عباس : أي إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو

__________________

(١) أخرجه البخاري (إيمان باب ٢٤ ؛ جزية باب ١٧ ؛ مظالم باب ١٧) ومسلم (إيمان حديث ١٠٢) وأبو داود (سنة باب ١٥) والترمذي (إيمان باب ١٤) والنسائي (إيمان باب ٢٠) وأحمد في المسند (ج ٢ ص ١٨٩)

(٢) المسند ج ٣ ص ١٧.

(٣) الطبري ١ / ١٩٤.

١٠٢

قدير وقال ابن جرير (١) : إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط ، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير. ومعنى قدير : قادر ، كما أن معنى عليم : عالم. وذهب ابن جرير ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين وتكون «أو» ، في قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) بمعنى الواو كقوله تعالى (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] أو تكون للتخيير أي اضرب لهم مثلا بهذا وإن شئت بهذا ، قاله القرطبي (٢). أو للتساوي مثل : جالس الحسن أو ابن سيرين ، على ما وجهه الزمخشري أن كلا منهما مساو للآخر في إباحة الجلوس إليه ويكون معناه على قوله : سواء ضربت لهم مثلا بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم (قلت) وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة براءة ـ ومنهم ـ ومنهم ـ ومنهم (٣) ـ يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال ، فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم ، والله أعلم ، كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين في قوله تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) إلى أن قال (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) الآية : فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب ، والثاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين ، والله أعلم بالصواب.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٢)

شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة بأن جعل لهم الأرض فراشا ، أي مهدا كالفراش مقررة (٤) موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات ، والسماء بناء ، وهو السقف ، كما قال في الآية الأخرى (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ٣٢] وأنزل لهم من السماء ماء والمراد به السحاب هاهنا في وقته عند احتياجهم إليه ، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد رزقا لهم ولأنعامهم كما قرر هذا في غير موضع من القرآن. ومن أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً

__________________

(١) الطبري ١ / ١٩٥.

(٢) تفسير القرطبي ١ / ٢١٥.

(٣) سورة التوبة (براءة) ، الآيات : ٤٩ ، ٥٨ ، ٦١ ، ٧٥ ، ٧٦ ، ٩٧.

(٤) مقرّرة : مسوّاة مدحوّة. ومنه قوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً).

١٠٣

وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [غافر : ٦٤] ومضمونه : أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم ، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره ولهذا قال : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال : قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال : «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» الحديث (١) ، وكذا حديث معاذ : «أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» الحديث (٢) ، وفي الحديث الآخر «لا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان». وقال حماد بن سلمة : حدثنا عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن الطفيل بن سخبرة (٣) أخي عائشة أم المؤمنين لأمها قال : رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت من أنتم؟ قالوا : نحن اليهود ، قلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزيز ابن الله ، قالوا : وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وما شاء محمد ، قال : ثم مررت بنفر من النصارى فقلت من أنتم؟ قالوا نحن النصارى ، قلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله ، قالوا : وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد ، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته فقال : «هل أخبرت بها أحدا؟» قلت : نعم ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا (٤) أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده» هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث حماد بن سلمة به ، وأخرجه ابن ماجة من وجه آخر عن عبد الملك بن عمير به بنحوه ، وقال سفيان بن سعيد الثوري عن الأجلح بن عبد الله الكندي عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس قال : قال رجل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شاء الله وشئت فقال : «أجعلتني لله ندا؟ قل ما شاء الله وحده» رواه ابن مردويه وأخرجه النسائي وابن ماجة من حديث عيسى بن يونس عن الأجلح به ، وهذا كله صيانة وحماية لجناب التوحيد ، والله أعلم.

وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن

__________________

(١) أخرجه البخاري (تفسير سورة ٢ باب ٣ ؛ وأدب باب ٢٠ ؛ وحدود باب ٢٠ ؛ وديات باب ١ ، وتوحيد باب ٤٠) ومسلم (إيمان حديث ١٤١ ، ١٤٢) وأبو داود (طلاق باب ٥) والترمذي (تفسير سورة ٢٥ باب ١ و ٢) والنسائي (أيمان باب ٦ ؛ وتحريم باب ٤) وأحمد في المسند (ج ١ ص ٢٨٠)

(٢) أخرجه البخاري (لباس باب ١٠١ ؛ جهاد باب ٤٦ ؛ استئذان باب ٣٠ ؛ رقاق باب ٢٧ ؛ توحيد باب ١) ومسلم (إيمان حديث ٤٨ ـ ٥١)

(٣) وهو الطفيل بن عبد الله بن الحارث بن سخبرة. وقد ينسب إلى جده فيقال : الطفيل بن سخبرة. (أسد الغابة ٣ / ٥٣ ؛ وموسوعة رجال الكتب التسعة ٢ / ٢٠٣)

(٤) في مسند أحمد (ج ٥ ص ٧٢) والدر المنثور (ج ١ ص ٧٦) : «وإنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم منها».

١٠٤

عباس قال : قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) للفريقين جميعا من الكفار والمنافقين ، أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم (١). وبه عن ابن عباس (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه. وهكذا قال قتادة. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم حدثنا أبو عمرو حدثنا أبو الضحاك بن مخلد أبو عاصم حدثنا شبيب بن بشر حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قول الله عزوجل : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) قال : الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل ، وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان وحياتي ، ويقول : لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص ، وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت ، وقول الرجل : لولا الله وفلان لا تجعل فيها فلان ، هذا كله به شرك. وفي الحديث أن رجلا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شاء وشئت ، قال : «أجعلتني لله ندا» وفي الحديث الآخر : «نعم القوم أنتم لولا أنكم تنددون : تقولون ما شاء الله وشاء فلان» قال أبو العالية : فلا تجعلوا لله أندادا أي عدلاء شركاء ، وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدي وأبو مالك وإسماعيل بن أبي خالد ، وقال مجاهد (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) قال : تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل.

ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عفان حدثنا أبو خلف موسى بن خلف ، وكان يعد من البدلاء (٣) ، حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن الحارث الأشعري أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله عزوجل أمر يحيى بن زكريا عليه‌السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن وأنه كاد أن يبطئ بها فقال له عيسى عليه‌السلام : إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تبلّغهن وإما أن أبلغهن ، فقال : يا أخي إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي قال : فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن ، أولهن : أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بورق أو

__________________

(١) الطبري ١ / ١٩٦.

(٢) المسند ج ٤ ص ١٣٠.

(٣) البدلاء أو الأبدال : قوم من الصالحين بهم يقيم الله الأرض ، لا يموت منهم أحد إلا قام مكانه آخره ، فلذلك سموا أبدالا. (لسان العرب : بدل)

١٠٥

ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده ، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وآمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت فإذا صليتم فلا تلتفوا ، وآمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك ، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، وآمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه ، فقال لهم : هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه ، وآمركم بذكر الله كثيرا وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره ، فأتى حصنا حصينا فتحصن فيه وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله» قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن : الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله ، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع ، ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جثي جهنم» قالوا : يا رسول الله وإن صام وصلى؟ فقال : «وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله عزوجل : المسلمين المؤمنين عباد الله» هذا حديث حسن. والشاهد منه في هذه الآية قوله : «وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا» وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له ، وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع تعالى ، وهي دالة على ذلك بطريق الأولى ، فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة ، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه ، كما قال بعض الأعراب ، وقد سئل ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال : يا سبحان الله إن البعر ليدل على البعير ، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟.

وحكى الرازي عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل له باختلاف اللغات والأصوات والنغمات. وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى ، فقال لهم : دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة (١) فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها ، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها ، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد ، فقالوا : هذا شيء لا يقوله عاقل ، فقال : ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع؟ فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا علي يديه. وعن الشافعي أنه سئل عن وجود الصانع ، فقال : هذا ورق التوت طعمه

__________________

(١) موقرة : محملة.

١٠٦

واحد تأكله الدود (١) فيخرج منه الإبريسم ، وتأكله النحل فيخرج منه العسل وتأكله الشاة والبقر والأنعام فتلقيه بعرا وروثا ، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد. وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال : هاهنا حصن حصين أملس ليس له باب ولا منفذ ، ظاهره كالفضة البيضاء ، وباطنه كالذهب الإبريز ، فبينا هو كذلك إذا انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح ، يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة. وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد : [الوافر]

تأمل في نبات الأرض وانظر

إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصات

بأحداق هي الذهب السبيك

على قضب الزبرجد شاهدات

بأن الله ليس له شريك

وقال ابن المعتز : [المتقارب]

فيا عجبا كيف يعصى الإله

أم كيف يجحده الجاحد

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

وقال آخرون : من تأمل هذه السموات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارة ومن الثوابت ، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها ، ونظر إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب ، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها كما قال تعالى : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ ، إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٧ ـ ٢٨] وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع وما ذرأ (٢) في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأرايج (٣) والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم ، لا إله غيره ولا رب سواه ، عليه توكلت وإليه أنيب ، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدا.

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢٤)

ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو ، فقال مخاطبا للكافرين : (وَإِنْ

__________________

(١) المراد دود الحرير. والإبريسم : الحرير.

(٢) ذرأ : خلق.

(٣) الأرايج والأرائج : جمع ، أريجة ، وهي الريح الطيبة.

١٠٧

كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فأتوا بسورة) من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله فعارضوه بمثل ما جاء به واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله فإنكم لا تستطيعون ذلك. قال ابن عباس : شهداءكم أعوانكم ، وقال السدي عن أبي مالك : شركاءكم ، أي قوما آخرين يساعدونكم على ذلك ، أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم ، وقال مجاهد : وادعوا شهداءكم قال : ناس يشهدون به يعني حكام الفصحاء. وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القصص (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [القصص : ٤٩] وقال في سورة سبحان (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨] وقال في سورة هود : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [هود : ١٣] وقال في سورة يونس : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٣٧ ـ ٣٨] وكل هذه الآيات مكية ، ثم تحداهم بذلك أيضا في المدينة فقال في هذه الآية (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) ـ أي شك ـ (مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) ـ يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) يعني من مثل القرآن ، قاله مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير والزمخشري والرازي ، ونقله عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري ، وأكثر المحققين ، ورجح ذلك بوجوه من أحسنها أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم وذلك أكمل من التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئا من العلوم وبدليل قوله تعالى : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) [هود : ١٣] وقوله (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء : ٨٨] وقال بعضهم : من مثل محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعني من رجل أمي مثله ، والصحيح الأول ، لأن التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم ، وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه ، ومع هذا عجزوا عن ذلك ولهذا قال تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) ولن لنفي التأبيد في المستقبل أي : ولن تفعلوا ذلك أبدا وهذه أيضا معجزة أخرى ، وهو أنه أخبر خبرا جازما قاطعا مقدما غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين وكذلك وقع الأمر لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن ، وأنى يتأتى ذلك لأحد والقرآن كلام الله خالق كل شيء ، وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين.

ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى ، قال الله تعالى : (الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود : ١] فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه ، أو بالعكس على الخلاف فكل من لفظه ومعناه فصيح

١٠٨

لا يحاذى ولا يدانى ، فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء ، وأمر بكل خير ، ونهى عن كل شر كما قال تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام : ١١٥] أي صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام ، فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها ، كما قيل في الشعر إن أعذبه أكذبه ، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئا إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح ، ثم تجد له فيه بيت أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته ، وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير ، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة سواء كانت مبسوطة أو وجيزة وسواء تكررت أم لا ، وكلما تكرر حلا وعلا ، لا يخلق (١) عن كثرة الرد ، ولا يمل منه العلماء ، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات ، فما ظنك بالقلوب الفاهمات ، وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان ، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن كما قال في الترغيب (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة : ١٧] وقال : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) [الزخرف : ٧١] وقال في الترهيب : (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) [الإسراء : ٦٨] (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ. أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) [الملك : ١٦ ـ ١٧] وقال في الزجر : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) [العنكبوت : ٤٠] وقال في الوعظ : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء : ٢٠٥] إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة. وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي ، اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب ، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء ، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف : إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأرعها سمعك فإنها خير يأمر به أو شر ينهى عنه ، ولهذا قال تعالى : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف : ١٥٧] وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم ، بشرت به وحذرت وأنذرت ، ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات ، وزهدت في الدنيا ورغبت في الآخرة ، وثبتت على الطريقة

__________________

(١) لا يخلق : لا يبلى.

١٠٩

المثلى ، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم ، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم. ولهذا ثبت في الصحيحين (١) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» ـ لفظ مسلم (٢) ـ وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإنما كان الذي أوتيته وحيا» أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه بخلاف غيره من الكتب الإلهية فإنها ليس معجزة عند كثير من العلماء والله أعلم. وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ولله الحمد والمنة.

وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصرفة ، فقال : إن كان هذا القرآن معجزا في نفسه لا يستطع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته فقد حصل المدعى وهو المطلوب ، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له كان ذلك دليلا على أنه من عند الله لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك ، وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته كما قررنا إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق ، وبهذه الطريقة أجاب الرازي في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر وإنا أعطيناك الكوثر.

وقوله تعالى : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) أما الوقود ، بفتح الواو ، فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه ، كما قال تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن : ١٥] وقال تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ. لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) [الأنبياء: ٩٨ ـ ٩٩] والمراد بالحجارة هاهنا هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة ، وهي أشد الأحجار حرا إذا حميت ، أجارنا الله منها. وقال عبد الملك بن ميسرة الزراد عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) قال : هي حجارة من كبريت ، خلقها الله يوم خلق السموات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين. رواه ابن جرير (٣) وهذا لفظه وابن أبي حاتم والحاكم في مستدركه وقال : على شرط الشيخين. وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرّة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة : اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ، أما الحجارة فهي من كبريت أسود يعذبون به مع النار. وقال مجاهد حجارة من كبريت أنتن من الجيفة. وقال أبو جعفر محمد بن علي : حجارة من كبريت ، وقال ابن جريج : حجارة من كبريت أسود في النار ، قال :

__________________

(١) أخرجه البخاري (فضائل القرآن باب ١ ؛ اعتصام باب ١) ومسلم (إيمان حديث ٢٣٩)

(٢) بالمقارنة مع لفظ مسلم لاحظنا اختلافا في ترتيب عدد من الألفاظ.

(٣) تفسير الطبري ١ / ٢٠٤.

١١٠

وقال لي عمرو بن دينار : أصلب من هذه الحجارة وأعظم. وقيل المراد بها حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) الآية ، حكاه القرطبي والرازي ورجحه على الأول ، قال : لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمستنكر فجعلها هذه الحجارة أولى. وهذا الذي قاله ليس بقوي ، وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها ولا سيما على ما ذكره السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك ، ثم أخذ النار بهذه الحجارة أيضا مشاهد ، وهذا الجص يكون إحجارا فيعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك. وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها ، وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال تعالى : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : ٩٧] وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمر ويشتد لهبها قال : ليكون ذلك أشد عذابا لأهلها ، قال : وقد جاء في الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كل مؤذ في النار» وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف ، ثم قال القرطبي : وقد فسر بمعنيين ، أحدهما أن كل من آذى الناس دخل النار ، والآخر أن كل ما يؤذي في النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك (١).

وقوله تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) الأظهر أن الضمير في أعدت عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة ، ويحتمل عوده إلى الحجارة كما قال ابن مسعود ، ولا منافاة بين القولين في المعنى لأنهما متلازمان ، وأعدت أي رصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله كما قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) : أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر. وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله تعالى : (أُعِدَّتْ) أي أرصدت وهيئت ، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها «تحاجت الجنة والنار» ومنها «استأذنت النار ربها فقالت رب أكل بعضي بعضا ، فأذن لها بنفسين : نفس في الشتاء ونفس في الصيف» وحديث ابن مسعود : سمعنا وجبة (٢) فقلنا ما هذه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها» وهو عند مسلم ، وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى ، وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي (٣) قاضي الأندلس.

__________________

(١) تفسير القرطبي ١ / ٢٣٦. وعبارة القرطبي : «والثاني أن كل ما يؤذي الناس في الدنيا من السباع والهوام وغيرها في النار ، معدّ لعقوبة أهل النار».

(٢) الوجبة : صوت الساقط. ووجب القلب وجيبا : خفق واضطرب.

(٣) هو منذر بن سعيد بن عبد الله القرطبي البلوطي المتوفى سنة ٣٥٥ ه‍. نسبته إلى «فحص البلوط» بقرب قرطبة. قال ابن الفرضي في «تاريخ علماء الأندلس» : كان بصيرا بالجدل منحرفا إلى مذاهب أصحاب الكلام.

١١١

(تنبيه ينبغي الوقوف عليه)

قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) وقوله في سورة يونس : (بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أم قصيرة لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه ، فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها ، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعا بين الناس سلفا وخلفا. وقد قال الرازي في تفسيره : فإن قيل قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) يتناول سورة الكوثر وسورة العصر ، وقل يا أيها الكافرون ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن فإن قلتم إن الإتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدار البشر كان مكابرة والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين (قلنا) (١) فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني وقلنا إن بلغت هذه السور في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود ، وإن لم يكن كذلك ، كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجزا ، فعلى التقديرين يحصل المعجز. هذا لفظه بحروفه ، والصواب أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة. قال الشافعي رحمه‌الله : لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر : ١ ـ ٢] وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم ، فقال له مسيلمة : ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين؟ فقال له عمرو : لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة فقال : وما هي؟ فقال (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال : ولقد أنزل علي مثلها ، فقال : وما هو؟ فقال : يا وبر يا وبر إنما أنت أذنان وصدر ، وسائرك حقر فقر ، ثم قال : كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو : والله إنك لتعلم أني لأعلم أنك تكذب.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥)

لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال ، عطف يذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة ، وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصح أقوال العلماء كما سنبسطه في موضعه ، وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر أو عكسه أو حال السعداء ثم الأشقياء أو عكسه ، وحاصله ذكر الشيء ومقابله. وأما ذكر الشيء ومقابله. وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه كما سنوضحه إن شاء الله فلهذا قال تعالى : (وَبَشِّرِ

__________________

(١) القائل هنا هو الرازي.

١١٢

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار أي من تحت أشجارها وغرفها ، وقد جاء في الحديث : أن أنهارها تجري في غير أخدود ، وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف ، ولا منافاة بينها فطينها المسك الأذفر ، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر ، نسأل الله من فضله إنه هو البر الرحيم. وقال ابن أبي حاتم : قرئ على الربيع بن سليمان ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا ابن ثوبان عن عطاء بن قرة ، عن عبد الله بن ضمرة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنهار الجنة تفجر تحت تلال أو من تحت جبال المسك» وقال أيضا : حدثنا أبو سعيد حدثنا وكيع عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق ، قال : قال عبد الله : أنهار الجنة تفجر من جبل المسك.

وقوله تعالى : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة (قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل) ، قال : إنهم أتوا بالثمرة في الجنة فلما نظروا إليها قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا ، وهكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نصره ابن جرير (١) ، وقال عكرمة (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) قال : معناه مثل الذي كان بالأمس ، وكذا قال الربيع بن أنس. وقال مجاهد : يقولون ما أشبهه به. قال ابن جرير : وقال آخرون : بل تأويل ذلك : هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا ، لشدة مشابهة بعضه بعضا (٢) لقوله تعالى : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً). قال سنيد بن داود حدثنا شيخ من أهل المصيصة (٣) عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال : يؤتى أحدهم بالصفحة من الشيء فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيقول : هذا الذي أتينا به من قبل ، فتقول الملائكة : كل فاللون واحد والطعم مختلف (٤). وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عامر بن يساف عن يحيى بن أبي كثير ، قال : عشب الجنة الزعفران وكثبانها المسك ، ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها ، ثم يؤتون بمثلها ، فيقول لهم أهل الجنة : هذا الذي أتيتمونا آنفا به ، فتقول لهم الوالدان : كلوا فاللون واحد والطعم مختلف ، وهو قول الله تعالى : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً). وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) قال : يشبه بعضه بعضا ، ويختلف في الطعم. قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك. وقال ابن جرير بإسناده عن السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة ، عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة في قوله تعالى : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) يعني في اللون والمرأى وليس يشتبه في

__________________

(١) الطبري ١ / ٢٠٦.

(٢) أضاف الطبري : «ومن علة قائلي هذا القول أن ثمار الجنة كلما نزع منها شيء عاد مكانه آخر مثله».

(٣) المصيصة : مدينة من ثغور بلاد الشام بين انطاكية وبلاد الروم.

(٤) الطبري ١ / ٢٠٧.

١١٣

الطعم ، وهذا اختيار ابن جرير. وقال عكرمة (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) قال : يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب. وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس : لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء ، وفي رواية : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ، ورواه ابن جرير من رواية الثوري وابن أبي حاتم من حديث أبي معاوية كلاهما عن الأعمش به. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) قال : يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا التفاح بالتفاح والرمان بالرمان ، قالوا في الجنة : هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا وأتوا به متشابها يعرفونه وليس هو مثله في الطعم (١).

وقوله تعالى : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : مطهرة من القذر والأذى ، وقال مجاهد : من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد ، وقال قتادة : مطهرة من الأذى والمأثم ، وفي رواية عنه لا حيض ولا كلف. وروي عن عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك. وقال ابن جرير (٢) : حدثني يونس بن عبد الأعلى. أنبأنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، قال : المطهرة التي لا تحيض ، قال : وكذلك خلقت حواء عليها‌السلام ، فلما عصت قال الله تعالى : إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة ـ وهذا غريب. وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا إبراهيم بن محمد حدثني جعفر بن محمد بن حرب وأحمد بن محمد الجوري قالا : حدثنا محمد بن عبيد الكندي ، حدثنا عبد الرزاق بن عمر البزيعي ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) قال من الحيض والغائط والنخاعة (٣) والبزاق. هذا حديث غريب ـ وقد رواه الحاكم في مستدركه عن محمد بن يعقوب عن الحسن بن علي بن عفان عن محمد بن عبيد به ، وقال : صحيح على شرط الشيخين. وهذا الذي ادعاه فيه نظر ، فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي هذا قال فيه أبو حاتم بن حبان البستي : لا يجوز الاحتجاج به (قلت) والأظهر أن هذا من كلام قتادة كما تقدم ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) هذا هو تمام السعادة فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع فلا آخر له ولا انقضاء بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام ، والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم ، إنه جواد كريم بر رحيم.

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ

__________________

(١) الطبري ١ / ٢١٠ ؛ والدر المنثور ١ / ٨٢ ـ ٨٣.

(٢) تفسير الطبري ١ / ٢١٢.

(٣) في الدر المنثور : «والنخامة».

١١٤

الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٢٧)

قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين يعني قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) وقوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) الآيات الثلاث ، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله تعالى : (هُمُ الْخاسِرُونَ). وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : لما ذكر الله تعالى العنكبوت والذباب ، قال المشركون : ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) وقال سعيد عن قتادة : أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئا مما قل أو كثر ، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة : ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) (قلت) العبارة الأولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الآية مكية وليس كذلك ، وعبارة رواية سعيد عن قتادة أقرب ، والله أعلم. وروى ابن جريج عن مجاهد نحو هذا الثاني عن قتادة. وقال ابن أبي حاتم روي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الآية قال : هذا مثل ضربه الله للدنيا إن البعوضة تحيا ما جاعت فإذا سمنت ماتت وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا المثل في القرآن إذا امتلاءوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك ثم تلا : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ٤٤] هكذا رواه ابن جرير (١) ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية بنحوه فالله أعلم. فهذا اختلافهم في سبب النزول. وقد اختار ابن جرير ما حكاه السدي لأنه أمس بالسورة وهو مناسب ، ومعنى الآية أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي أي لا يستنكف وقيل لا يخشى أن يضرب مثلا ما ، أي : أيّ مثل كان بأي شيء كان صغيرا كان أو كبيرا ، وما هاهنا للتقليل ، وتكون بعوضة منصوبة على البدل كما تقول : لأضربن ضربا ما ، فيصدق بأدنى شيء ، أو تكون ما نكرة موصوفة ببعوضة ، واختار ابن جرير أن ما موصولة وبعوضة معربة بإعرابها ، قال: وذلك سائغ في كلام العرب أنهم يعربون صلة ما ومن بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة تارة ونكرة أخرى كما قال حسان بن ثابت : [الكامل]

وكفى بنا فضلا على من غيرنا

حب النبي محمد إيانا (٢)

__________________

(١) الطبري ١ / ٢١٣.

(٢) البيت منسوب لحسان بن ثابت في الطبري ١ / ٢١٦ ؛ والأزهية ص ١٠١ ؛ ولكعب بن مالك في ديوانه ص ٢٨٩ ؛ وخزانة الأدب ٦ / ١٢٠ ؛ والدرر ٣ / ٧ ؛ وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٣٥ ؛ ولبشير بن عبد الرحمن في لسان العرب (منن) ؛ ولكعب أو لحسان أو لعبد الله بن رواحة في الدرر ١ / ٣٠٢ ؛ ـ

١١٥

قال : ويجوز أن تكون بعوضة منصوبة بحذف الجار ، وتقدير الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها. وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن [أبي] (١) عبلة : بعوضة بالرفع ، قال ابن جني وتكون صلة لما وحذف العائد كما في قوله (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أي على الذي هو أحسن ، وحكى سيبويه : ما أنا بالذي قائل لك شيئا ، أي بالذي هو قائل لك شيئا وقوله تعالى : (فَما فَوْقَها) فيه قولان : أحدهما فما دونها في الصغر والحقارة كما إذا وصف رجل باللؤم والشح فيقول السامع : نعم وهو فوق ذلك ـ يعني فيما وصفت ـ وهذا قول الكسائي وأبي عبيدة قاله الرازي وأكثر المحققين. وفي الحديث «لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقى كافرا منها شربة ماء» والثاني : فما فوقها لما هو أكبر منها لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة ، وهذا قول قتادة بن دعامة واختيار ابن جرير ، فإنه يؤيده ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة» (٢) فأخبر أنه لا يستصغر شيئا يضرب به مثلا ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة ، كما لا يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف عن ضرب المثل بها كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج : ٧٣] وقال : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت : ٤١] وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ. يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) [إبراهيم : ٢٤ ـ ٢٧] وقال تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) [النحل : ٧٥] ، ثم قال : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) [النحل : ٧٦] كما قال : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) [الروم : ٢٨]. وقال : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) [الزمر : ٢٩]. وقال : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا

__________________

ـ وللأنصاري في الكتاب ٢ / ١٠٥ ؛ ولسان العرب (كفى) ؛ وبلا نسبة في رصف المباني ص ١٤٩ ؛ ومجالس ثعلب ١ / ٣٣٠ ؛ وهمع الهوامع ١ / ٩٢.

(١) الزيادة من القرطبي. وزاد بأنها قراءة رؤبة بن العجاج أيضا. قال : وهي لغة تميم. ووجه ذلك أن «ما» اسم بمنزلة «الذي» ، «وبعوضة» رفع على إضمار المبتدأ ، والتقدير : لا يستحي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلا ، فحذف العائد على الموصول وهو مبتدأ.

(٢) أخرجه مسلم (برّ حديث ٤٦ ، ٤٧ ، ٤٨)

١١٦

الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣] وفي القرآن أمثال كثيرة.

قال بعض السلف : إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي لأن الله قال :

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) وقال مجاهد في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون ويعلمون أنها الحق من ربهم ويهديهم الله بها. وقال قتادة (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه من عند الله ، وروي عن مجاهد والحسن والربيع بن أنس نحو ذلك. وقال أبو العالية (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) يعني هذا المثل (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) كما قال في سورة المدثر (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً. وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً. كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : ٣١] وكذلك قال هاهنا (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة : (يضل به كثيرا) يعني المنافقين (ويهدي به كثيرا) يعني المؤمنين ، فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم لتكذيبهم بما قد علموه حقا يقينا من المثل الذي ضربه الله بما ضرب لهم ، وأنه لما ضرب له موافق ، فذلك إضلال الله إياهم به ، (ويهدي به) يعني بالمثل كثيرا من أهل الإيمان والتصديق فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانا إلى إيمانهم لتصديقهم بما قد علموه حقا يقينا أنه موافق لما ضربه الله له مثلا وإقرارهم به وذلك هداية من الله لهم به (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) قال : هم المنافقون. وقال أبو العالية (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) قال : هم أهل النفاق ، وكذا قال الربيع بن أنس. وقال ابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) قال : يقول : يعرفه الكافرون فيكفرون به. وقال قتادة (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) فسقوا فأضلهم الله على فسقهم. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي عن إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن سعد (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) يعني الخوارج. وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد قال سألت أبي فقلت : قوله تعالى (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) إلى آخر الآية : فقال : هم الحرورية (١) ، وهذا الإسناد وإن صح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فهو تفسير على المعنى لا أن الآية أريد منها التنصيص على الخوارج الذين خرجوا على عليّ بالنهروان ، فإن أولئك لم يكونوا حال نزول الآية وإنما هم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل لأنهم سموا خوارج لخروجهم عن طاعة

__________________

(١) الحرورية : لقب أطلق على الخوارج ، نسبة إلى حروراء ، قرية قريبة من الكوفة لجئوا إليها أول ما انفضوا عن علي بن أبي طالب. ويسمون أيضا المحكمة ، من أسماء الأضداد ، لأنهم رفضوا التحكيم.

١١٧

الإمام والقيام بشرائع الإسلام.

والفاسق في اللغة هو الخارج عن الطاعة أيضا ، وتقول العرب : فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها ، ولهذا يقال للفأرة : فويسقة لخروجها عن حجرها للفساد. وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور» (١) فالفاسق يشمل الكافر والعاصي ، ولكن فسق الكافر أشد وأفحش ، والمراد به من الآية الفاسق الكافر ، والله أعلم ، بدليل أنه وصفهم بقوله تعالى (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين كما قال تعالى في سورة الرعد (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى؟ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ. وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) [الرعد : ١٩ ـ ٢١] إلى أن قال (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [الرعد : ٢٥] وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه ، فقال بعضهم : هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه وعلى لسان رسله ، ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به.

وقال آخرون : بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم ، وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذ الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها واتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بعث والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم ، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك وكتمانهم علم ذلك عن الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه ، فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا. وهذا اختيار ابن جرير (٢) رحمه‌الله وهو قول مقاتل بن حيان.

وقال آخرون بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق وعهده إلى جميعهم في توحيده ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته وعهد إليهم في أمره ونهيه ما احتجّ به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها ، الشاهدة لهم على صدقهم ، قالوا : ونقضهم ذلك : تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة ، وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق. وروي عن مقاتل بن حيان أيضا نحو هذا وهو حسن ، وإليه مال الزمخشري فإنه قال ، فإن قلت : فما المراد بعهد الله؟ قلت : ما ركز في عقولهم من الحجة على

__________________

(١) أخرجه البخاري (صيد باب ٧ ؛ بدء الخلق باب ١) ومسلم (حجّ حديث ٧١ ، ٧٣) والترمذي (حج باب ٢١) والنسائي (مناسك باب ١١٦ ، ١١٧) وأحمد في المسند (ج ٦ ص ١٦٤)

(٢) تفسير الطبري ١ / ٢١٩.

١١٨

التوحيد كأنه أمر وصّاهم به ووثقه عليهم ، وهو معنى قوله تعالى (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] إذ أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة : ٤٠] وقال آخرون : العهد الذي ذكره تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) [الأعراف : ١٧٢ ـ ١٧٣] ، ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به ، وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضا ، حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره.

وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) ـ إلى قوله ـ (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) قال : هي ست خصال من المنافقين إذا كانت فيهم الظهرة (١) على الناس أظهروا هذه الخصال ، إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا ، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، وأفسدوا في الأرض ، وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الخصال الثلاث : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا. وكذا قال الربيع بن أنس أيضا ، وقال السدي في تفسيره بإسناده قوله تعالى (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) قال : هو ما عهد إليهم في القرآن ، فأقروا به ثم كفروا فنقضوه.

وقوله : (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) قيل : المراد به صلة الأرحام والقرابات ، كما فسره قتادة كقوله تعالى (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) [محمد : ٢٢] ورجحه ابن جرير ، وقيل : المراد أعم من ذلك فكل ما أمر الله بوصله وفعله فقطعوه وتركوه. وقال مقاتل بن حيان في قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) قال : في الآخرة ، وهذا كما قال تعالى : (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [الرعد : ٢٥] وقال الضحاك عن ابن عباس : كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر فإنما يعني به الكفر ، وما نسبه إلى أهل الإسلام ، فإنما يعني به الذنب. وقال ابن جرير (٢) في قوله تعالى (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الخاسرون : جمع خاسر ، وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه وكذلك المنافق والكافر خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته ، يقال منه : خسر الرجل يخسر خسرا وخسرانا وخسارا كما قال جرير بن عطية : [الرجز]

إن سليطا في الخسار إنّه

أولاد قوم خلقوا أقنّه (٣)

__________________

(١) أي إذا كانت لهم الغلبة على الناس.

(٢) تفسير الطبري ١ / ٢٢٢.

(٣) الرجز لجرير في ديوانه ص ١٠١٧ ؛ ولسان العرب (قنن) ؛ وأساس البلاغة (قنن)؟ وديوان الأدب ـ

١١٩

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٨)

يقول تعالى محتجا على وجوده وقدرته وأنه الخالق المتصرف في عباده (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) أي كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) أي وقد كنتم عدما فأخرجكم إلى الوجود كما قال تعالى (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. بَلْ لا يُوقِنُونَ) [الطور : ٣٥ ـ ٣٦] وقال تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) [الإنسان : ١] والآيات في هذا كثيرة ، وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) [غافر : ١١] قال هي التي في البقرة (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس : (كنتم أمواتا فأحياكم) : أمواتا في أصلاب آبائكم لم تكونوا شيئا حتى خلقكم ثم يميتكم موتة الحق ثم يحييكم حين يبعثكم ، قال : وهي مثل قوله تعالى : (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) قال : كنتم ترابا قبل أن يخلقكم ، فهذه ميتة ، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة ، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى ، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى ، فهذه ميتتان وحياتان فهو كقوله (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) وهكذا روي عن السدي بسنده عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة وعن أبي العالية والحسن ومجاهد وقتادة وأبي صالح والضحاك وعطاء الخراساني نحو ذلك ، وقال الثوري عن السدي عن أبي صالح (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) قال : يحييكم في القبر ثم يميتكم. وقال ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال : خلقهم في ظهر آدم ثم أخذ عليهم الميثاق (١) ثم أماتهم ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة ، وذلك كقوله تعالى (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ). وهذا غريب والذي قبله. والصحيح ما تقدم عن ابن مسعود وابن عباس وأولئك الجماعة من التابعين وهو كقوله تعالى (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) [الجاثية : ٢٦] ، كما قال تعالى في الأصنام (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ) [النحل : ٢١] وقال : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) [يس : ٣٣].

__________________

ـ ٣ / ٣٥ ؛ وتاج العروس (قنن)

(١) عبارة حديث ابن جرير (الطبري ١ / ٢٢٤) : «خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق».

١٢٠