أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0327-1
الصفحات: ٣٩٨

وأما اكتفاء الجمع الكثير من قليل الطعام : فمن ذلك ما روى عن أم (١) سليم أنها كانت قد هيأت لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أقراصا من شعير ، وعليها قليل من السّمن ، وأنّها أرسلت أبا طلحة (٢) وقالت له : أدع رسول الله ولا تدع معه أحدا ؛ فلما أتى وهو فى جمع من الصحابة ، قال له النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لعلك أرسلت إلينا فقال نعم ؛ فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للقوم انطلقوا بنا ، فانطلقوا معه وهم ثمانون رجلا ، ولم يزالوا يأكلون من ذلك / عشرة بعد عشرة حتى تحشوا شبعا إلى تمام الثمانين ، وروى أن المتخذ كان قرصا واحدا (٣).

ومن هذا الباب ما روته عائشة (٤) ـ رضى الله عنها ـ أن سائلا سأل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

__________________

(١) أم سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام. أم أنس بن مالك رضي الله عنه بعد مقتل زوجها تزوجت من أبى طلحة رضي الله عنه ولزواجهما قصة يرويها أنس رضى الله عنه قال : خطب أبو طلحة أم سليم فقالت : ما مثلك يرد ؛ ولكن لا يحل أن أتزوجك وأنا مسلمة وأنت كافر ؛ فإن تسلم فذاك مهرى لا أسألك غيره ؛ فأسلم فتزوجها قال ثابت : فما سمعنا بمهر قط كان أكرم من مهر أم سليم : الإسلام. وعنه أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يكن يدخل بيتا بالمدينة غير بيت أم سليم إلا على أزواجه ؛ فقيل له : فقال : إنى أرحمها قتل أخوها معى. ـ رضى الله عنهم ـ (انظر ترجمة زوجها فى نفس الهامش) وللخريد انظر : صفة الصفوة للإمام ابن الجوزى ١ / ٣٢٥ ـ ٣٢٨.

(٢) أبو طلحة : زيد بن سهل بن الأسود النجارى الأنصارى : صحابى جليل من الشجعان الرماة المعدودين فى الجاهلية والإسلام. ولد بيثرب سنة ٣٦ قبل الهجرة ، ولما ظهر الإسلام كان من كبار أنصاره فشهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد ، وكان جهير الصوت ، وفى الحديث : لصوت أبى طلحة فى الجيش خير من ألف رجل ، وتوفى ـ رضي الله عنه ـ سنة ٣٤ ه‍.

(صفة الصفوة لابن الجوزى ١ / ١٧٨ ، ١٧٩ والأعلام للزركلى ٣ / ٥٨ ، ٥٩).

(٣) الحديث متفق على صحته أخرجه البخارى ومسلم صحيحها : صحيح البخارى ٦ / ٦٧٨ كتاب المناقب باب علامات النبوة فى الإسلام. (ح رقم ٣٥٧٨) «حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول" «قال أبو طلحة لأم سليم : لقد سمعت صوت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ضعيفا أعرف فيه الجوع ، فهل عندك من شيء؟ قالت : نعم فأخرجت أقراصا من شعير .... فقال أبو طلحة يا أم سليم قد جاء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالناس ، وليس عندنا ما نطعمهم فقالت : الله ورسوله أعلم.

فانطلق أبو طلحة حتى لقى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأقبل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأبو طلحة معه فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هلمى يا أم سليم ما عندك؟ فأتت بذلك الخبز ، فأمر به رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ففتّ ، وعصرت أم سليم عكة فأدمته. ثم قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما شاء الله أن يقول ، ثم قال : ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ، ثم خرجوا ، ثم قال : ائذن لعشرة ، فإذن لهم .... والقوم سبعون أو ثمانون رجلا».

وأخرجه مسلم فى صحيحه (٣ / ١٦١٢ ح ٢٠٤٠) كتاب الأشربة. باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك ... واستحباب الاجتماع على الطعام ، حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك بن أنس إلى آخر طريق البخارى ولفظه. كما أخرجه الإمام الترمذي فى سننه كتاب المناقب ٥ / ٥٩٥ ح رقم ٣٦٣٠ وقال : هذا حديث حسن صحيح.

(٤) عائشة رضى الله عنها : عائشة بنت أبى بكر الصديق أم المؤمنين أفقه نساء المسلمين وأعلمهن بالدين ، تزوجها النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى السنة الثانية بعد الهجرة ؛ فكانت أحب نسائه إليه ، وأكثرهن رواية للحديث عنه. وكان أكابر الصحابة يسألونها عن الفرائض فتجيبهم. وكان (مسروق) إذا روى عنها يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق روى عنها ٢٢١٠ أحاديث.

ولدت بمكة قبل الهجرة بتسعة أعوام وتوفيت بالمدينة المنورة سنة ٥٨ ه‍ (صفة الصفوة لابن الجوزى ١ / ٣٠١ ـ ٣١٢ والأعلام للزركلى ٣ / ٢٤٠).

٨١

فقال لعائشة أعندك شيء قالت فأتيته بلقمة فوضع يده عليها ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقال للسائل كل فأكل منها حتى شبع ، وبقيت اللقمة بحالها (١).

وأما نبع الماء من بين إصبعيه / / فيدل عليه ما روى عن أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : أتى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بقدح زجاج وفيه ماء قليل [وهو (٢) بقباء] فوضع يده فيه فلم تدخل ، فأدخل أصابعه الأربع ، ولم يستطع إدخال إبهامه ؛ وقال للناس هلموا إلى الشراب ، قال أنس : فقد رأيت الماء وهو ينبع من بين أصابعه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يزل الناس يردون حتى رووا ، وقد روى أن عدد الواردين كان ما بين السبعين إلى الثمانين (٣).

وأما إخباره بالغيب : فمن ذلك ما روى عن زيد ابن (٤) أرقم ، أنه قال : بعثنى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقال لى انطلق حتى تأتى أبا بكر فإنك تجده فى داره جالسا ، فقل له : إن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقرأ عليك السلام ويقول لك أبشر بالجنة ، ثم أنطلق حتى تأتى الثنية ؛ فتلقى عمر راكبا على جمل ؛ فقل له إن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقرأ عليك السلام ويقول لك أبشر بالجنة ، ثم انطلق حتى تأتى عثمان فى السوق يبيع ، ويبتاع فقل له إن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقرأ عليك

__________________

(١) انظر دلائل النبوة ٦ / ١١٣ وما بعدها ، باب : ما ظهر فيما خلف رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عائشة رضى الله عنها من الشعير ، وفيما أعطى الرجل من الشعير .. الخ (ففيه كثير مما يدل على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم)

/ / أول ل ٨١ / ب.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) الحديث متفق على صحته أخرجه البخارى ومسلم فى صحيحها :

أولا : صحيح البخارى ٦ / ٦٧٢ ح رقم (٣٥٧٤) عن أنس ـ رضى الله عنه ـ قال «خرج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فى بعض مخارجه ومعه ناس من أصحابه ، فانطلقوا يسيرون ؛ فحضرت الصلاة ؛ فلم يجدوا ماء يتوضئون فانطلق رجل من القوم فجاء يقدح من مساء يسير ، فأخذه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فتوضأ ثم مد أصابعه الأربع على القدح ، ثم قال : قوموا فتوضئوا ، فتوضأ القوم حتى بلغوا فيما يريدون من الوضوء ، وكانوا سبعين أو نحوه» [وبهذا المعنى الأحاديث أرقام من ٣٥٧١ ـ ٣٥٧٧]. بنفس الكتاب والباب.

ثانيا صحيح مسلم ٤ / ١٧٨٣ ح رقم ٢٢٧٩ كتاب الفضائل ـ باب فى معجزات النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن أنس رضي الله عنه أيضا وانظر أحاديث الباب.

(٤) زيد بن أرقم الخزرجى الأنصارى. صحابى جليل غزا مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سبع عشرة غزوة ، وشهد صفين مع على ـ رضي الله عنه ـ ومات بالكوفة سنة ٦٨ ه‍ له فى كتب الحديث سبعون حديثا [تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلانى ٣ / ٣٩٤ والأعلام للزركلى ٣ / ٥٦].

٨٢

السلام ويقول لك أبشر بالجنة بعد بلاء شديد ، قال زيد : فأتيتهم ؛ فوجدتهم كما وصفهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

ومن ذلك ما روته عائشة ـ رضى الله عنها ـ أنها قالت : أقبلت فاطمة (٢) تمشى كأن مشيتها مشية النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال لها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مرحبا بابنتى ؛ فأجلسها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن يمينه ، وأسرّ إليها حديثا ؛ فبكت ثم أسرّ إليها حديثا ؛ فضحكت ؛ فسألتها عن ذلك ؛ فقالت : ما كنت لأفشى سر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، قالت : فلما قبض عليه‌السلام راجعتها فى ذلك ، فقالت : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أولا إنّ جبريل كان يعارضنى القرآن فى كل سنة مرة وإنّه عارضنى العام مرتين ، ولا أرى إلا وقد حضر أجلى ، وإنك أول بنيّ لحاقا بى : قالت فبكيت ، ثم قال ألا ترضين أن تكونى سيدة نساء هذه الأمة أو نساء المؤمنين ؛ فضحكت (٣).

__________________

(١) أخرجه الإمام الطبرانى فى المعجم الكبير ٦ / ١٩٢ ـ ١٩٣ ح ٥٠٦١. وتكملته : فأخذ عثمان بيدى ، فانطلق ، أو ذهب بى حتى أتى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : يا رسول الله. ما هذه البلوى التى تصيبنى؟ فو الله ما تغيبت ولا تمنيت ، ولا مسست فرجى بيمينى منذ أسلمت ، أو منذ ما بعث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا زنيت فى الجاهلية ولا الإسلام ، فقال له : إنّ الله مقمصك قميصا ، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه وعزاه الهيثمى فى مجمع الزوائد ٩ / ٥٥ ، ٥٦ إلى الطبرانى فى الأوسط والكبير ، وفيه عبد الأعلى بن أبى المسور ضعفه الجمهور ، ووثق فى رواية عن يحيى بن معين وانظر جامع المسانيد والسنن لابن كثير ٤ / ٤٠٧ مسند زيد بن أرقم وعزاه إلى الطبرانى.

(٢) فاطمة رضى الله عنها : فاطمة الزهراء بنت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الهاشمية القرشية وأمها خديجة بنت خويلد رضى الله عنها. تزوجها أمير المؤمنين على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ فولدت له الحسن والحسين وأم كلثوم وزينب رضى الله عنهم. ولدت بمكة قبل الهجرة بثمانية عشر عاما ، وعاشت بعد أبيها ستة أشهر وتوفيت بالمدينة المنورة سنة ١١ ه‍ ولها رضى الله عنها ١٨ حديثا وللسيوطى «الثغور الباسمة في مناقب السيدة فاطمة ـ خ».

(صفة الصفوة ١ / ٢٩٨ ـ ٣٠١ والأعلام للزركلى ٥ / ١٣٢).

(٣) هذا الحديث متفق على صحته رواه البخارى ومسلم : صحيح البخارى (كتاب المناقب ـ باب علامات النبوة ٦ / ٧٢٦ حديث رقم ٣٦٢٣ ـ أطرافه فى الأحاديث أرقام : ٣٦٢٥ ، ٣٧١٥ ، ٤٤٣٣ ، ٦٢٨٥) كما أخرجه الإمام مسلم فى صحيحه كتاب فضائل الصحابة ـ باب فضائل فاطمة بنت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٤ / ١٩٠٤ ، ١٩٠٥) وفى الباب أيضا عن عائشة رضى الله عنها بنحو هذه الرواية.

كما أخرجه الإمام أحمد فى مسنده ـ مسند فاطمة بنت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ٦ / ٢٨٢.

كما أخرجه ابن ماجة في كتاب الجنائز باب ما جاء فى ذكر مرض النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ١ / ٥١٨.

وانظر دلائل النبوة للبيهقى ٦ / ٣٦٤ باب ما جاء في إخباره ابنته بوفاته وبأنها أول أهله لحوقا به.

٨٣

ومن ذلك إخباره ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن زينب (١) أول من تموت من أزواجه ؛ وكان كما أخبر (٢).

ومن ذلك إخباره عن خلافة الخلفاء الراشدين «الخلافة / ثلاثون ثم تصير ملكا عضوضا» (٣) وعن مقتل على (٤) والحسين (٥). وهدم الكعبة (٦) ، ورجوع الأمر إلى بنى

__________________

(١) زينب رضى الله عنها : زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية أم المؤمنين كانت زوجة زيد بن حارثة ، واسمها (بره) وطلقها زيد ؛ فتزوج بها النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وسماها (زينب) روت ١١ حديثا ولدت قبل الهجرة ٣٣ سنة وتوفيت سنة ٢٠ ه‍ (صفة الصفوة ١ / ٣١٦ ، ٣١٧ الأعلام للزركلى ٣ / ٦٦).

(٢) هذا حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم فى صحيحه كتاب فضائل الصحابة ـ باب فضائل أم المؤمنين زينب ـ رضى الله عنها ـ ٤ / ١٩٠٧ ح رقم ٢٤٥٢ «عن عائشة أم المؤمنين ـ رضى الله عنها ـ قالت : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «أسرعكن لحاقا بى أطولكن يدا. قالت : فكن يتطاولن أيتهن أطول يدا. قالت فكانت أطولنا يدا زينب ؛ لأنها كانت تعمل بيدها ، وتتصدق».

وانظر : دلائل النبوة للبيهقى ٦ / ٣٧١ باب ما جاء فى إخبار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بمن يكون أسرع لحوقا به من زوجاته.

(٣) أخرج أبو داود فى سننه ـ كتاب السنة ـ باب فى الخلفاء ٤ / ٢١١ ح ٤٦٤٦ حدثنا سوار بن عبد الله ... عن سفينة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتى الملك ، أو ملكه من يشاء «قال سعيد. قال لى سفينة : امسك عليك أبا بكر سنتين ، وعمر عشرا ، وعثمان اثنتى عشرة وعلى ستا ـ قال سعيد قلت لسفينة إن هؤلاء يزعمون أن عليا ـ عليه‌السلام ـ لم يكن بخليفة. قال كذبت استاه بنى الزرقاء : يعنى بنى مروان.

وأخرجه الطبرانى فى المعجم الكبير ٧ / ٨٣ ، ٨٤ ح ٦٤٤٤ من طريق عبد الوارث بن سعيد عن سعيد بن جمهان ثم ذكره مثل رواية أبو داود. ولمزيد من البحث والدراسة انظر دلائل النبوة للبيهقى ٦ / ٣٤١ ، ٣٤٢ باب (فى أخباره ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن مدة الخلافة بعده ، ثم تكون ملكا ، فكان كما أخبره)

(٤) عن مقتل الإمام على رضي الله عنه) استشهاده).

أخرج الحاكم فى المستدرك ـ كتاب معرفة الصحابة ـ باب فى مناقب أمير المؤمنين على ـ رضي الله عنه ـ إخبار رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بقتل عليّ ـ رضي الله عنه ـ ٣ / ١٣٩ ... عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : دخلت مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على عليّ ابن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ يعوده. وهو مريض ، وعنده أبو بكر ، وعمر ـ رضى الله عنهما ـ فتحولا حتى جلس رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال أحدهما لصاحبه. ما أراه إلا هالك. فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إنه لن يموت إلا مقتولا ، ولن يموت حتى يملأ غيظا وانظر دلائل النبوة للبيهقى ٦ / ٣٥٢ فقد جاء فيه أخباره (صلى‌الله‌عليه‌وسلم). باستشهاده رضي الله عنه. وفى ص ٤٣٨ باب ما روى في إخباره بتأمير عليّ ـ رضي الله عنه ـ وقتله فكان كما أخبر.

(٥) وعن استشهاد الإمام الحسين ـ رضي الله عنه ـ أخرج الطبرانى فى المعجم الكبير ٣ / ١٠٥ ، حديث رقم ٢٨٠٨ ـ ... عن أم سلمة ـ رضى الله عنها ـ قالت : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «يقتل الحسين حين يعلوه القتير».

وانظر دلائل النبوة للإمام البيهقى ٦ / ٤٦٨ ـ ٤٧٢ ـ باب «ما روى في أخباره بقتل ابن بنته أبى عبد الله الحسين بن على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ فكان كما أخبر ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وما ظهر عند ذلك من الكرامات التى هى دالة على صحة نبوة جده عليه‌السلام.

(٦) انظر صحيح البخارى ٣ / ٥٣٨ باب هدم الكعبة. قالت عائشة رضى الله عنها : قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يعزو جيش الكعبة فيخسف بهم» الحدث رقم [١٥٩٥] : عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كأنى به أسود أفجح يقلعها حجرا حجرا» والفجج : تباعد ما بين الساقين.

الحديث رقم [١٥٩٦] عن أبى هريرة رضي الله عنه : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة» (ذو السويقتين) تثنية سويقة وهى تصغير ساق. أى له ساقان دقيقان.

٨٤

العباس (١) ، وعن تتابع الفتن (٢) ، والاحتواء على مملكة الأكاسرة (٣) : إلى غير ذلك مما ثبت واشتهر بالأخبار الصادقة الحقة عن الثقات. ووقع ما أخبر به على وفق خبره

ومن بحث فى هذا الجنس وجده كثيرا لا يحصى (٤).

الدعوى الثالثة :

أنه تحدّى بالقرآن وتعجيز الخلائق عن الإتيان بمثله :

بقوله ـ تعالى ـ :

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٥)

وقوله ـ تعالى ـ :

(فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) (٦)

__________________

(١) أما عن إخبار ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن ملك بنى العباس فانظر : دلائل النبوة للبيهقى ٦ / ٥١٣ وما بعدها ـ باب ما جاء فى الأخبار عن ملك بنى العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقد نقل البيهقى الكثير من الأحاديث في هذا الباب ومنها :

عن أبى سعيد الخدرى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يخرج رجل من أهل بيتى عند انقطاع من الزمان ، وظهور من الفتن. يقال له السفاح يكون عطاؤه جثيا» نقله ابن كثير عن المصنف (٦ / ٢٤٧) وقال : «هذا الاسناد على شرط أهل السنن ولم يخرجوه».

(٢) عن هذه الفتن وتتابعها :

انظر دلائل النبوة للإمام البيهقى ٦ / ٣٤٦ وما بعدها. باب ما جاء فى الإخبار عن الولاة بعده ، وما وقع من الفتنة فى آخر عهد عثمان ، ثم فى أيام على ـ رضى الله عنهما ـ حتى لم يستقم له الأمر كما استقام لأصحابه ، واغتمام النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بذلك.

وفى ص ٣٨٦ باب ما جاء في إخباره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالفتنة التى تموج موج البحر وأنها لن تكون فى أيام أبى بكر وعمر.

وفى ص ٣٨٨ باب ما جاء فى إخباره بالبلوى التي أصابت عثمان ، والفتنة التي ظهرت فى أيامه.

وفى ص ٤٠٥ باب ما جاء فى إخباره بالفتن التى ظهرت فى آخر أيام عثمان وفى أيام علي رضى الله عنهما.

(٣) وقد تحدث عن ذلك الإمام البيهقى فى دلائل النبوة ٦ / ٣١٧ وما بعدها ـ باب قول الله عزوجل : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية ثم وعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أمته بالفتوح التى تكون بعده ، وتصديق الله ـ عزوجل ـ وعده.

(٤) انظر دلائل النبوة للإمام البيهقى بأجزائه السبعة فقد ذكر فيه مئات الدلائل.

(٥) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٨.

(٦) سورة هود : ١١ / ١٣.

٨٥

وقوله ـ تعالى ـ :

(فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) (١)

وقوله ـ تعالى ـ : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) (٢) إلى غير ذلك من الآيات الدّالة على تعجيز الخلق وإيضاح امتناع المعارضة عليهم وأن ذلك مما شاع وذاع واشتهر اشتهارا يتعذر معه الإنكار ، كتعذّر إنكار ما علم وجوده بالتّواتر ؛ كمكّة ، وبغداد.

الدعوى الرابعة :

أنّه لم يوجد لمعجزاته معارض ، أنه تحدّى بالقرآن ، وأن العرب العرباء مع شدة بأسها وعظم مراتبها ، ومنعتهم عن أن يدخلوا فى حكم حاكم وتبوئهم عن قبول رسم راسم ، فمنهم من أجاب بالقبول ، وأذعن بالدخول فى أحكامه ، ومراسمه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومنهم من أبى إلا القتل والقتال ، والحرب ؛ والنّزال فاستنزل بالعنف عن رتبته وأخذه بالقهر مع نبوته. ولو أن ذلك مما لهم سبيل إلى معارضته ، أو إبداء سورة فى مقابلته ، مع أنهم أهل اللسان ، وفصحاء الزمان ؛ لقد بالغوا فى ذلك مما يجدون إليه سبيلا ؛ إذ هو أقرب الطرق إلى إفحامه ، وأسهلها فى ردعه ، وإلجامه.

وادراء لما ينالهم من الذّلّ فى طاعته ، والمضار اللازمة لهم بمخالفته من قتل الأنفس ، ونهب الأموال ، واسترقاق الأولاد إلى غير ذلك ، وحيث التزموا ما ذكرناه من المضار الموافقة والمخالفة دلّ على عجزهم عن المعارضة قطعا ؛ نظرا إلى العادة.

وإذا ثبتت هذه القواعد ، واستقرّت هذه المقدمات ؛ لزم أن يكون محمد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رسولا.

واعلم أن كل ما يتجه من الشبه على جواز البعثة عقلا ؛ فهو متجه هاهنا ، ويختص بما نحن فيه هاهنا شبه.

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٣٨.

(٢) سورة الطور : ٥٢ / ٣٤.

٨٦

الشبهة الأولى (١) :

لا نسلم أن محمدا / كان موجودا ، وأنّه ادّعى الرسالة.

قولكم : ذلك معلوم بالخبر المتواتر.

قلنا : ما ذكرتموه قضية تصديقيّة أحد تصوراتها التواتر / / فلا بد من تصوره ؛ وهو غير متصوّر ؛ لأنه لا يخلو.

اما أن يكون مضبوطا بعدد خاص معين ، أو بما يحصل العلم عنده ، أو لشيء أخر:

الأول : ممتنع : فإنّه ما من عدد معيّن يفرض إلا ويجوز أن لا يحصل العلم بخبرهم.

وعند ذلك : فإما أن يكون ذلك متواترا أو لا يكون متواترا.

فإن كان الأول : فقد بطل القول بأن التّواتر مفيد للعلم.

وإن كان الثانى : فقد بطل ضبط التواتر به.

وإن كان الثانى : [(٢) وهو أن يكون التّواتر مضبوطا بحصول العلم به (٢)] ؛ فهو دور من حيث أنا لا نعلم حصول العلم بالتّواتر الا بعد تصوّر التّواتر ، ولا يتصوّر التّواتر إلا بحصول العلم به ؛ وهو محال. ثم يلزم عليه خبر الواحد إذا احتفّت به القرائن ؛ فإنّه مفيد للعلم عندكم ؛ وليس متواترا.

وإن كان الثالث : فلا بد من تصويره ، والدّلالة عليه.

سلمنا أن المفهوم من التواتر متصور ، ولكن لا نسلم لزوم حصول العلم به كما ذهب إليه السمنية ؛ لأنه لو حصل العلم به ، فإما أن يكون حاصلا بخبر كل واحد من الآحاد ، أو بخبر بعضهم ، أو بالمجموع.

لا جائز أن يقال بالأول لوجهين :

الأول : أنه معلوم البطلان بالضرورة.

__________________

(١) وقد رد الإمام الآمدي على هذه الشبهة بقوله : ل ١٥٨ / ب بأن «ذلك معلوم ضرورة بخبر التواتر ، ومن أنكر ذلك فقد ظهرت مجاحدته وسقطت مكالمته : كمنكر وجود مكة ، وبغداد.

وليس يصح فى الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

/ / أول ل ٨٢ / أ.

(٢) ساقط من (أ).

٨٧

الثانى : أن العلم الحاصل بخبر كل واحد إما أن يكون هو عين ما حصل بخبر الأخر ، أو غيره.

لا جائز أن يكون غيره : وإلا لزم تعذر العلم بشيء واحد بالنسبة إلى شخص واحد ؛ وهو محال فإن العاقل لا يجد من نفسه أنّه إذا علم شيئا تعدد علمه به.

وإن كان عينه : فإما أن يكون اخبارهم متعاقبة أو معا.

فان كانت أخبارهم متعاقبة : فالعلم يكون حاصلا بالأول دون الثانى والثالث ؛ لأن تحصيل الحاصل محال. ويلزم من ذلك حصول ما يفيد العلم مع عدم افادته له ، ولو جاز ذلك ؛ لجاز وجود خبر الأول والمجموع من غير أن يكون العلم لازما له.

وإن كانت أخبارهم واقعة معا : فإما أن يكون خبر كل واحد مستقلا بتحصيل العلم. أو لا يكون مستقلا به.

لا جائز أن يقال بالثانى : إذ هو خلاف الغرض.

وان كان الأول : فيلزم منه أن لا يكون واحدا منهما مستقلا ؛ لما سبق تقريره غير مرة.

ولا جائز أن يقال بحصول العلم بالبعض دون البعض ؛ لأن ذلك البعض إما واحدا أو جماعة.

فإن كان واحدا : فهو محال ؛ لما سبق ، ولأنه ليس البعض بذلك أولى من البعض.

وإن كانوا جماعة : فالكلام فيهم / كالكلام فى الجماعة الأولى ؛ وهو تسلسل ممتنع.

وإن كان العلم حاصلا بالمجموع دون الآحاد :

فإما أن يقال أنه لم يحصل للجمع حالة زائدة على ما كان للآحاد ، أو حصل.

فإن كان الأول : لزم أن يكون حكم الجمع ، حكم الآحاد ، ضرورة عدم الافتراق والعلم غير لازم لاخبار الآحاد ؛ فكذلك فى الجمع.

وإن كان الثانى : فالحالة الزائدة إما ضم البعض إلى البعض ، أو غيرها. الأول مسلم والثانى ممنوع. ولكن لم قلتم إنه إذا كان خبر كل واحد على الانفراد محتمل للكذب ،

٨٨

فإنه لا يكون موجبا للعلم ، إنه إذا ضم ما يحتمل الكذب إلى ما لا يحتمل الكذب يمتنع عليه الكذب (١).

سلمنا أن حكم الجملة ، مخالف لحكم الآحاد ، ولكن حصول العلم بخبر أهل التواتر إنما يتصور بعد تمام الخبر ، وعند تمام الخبر إما أن يكون المفيد للعلم هو جملة الحروف التى عنها يكون الخبر ، أو آحادها.

الأول : محال إذ المفيد للشيء يجب أن يكون موجودا حالة وجود معلوله ، وجملة الحروف غير متصورة الاجتماع فى الوجود ، على ما لا يخفى.

والثانى : أيضا معلوم بطلانه بالضرورة.

فإن قيل : ما المانع أن يكون المؤثر هو الحرف الأخير مشروطا بتقدم باقى الحروف.

قلنا : شرط تأثير الحرف الأخير فى تحصيل العلم : إما أن يكون هو عدم باقى الحروف مطلقا ، أو عدمها بعدم وجودها.

فان كان الأول : لزم حصول العلم عند وجود ذلك الحرف ، وإن لم توجد تلك الحروف أصلا لأنها معدومة ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى : فوجود باقى الحروف داخل فى الشرط ، والشرط لا بد وأن يكون مع المشروط ، ولا وجود لباقى الحروف مع وجود الحرف الأخير ، فلا يكون وجودها شرطا.

سلمنا عدم اشتراط مقارنة الشرط للمشروط ، غير أن إفادة الخبر للعلم صفة حقيقيّة ، والخبر غير مفيد للعلم لذاته ، وإلا لكان مفيدا له مع قطع النظر عن التواضع على جعله خبرا ، ودليلا ، وهو محال ؛ بل إن أفاد ، فإنما يفيد بالوضع ، والوضع // ؛ فلا يفيد الأمور الحقيقية.

سلمنا إمكان حصول العلم بخبر التواتر ، ولكن متى ، إذا أمكن وقوع الغلط فيما أخبر عنه ، أو إذا لم يكن.

الأول : ممنوع فإنه يستحيل القطع فى موضع إمكان الغلط.

__________________

(١) وقد رد الإمام الآمدي على هذه الشبهة ل ١٥٨ / ب. بأن التواتر عبارة عن خبر جماعة مفيد لليقين بمخبره.

/ / أول ل ٨٢ / ب.

٨٩

والثانى : مسلم ؛ ولكن لا نسلم امتناع العلم فيما أخبر عنه.

وبيانه أن شرط التواتر عند القائلين به / أن يكون المخبر عنه محسوسا ، والغلط غير ممتنع فى المحسوسات. ودليله العقل ، والنقل.

أما العقل : فمن وجهين : الأول : ما سبق فى العلوم.

الثانى : أنه من الممكن أن يكون ما اخبر عنه ليس هو هو ؛ بل هو مشبه بغيره. والتشبيه ممكن فى نفسه ، ولا سيما فى زمان خرق العوائد على أصلكم.

وأما النقل : فقوله تعالى : ـ (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (١)

سلمنا امتناع الغلط فى المحسوس ، ولكن متى يفيد خبر التواتر العلم إذا كان المخبرون قد حملوا على ذلك بالسيف ، أو إذا لم يكن؟

الأول : ممنوع. فإن الخبر مع الحمل بالسيف عليه ، لا يكون مفيدا للظن ؛ فضلا عن العلم.

والثانى : مسلم ، غير أن ما مثل هذا الشرط غير معلوم التحقيق ؛ فلا يكون الخبر مفيدا للعلم (٢).

سلمنا امتناع حملهم عليه بالسيف ، ولكن متى يفيد العلم : إذا كان عدد المخبرين لا يحويهم بلد ، ولا يحصرهم عدد ، أو إذا لم يكن كذلك.

الأول : مسلم ؛ لاستحالة تواطئ مثلهم ، على الكذب عادة.

والثانى : ممنوع ؛ لأنّ كل عدد محصور ؛ فالتواطؤ منهم على الكذب غير ممتنع ، وما مثل هذا الشرط ، فغير معلوم فى كل ما يدعى كونه متواتر ؛ فلا يكون مفيدا للعلم (٣).

سلمنا أنه لا يشترط ذلك ؛ ولكن متى يفيد العلم إذا اختلفت أسبابهم ، وأوطانهم ، وأديانهم. أو إذا لم يكن.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٥٧.

(٢) وقد رد عليهم الآمدي ل ١٥٩ / ب بأن «هذا الاحتمال وإن كان ممكنا عقلا ؛ فهو غير قادح مع وجود ما نعلمه من العلم الضرورى بأخبار التواتر».

(٣) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة ل ١٥٩ / ب «بأن أهل بلد من البلاد لو أخبروا عن واقعة وقعت بهم ، ونائبة حلت فيهم. فإن العلم الضرورى يحصل لنا يذلك وإن حواهم بلد ، وكان عددهم محصورا».

٩٠

الأول : مسلم ؛ لأنّ مثل هؤلاء مما تحيل العادة تواطؤهم على الكذب ، بخلاف ما إذا لم يكونوا كذلك ، وما مثل هذا الشرط أيضا مما لا يعلم فى كل ما يدعى فيه التواتر (١).

سلمنا عدم اشتراط ذلك ولكن متى يفيد العلم إذا كانوا أولياء مؤمنين ، أو إذا لم يكونوا كذلك.

الأول : مسلم. والثانى : ممنوع. فإنهم إذا كانوا مؤمنين ؛ فالعادة أيضا تحيل على جميعهم التواطؤ على الكذب بخلاف الفسقة ؛ وهذا الشرط أيضا غير معلوم فيما ادعى تواتره (٢).

سلما عدم اشتراط ذلك. ولكن متى يفيد العلم. إذا كان فيهم الإمام المعصوم ، كما ذهب إليه الروافض (٣) ، أو إذا لم يكن.

الأول : مسلم لاستحالة الكذب على المعصوم ، [وإذا كان خبرهم موافقا لخبر المعصوم (٤)] فالخبر الموافق للصادق ؛ يكون صادقا.

والثانى : ممنوع إذ لا يتعذر تواطؤ الفسقة ، إذا لم يكن فيهم المعصوم على الكذب ، وهذا الشرط أيضا غير معلوم فى كل ما ادّعى تواتره.

سلمنا عدم اشتراط ذلك ، ولكن متى يكون مفيدا للعلم : إذا استوى طرفاه وواسطته فى الصفات الموجبة للعلم ، أو إذا لم يكن كذلك. الأول : مسلم.

والثانى : ممنوع ؛ وذلك لأنه إذا لم تكن الشروط المعتبرة فى إفادة العلم متحققة فى رواة بعض الأعصار ، مع أن خبرهم / مستقل بنفسه ؛ لم يكن العلم حاصلا به ؛ وما مثل هذا الشرط فغير معلوم فيما ادعى تواتره.

__________________

(١) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة : «بأنه إما أن يبلغ عدد المخبرين إلى حد يمتنع معه تواطؤهم على الكذب عادة ، أولا يكون كذلك.

فإن كان الأول : فلا أثر لهذه الشروط.

وإن كان الثانى : فالعلم غير حاصل بخبرهم سواء وجدت هذه الشروط أو لم توجد» ل ١٥٩ / ب.

(٢) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة أبيضا : (ل ١٥٩ / ب) «بأن أهل قسطنطينية لو أخبروا بموت ملكهم حصل العلم الضرورى بذلك وإن كانوا كفرة».

(٣) كما رد على الروافض «بأنه لو أخبر العدد الكثير الّذي يمتنع معه التواطؤ على الكذب عادة ؛ لحصل العلم بذلك ، وإن لم يكونوا معترفين بوجود الإله ـ تعالى ـ وبهذا يبطل قولهم : شرطه أن يكون فيهم الإمام المعصوم» [المصدر السابق].

(٤) ساقط من (أ).

٩١

فلئن قلتم : لو اختل من التواتر الدّال على وجود محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على دعواه الرسالة ، شرط من الشرائط المانعة من التواطؤ على الكذب فى بعض الأعصار ؛ لاستحال مع كثرة الخصوم وشدة دواعيهم إلى إبطال رسالته ، أن لا يشيع ذلك ، وأن لا يتواتر مع كونه من الأمور العظيمة ، والقضايا الجسمية.

فنقول : وإن كان ذلك من الأمور العظيمة ؛ فلا يلزم أن يكون متواترا ، فإن كون التسمية آية من كل سورة ، وكون إقامة الصلاة شيء من الأمور العظيمة ولم يتواتر به الخبر.

وأيضا : فإن كثيرا من معجزات النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عظيمة ؛ وهى غير متواترة.

[سلمنا (١)] لزوم تواتر ذلك ؛ لكن إذا وجد المانع منه ، أو إذا لم يوجد ، الأول : ممنوع. والثانى : مسلم ؛ فلم قلتم بعدم وجود المانع؟

وإن سلمنا عدم المانع ؛ ولكن ما ذكرتموه ينتقض بأخبار النصارى عن صلب المسيح ، وأخبارهم عنه بالتثليث // ، وبأخبار اليهود عن موسى بتكذيب كل ناسخ لشريعته ، وبأخبار الشيعة عن النص على إمامة على مع كثرة الناقلين لذلك فى زمننا هذا كثرة لا يتصور معها التواطؤ على الكذب. ومع ذلك فإنكم لم تقبلوا أخبارهم ، وقلتم إنّ أخبارهم لا تفيد العلم وذلك لا يخلو :

إما أن يكون لاختلال شرط فيها ، أو أنه لم يختل فيها شرط.

فإن كان الأول : فما المانع أن يكون ما تدعونه من التواتر كذلك.

وإن كان الثانى : فقد بطل القول بإفادة التواتر للعلم (٢).

__________________

(١) ساقط من (أ).

/ / أول ل ٨٣ / أ.

(٢) وقد رد الإمام الآمدي على هذه الشبهة أيضا : (ل ١٥٩ / ب ، ل ١٦٠ / أ) «إذا ضبطنا الخبر المتواتر بما يحصل منه العلم. فمهما حصل العلم بالخبر علمنا ضرورة تحقق التواتر وجميع شروطه .... وعلى هذا : فالعلم بوجود رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وادّعائه للرسالة ، حاصل بالضرورة على ما حققناه من أخبار الجمع الكثير ، فكان متواترا ، ولزم القول بوجود جميع شروطه.

وعلى هذا : يخرج الجواب أيضا عما أورده من أخبار اليهود ، والنصارى ، والشيعة».

٩٢

سلمنا عدم الانتقاض ، ولكن لا يخلو : إمّا أن يقولوا : بأنّ التّواتر يفيد العلم الضرورى ، أو النّظرى. فإن كان الأول : فهو محال والا لما خالفناكم فيه (١).

وإن كان الثانى : كما ذهب إليه الكعبى من المعتزلة ؛ فهو محال ؛ لأن العلم النظرى لا يعلمه من ليس من أهل النظر : كالصبيان ، ولا من ترك النظر وهو معلوم عندكم له. ولأن كل نظر فالناظر يجد من نفسه أنه شاك فيه قبل حصوله ، وأنه طالب له. وعاقل ما لا يجد من نفسه أنه طالب لحصول العلم بمكة ، وبغداد ، وإذا بطل القسمان ؛ بطل القول بإفادة العلم.

سلمنا افادة التواتر للعلم ؛ ولكن كل تواتر أو التواتر المحتف بالقرائن (٢).

الأول : ممنوع ، والثانى : مسلم.

ولهذا فإنه قد يحصل العلم ببعض المخبرات بالتواتر لبعض الناس ، ولا يحصل له العلم بخبرهم بغير ذلك المخبر ، وليس إلا التفاوت فى القرائن ؛ فلم قلتم / بوجود مثل هذه القرائن.

سلمنا التساوى فى القرائن ؛ ولكن لا يلزم من حصول العلم به لبعض الناس حصول العلم لغيره ؛ إذ الناس متفاوتون بقرائحهم وذكائهم فى الاطلاع على القرائن الحالية (٣) ، والمقالية.

ولهذا فإنه قد يحصل العلم بخبر التواتر ببعض المخبرات لبعض الناس ولا يحصل العلم به بالنسبة إلى آخر مع تساويهم فى السماع ، واتحاد الخبر وليس ذلك إلا لتفاوتهم فى الإحاطة بالقرائن ، والاطلاع عليها.

سلمنا لزوم حصول العلم به مطلقا ؛ ولكن بالنسبة إلى السامع له لا بالنسبة إلى غير السامع له.

__________________

(١) وقد رد على هذه الشبهة : «المخالفة : إما في أصل العلم أو فى كونه ضروريا ..... وقد بطل كون العلم الحاصل بالتواتر نظريا لما سبق فتعين أن يكون ضروريا» [المصدر السابق].

(٢) وقد أجاب الآمدي عن هاتين الشبهتين : فقال : إذا عرف أنّ ضبط التواتر إنما هو بما حصل به من العلم ، فلا التفات إلى ما قيل ، وبه يندفع ما ذكروه من اختلاف قرائح الناس فى الاطلاع على القرائن».

(٣) وقد أجاب الآمدي عن هاتين الشبهتين : فقال : إذا عرف أنّ ضبط التواتر إنما هو بما حصل به من العلم ، فلا التفات إلى ما قيل ، وبه يندفع ما ذكروه من اختلاف قرائح الناس فى الاطلاع على القرائن».

٩٣

وعند ذلك : فلا يلزم من كون ما ذكرتموه مفيدا للعلم لكم ؛ أن يكون مفيدا لغيركم ؛ لجواز أن لا يكون قد سمعه (١).

سلمنا أنه كان موجودا ، وأنه ادعى الرسالة ؛ ولكن لا نسلم ظهور المعجزات على (٢) يده.

قولكم : القرآن ظهر على يده. والقرآن معجزة. لا نسلم ظهور القرآن على (٣) يده.

قولكم : ذلك معلوم بالتواتر لا نسلم وجود التّواتر فى آحاد آياته (٤) ويدلّ عليه من خمسة أوجه :

الأول : أنّ الحفّاظ للقرآن فى زمن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ المخبرون به لمن سواهم ؛ لم يبلغوا عدد التّواتر ؛ فإنهم لم يزيدوا على ستة ، أو سبعة على ما نقله الرواة (٥).

الثانى : ان عثمان عند جمع القرآن ، كان يتلقّى آحاد الآيات من آحاد الناس ، وما كان يتوقّف فى كتابتها على نقلها إليه متواترة (٦).

__________________

(١) وقد رد المصنف على هذه الشبهة : «ما ندعى التواتر فيه من وجود رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وادعائه للرسالة لا يتقاصر عن التواتر المفيد لوجود العلم بمكة وبغداد .... وأن المنكر لذلك إن كان يهوديا ، أو نصرانيا ... فكل ما وجهه من إنكار وجود محمد وادعائه الرسالة ، وإنكار التواتر بذلك ، فهو لازم عليه فى إثبات وجود نبيه ، وادعائه للرسالة ، والجواب إذ ذاك يكون متحدا» (انظر ما يأتى ل ١٦٠ / أ ، ب.

(٢) وقد رد عليهم بقوله : «قولهم : لا نسلم ظهور المعجزات على يده ، قلنا : دليله ظهور القرآن على يده. والقرآن معجز».

(٣) وقد رد عليهم : «قولهم : لا نسلم ظهور القرآن على يده. قلنا : ذلك معلوم بالتواتر كالعلم بوجوده ، وادعائه للرسالة» (انظر ما يأتى ل ١٦٠ / ب.

(٤) ـ وقد رد الآمدي على هذه الشبهة ل ١٦٠ / ب «قولهم : لا نسلم وجود التواتر في آحاد آياته.

قلنا : دليله أنه ما من آية من آحاد آياته ألا وهى منقولة إلينا على لسان جماعة يفيدنا خبرهم العلم القطعى بصحة نقلهم عمن نقلوها عنه ... فكانت آحاد آيات القرآن أولى أن تكون متواترة».

(٥) وقد رد على هذه الشبهة فقال : «قولهم : إن الحفاظ للقرآن فى زمن النبي لم يبلغوا عدد التواتر. مسلم ولكن ليس فى ذلك ما يدل على أن آحاد الآيات غير متواترة ؛ لجواز أن يكون الحفظة لكل آية وإن لم يكونوا حافظين لغيرها ؛ قد بلغوا عدد التواتر».

(٦) وقد رد على هذه الشبهة فقال : «... ما من آية من القرآن إلا وكان نقلها عن النبي متواترا.

والثانى : مسلم. ولا يمتنع أن يكون أصل الآية متواترا ، وترتيبها في القرآن ، وتقديمها وتأخيرها ؛ ثابتا بالظن».

٩٤

الثالث : أن من جمع القرآن من الصحابة اختلفت مصاحفهم ولم تتفق ؛ كمصحف ابن (١) مسعود ، وأبىّ بن (٢) كعب ، وزيد بن (٣) ثابت ، وعثمان (٤) ، وانكر كل واحد مصحف الآخر. حتى إن عثمان أحرق مصحف ابن مسعود ، وقال ابن مسعود : ولو ملكت كما ملكوا ؛ لصنعت بمصحفهم كما فعلوا بمصحفى. ولو كانت آياته متواترة ؛ لما كان كذلك (٥).

الرابع : هو ان اختلافهم فى التسمية هل هى آية من القرآن فى أول كل سورة : ظاهر مشهور ؛ وذلك يدل على عدم تواترها (٦).

__________________

(١) عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلى (أبو عبد الرحمن) صحابى جليل من أكابر الصحابة ـ من السابقين إلى الإسلام ، وأول من جهر بقراءة القرآن بمكة. كان خادم رسول الله الأمين وصاحب سره ، ورفيقه فى حله وترحاله وغزواته قال عنه عمر ـ رضي الله عنه ـ وعاء ملئ علما. له فى كتب الحديث ٨٤٨ حديثا. توفى بالمدينة سنة ٣٢ ه‍ عن عمر يصل ستين عاما ، (صفة الصفوة ١ / ١٤٧ ـ ١٥٧. الأعلام للزركلى ٤ / ١٣٧).

(٢) أبى بن كعب بن قيس بن عبيد. من بنى النجار ، من الخزرج أبو المنذر ، صحابى جليل أنصارى ، كان قبل الإسلام حبرا من أحبار اليهود مطلعا علي الكتب القديمة ، يكتب ويقرأ ، ولما أسلم كان من كتاب الوحى. شهد المشاهد كلها مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان يفتى على عهده كتب كتاب الصلح لأهل بيت المقدس فى عهد عمر ، كما اشترك فى جمع القرآن مع عثمان ـ رضي الله عنه ـ روى ١٦٤ حديثا ، وفى الحديث : «اقرأ أمتى أبي بن كعب» مات بالمدينة سنة ٢١ ه‍ (صفة الصفوة ١ / ١٧٧ ، والأعلام للزركلى ١ / ٨٢).

(٣) زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصارى الخزرجى ـ رضي الله عنه ـ صحابى جليل من أكابر الصحابة كان من كتاب الوحى ، ولد فى المدينة قبل الهجرة بأحد عشر عاما. كان رأسا بالمدينة فى القضاء والفتوى والقراءة والفرائض. كان ابن عباس ـ على جلالة قدرة وسعة علمه ـ يأتى إلى بيته للأخذ عنه ويقول : العلم يؤتى ولا يأتى ، وأخذ ابن عباس بركاب زيد يوما فنهاه زيد ، فقال ابن عباس : هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا ، فأخذ زيد كفه وقبلها وقال : هكذا أمرنا أن نفعل بآل بيت نبينا ، وكان أحد الذين جمعوا القرآن فى عهد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، توفى سنة ٤٥ ه‍ (صفة الصفوة ١ / ٢٦٨ ، والأعلام للزركلى ٣ / ٥٧).

(٤) عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ أمير المؤمنين ، ذو النورين ، ثالث الخلفاء الراشدين ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة ، من السابقين الأولين ، ولد بمكة قبل الهجرة بسبعة وأربعين سنة ، وأسلم بعد البعثة بقليل. كان غنيا شريفا فى الجاهلية ، ومن أعظم أعماله فى الإسلام تجهيزه نصف جيش العسرة بماله ، تولى الخلافة بعد استشهاد عمر ـ رضي الله عنه ـ سنة ٢٣ ه‍ ، استشهد ـ رضي الله عنه ـ سنة ٣٥ ه‍ روى عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (١٤٦) حديثا. (صفة الصفوة ١ / ١١١ ـ ١١٦ والأعلام للزركلى ٤ / ٢١٠).

(٥) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة فقال : «المصاحف المشهورة في زمن الصحابة كلها كانت متواترة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على اختلاف حروفها ، كلها كانت مقروءة على النبي ، ومعروضة عليه وحيث اتفقت الصحابة على مصحف عثمان دون غيره ..... لأنه آخر ما عرض على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان يصلى به إلى أن قبض ، واتفاقهم على إعدام ما سواه ، وحرقه ، إنما كان لخوفهم من وقوع الاختلافات فى روايات القرآن ، وخروج القرآن بسبب ذلك فيما بعدهم عن التواتر فى كل حرف منه».

(٦) وللرد على هذه الشبهة قال الآمدي : «لم يقع الاختلاف فى كونه من القرآن وإنما وقع الخلاف فى وضعها آية فى أول كل سورة».

٩٥

الخامس : ما اشتهر من إنكار ابن مسعود كون الفاتحة والمعوذتين من القرآن مع ديانته ، واتفاق الصحابة على تعظيمه ، وعلوّ مرتبته ، وبقى على ذلك مستمرا إلى زمان عثمان ، ولم يبدّعه أحد من الصّحابة ، ولا كفّره. ولو كانت متواترة لبدّعوه وكفّروه ، وإذا لم تكن الفاتحة ، والمعوّذتان من القرآن ، مع شهرتها فما ظنّك بما سواها (١).

سلمنا أن القرآن وآحاد آياته منقول عنه بالتواتر ولكن يحتمل أنه كان يحفظه عن غيره. وسمعه منه ، ولم يظهر عليه أحد / سواه ، ومع هذا الاحتمال ؛ فلا يكون ظهوره على يده دلالة على صدقه (٢).

سلمنا أن الهيئة الاجتماعية لم توجد من غيره ؛ ولكن لا نسلم أنّ آحاد الآيات ومفردات الكلمات التى منها تأليفه لم يصدر إلا عنه (٣) لجواز أن يكون مع طول مدته قد انتسخها من كتب المتقدمين وأساطير الأولين ، وما كان يسمعه من الفصحاء ، والبلغاء فى زمانه من الألفاظ الرائقة ، والكلمات الجزلة. وألّف بعضها إلى بعض ولهذا فإنه لما أملى قوله ـ تعالى : ـ (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا) / / الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ قال الكاتب : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٤) فقال له النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ اكتب فهكذا انزل فارتدّ هذا الكاتب ، ولم يكن ارتداده إلا لأنه خطر له هذا الاحتمال.

سلمنا أنه لم يظهر القرآن ، ولا آحاد آياته إلا عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولكن لا نسلم إمكان الاستدلال به على صدقه (٥) ؛ وذلك لأنّ القرآن قد يطلق بمعنى المقروء. وقد يطلق بمعنى القراءة. فإن كان المقروء وهو المعجز ؛ فهو عندكم صفة قديمة قائمة

__________________

(١) وللرد على هذه الشبهة قال الآمدي : «أنكر كون الفاتحة والمعوذتين أن تكون منزلة على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو أن حكمها ليس حكم القرآن؟ الأول : ممنوع ، والثانى : مسلم ، ولا يلزم من ذلك خروجها عن كونها متواترة ، وأنها داخلة فى المعجزة».

(٢) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة فقال : «هذا ممتنع ؛ لأن القرآن من أوله إلى آخره مشتمل على ذكر وقائع ، وأحوال جرت له ، ولصحابته معه ، ووقعت على وفق ما أخبر به : أما قبل خبره ، أو بعده». تابع بقية رد الآمدي على هذه الشبهة ل ١٦١ / أوما بعدها.

(٣) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة فيما يلى ل ١٦١ / ب.

/ / أول ل ٨٣ / ب.

(٤) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٤.

(٥) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة : «بأن المعجز ليس هو المقروء ، وهو الصفة القديمة ؛ بل المعجز إنما هو العبارات الدالة على المعنى القديم» ل ١٦١ / ب ، ١٦٢ / أ.

٩٦

بذات الرّب تعالى ـ والصفة القديمة يستحيل أن تكون معجزة ؛ إذ لا اختصاص لها بحادث دون حادث. ولا تكون نازلة من الله ـ تعالى ـ منزلة التصديق لمدعى الرسالة. وإن كان المعجز هو القراءة التى هى فعله ، وكسبه ؛ فلا تكون معجزة ؛ فإنها لا تكون من حيث هى فعله ، نازلة منزلة التصديق.

سلمنا إمكان الاستدلال على صدقه ؛ ولكن إذا كان خارقا للعادة ولا نسلم أن القرآن خارق للعادة ، ولا هو فى نفسه معجز.

وأما ما ذكرتموه فى وجه إعجازه فأنتم فيه مختلفون على ما سبق. والاختلاف فى وجه إعجازه يدل على خفاء وجه الإعجاز فيه ، والمعجز يجب أن يكون وجه إعجازه ظاهرا بالنسبة إلى كل من يستدل به عليه بحيث لا يلحقه فيه شك ، ولا ريب ، كيف وأنه مما يتعذّر الإعجاز فيه بكل وجه من الوجوه المذكورة.

أما القول بأن وجه الإعجاز فيه : النّظم المخصوص ، والوزن المخالف لأوزان العرب ؛ فهو ممتنع لوجهين : ـ

الأول : أنّا لا نسلم مخالفة وزنه لسائر أوزان العرب. فإنّ كثيرا من آياته على وزن أبيات العرب منها قوله ـ تعالى : ـ (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) (١) ومنها قوله ـ سبحانه وتعالى : ـ (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) (٢). ومنها قوله ـ تعالى ـ (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ٢ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (٣). ومنها قوله ـ تعالى : ـ (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) (٤). وهذه كلها كلمات موزونة / من غير تغيير. ومنها قوله ـ تعالى : ـ (وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (٥). وهو موزون بشرط الإشباع فى كسرة الميم من ويخزهم. ومنه قوله ـ تعالى : ـ (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ١ فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) (٦). فإنه إذا حذف منه اللّام من فذلك كان موزونا. إلى غير ذلك من الآيات التى لو تتبعها المتتبعون ولا سيما إذا غيرت أدنى تغيير بحذف ، أو إشباع ؛ لوجد من ذلك شيئا كثيرا.

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ١٨.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ١٣.

(٣) سورة الطلاق : ٦٥ / ٢ ، ٣.

(٤) سورة القمر : ٥٤ / ٣٦.

(٥) سورة التوبة : ٩ / ١٤.

(٦) سورة الماعون : ١٠٧ / ١ ، ٢.

٩٧

الثانى : وإن سلمنا مخالفة وزنه لسائر الأوزان ؛ فيمتنع أن يكون ذلك بمجرده معجزا ، وإلا كان ما أتى به مسيلمة (١). وغيره على ما يأتى معجزا ؛ إذ هو على وزنه ، أو أن لا يكون وزن القرآن معجزا.

وأما القول بأن وجه الإعجاز من القرآن مجرد ما فيه من البلاغة فباطل من خمسة أوجه :

الأول : أنّا إذا نظرنا إلى أبلغ خطب الخطباء ، وأجزل قصيدة للشعراء ، وقطعنا النظر عن الوزن ، والنّظم المخصوص ، وقسناه بقصار سور القرآن ، كان الأمر فى التّفاوت ملتبسا على البلغاء ، وربّما كان الراجح فى نظره معارضتها ، والمعجز لا بد أن يكون التّفاوت بينه ، وبين غيره قد انتهى إلى حد ينتفى معه الشّك ، والرّيبة فى التباسه بغيره.

الثانى : هو أن كلام القرآن غير خارج عن كلام العرب ، وما من أحد من بلغاء العرب إلا وقد كان عالما بمفردات الكلمات ، وعالما بجهة تراكيبها ، وكان مقدورا له الإتيان بالكلمة ، والكلمات والآية والآيات. ومن كان قادرا على ذلك ؛ كان قادرا على الكلّ.

الثالث : أنّ الصّحابة اختلفوا فى بعض السور ، والآيات أنّها من القرآن. ولو كانت بلاغتها بالنّسبة إلى غيرها منتهية إلى حد الإعجاز ؛ لعرفوها ، ولم يختلفوا فيها.

الرابع : أن الصّحابة عند جمع القرآن كان إذا أتى الواحد منهم بآية أو آيات. ولم يكن مشهورا بالعدالة لا يضعونها فى المصحف إلا ببيّنة ، ولو كانت بلاغتها منتهية إلى حدّ الإعجاز ؛ لعرفوها بذلك ولم يعتبروا فى وضعها فى المصحف عدالة الرّاوى لها.

الخامس : أنّه وإن تميّز بنوع بلاغة على من فى عصره ، غير أن ذلك ممّا لا يدل على الإعجاز ، والدّلالة على صدق مدّعى النبوّة ، إذ التفاوت فى ذلك فيما بين النّاس واقع لا محالة وليس له حد توقف عنده ، إذ ما من فصيح إلا ولعلّ غيره أفصح منه ، ولا يمتنع أن تنتهى البلاغة ، والفصاحة فى كل عصر إلى فصيح لا أفصح منه فى زمانه ، وذلك غير موجب للإعجاز ، ولا للدلالة / / على صدق مدّعى النّبوة ؛ لجواز أن يكون ذلك الشخص هو الّذي انتهت الفصاحة إليه فى زمانه. بحيث يكون لا أفصح منه فى ذلك العصر.

__________________

(١) مسليمة الكذاب : يضرب به المثل فى الكذب ، هو ابن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفى الوائلى ـ أحد الذين ادعوا النبوة ، ولد ونشأ باليمامة فى وادى حنيفة من نجد ، وقد أكثر من وضع الاسجاع التى يحاول بها مضاهاة القرآن الكريم ، حاربه سيف الله خالد بن الوليد وقتله وخلص العالم من شرورة سنة ١٢ ه‍ (سيرة ابن هشام ٣ / ٧٤ ، الأعلام للزركلى ٧ / ٢٢٦).

/ / أول ل ٨٤ / أ.

٩٨

وأما القول بأنّ وجه إعجاز القرآن ما اشتمل عليه من أخبار الغيب ؛ فهو باطل من أربعة أوجه : ـ

الأول : أنه لا يخفى جواز الإصابة فى المرّة ، والمرّتين وأن ذلك ليس خارقا للعادة ، والحدّ الّذي تصير به الأخبار عن الغيب فى الكرّات المتعددة معجزا غير مضبوط. وإذا لم يكن مضبوطا ؛ فلا يمتنع أن يكون ما اشتمل عليه القرآن من الأخبار الغيبية غير معجز.

الثانى : أنّه يلزم منه أن تكون أخبار المنجّمين ، والكهنة عن الأمور الغيبيّة مع كثرته معجزا.

الثالث : أنه يلزم من ذلك أن تكون التّوراة ، والإنجيل من المعجزات ؛ لاشتمالها على أخبار الأولين ، وسير الماضين كما فى كتابكم ، ولم تقولوا به.

الرابع : أنّه إذا كان الإعجاز ليس إلا فى الإخبار عن الغيب ؛ فيلزم أن لا يكون ما خلا عن ذلك من سور القرآن معجزا.

وأما القول بأنّ وجه الإعجاز فى القرآن : إنّما هو عدم تناقضه واختلافه مع طوله ، وامتداده ؛ فباطل من وجهين : ـ

الأول : لا نسلم عدم التّناقص ، والاختلاف فيه :

أما بيان التّناقض فقوله ـ تعالى : ـ (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) (١) والقرآن مشتمل على الشعر ، على ما تقدم.

وأيضا قوله ـ تعالى : ـ (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٢).

فالآية دالة على نفى الاختلاف فيه. والاختلاف واقع فيه على ما يأتى ؛ فيكون تناقضا.

وأيضا فقوله ـ تعالى : ـ (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (٣) وقوله تعالى : ـ (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٤)

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ٦٩.

(٢) سورة النساء : ٣ / ٨٢.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٣٨.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ٥٩.

٩٩

ومن المعلوم أنه لا يشتمل علي كثير من العلوم الأصوليّة والرّياضية ، والطّبية ، وأكثر المسائل الفروعية.

وأيضا : فإنّ أكثر آياته متعارضة ، متقابلة ، كل واحدة دالة على نقيض مدلول الأخرى ، ومناقضة لها : كقوله ـ تعالى : ـ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١)

دلّ على عظم شأنه ، وعلوّ رتبته عن سمات النقص ، وهو غير خال عن النقص إذ هو مشتمل على اللّحن ، والتّكرار المستغث ، والتعرّض لإيضاح الواضحات وغير ذلك.

أما اللحن : فقوله ـ تعالى : ـ (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) (٢) رفع اسم إن ، وحقّه أن يكون منصوبا ، ولهذا قال عثمان لما عرض عليه المصحف إنّ فيه لحنا ، وإن العرب تقيمه بألسنتها.

وأما التكرار : فمن جهة اللفظ ، والمعنى :

/ أما من جهة اللفظ : فكما فى سورة الرحمن من قوله ـ تعالى : ـ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣).

وأما من جهة المعنى : فكما فى القصص المكررة فى السّور المختلفة : كقصة موسى ، وغيره.

وأما التعرض لإيضاح الواضحات : فكما فى قوله ـ تعالى : ـ (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) (٤)

وأما الاختلاف : فقد يكون فى اللفظ ، وقد يكون فى المعنى ، والاختلاف فى اللفظ : قد يكون بتبديل اللفظ بغيره ، وقد يكون فى تركيبه ، وقد يكون بزيادة فيه ، ونقصان منه. والكل متحقق فى القرآن.

أما الاختلاف بتبديل اللفظ : فكقوله ـ تعالى : ـ «كالصوف المنفوش» بدل قوله (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٥) وكقوله ـ تعالى : ـ «فامضوا إلى ذكر الله» (بدل

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٨.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ٦٣.

(٣) سورة الرحمن : ٥٥ / ١٣.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٩٦.

(٥) سورة القارعة : ١٠١ / ٥.

١٠٠