أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0327-1
الصفحات: ٣٩٨

وذلك الشخص عالم بوقوعه فى وقت وقوعه لتمهره فى صناعة النجامة ، وإحاطته فيها بما لم يحط به غيره ممن هو فى عصره ، وعلى هذا ؛ فلا تكون نازلة منزلة التصديق من الله تعال ؛ إذ ليست من فعله.

[الشبهة] العشرون : سلمنا أنها من فعل الله ـ تعالى ـ ولكن إنما يدل على صدقه أن لو كان ذلك خارقا للعادة ، والخارق للعادة ما كان نادرا شاذ الوقوع ، ولو قدر وقوعه مرتين ، أو ثلاثا ؛ لم يلتحق بالعوائد والتكرر الملحق له بالعوائد غير / مضبوط بضابط معين محصور ، والخارق يكون مشروطا بشرط مجهول ؛ فيكون مجهولا.

[الشبهة] الحادية والعشرون : سلمنا أن الخارق معلوم غير مجهول ولكن ما أتى به إنما يدل على صدقه لو كان مما لم تطّرد به العادة فى بعض أقطار الأرض ، أو فيما تقدم من الأعصار وإن لم يكن معتادا فى ذلك الوقت ، ولا فى ذلك القطر. ولا سبيل إلى معرفة ذلك قطعا ؛ فلا يكون خارقا للعادة مطلقا ؛ فلا يكون حجة على الصدق.

[الشبهة] الثانية والعشرون : سلمنا أنه خارق للعادة مطلقا ، غير أنه مما يمتنع مع ذلك دلالته على صدقه لوجهين :

الأول : أنكم قد اعترفتم بأن الله ـ تعالى ـ قادر على خرق العوائد وقلبها وجعل النادر معتادا ، والمعتاد نادرا ، وكل ما كان مقدورا لله ـ تعالى ـ فيكون ذلك جائزا.

وعند ذلك فما ظهر على يده وإن كان خارقا للعادة ؛ فلا مأمن معه أن يكون هو أول انقلاب العادة ، وأنه يبقى معتادا مستمرا.

وعند ذلك فيخرج عن كونه مصدقا له لعدم اختصاصه به.

الثانى : أنه لا يخلوا : إما أن تقولوا بجواز إرسال رسل متوالية من عند الله ـ تعالى ـ فى أوقات متقاربة وأن كل واحد معه آية مماثلة لأية من قبله أو لا تقولون بجوازه.

فإن قلتم بعدم الجواز : فقد عجّزتم البارى تعالى ـ وإن قلتم بالجواز : فقد صارت تلك المعجزة معتادة ، والمعتاد لا يكون دليلا على الصدق.

[الشبهة] الثالثة والعشرون : سلمنا امتناع الاطراد ، ولكن إما أن تقولوا بجواز ظهور الكرامات والخوارق للعادات على أيدى الأولياء ، أو لا تقولوا به.

٤١

فإن لم تقولوا به فهو خلاف المعقول ؛ فإنه إذا جاز ظهور الخارق مع التحدى ، وثبت كونه مقدورا لله ـ تعالى ؛ فعدم التحدى لا يخرجه عن جوازه ، وعن كونه مقدورا.

ولهذا فإنا لو فرضنا وقوعه لم يعرض عنه لذاته محال. ثم هو خلاف أصلكم ، ومذهبكم ، وما دل عليه نصوص كتابكم ، وما اشتهر عن كثير من الأولياء ، والصالحين.

أما الكتاب : فما أخبر به عن قصة أهل الكهف وما ظهر لهم من الآيات وخوارق العادات (١) ، وما أخبر به عن أم موسى ، وإلقاء موسى فى اليم (٢) ، وما أخبر به عن مريم (٣) من ضروب الكرامات ، ووجود ، فاكهة الصيف عندها فى الشتاء ، وفاكهة الشتاء فى الصيف ، ولم يصر أحد من المسلمين ولا أحد من أرباب المقالات إلى أنهم / كانوا أنبياء.

وأما السنة : فقوله عليه الصلاة والسلام : «إن من أمتى مخاطبون ، ومكلمون وإن عمر منهم» (٤).

وأما الاجماع : فهو أن الصحابة لم يزالوا متفاوضين فى كرامات الأولياء وما كان منها لمن تقدم من الصلحاء ، وعباد بنى إسرائيل ، ولم يزالوا على ذلك فى كل عصر إلى حين ظهور المخالفين من غير نكير ؛ فكان اجماعا.

/ / وأما ما اشتهر من ذلك عن الأولياء بالأخبار اليقينية الصادقة : فكالمشهور عن عمر ـ رضى الله عنه ـ من قصة سارية (٥) حيث حذره من الكمين وعمر على منبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وسارية بنهاوند ، وغيره من الحكايات المنقولة عن الأولياء وما ظهر على أيديهم من الغرائب والعجائب مما آحادها وإن كانت آحادا ؛ فنازلة منزلة التواتر فى إفادة اليقين.

__________________

(١) وهى أن الله سبحانه وتعالى أبقاهم ثلاثمائة سنة وأزيد نياما أحياء بلا آفة ولم يكونوا أنبياء إجماعا.

(٢) ونجاته وتربيته فى بيت عدوه فرعون ، وقيام أمه بارضاعه ، وتعهده ، وتربيته.

(٣) حيث حملت بلا ذكر ، ووجد الرزق عندها بلا سبب ، وتساقط عليها الرطب من النخلة اليابسة.

(٤) ورد فى تاريخ الخلفاء للسيوطى ص ٩٢ «وأخرج البخارى عن أبى هريرة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدّثون ، فإن يكن فى أمتى أحد فإنه عمر» [: أى ملهمون]

/ / أول ل ٧٤ / ب.

(٥) انظر تاريخ الخلفاء للسيوطى ص ٩٩ ، ١٠٠ : فصل فى كراماته ـ رضى الله عنه ـ فقد ذكر هذه الكرامة واستدل عليها بأقوال المحدثين ، والأئمة ، والصحابة بالتفصيل.

٤٢

وإن قلتم بظهور الكرامات على أيدى الأولياء : فقد بطلت دلالتها على التصديق لوجهين :

الأول : إذا أمكن وجود المعجزة بدون الدلالة على التصديق فى حق الأولياء فما المانع من وجودها فى حق النبي من غير دلالة على تصديقه.

الثانى : أنه إذا جوز ظهورها على أيدى الأولياء. فإما أن يقال بجواز خلقها على أيديهم على التوالى ، أو لا يقال به.

فإن لم يقل به : ففيه نسبة الرب ـ تعالى ـ إلى العجز وهو ممتنع.

وإن قيل به : فقد خرجت عن كونها خارقة ، وصارت معتادة.

[الشبهة] الرابعة والعشرون : سلمنا امتناع ظهور الكرامات على أيدى الأولياء ؛ ولكن إنما يكون ما أتى به دليلا على صدقه أن لو لكان ذلك معجزة بالنسبة إلى المبعوث إليهم وإنما يكون ذلك معجزة بالنسبة إليهم أن لو كان معجوزا عنه بالنسبة إليهم ؛ إذ المعجزة مأخوذة من العجز ، وليست معجزة بالنسبة إليهم ؛ لأن ما يكون مقدورا للشخص لا يكون معجوزا عنه ، ولهذا لا يقال إننا عاجزون عن خلق الأجسام ، والألوان لما لم تكن مقدورة بالنسبة إلينا.

[الشبهة] الخامسة والعشرون : سلمنا صحة كون الخارق معجزة بالنسبة إليهم ، ولا نسلم دلالته على تصديقه ، وما ذكرتموه من صورة الملك فى الشاهد ؛ فلا نسلم دلالة ما وجد منه على التصديق قطعا ؛ لاحتمال أن تكون حركة الملك على وفق ما ذكره المدعى لرسالته بحكم الاتفاق بناء على غفلة وذهول ، أو بسبب أوجب له ذلك غير التصديق أو لأنه كاذب فى قصد تصديقه.

[الشبهة] السادسة والعشرون : سلمنا دلالته على التصديق قطعا ؛ ولكن ما المانع أن يكون العلم حاصلا فى تلك الصورة لما علم من عادة الملوك فى حفظ الممالك / وصلاح الرعية ، وتجنب المسالك المفضية إلى تشويش الملك ، واختلاف الرعية ، وأنتم قد جوزتم على الله ـ تعالى ـ اضلال العبيد ، وخلق الكفر ، والفسوق لهم ؛ فلا يكون فى معنى ما استشهدتم به.

٤٣

[الشبهة] السابعة والعشرون : سلمنا القطع مع قطع النظر عن هذه الأمور العادية غير أن المرسل فى الصورة المستشهد بها مرئى محسوس فيمكن أن يرى منه قرائن لا تحويها العبادات. وأمكن أن تكون مؤثرة فى العالم ، بخلاف الرب ـ تعالى ـ فإنه غير مرئى فى وقتنا هذا ، ولو كان مرئيا ؛ فهو ـ يتعالى ـ عن الاتصاف بمثل القرائن الحالية المشاهدة من الواحد منا.

[الشبهة] الثامنة والعشرون : سلمنا امتناع تأثير ما نشاهد منه من القرائن فى العلم ، غير أنه يمتنع إلحاق الغائب بالشاهد بطريق القياس إذ هو غير مفيد لليقين كما سبق فى قاعدة الدليل (١).

[الشبهة] التاسعة والعشرون : سلمنا صحة قياس [الغائب على الشاهد (٢)] فى الجملة ؛ ولكن يمتنع مع ذلك الاستدلال بما ظهر على يده على صدقه ، لأن دلالته على صدقه : إما دلالة عقلية ، أو سمعية.

لا سبيل إلى الأول : لأن ما دل عقلا ؛ فيدل لنفسه ، ويرتبط بمدلوله لذاته ولا يجوز تقديره غير دالّ ؛ وذلك كدلالة الفعل على الفاعل ، ودلالة الفعل المحكم على علم فاعله. إلى غير ذلك من الأدلة العقلية ، ودلالة المعجزة على صدق المدعى للرسالة ليست كذلك ، وإلا لما تصور وجودها الا وهى دالة على صدق الرسول ؛ وليس كذلك ؛ فإنه يجوز خرق العوائد عند تصرم الدنيا : كانفطار السماء وانتثار الكواكب ، وتدكدك الجبال ، وتبدل الأرض غير الأرض إلى غير ذلك مع عدم دلالتها على تصديق مدعى النبوة ، فإنه لا إرسال ، ولا رسول فى ذلك الوقت ، وكذلك ظهور الكرامات على أيدى الأولياء على أصلكم من غير دلالة.

ولا سبيل إلى الثانى : لأن الأدلة السمعية متوقفة على صدق الرسول فلو توقف صدقه عليها ؛ لكان / / دورا.

[الشبهة] الثلاثون : سلمنا عدم الحصر فى القسمين من الأدلة ، غير أن الاستدلال بما أتى به من المعجز : إما أن يكون مشروطا بالتحدى ، أو لا يكون مشروطا به.

__________________

(١) انظر ما سبق فى الجزء الأول ل ٣٩ / ب وما بعدها ص ٢٠٣ وما بعدها من الجزء الأول : القاعدة الثالثة الفصل السابع : الدليل الخامس : الحاق الغائب بالشاهد ، بجامع الحد والعلة ، والشرط ، والدلالة.

(٢) فى (أ) (الشاهد على الغائب)

/ / أول ل ٧٥ / أ.

٤٤

فإن كان الأول : فيلزم أن لا تقدح المعارضة فيه الا أن يصدر ممن يدعى النبوة ؛ لأن المعارضة إنما تتحقق بالإتيان بمثل ما أتى به النبي على صفاته وشرائطه / ولهذا فإنه لما كان من شرائطه أن يكون خارقا للعادة ؛ لم تتحقق المعارضة دون الإتيان بما يخرق العادة ، ويلزم من ذلك أن لا يكون من عارض المعجزة بمثلها مبطلا لها بتقدير أن لا يكون متحديا بالنبوة ؛ وهو خلاف الإجماع ، ونصوص كتابكم.

وإن كان الثانى : فلا يكون ما أتى به دليلا على صدقه ، ولا كونه رسولا بالإجماع وكما لو ظهر ذلك على أيدى الأولياء.

[الشبهة] الحادية والثلاثون : سلمنا صحة الاستدلال به لكن بشرط أن يخلقه الله على يده لقصد التصديق له فى دعواه للرسالة ، وإنما يلزم ذلك أن لو كان فعل الله ـ تعالى ـ مما يراعى فيه الغرض والمقصود ؛ وهو باطل على ما سبق فى التعديل والتجويز (١).

[الشبهة] الثانية والثلاثون : سلمنا امتناع خلوّ فعل الله ـ تعالى عن الغرض ، والمقصود ؛ ولكن إنما يدل ذلك على صدقه أن لو انحصر الغرض فى التصديق ، وما المانع أن يكون له غرض آخر لم يطلع عليه ، وبيان امكان غرض آخر من ثلاثة أوجه.

الأول : أنه من الجائز أن يكون ذلك الشخص كاذبا فى مقالته ، والبارى ـ تعالى ـ مريد اضلالنا برسالته ، وأن يكون ما يدعوا إليه من الخير ؛ هو عين الشر ، وما ينهى عنه من الشر ؛ فهو عين الخير ، ولا إحالة فيه على أصلكم حيث أحلتم كون الحسن والقبح ذاتيا للحسن ، والقبيح.

كيف وأن خلق الخارق ممكن من غير تحد ومع تحدى الصادق ؛ فكذب الكاذب لا يخرج الممكن المقدور لله عن كونه ممكنا ، ولا مقدورا.

الثانى : أنه يحتمل أن يكون واحدا من الصالحين فى بعض أقطار الأرض قد دعا الله ـ تعالى ـ بإيجاد ذلك الخارق ؛ فأوجده الله تعالى ـ إجابة لدعاء ذلك الصالح لا لتصديق المدعى للرسالة.

__________________

(١) ـ انظر ما مر فى الجزء الأول ل ١٨٦ / أوما بعدها ص ١٥١ وما بعدها من الجزء الثانى الأصل الأول : فى التعديل والتجوير. المسألة الثالثة : فى أنه لا يجب رعاية الغرض والمقصود فى أفعال الله ـ تعالى ـ وأنه لا يجب عليه شيء أصلا.

٤٥

الثالث : أنه من الجائز أن يكون خلق الله ـ تعالى ـ له لغرض الإيهام بكونه صادقا ، كما خلق الشبهات الموهمة ، وأنزل المتشابهات لا لقصد التصديق.

[الشبهة] الثالثة والثلاثون : سلمنا انحصار الغرض والتصديق غير أن ذلك إنما يدل على صدقه فى نفس الأمر ، أن لو استحال الكذب فى تقدير تصديق الله له ؛ وذلك إما أن يدرك بالعقل ، أو بالسمع ، لا سبيل إلى الأول ؛ لأنكم أبطلتم أن يكون الحسن والقبح ذاتيا للحسن والقبيح.

واذا لم يكن القبح ذاتيا للكذب ؛ فلا يمتنع على الله ـ تعالى ـ (١) [ولا سبيل الى الثانى لما يلزمه من الدور كما تقدم.

[الشبهة] الرابعة والثلاثون : سلمنا استحالة الكذب على الله ـ تعالى] (١) ولكن متى يصبح الاستدلال به : إذا بلغ التحدى بالمعجزة جميع الناس ، أو إذا لم يبلغهم.

الأول : مسلم.

والثانى : ممنوع.

ولهذا فإنه لو تحدى الخارق بعض الصنائع البديعة / فى بعض القرى وعجز أهلها عن معارضته ؛ فإنه لا يكون بذلك نبيا.

وعلى هذا فيمتنع القول ببلوغ التحدى بذلك إلى جميع أقطار الأرض وقت التحدى وإظهار المعجزة بحيث لا يبقى أحد إلا ويعلم به ؛ إذ هو خلاف العادة.

[الشبهة] الخامسة والثلاثون : سلمنا بلوغ التحدى إلى الكل ؛ ولكن إنما يدل على صدقه أن لو توفرت دواعيهم على المعارضة ، ولم يقدروا عليها وليس كذلك.

وبيانه : أن من يقدر على المعارضة ليس من جملة الخلق الا الأقلون ، ولعل دعواه بموافقة منهم ، وتركهم للمعارضة مبالغة فى ترويج أمره ؛ ليتحصلوا معه على ما يرومونه من التقدم ؛ واعلاء الكلمة ، ونفوذ الأمر.

[الشبهة] السادسة والثلاثون : سلمنا أنهم لم يقصدوا ترويج أمره ؛ لكن من المحتمل أنهم لم يتعرضوا لمعارضته استهانة به ، واحتقارا له ؛ لظنهم أن دعوته مما لا تتم ، وأن أمره لا يتحقق.

__________________

(١) ساقط من أمن قوله (ولا سبيل ..... استحالة الكذب على الله تعالى)

٤٦

[الشبهة] السابعة والثلاثون : سلمنا أنهم لم يكونوا محتقرين له غير أنهم لم يعلموا أن طريق افحامه بالمعارضة ؛ إذ العلم بذلك غير ضرورى ؛ بل من النظريات ولا يمتنع خفاؤه على الناظرين.

[الشبهة] الثامنة والثلاثون : سلمنا علمهم بأنه لا طريق غير المعارضة غير أنه من المحتمل أن يكون عدم اشتغالهم بالمعارضة لمانع منع ومعارض عز إما من اهتمام كل / / واحد بما يخصه من أموره ، وما يحتاج إليه فى تقويم معيشته ، وتدبير أحواله ، وعدم التفاته إلى غيره ، أو لأمر آخر.

[الشبهة] التاسعة والثلاثون : سلمنا عدم المانع ، وتوفر الدواعى على المعارضة ؛ ولكن لا يمتنع أن يكون قد عارض واحد من الناس ولم تظهر معارضته ؛ إما لأنه لم يظهرها ، أو لمانع منع من إظهارها ، ومع وجود هذه الاحتمالات ؛ فلا دلالة لما ظهر من الخارق على صدقه.

[الشبهة] الأربعون : هو أن ما ذكرتموه من الدليل منتقض بما دلت عليه الأخبار الصحيحة عن نبيكم من ظهور المعجزات الباهرة ، والآيات القاطعة على يد المسيح الدّجال ؛ على وفق دعواه الالهية ، وذلك يجرّ إلى أحد أمرين :

إمّا ثبوت إلهيّته ؛ وهو محال.

أو أن لا يكون ظهور المعجزة على يد المتحدّى دليلا على صدقه؟

والجواب : أما من قال بإيجاب البعثة إلى قوم علم الله أنّهم يؤمنون ؛ لما فيه من إصلاحهم فمذهبه مبنىّ على وجوب رعاية المصلحة ، واستحسان العقل ، وتقبيحه ، وقد أبطلناه فى التعديل والتجوير بما فيه مقنع وكفاية (١).

وأما القول بوجوب الإرسال / إلى قوم علم الله أنهم يكذبون ولا يؤمنون ففى غاية البعد أيضا ؛ لأنه إما أن يقال بأن الإرسال إليهم أصلح من عدم الإرسال ، أو ليس بأصلح:

__________________

/ / أول ل ٧٥ / ب.

(١) انظر ل ١٧٤ / ب وما بعدها من الجزء الأول ص ١١٥ وما بعدها من الجزء الثانى الأصل الأول : فى التعديل والتجوير. المسألة الأولى : فى التحسين والتقبيح.

٤٧

الأول : ممتنع مخالف لضرورة العقل ؛ وذلك لأن الإرسال سبب لهلاكهم ، واستحقاق العقوبة عليهم ، وخلودهم فى النار ، ولا كذلك فى عدم الإرسال ، وما علم الله أنه سبب هلاك العبد كيف يكون أصلح للعبد مما لا هلاك فيه.

وإن كان الثانى : فليس القول بإيجابه عقلا ، مع أنه ليس أصلح أولى من عدم الإيجاب ؛ بل عدم الإيجاب أولى كعدم ملازمة الهلاك له وملازمة الهلاك فى مقابله.

والقول بأن الإرسال فى هذه الصورة حسن وليس واجبا ؛ فهو أيضا باطل على أصول القائلين بالتحسين والتقبيح العقلى ؛ وذلك لأنه لا يخلو : إما أن يكون الإرسال فى الصورة المفروضة استصلاحا ، أو استفسادا ، أو أنه عرىّ عن الأمرين :

فإن كان الأول : لزم القول على أصلهم بالوجوب ؛ لما فيه استصلاح العبد.

وإن كان الثانى : لزم القطع بتقبيحه.

وإن كان الثالث : فليس القول بالتحسين مع خلوه عن الاستصلاح أولى من القول بعدمه ؛ بل القول بالتقبيح وعدم التحسين أولى ؛ لما فيه من العبث والخلو عن الغرض.

وأما من قال بامتناع البعثة إذا لم تتضمن تعريف أمر متجدد من القضايا الشرعية ، أو نسخ شيء منها ، أو تذكيرا بما نسى ، واندرس من الشرائع المتقدمة ؛ فهو فاسد من وجهين :

الأول : أنه مبنى على وجوب رعاية الحكمة فى فعل الله تعالى ـ وقد سبق إبطاله فى التعديل والتجوير (١).

الثانى : وإن كان لا بد من رعاية الحكمة والغرض ، فما المانع أن يكون الغرض التأكيد بضم طريق معرفته إلى آخر ، كما جاز القول بنصب أدلة على الواجبات العقلية عندهم ، وإظهار معجزات متوالية دالة على صدق النبي مع استقلال المتقدم منها بذلك.

فإن قيل : إنما جاز نصب الأدلة العقلية ، وإظهار المعجزات المتعددة الدالة على صدق الرسول ؛ لأن الناس يتفاوتون فى دلالة الأدلة العقلية ودلالة المعجزات على

__________________

(١) انظر ما مر فى الجزء الأول ل ١٨٦ / أو ما بعدها ص ١٥١ وما بعدها من الجزء الثانى.

٤٨

الصدق ؛ لتفاوت الأدلة ، والمعجزات فى الظهور والخفاء بالنسبة إلي نظر الناس. حتى إنه يسهل على بعض الناس النظر فى بعض الأدلة دون البعض. وكذلك فى المعجزات ، والبعض الآخر بالعكس ، فكانت فائدة نصب الأدلة ، أو المعجزات أن يستصلح بكل قبيل قبيلا من الناس /.

قلنا : وهذا لازم فيما نحن فيه ، أما بالنسبة إلى المقرر للواجبات العقلية لا غير ؛ فلأن الناس أيضا يتفاوتون فى سهولة الانقياد إلى المدارك المختلفة ، حتى أن منهم من يصعب عليه الانقياد إلى المدارك العقلية ؛ لاستصعابها عليه ، وإذا رأى أنها خارقة مال إليها واطمأنت نفسه بها ونقول من ظهرت على يده كأكثر العوام ، ومنهم من هو بالعكس من ذلك.

وأما بالنسبة إلى المقرر بشريعة من تقدم مع عدم اندراسها ، فلتفاوت الناس أيضا فى سهولة الانقياد إلى بعض الناس ، وإلى ما يقوله دون البعض وركونه إليه ؛ فكانت أيضا فائدة الإرشاد / / استصلاح كل بما يميل إليه ، ويسهل عليه.

والجواب عن الشبهة الأولى : القائلين بامتناع البعثة.

قولهم : إما أن يقولوا بالجنّ ، أو لا يقولون بهم :

قلنا : هذا مما اختلف فيه الناس :

فذهب الفلاسفة والمعتزلة ومن نصر مذهب هؤلاء : إلى إنكار الجنّ والشياطين.

وأما مذهب أهل الحق : فالاعتراف بوجودهم تمسكا بما قيل فى ذلك من الأدلة.

قولكم : فما الّذي يؤمنه أن يكون المخاطب له جنيا ، وأن ما ألقى إليه ليس من عند الله.

قلنا : غير ممتنع أن يعلم أن المرسل له هو الله ـ تعالى ويحصل له اليقين به ؛ وذلك بأن يظهر الله ـ تعالى ـ له آيات ودلائل ومعجزات يتقاصر عن الإتيان بمثلها جميع المخلوقات تكون دالة على علمه بذلك. أو بأن يكون ما أنزل عليه ، وألقى إليه يتضمن الإخبار عن الغائبات ، والأمور الخفيّات التى لا يمكن معرفتها لغير الله ـ تعالى وهى واقعة على ما أخبر به.

__________________

/ / أول ل ٧٦ / أ.

٤٩

أو بأن يخلق الله ـ تعالى ـ له العلم الضرورى بذلك. فإن الله على كل شيء قدير ، وبهذا يندفع ما ذكروه من الشبهة الثانية أيضا.

وعن الثالثة من وجهين : ـ

الوجه الأول : ما المانع أن يكون ما يأتى به معقولا.

قولهم : إنه عبث. عنه جوابان :

الأول : أن ما ذكروه مبنى على وجوب رعاية الحكمة فى أفعال الله ـ تعالى ـ وقد أبطلناه فيما تقدم (١).

الثانى : ما المانع أن تكون الحكمة هى التأكيد بضم الدليل السمعى إلى الدليل العقلى ، كما فى نصب الأدلة المتعددة على مدلول واحد. ومع حصول غرض التأكيد ؛ لا يكون الإرسال عبثا.

الوجه الثانى :

ما المانع أن يكون آتيا بما لا تستقل [العقول] (٢) بإدراكه ؛ بل هى متوقفة فيه على المنقول وذلك كما فى مناهج العبادات / والقضايا الدينيّات ، والخفى مما يضر ومما ينفع من الأفعال والأقوال وغير ذلك مما تتعلق به السعادة ، والشقاوة ، فى الأولى والأخرى ، وتكون نسبة النبي إلى تعريف هذه الأحوال نسبة الطبيب إلى تعريف خواص الأدوية ، والعقاقير التى يتعلق بها ضرر الأبدان ونفعها ، فإن عقول العوام قد لا تستقل بدركها وأن تغفلها عند ما ينبه الطبيب عليها ، وكما لا يمكن الاستغناء عن الطبيب فى تعريف هذه الأمور مع أنه قد يمكن الوصول إليها والوقوف عليها بطول التجربة ؛ لما يفضى إليه من الوقوع فى المهالك والإضرار ؛ لخفاء المسالك المرشدة إليها ؛ فكذلك النبي ؛ بل أولى حيث أنه يعرف ما لا سبيل إلى معرفته إلا من جهة الله ـ تعالى.

وعن الرابعة من ثلاثة أوجه :

الأول : منع تساوى النفوس فى النوعية ، وما المانع من اختلافها. ومع الاختلاف ؛ فلا يلزم الاشتراك بينها فيما ثبت للواحد منها.

__________________

(١) انظر ما سبق فى الجزء الأول ل ١٨٦ / أو ما بعدها ص ١٥١ وما بعدها من الجزء الثانى.

(٢) فى (أ) (القول)

٥٠

الثانى : وإن سلمنا الاتحاد فى النوعية ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم أن ما ثبت للبعض يجب الاشتراك فيه ، وإلا لاستوى الناس كلهم فيما ثبت للواحد منهم من العلم ، والجهل ، وغير ذلك من الأحوال.

الثالث : وإن سلمنا لزوم الاشتراك بينهم فيما يدركه الواحد منهم من المدركات العقلية ؛ فلا يلزم ذلك فى القضايا الشّرعيّة ، فإن طريق معرفتها إنّما هو السمع دون العقل. ولا يلزم من تخصيص بعض الناس بالوحى والإرسال التشريك والتّعميم بينهم ضرورة اتحاد النوع وإلا لاستوى الناس كلهم فى أحوالهم بحيث لا يكون هذا عالما وهذا جاهلا ، وهذا سعيدا ، وهذا شقيا ، وهذا أعمى وهذا بصيرا ، وهذا كاملا ، وهذا ناقصا ، إلي غير ذلك. ومع ذلك فقد وقع التفاوت فى هذه الأمور فيما بينهم مع اتحاد النوع ، ولم يعد ذلك قبيحا من الله ـ تعالى ؛ لكونه الفاعل لذلك ؛ [فكذلك (١)] فيما نحن فيه.

وعن الخامسة :

أن ما ذكروه إنّما يلزم على المعتزلة حيث اعترفوا بوجوب الإمهال عند الاستمهال ولا محيص لهم عنه.

وأمّا على رأى أهل الحق فلا ؛ فإنا بينا فيما تقدم فى التعديل والتجوير (٢) أنه مهما ادعى النبي الرسالة ، واقترن بدعواه المعجزة الخارقة للعادة ، وكان المبعوث إليه عاقلا / متمكنا من النظر فى المعجزة.

فقد ثبت الشرع ، واستقر الوجوب ، وامتنع التأخير ؛ بل ولو وقع الإلزام على أصلهم بقبح التأخير / / والإمهال فى النظر حيث لم يرشدهم إلى المصالح ، ويحذرهم من المهالك ، ويعرفهم طرق السعادة ليسلكوها ، ومفاوز المخافة ليتجنبوها بعد ما ظهر صدقة بالمعجزات القاطعة ؛ لم يجدوا إلى دفعه سبيلا.

كيف وأن ما يجب الإمهال فى النظر لأجله ؛ فالنبى قائم بصدده ، ومتكفل به من تعريف ذات الله ـ تعالى ـ وصفاته ، وما يتعلق بأحكام الدنيا ، والأخرى ، ولهذا إذا بحث عن أحوال الأنبياء ، والمرسلين وجدناهم فى الدعوة إلى الله ـ تعالى وإلى معرفته سابقين.

__________________

(١) ساقط من (أ)

(٢) انظر ما مر ل ١٨٥ / أمن الجزء الأول وما بعدها ص ١٤٦ وما بعدها من الجزء الثانى.

/ / أول ل ٧٦ / ب.

٥١

وعند ذلك فليس طلب الإمهال مع ما ظهر من صدق الرسول ودعوته إلى ما فيه صلاح نظام المدعو مع إمكان وقوع الهلاك على تقدير التأخير الا كما لو قال الوالد لولده مع ما عرف من شفقته ، وحنوه ، ورأفته أن بين يديك فى هذا الطريق سبعا ضاريا ، أو مهلكا ؛ فإياك وسلوكه وكان ذلك فى نفسه ممكنا. فقال الولد : لا أمتنع من ذلك ما لم أعرف السبع أو المهلك ، لقد كان ذلك منه فى نظر العقلاء مستقبحا ، ومخالفا للواجب فلو لم ينبته ؛ فهلك كان ملاما مذموما غير معذور.

وعن السادسة :

باختيار أن البارى ـ تعالى ـ عالم بالجزئيات ، وأن الرسول مبعوث إلى النّاس كافّة.

قولهم : لا فائدة فى الإرسال إلى من علم منه الإيمان ، أو الكفران ؛ فهو مبنى على وجوب رعاية الغرض فى أفعال الله ـ تعالى ؛ وهو باطل على ما سبق (١).

قولهم : يلزم منه التكليف بما لا يطاق مسلم. ولا مانع منه كما بيناه (٢).

قولهم : إنه على خلاف الأصلح فى حقه ؛ فمبنى على رعاية المصلحة ؛ وقد سبق ابطاله أيضا (٣).

وعن السابعة :

أن ما ذكروه مبنى على وجوب رعاية الغرض فى فعل الله ـ تعالى ـ وهو ممتنع على ما سبق (٤).

وعن الثامنة :

أن البعثة تتضمن التكليف وما ذكروه من الوجوه الستة الأول فمبنية على امتناع التكليف بما لا يطاق ، ووجوب رعاية الفائدة والغرض فى فعل الله ـ تعالى ـ وقد عرف بطلانه (٥).

__________________

(١) انظر ما سبق فى الجزء الأول ل ١٨٦ / أوما بعدها ص ١٥١ وما بعدها من الجزء الثانى.

(٢) انظر ما سبق فى الجزء الأول ل ١٩٤ / ب وما بعدها ص ١٧٥ وما بعدها من الجزء الثانى.

(٣) انظر ما سبق فى الجزء الأول ل ١٨٦ / أوما بعدها ص ١٥١ وما بعدها من الجزء الثانى.

(٤) انظر ما سبق فى الجزء الأول ل ١٨٦ / ب وما بعدها ص ١٥١ وما بعدها من الجزء الثانى.

(٥) انظر ما سبق فى الجزء الأول ل ١٩٤ / أوما بعدها ص ١٧٥ وما بعدها من الجزء الثانى.

٥٢

وما ذكروه من الوجه السابع ؛ فمندفع من جهة أن التكليف إنما يكون فى الحال بالفعل فى ثانى الحال ولا إحالة فيه ، ولا يلزم منه التكليف بتحصيل الحاصل.

وإنّما يلزم منه الجمع بين الوجود والعدم على ما / لا يخفى.

كيف وأنّ ما ذكروه لازم على احداث الفعل. وكل ما هو جواب عن أصل الإحداث ؛ فهو جواب عن التكليف بالإحداث.

وعن التاسعة : من وجهين :

الأول : أن ما ذكروه فمبنى على رعاية الحكمة ، وتحسين العقل وتقبيحه ؛ وقد سبق فساده (١).

الثانى : أن ما أحالوه من أحكام الشرع قد التزموا أضعافه بحكم العقل ؛ وذلك لحكمهم عقلا بايجاب النظر فى كل ما يدرك بالعقل مع ما يلزمه من المكابدة ، والمشقّة فى ترتيب الأدلة واستخلاص جهة الدلالة وشدّة الفكر فى دفع الشّبهة المضلة ، والتزامهم بقليل الأغذية ، وتحريم اللحوم ، ولذّة الجماع ، وحسّنوا من الله ـ تعالى ـ بعقولهم ما يحل بالعبيد من الأمراض ، والآلام ، وايلام البهائم والأطفال ، وابتلاء الخلق ، وامتحانهم بنقص الأموال ، والأنفس ، وخلق الحشرات المضرة ، والهدم ، والزلازل ، والخسف ، والطوفانات المهلكة ، إلى غير ذلك مما البارى ـ تعالى مستغن عنه وضرره أكثر من نفعه.

وعند ذلك فما هو جواب لهم فى حكمة العقل بهذه الأشياء ؛ هو جواب عن حكمة الشرع فيما التزموه من الصور.

وعن العاشرة : من وجهين : ـ

الأول : أن ما ذكروه أيضا مبنى على [وجوب] (٢) رعاية الحكمة فهو باطل (٣).

الثانى : أنّه اذا أعلمه بأنه سيبقى حتى يكون اغراء له بالزلل إذا كان معصوما ، أو إذا لم يكن ، الأول : ممنوع ، والثانى : مسلم والأنبياء معصومون على ما سيأتى (٤).

__________________

(١) انظر ما سبق فى الجزء الأول ل ١٧٤ / أوما بعدها ص ١١٧ وما بعدها من الجزء الثانى.

(٢) ساقط من (أ)

(٣) انظر ما سبق ل ١٨٦ / ب وما بعدها ص ١٥١ وما بعدها من الجزء الثانى.

(٤) راجع ما سيأتى ل ١٦٩ / أوما بعدها ص ١٤٣ وما بعدها من الجزء الرابع.

٥٣

وعن الحادية عشرة : من ثلاثة أوجه :

الأول : ما المانع أن يكون نصب الدليل العقلى على القضية الشرعية غير مقدور ، وما لا يكون من قبيل المقدورات ؛ فلا يكون معجوزا عنه ؛ لاستحالته.

الثانى : وإن كان مقدورا ؛ ولكن لا نسلم وجوبه ؛ لأنّا بيّنا أنه لا يجب على الله ـ تعالى ـ شيء (١).

الثالث : وإن أمكن أن يقال بالوجوب ؛ لكن فيما علم الله المصلحة فيه ، وما المانع أن يكون الله ـ تعالى ـ قد علم أن مصلحة / / العبيد فى تعريفهم القضايا الشرعية بالسمع ، وأنه لو عرفهم إياها بالأدلة العقلية لفسدوا.

وعن الثانية عشرة :

أن ما ذكروه مبنى على التناسخ ؛ وسيأتى إبطاله (٢) ، وبتقدير تسليم التناسخ جدلا ؛ فالعقل غير كاف فى معرفة الأحوال التى هى مناط السّعادة ، والشّقاوة فى الحال ، والمآل ؛ إذ الأفعال مما لا تقبح ولا تحسن لذواتها كما أسلفناه حتى يستقلّ العقل بإدراك الصالح والفاسد منها ؛ بل لعل العقل قد يقبح ما المصلحة فيه ، ويحسن ما المفسدة فيه ؛ فلا بد من معرف / ومرشد يستأثر بمعرفة ما لا يستقل العقل بادراكه ، وليس ذلك إلا الله ـ تعالى ـ ومن اصطفاه الله بالتعريف والوحى.

كيف وأن العبد إذا انتهى إلى العالم العلوى أو السفلى جزاء على فعله ، مما يفعله فى حال خسّته ، أو فى حال رفعته مما يوجب اقتضاء زيادة فى حالة يبقى لا مقابل له ؛ لانتهائه فى درجة الثواب إلى ما لا درجة بعدها ، وكذلك فى حالة خسّته وذلك مما يفضى بهم إلى تعطيل [طاعة] (٣) من هو فى الدرجة العلى عن الثواب ومعصية من هو فى الدرجة السفلى عن العقاب ؛ وذلك مما يقبح على موجب أصولهم.

وعن الثالثة عشرة :

القائلة أنه لا طريق إلى معرفة صدقه ، ليس كذلك ؛ بل كما كان قادرا على تعريف

__________________

(١) انظر ما مر فى الجزء الأول ل ١٨٦ / ب وما بعدها ص ١٥١ وما بعدها من الجزء الثانى.

/ / أول ل ٧٧ / أ.

(٢) انظر ما سيأتى ل ١٩٨ / أو ما بعدها.

(٣) ساقط من أ.

٥٤

الخلائق بسر ربوبيته ، وتصديقهم بوجوده وإلهيته قادر على أن يعرفهم صدق من اصطفاه لرسالته واجتباه لحمل أمانته ، إما بأن يخلق لهم بذلك العلم الضرورى أو بالإخبار عن كونه رسولا كما قال ـ تعالى ـ فى حق آدم للملائكة (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (١) ويكون علمهم بكونه خبر الله كعلم الرسول به كما تقدم تعريفه فى أول الجواب ، ولا يلزم من تصور الخطاب من المرسل الاستغناء عن الرسول ؛ إذ هو حجر وتحكم على الحاكم فى مملكته ، ولعل ذلك لا لحكمة ؛ إذ هى غير واجبة المراعاة فى أفعال الله كما عرف. أو أنه لحكمة قد استأثر الرب ـ تعالى ـ بعلمها وحده ، وقد يمكن التعريف بصدقه باظهار المعجزات على يده بحيث تذعن العقول السليمة بتصديقه ، وقبول قوله.

قولهم : خرق العوائد ممتنع ليس كذلك ، وأن خلق السموات والأرض وما بينهما من الحيوانات وأنواع النباتات أعجب من كل خارق يدّعى ، ومع ذلك فالرب ـ تعالى ـ كان قادرا عليه ، ومخترعا له ؛ فلأن يكون قادرا على ما دونه أولى وإلا كان عاجزا عنه ؛ وهو محال مع قدرته على ما هو أغرب منه. كيف وأن انفطار السماوات ، وانتثار الكواكب (٢) [وغير ذلك من أعظم الخوارق للعادة ، وكل ذلك جائز ؛ لأن وجود السماوات والكواكب] (٢) من الجائزات وكل ما كان جائز الوجود ؛ فهو جائز العدم ؛ وما كان جائزا لا يكون ممتنعا.

وأيضا : فإنا سنبين وقوع ذلك فى الأصل الرابع (٣).

وعن الرابعة عشرة :

القائلة بأن الصادر عنه من فعله : أنا قد بينا فى خلق الأعمال أنه لا موجد ولا مؤثر إلا الله ـ (٤) تعالى ـ.

وبه اندفاع الخامسة عشرة أيضا.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٣٠.

(٢) ساقط من (أ)

(٣) انظر ما سيأتى ل ١٨٦ / أو ما بعدها ص وما بعدها من الجزء الرابع الأصل الرابع : فى إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) انظر ما مر فى الجزء الأول ل ٢١١ / ب وما بعدها ص ٢٢٩ وما بعدها من الجزء الثانى ـ الأصل الثانى : فى أنه لا خالق إلا الله ـ تعالى ـ ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه.

٥٥

وعن السادسة عشرة :

أن السحر وإن أنكره معظم القدرية غير أن أهل الحق معترفون به ، ومع ذلك فالحق أن يقال : السحر لا يخلو : إما أن ينتهى إلى حد المعجزة : كفلق البحر ، وإحياء الميت ، وإبراء الأكمة ، والأبرص كما هو مذهب جميع / العقلاء ، أو أنه لا ينتهى إلى حد الإعجاز.

فإن كان الأول : فقد تحقق الفرق بين السحر ، والمعجزة

وإن كان الثانى : فإما أن لا يتحدى معه الساحر بالنبوة ، أو يتحدى.

فإن لم يتحدّ ؛ فقد تم الفرق أيضا.

وإن تحدّ بالنبوة فعندنا أنه لا بد من أحد أمرين : وهو إما أن لا يخلقه الله ـ تعالى ـ على يده ، فإنا بينا أنه لا خالق إلا الله ـ تعالى ـ وإما أن يخلق مثله على يد غيره معارضا له ، وإلا كان خلقه على يده مع تحديه بالنبوّة ، وإعجازه من غير معارضة منزل منزلة التصديق من الله تعالى ـ له ؛ وهو محال مع كذبه.

وبه يخرج الجواب عن السابعة عشرة أيضا.

وعن الثامنة عشرة :

أن الدّال على صدقه هو الخارق ؛ وذلك ليس من فعله ، ودعوى النبي وان كانت من فعله وهو شرط فليست خارقة ، ولا هى من دليل الصدق فى شيء.

وعن / / التاسعة عشرة :

القائلة بأن ذلك من فعل بعض الملائكة أو الجنّ ، أو مستندا إلى الاتصالات الكوكبية ؛ فما بيناه فى خلق الأفعال من أنه لا خالق غير الله تعالى (١).

وعن العشرون : ـ

القائلة أن المعجز مشروط بشرط مجهول أن يقول : ما ذكروه يجر إلى الجهل بما هو بين ومعتاد : كرىّ الشّارب وشبع الآكل ، وما يجرى فى العالم من الأمور المستمرة من

__________________

/ / أول ل ٧٧ / ب.

(١) انظر ما مر ل ٢١٢ / أوما بعدها ص ٢٣٢ وما بعدها من الجزء الثانى.

٥٦

الحركات والسكنات (١) [وغير ذلك وبين ما هو من الخوارق للعادة : كإحياء الموتى وفلق البحر ، وابراء الأكمه ، والأبرص] (١) وغير ذلك من الأمور التى ليست معتادة مع أن كل عاقل يميز بعقله ضرورة بين القسمين ، وكل تشكيك ورد على المعلوم ضرورة ؛ فلا يكون مقبولا. ثم يلزم على ما ذكروه إخبار الجمع المفيد لليقين. واخبار الجمع الّذي لا يفيد اليقين ؛ فإن كل عاقل يعلم من نفسه التفرقة بحصول العلم الضرورى من إخبار جماعة عما شاهدوه ، ولا يجد من نفسه ذلك فى جمع آخرين ، ولو أراد تمييز عدد الجماعة الذين يحصل العلم الضرورى بخبرهم عن عدد الجماعة الذين لا يحصل ذلك بخبرهم ؛ لم يجد إليه سبيلا ؛ فما هو الجواب لهم هاهنا ؛ فهو الجواب لنا فى موضع الخلاف.

وعن الحادية والعشرون :

القائلة بجواز اطراده فيما تقدم من الأعصار ، أو فى بعض الأمصار أنه وإن أمكن ذلك عقلا ؛ فهو مع بعده ، وعدم نقله لا يمنع أن يكون ما أتى به الرسول خارقا للعادة بالنسبة إلى عصره وبالنسبة إلى قطره مع الذين تحدى به عليهم ؛ فإن طرد العادة بشيء بالنسبة إلى بعض المخلوقات لا يمتنع من كونه خارق للعادة بالنسبة إلى بعض أخر.

وعن الثانية والعشرين :

القائلة بجواز اطراد [(٢) الخارق وجواز بعثة رسل متوالية بآية واحدة.

أما جواز اطراد الخارق] (٢) فقد منع بعض المتكلمين منه / لظنه أن ذلك مما يجر إلى إبطال النبوات وليس كذلك ؛ فإنه وإن استمر واطرد ؛ فلا يخفى أن خرق العادة ، وطرد ما ليس بمعتاد من أعظم الخوارق للعادة ؛ فلا يمتنع أن يكون ابتداؤه ، ودوامه معجزا ، وبتقدير أن يكون فى جانب اطراده غير خارق ؛ فلا يخفى أن ابتداءه ، ودوامه معجزا ، وبتقدير أن يكون فى جانب اطراده غير خارق ؛ فلا يخفى أن ابتداءه بالنسبة إلى الحالة المتقدمة خارق ؛ والتحدى إنما وقع بالابتداء الخارق ، لا بما هو مطرد ، وليس بخارق اللهم إلا أن تكون دعواه ظهور الخارق من غير اطراد ؛ فإنه إذا ظهر الخارق واطرد لا يكون دليلا على صدقه.

__________________

(١) من أول [وغير ذلك ..... وابراء الأكمه والأبرص] ساقط من (أ).

(٢) من أول (الخارق ..... اطراد الخارق) ساقط من (أ).

٥٧

وأما بعثه رسل متوالية بآيات :

فلا يخلو إما أن تكون آية الكل واحدة ، أو مختلفة بأن تكون آية كل واحد مخالفة لآية الأخر.

فان كان الأول : فما كان منها يعد نادرا خارقا للعادة فى العرف ؛ فهو آية ، وإن كان متكررا أو ما خرج منه إلى حد الاعتياد ، والخروج عن الندرة ؛ فليس بآية.

فإن قيل : وبما ذا يعرف النادر من المعتاد مع التكرر ؛ فجوابه ما سبق فى الشبهة المتقدمة.

وان كان الثانى : فالذى إليه ميل أكثر الأصحاب أن كل واحدة منها آية خارقة للعادة ، ولا أثر لوجود باقى المعجزات السابقة فى خروج المتأخر منها عن كونه خارقا للعادة فى جنسه ضرورة الاختلاف ، والّذي اختاره القاضى أبو بكر أن ما كان من التكرار غير موجب لأنس النفوس باعتياد خرق العادات ؛ فهو آية.

وما كان موجبا لذلك بحيث لا يستبعدون معه حدوث شيء من الخوارق ؛ بل صار خرق العوائد عندهم معتادا ؛ فلا يكون آية ؛ وهذا هو الأسدّ.

فإن قيل : إذا كان توالى الآيات ممتنعا ؛ فيلزم من ذلك امتناع تواتر الرسل ضرورة افتقار كل رسول إلى آية ؛ وهو خلاف نص الكتاب والأخبار التى لا ريب فيها عندكم :

أما الكتاب : فقوله تعالى (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) (١).

وأما الأخبار : فما روى أن الله ـ تعالى ـ أرسل إلى أصحاب الرسّ [ثلاثين (٢)] نبيا فى ثلاثين يوما ؛ فقتلوهم ؛ فلزم منه القدح فى النبوّات حيث انكم اعترفتم بأن الله ـ تعالى ـ بعث من زمن آدم إلى أن بعث محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبى ، ولو وزعوا على الأزمان فيما بين آدم ومحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لكانوا فى / / حد التواتر.

وجوابه على رأى القاضى : أنه [(٣) وإن جاز تواتر الأنبياء وكان ذلك واقعا فليس يلزم من ذلك تواتر الآيات بتواتر الأنبياء إذ الآيات ليست للأنبياء ؛ بل للرسل. والرسل] (٣)

__________________

(١) سورة المؤمنون ٢٣ / ٤٤.

(٢) ساقط من أ.

/ / أول ل ٧٨ / أ.

(٣) من أول (وإن جاز تواتر الأنبياء ... الخ والرسل) ساقط من (أ).

٥٨

على ما قال ـ عليه‌السلام «المرسلون ثلاثمائة وخمسة عشر رسولا (١)» وليس كل رسول له آية ؛ بل جاز أن تكون الآية للبعض وهو مصدق لمن يأتى من بعده ، وعلى هذا فلا يلزم منه تواتر الآيات ، ولا القدح فى النبوات.

وعن الثالثة والعشرين :

القائلة بجواز ظهور / الكرامات على أيدى الأولياء فنقول قد اختلف المتكلمون فى ذلك :

فذهب أكثر المعتزلة : إلى إنكار ذلك.

والّذي عليه مذهب أهل الحق من الأشاعرة : جوازه ؛ لما سبق فى الاعتراض من الأدلة وإبطال شبه المنكرين ، ووافقهم على ذلك أبو الهذيل (٢) ، وعباد الصيمرى (٣) ثم اختلف أصحابنا.

فذهب الأستاذ أبو إسحاق (٤) : إلى أن الكرامات الظاهرة على أيدى الأولياء ؛ لا تبلغ مبلغ المعجزات الخارقة للعادة تفرقة بينها ، وبين المعجزات.

وذهب الباقون : إلى جواز ذلك. ثم اختلف هؤلاء :

فمنهم من قال إن الكرامات لا تقع مع القصد ، والاختيار ؛ بل لو قصد الولى إيقاعها ؛ لما وقعت ؛ تفرقة بينها ، وبين المعجزات.

وذهب الأكثرون منهم إلى جواز وقوعها مع الاختيار. ثم اختلف هؤلاء فى جواز وقوعها مع الدعوى من الولى.

فذهب الأكثرون : إلى المنع من ذلك ؛ تفرقة بينها وبين المعجزات.

وقال القاضى أبو بكر : ذلك غير ممتنع فى العقل ؛ لكن بشرط ألا يكون ادعاؤه لذلك على طريق التعظيم ، والخيلاء ؛ فان ذلك ليس من شعار الأولياء ، والصالحين ، والفرق مع ذلك بين المعجزات والكرامات ، هو أن المعجزات مع دعوى النبوة ، والكرامة

__________________

(١) فى نسخة ب (المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولا)

(٢) سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل ٧٢ / ب.

(٣) سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل ٦٤ / ب.

(٤) سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل ٥ / أ.

٥٩

مع دعوى الولاية ، ولا منافاة. وعلى كل تقدير ومذهب ؛ فالفرق بين الكرامات والمعجزات واضح ، وقد اتفق الكل على امتناع تسمية الكرامات معجزات ، وعلى تخصيص هذا الاسم بآيات الأنبياء ؛ لما فيها من تعجيز الذين معهم التحدى عن المقابلة بمثلها بخلاف الكرامات ؛ إذ لا تحدى فيها.

وعن الرابعة والعشرين :

القائلة بأن ما لا يكون مقدورا ، لا يكون معجوزا عنه ؛ على ما سبق فى الأصل الثانى فى بيان المعجزات (١).

وعن الخامسة والعشرين :

القائلة بأن حركة الملك بحكم الاتفاق بناء على سبب آخر.

فانا نقول : كل من يشاهد الصورة على الوجه المفروض حصل له العلم الضرورى بالتصديق عادة ، واحتمال سبب آخر عقلا غير قادح فى ما حصل من العلم الضرورى العادى ، وهذا كما أنا نقطع ، ونعلم علما ضروريا بالنظر إلى العادة أنّ من كان من أرباب المروءات ، وواجهه بعض الناس فى مجلس حفل بالسّب ، والسّفه عليه ؛ فرأيناه وقد أصفر وجهه ، وادورت عيناه ، وتغيّرت أحواله ؛ أنه قد غضب وإن احتمل عقلا أن يكون ذلك بسبب آخر من تغيّر مزاج ، وانصباب خلط إلى غير ذلك.

قولهم : يحتمل أن يكون كاذبا فى تصديقه. /

قلنا : نحن لم نستدل بما فرضناه من الصورة على كون الملك صادقا فيما يعرض منه فى التصديق ؛ بل على أنه مصدق لا غير.

وعن السادسة والعشرين :

أن العلم الضرورى فى مثل الصورة المفروضة واقع ، وإن كانت عادة الملك المفروض مخالفة لعادة غيره من الملوك.

__________________

(١) انظر ما مر فى الأصل الثانى ل ١٣٠ / أص ١٥ وما بعدها من الجزء الرابع.

٦٠