أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0327-1
الصفحات: ٣٩٨

وامتناعه سمعا. وذهب بعض البغداديين من أتباع الكعبى : إلى امتناع ذلك عقلا وسمعا. هذا تفصيل المذاهب.

وأما الرد على المرجئة : فمن ثلاثة أوجه :

الأول : هو أنّ الزّلات الصّادرة عن المؤمن محرمات منعوتة بالقبح. ملام على فعلها ، مذموم عليها بالإجماع من المسلمين ومن المرجئة ، وما هذا شأنه فلا يمتنع فى العقل التواعد عليه ، واستحقاق العقاب به ؛ ولهذا كانت مقتضية لذلك قبل الإيمان بالإجماع ، ووجود الإيمان معها إن لم يكن مؤكدا لذلك ؛ فلا يكون مانعا ، فإنّ زلة العالم بالله ـ تعالى ـ المختص بكمال نعم الإيمان عليه تكون أفحش فى العرف والعقل ، من زلّة غيره ، فكانت أولى باستحقاق العقاب ، وإليه الإشارة بقوله تعالى ـ : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) (١) وليس ذلك إلا لاختصاصهنّ بالمعرفة ، وكمال النّعمة بالقرب من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

الوجه الثانى : ويخصّ المنكرين لاستحقاق العقوبة فى الدّنيا ، والأخرى ، وهو أن يقال : المسلم إذا زنى ، أو سرق ، أو شرب الخمر ؛ فإنّه يقام عليه الحدّ بالإجماع.

وعند ذلك : فإما أن يقال إنّ الحدّ عقوبة على ما صدر عنه ، أو لا يقال بذلك.

لا جائز أن يقال بالثانى ؛ لأنه على خلاف إجماع المسلمين ، ونصوص الكتاب ، والسنّة ؛ وذلك كما فى قوله ـ تعالى ـ : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ) (٢) وكقوله ـ تعالى فى حقّ الزّناة (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣).

فإن كان الأول : فهو المطلوب.

الثالث : وهو أيضا يخص مذهب المنكرين لاستحقاق العقوبة مطلقا :

أنّه ملام ، مذموم على المعصية بالإجماع ، والذم ، واللوم نوع من العقوبة ؛ إذ لا معنى للعقوبة إلا ما يتضرر بها ، واللوم ، والذّمّ ممّا يتضرر به كل عاقل ؛ فكان عقوبة.

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ / ٣٠.

(٢) سورة المائدة ٥ / ٣٨.

(٣) سورة النور ٢٤ / ٢.

٣٦١

فإن قيل : ما ذكرتموه ، وإن دلّ على استحقاق العقوبة غير أنّه معارض من جهة السمع بما يدلّ على عدمه ، ودليله قوله ـ تعالى ـ : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ* قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) (١) وذلك يدل على أنّ كلّ من يدخل النار ؛ فإنه يكون مكذّبا للرّسول ، والمؤمن غير مكذب للرسول ؛ فلا يدخل النّار.

وأيضا قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٢) والمؤمن غير مكذب ؛ فلا يكون معذبا.

وأيضا قوله ـ تعالى ـ : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى* لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى* الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٣) والمؤمن غير مكذّب فلا يدخل النّار.

وأيضا قوله ـ تعالى ـ : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (٤) غير أنّه قد خص بالكافر ، فيبقى فيما عداه على العموم. وأيضا : قوله ـ تعالى ـ : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (٥) دلّ على أنّ المجازاة لا تكون إلا للكفور ، وصاحب الكبيرة ، ليس بكافر (١٣) بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) (٦) سماهم مؤمنين حالة كونهم بغاة.

وأيضا فإنّ صاحب الكبيرة وإن لم يتب عنها مؤمن ؛ لما ذكرناه فلو دخل النار ، كان مخزيا لقوله ـ تعالى ـ : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) (٧) والمؤمن غير مخزى لقوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ / وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) (٨) وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) (٩) ولقوله ـ تعالى ـ : حكاية عن المؤمنين (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) (١٠) وقوله ـ تعالى ـ : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) (١١).

وأيضا قوله ـ تعالى ـ : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ* ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ* وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ* تَرْهَقُها قَتَرَةٌ* أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (١٢). حكم على أرباب الوجوه

__________________

(١) سورة الملك ٦٧ / ٨ ، ٩.

(٢) سورة طه ٢٠ / ٤٨.

(٣) سورة الليل ٩٢ / ١٤ ، ١٥ ، ١٦.

(٤) سورة الزمر ٣٩ / ٥٣.

(٥) سورة سبأ ٣٤ / ١٧.

(٦) سورة الحجرات ٤٩ / ٩.

(١٣) أول ل ١٢٨ / ب.

(٧) سورة آل عمران ٣ / ٩٢.

(٨) سورة التحريم ٦٦ / ٨.

(٩) سورة النحل ١٦ / ٢٧.

(١٠) سورة آل عمران ٣ / ١٩٤.

(١١) سورة آل عمران ٣ / ١٩٥.

(١٢) سورة عبس ٨٠ / ٣٨ ـ ٤٢.

٣٦٢

المغبرة المقترة ؛ بأنهم أرباب العذاب بالكفر ، وصاحب الكبيرة ليس كافرا ؛ لما تقدّم (١) ؛ ولما يأتى فيما بعد (٢).

وأيضا : قوله تعالى (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (٣) فإنّه يعمّ كلّ ظالم ، سواء تاب ، أو لم يتب ؛ غير أنه قد خصّ بالكفار ؛ فوجب العمل به فيما سواهم.

والجواب : هو أن ما ذكروه إنما يصحّ الاستدلال به ، أن لو ثبت لهم العموم فى كل واحد من النصوص المذكورة ، وهو غير مسلم ، وبتقدير التسليم لذلك ؛ فيجب اعتقاد التّخصيص فى كل واحد منهما جمعا بينه ، وبين ما ذكرناه من الدليل.

كيف : وأن ما ذكروه من النّصوص معارضة بنصوص أخرى تدلّ على مناقضة ما ذكروه من جهة الكتاب ، والسنة.

أما من جهة الكتاب : فقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ* وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٤).

وقوله تعالى : ـ (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (٥) وقوله تعالى : ـ (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (٦) وقوله تعالى : ـ (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (٧) وقوله تعالى : ـ (فَأَمَّا مَنْ طَغى * وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) (٨) وقوله تعالى : ـ (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٩) وقوله تعالى : ـ (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) (١٠) وقوله تعالى : ـ (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (١١) وقوله تعالى : ـ (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (١٢) وذلك يدل على وقوع عقابهم فى الجملة.

__________________

(١) انظر ما سبق ل ٢٢٦ / أمن هذا الفصل

(٢) انظر ما سيأتى فى القاعدة السابعة ل ٢٤٠ / ب وما بعدها.

(٣) سورة الرعد ١٣ / ٦.

(٤) سورة الأنفال ٨ / ١٥ ، ١٦.

(٥) سورة طه ٢٠ / ٧٤.

(٦) سورة طه ٢٠ / ١١١.

(٧) سورة الأنعام ٦ / ١٦٠.

(٨) سورة النازعات ٧٩ / ٣٧ ـ ٣٩.

(٩) سورة الزلزلة ٩٩ / ٨.

(١٠) سورة مريم ١٩ / ٨٦.

(١١) سورة مريم ١٩ / ٧٢.

(١٢) سورة فاطر ٣٥ / ٤٥.

٣٦٣

وقوله تعالى : ـ (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١) الآية. وقوله تعالى : ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (٢) إلى غير ذلك من الآيات.

وأما من جهة السنة : فلقوله عليه‌السلام : من غصب شبرا من أرض طوّقه من سبع أرضين يوم القيامة (٣).

وقوله عليه‌السلام «من كان ذا لسانين ، وذا وجهين كان فى النّار ذا لسانين وذا وجهين (٤)» إلى غير ذلك من الأخبار ،

وإذا تعارضت النصوص ، سلم لنا ما ذكرناه من المعقول.

وأما الردّ على المنكرين لجواز الغفران عقلا : فمن جهة السمع ، والعقل :

أما من جهة العقل : فهو أن العفو والصفح عن مستحق العقوبة محمود بين / العقلاء ، ومعدود من المكارم ، والمعالى ، وصفات الكمال ، والمدح ، ولذلك ندب الشارع إليه بقوله تعالى : ـ (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) وقوله تعالى : ـ (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (٦) ، وإذا كان ذلك من مستحسنات العقول ، والشّرع ممن ينتفع ، ويتضرّر ويحصل له التشفي ، والانتقام ، ودفع أضرار الغيظ بالعقوبة ، واستيفائها ، فاستحباب ذلك من الله ـ تعالى ـ مع تعاليه عن الضّرر ، والانتفاع ، والتّشفى ، والانتقام أولى ، وما هذا شأنه فكيف يكون ممتعا؟

وأما من جهة السمع : فلقوله تعالى : ـ (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٧) وهو صريح فى المطلوب.

__________________

(١) سورة المطففين ٨٣ / ١.

(٢) سورة النساء ٤ / ١٠.

(٣) رواه مسلم فى صحيحه ١١ / ٤٨ وما بعدها ـ كتاب المساقاة ـ باب تحريم الظلم ، وغصب الأرض ، وغيرها.

بروايات متعددة منها : عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضى الله عنه : أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوّقه الله إيّاه يوم القيامة من سبع أرضين».

(٤) ورد فى كتاب الترغيب والترهيب للمنذرى ٣ / ٦٠٤ باب ترهيب ذى الوجهين ، وذى اللسانين.

(٥) سورة التغابن ٦٤ / ١٤.

(٦) سورة البقرة ٢ / ٢٣٧.

(٧) سورة النساء ٤ / ٤٨.

٣٦٤

وقوله تعالى : ـ (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (١) وقوله تعالى : ـ (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) (٢) وقوله تعالى : ـ (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣) وقوله تعالى : ـ (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٤) وقوله تعالى : ـ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (٥) وقوله تعالى : ـ (غافِرِ الذَّنْبِ) (٦) وقوله تعالى : ـ (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) (٧) (١٢) وقوله تعالى : ـ (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) (٨) وقوله تعالى : ـ (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (٩).

وأيضا : فإنّ الأمة مجمعة على ثبوت الشّفاعة للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والنّصوص دالّة عليه كقوله عليه‌السلام : «ادخرت شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى» (١٠).

وقوله عليه‌السلام فى أثناء حديث مطول : «إذا كان يوم القيامة أخرّ ساجدا بين يدى ربّى فيقول لى يا محمد : ارفع رأسك ، وسل تعط ، واشفع تشفع.

فأقول يا رب أمتى أمتى : فيقول لى انطلق فمن كان فى قلبه مثقال شعيرة من إيمان فأخرجه ؛ فانطلق وأخرجه ، ثم أسجد ثانية ، وثالثة فإذا كانت الرابعة ، قلت يا رب أتأذن لى فيمن قال لا إله إلا الله :؟ فيقول الرب تعالى : «وعزتى وجلالى لأخرجن منها كل من قال لا إله إلا الله (١١)» وذلك كله دليل على جواز العفو ، والغفران من الله تعالى.

فإن قيل : ما ذكرتموه من الدليل العقلى على جواز الغفران مما يمتنع العمل به لوجهين :

__________________

(١) سورة الشورى ٤٢ / ٣٠.

(٢) سورة الشورى ٤٢ / ٢٥.

(٣) سورة البقرة ٢ / ١٧٣.

(٤) سورة يونس ١٠ / ١٠٧.

(٥) سورة الرعد ١٣ / ٦.

(٦) سورة غافر ٤٠ / ٣.

(٧) سورة الكهف ١٨ / ٥٨.

(٨) سورة نوح ٧١ / ١٠.

(١٢) أول ل ١٢٩ / أ.

(٩) سورة الزمر ٣٩ / ٥٣.

(١٠) هذا الحديث صحيح بطرقه ، وشواهده. رواه الإمام أحمد فى المسند ٣ / ٢٣٠ وأبو داود رقم (٤٧٣٩) فى السنة ـ باب فى الشفاعة ، وصححه ابن حبان فى صحيحه رقم (٢٥٩٦) ، والحاكم فى المستدرك ١ / ٦٩.

(١١) هذا الحديث متفق عليه رواه البخارى ، ومسلم فى صحيحيهما عن أبى هريرة رضى الله عنه ـ وقد ذكر الآمدي بعضه فقط للاستشهاد والحديث بتمامه فى البخارى ومسلم ، وكثير من كتب الحديث. فتح البارى بشرح صحيح البخارى ٨ / ٢٤٧ كتاب : التفسير ـ باب : ذرية من حملنا مع نوح. وصحيح مسلم ـ كتاب الإيمان ـ باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها حديث رقم ١٩٤ والترمذي رقم (٢٤٣٦) فى صفة القيامة : باب ما جاء فى الشفاعة.

ومسند أحمد بن حنبل ٢ / ٤٣٥ ، ٥٤٠ من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.

٣٦٥

الأول : أنّه لو جاز العفو. فما من أحد إلا ويحدث نفسه بجواز العفو عنه ، والصفح عن ذنبه ؛ وذلك مما يسهل عليه الإقدام على المعصية ، وهو إغراء من الله ـ تعالى ـ للعبد بالمعصية. والإغراء بالمعصية قبيح ؛ وهو مستحيل فى حق الله ـ تعالى.

الثانى : أنّه إذا جاز العفو. فإما : أن يدخله الجنّة ، أو لا يدخله الجنة ـ الثانى / خلاف الإجماع وإن أدخله الجنة ؛ فيلزم من ذلك أن يكون التفضل ، مساويا للثّواب ؛ وهو ممتنع لما سبق.

كيف وأن ما ذكرتموه ينتقض بوصف الذّم فإنه عقوبة ، ومع ذلك فإنه لا يسقط بإسقاط المستحق ، وينتقض بكثير من الحقوق الثابتة ؛ فإنها لا تسقط بإسقاط المستحق لها : كالثواب المستحق للعبد.

فإنه لا يسقط بإسقاطه ، وكذلك شكر المنعم ؛ فإنه حق له ، ولا يسقط بإسقاطه.

وأما قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١). لا نسلم صيغة العموم فى قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ولهذا يصح أن يقال كل ما دون ذلك أو بعضه ، فلو كانت للعموم ؛ لما حسن هذا الاستفسار.

وإن سلمنا العموم ، غير أنه يجب حمله على حالة التوبة ، على الصغائر وهو إن كان على خلاف الظاهر ؛ غير أنه محتمل ، وقد تأيد بالدليل العقلى على ما ذكرنا (٢) ، وبما سيأتى من الأدلة السمعية عن قرب (٣).

سلمنا تناوله للكبيرة فى غير حالة التوبة ، غير أنه لا يدل على ذلك مطلقا ؛ بل مشروطا بالمشيئة لقوله تعالى (لِمَنْ يَشاءُ) وذلك يتوقف على وجود المشيئة ؛ فلم قلتم بوجودها فيما نحن فيه؟.

سلمنا وجوب وجود المشيئة غير أن المغفرة قد تطلق بمعنى إسقاط العقوبة ، وقد تطلق بمعنى تأخير العقوبة ؛ وليس الحمل على الإسقاط أولى من التأخير ، وبيان إطلاق المغفرة بمعنى : تأخير العقوبة.

__________________

(١) سورة النساء ٤ / ١١٦.

(٢) انظر ما سبق ل ٢٢٧ / أوما بعدها.

(٣) راجع ما سيأتى ل ٢٢٨ / ب.

٣٦٦

قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (١) والمراد بالمغفرة هنا إنما : هو تأخير العقوبة لا إسقاطها ؛ لأن الآية وردت فى حق الكفار ، والعقوبة غير ساقطة عنهم إجماعا.

ويدل عليه أيضا : قوله تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) (٢) وهو صريح فى المغفرة بمعنى : تأخير العقوبة.

سلمنا أن المغفرة ظاهرة فى إسقاط العقوبة ، غير أنه قد اقترن بها ما يدل على إرادة الغفران بجهة تأخير العقوبة.

ودليله قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) إلى قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٣).

ووجه الاحتجاج به أنه خاطب الكفار ، وحذرهم من تعجيل العقوبة على ترك الإيمان بالشرك ثم قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) أى لا يؤخر عقوبة الشرك ؛ بل يعجلها.

وقوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) مقابل لقوله / تعالى : (لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فإذا كان معنى سلب الغفران : تعجيل العقوبة ، فالغفران المقابل له ، يكون بتأخير العقوبة.

سملنا دلالة الآية على المغفرة بمعنى : إسقاط العقوبة. غير أنه أراد به / / إسقاط كل واحد واحد من أنواع العقوبة ، أو جملة العقوبات ، أو بعض أنواعها ،

لا سبيل إلى الأول ؛ لعدم دلالة اللفظ عليه ،

وإن كان الثانى : فلا يلزم من كونه لا يعاقب بكل أنواع العقوبة أن لا يعاقب ببعضها.

وإن كان الثالث : فلا يلزم من إسقاط بعض أنواع العقوبة إسقاط البعض الآخر.

وأما باقى النصوص ؛ فلا نسلم العموم فيها.

__________________

(١) سورة الرعد ١٣ / ٦.

(٢) سورة الكهف ١٨ / ٥٨.

(٣) سورة النساء ٤ / ٤٧ ، ٤٨.

/ / أول ل ١٢٩ / ب.

٣٦٧

وبتقدير التسليم : فيجب حملها على حالة التوبة والصغائر ؛ لما سبق فى النص الأول.

وأما ما ذكرتموه من إثبات الشفاعة ؛ فهو معارض بما يدل على عدمها ، ودليله قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (١) وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) (٢) وقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٣) والفاسق غير مرتضى ، وقوله تعالى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (٤) وقوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٥) وقوله تعالى : (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) (٦) وقوله عليه‌السلام : «لا ينال شفاعتى أهل الكبائر من أمتى» (٧).

سلمنا وجود الشفاعة ؛ غير أنه ليس فى ذلك ما يدل على إسقاط العقوبة ، فإن الشفيع قد يكون فى طلب الخيرات ، كما يقال شفع فلان إلى الملك فى إعطاء بلدة لفلان.

وقد تكون فى طلب دفع السوء ، وإزاحة الضرر : كما يقال : شفع فلان إلى الملك فى إطلاق فلان من الحبس ، والأصل فى الإطلاق الحقيقة. كيف وأن الشفيع مأخوذ من الشفع ، وهو الشبيه ، والشفيع فى الصورتين يصير شفيعا للمشفوع له ، فكان إطلاق اسم الشفيع فى الصورتين حقيقة ، وبتقدير كونه شفيعا فى طلب الخيرات ، وزيادة النعم لا يلزم منه إسقاط العقوبة.

__________________

(١) سورة غافر ٤٠ / ١٨.

(٢) سورة البقرة ٢ / ١٢٣.

(٣) سورة الأنبياء ٢١ / ٢٨.

(٤) سورة الزمر ٣٩ / ١٩.

(٥) سورة البقرة ٢ / ٢٧٠.

(٦) سورة يونس ١٠ / ٢٧.

(٧) راجع سنن الترمذي ـ كتاب صفة القيامة ـ باب ما جاء فى الشفاعة ٤ / ٦٢٥ وقد رد الآمدي على هذه الشبه فيما يأتى ل ٢٣١ / أ.

٣٦٨

سلمنا أن الشفاعة لا تكون إلا لطلب دفع الضرر ، غير أنه يجب حمل ذلك على الصغائر ، وحال التوبة لما سبق (١).

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على العفو والغفران بالنسبة إلى أهل الكبائر من غير توبة ؛ غير أنه معارض بما يدل على نقيضه وهو ما ذكرتموه من نصوص الوعيد ، فى معارضة المرجئة ، والترجيح لآيات الوعيد. من وجهين :

الأول : أن أكثرها خاص بالكبائر ، وآيات الوعيد فعامة / للصغائر ، والكبائر.

والثانى : أن أكثر طباع الناس مجبولة على الشر ، والظلم دون الخير ، فكان احتياجهم إلى شرع الزواجر أولى.

والجواب :

قولهم (٢) : ما ذكرتموه يلزم منه أمر ممتنع.

لا نسلم.

قولهم : يلزم منه الإغراء بالمعصية فهو مبنى على التحسين والتقبيح العقلى (٢). وقد أبطلناه (٣).

وإن سلمنا ذلك : لكنه يلزم منه تقبيح العفو شاهدا ؛ وهو خلاف إجماع العقلاء.

ثم هو منقوض بالتوبة ، فإنهم قالوا بوجوب قبولها ، ولا يخفى أن ذلك مما يسهل على العاصى الإقدام على المعصية أيضا ؛ ثقة منه بالتوبة حسب وثوقه بالغفران ؛ بل أبلغ من حيث إن التوبة مقدورة بخلاف الغفران ؛ فكان يجب أن لا تقبل توبته ؛ لما فيه من الإغراء ؛ وهو خلاف الإجماع.

فلئن قالوا : هو غير واثق بالإمهال إلى التوبة ؛ فهو أيضا غير واثق بالعفو.

قولهم : يلزم أن يكون التفضل مساويا للثواب ؛ فقد سبق جوابه.

قولهم : إنه منقوض بالذم ، ليس كذلك ؛ فإن الذم إما أن لا يكون مستحقا للمسقط ، أو يكون مستحقا له.

__________________

(١) راجع ما سبق ل ٢٢٨ / أ.

(٢) من أول (قولهم : إلى والتقبيح العقلى) ساقط من ب.

(٣) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

٣٦٩

فإن كان الأول : فلا نقض.

وإن كان الثانى : فإما أن يكون من قبيل ما يمكن سقوطه بالإسقاط ، أو لا يكون كذلك.

فإن كان أول : فهو خلاف الفرض.

وإن كان الثانى : فلا يرد نقضا على إسقاط العقوبة ؛ لإمكانه عقلا.

قولهم : ينتقض بالثواب المستحق للعبد على الله ـ تعالى ـ فهو مبنى على إيجاب الثواب على الله ـ تعالى ـ وقد أبطلناه (١). وبتقدير استحقاق العبد للثواب غير أن إسقاطه غير نافع عمن يسقطه عنه وهو الله ـ تعالى ـ ؛ إذ هو متعال عن الإضرار ، والانتفاع بخلاف إسقاط العقوبة عن العبد ؛ نافعة له ولا يلزم من تحسين إسقاط حق نافع للمستحق عليه ، تحسين إسقاط حق غير نافع له.

قولهم : ينتقض باستحقاق الشكر.

ليس كذلك ، فإنه إن أريد بالشكر المستحق إظهار النعمة بالتلفظ ، أو غيره.

فلا نسلم أنه لا يمكن إسقاطه ، وإن أريد به اعتقاد كون المشكور منعما متفضلا ؛ فذلك مما لا سبيل إلى إسقاطه ؛ إذ هو معلوم بالضرورة.

وإن أريد به غير ذلك فلا بد من تصويره ، والدلالة عليه.

قولهم : فى الاعتراض على الآية الأولى لا نسلم صيغة العموم.

قلنا : نحن وإن أنكرنا صيغة العموم ، فلا نمنع من فهم العموم من القرائن كما أسلفنا (٢) وقرينة التعميم هاهنا ظاهرة ؛ لأنه لو لم يكن / / قوله (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) (٣) عام فيما عدا الكفر ، بل كان بعضه مما لا يغفر ؛ لما كان لتخصيص الشرك بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (٤) دون غيره مما لا يغفر فائدة.

__________________

(١) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ١٨٦ / أوما بعدها.

(٢) انظر ما سبق ل ٢٢٨ / أ.

/ / أول ل ١٣٠ / أ.

(٣) سورة النساء ٤ / ٤٨.

(٤) سورة النساء ٤ / ٤٨.

٣٧٠

قولهم : يجب حمله على / حالة التوبة فهو خلاف الظاهر ، وما ذكروه من الدليل العقلى ؛ فقد أبطلناه (١) ، وما يذكرونه من الدليل السمعى ؛ فسيأتى إبطاله (٢).

كيف وأنه يمتنع حمله على حالة التوبة عن الذنب لثلاثة أوجه :

الأول : هو أن العفو ، والغفران حالة التوبة عندهم واجب ، وذلك مما يمتنع تعليقه بالمشيئة عرفا وعادة ، وإن كان واقعا بالمشيئة.

والثانى : أنه فرق فى الآية بين المعصية بالكفر ، وغيره حيث قال تعالى : (لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) وفى حالة التوبة ، فالفرق غير متحقق لا محالة.

الثالث : هو أن المراد من قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) إنما هو غفران التفضل ؛ لأن غفران التوبة واجب عندهم ، فلو كان قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) محمولا على حالة التوبة ؛ لكان الغفران واجبا ، لا تفضلا ، ولا يكون الكلام منتظما كما لو قال القائل : فلان لا يتفضل بدينار ، ولكنه يعطى ما دونه لمستحقه. وهذا بخلاف ما لو قال : فلان لا يتفضل بدينار ؛ لكنّه يتفضل بما دونه.

قولهم : إنه مشروط بالمشيئة.

قلنا : المشروط بالمشيئة نفس الغفران ، أو المغفور له.

الأول ممنوع ، والثانى مسلم.

ولهذا : فإنه لو قال القائل : إنى معط هذا الدينار لمن شئت من هؤلاء الجماعة ، فإن إعطاء الدينار ، يكون مقطوعا به ، غير معلق بالمشيئة بخلاف المعطى.

سلمنا أن المعلق بالمشيئة هو الغفران ؛ غير أن ذلك يدل على جوازه ، وإلا فلو كان ممتنعا لما كان للفرق بينه ، وبين الشرك معنى.

قولهم : المغفرة قد تطلق بمعنى تأخير العقوبة ، وقد تطلق بمعنى إسقاط العقوبة.

قلنا : الحمل على إسقاط العقوبة أولى ؛ لثلاثة أوجه :

__________________

(١) راجع ما سبق ل ٢٢٨ / أوما بعدها.

(٢) انظر ما سيأتى ل ٢٣٠ / أوما بعدها.

٣٧١

الأول : أن المتبادر إلى الأفهام من إطلاق لفظ العفو ، والمغفرة [إسقاط العقوبة] (١) دون تأخير العقوبة ، فإن حمله عليه أظهر ، وأولى ،

الثانى : أنه لو حمل لفظ المغفرة فى الآية على تأخير العقوبة ؛ للزم منه تخصيص قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (٢) ؛ لأن عقوبة الشرك مؤخرة فى حق كثير من المشركين ؛ بل ربما كانوا فى أرغد عيش ، وأطيبه بالنسبة إلى عيشة المؤمن. كما سبق تقريره وألا يفرق فى مثل هذه الصور بين الشرك وما دون الشرك ؛ بخلاف الحمل على إسقاط العقوبة.

الثالث : أن الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين ، لم يزالوا مجمعين على حمل لفظ المغفرة فى الآية على سقوط العقاب / ، وما وقع عليه إجماع الأمة ؛ فهو الصواب ، وضده لا يكون صوابا ، على ما قاله عليه‌السلام : «أمتى لا تجتمع على الخطأ». وقد قررنا ذلك فيما تقدم (٣).

وعلى هذا فقد اندفع قولهم : إن لفظ المغفرة فى الآية قد اقترن به ما يدل على إرادة المغفرة بمعنى تأخير العقوبة.

قولهم : أراد به إسقاط جملة العقوبات ، أو كل واحد ، واحد ، من أنواعها ، أو البعض دون البعض.

قلنا : بل المراد إسقاط كل واحد واحد ، وبيانه أن قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) سلب الغفران. فإذا كان المفهوم من الغفران ، إسقاط العقوبة ؛ فسلب الغفران سلب السلب ؛ فيكون إثباتا ومعناه إقامة العقوبة.

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) سورة النساء ٤ / ٤٨.

(٣) عن الإجماع وحجيته ، وعصمة الأمة عن الوقوع فى الخطأ وإجماعها عليه ، تحدث الآمدي عن هذا الموضوع بالتفصيل فى الأبكار وأستدل على صحة قوله بأكثر من عشرة أحاديث وقال «وهذه أخبار مروية فى الكتب الصحاح منقولة على لسان الثقات لم يوجد لها نكير (انظر ما سبق فى الجزء الأول ل ٢٧ / أوما بعدها) كما ذكر هذه الأحاديث فى كتابة الإحكام ص ١٦٢ وما بعدها مقدما لها بقوله : «وأما السنة : وهى أقرب الطرق فى إثبات كون الإجماع حجة الخ» انظر هامش ل ٢٧ / أوما بعدها من الجزء الأول.

٣٧٢

وعند ذلك : فإما أن يكون المفهوم [من] (١) قوله : (لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) إقامة كل أنواع العقوبات ، أو بعضها ، لا سبيل إلى الأول ، لاستحالة الجمع بين العقوبات المتضادة ، ولأن ذلك غير مشروط فى حق الكافر إجماعا ، فلم يبق إلا الثانى ، ويلزم من ذلك أن يكون الغفران فيما دون الشرك بإسقاط كل عقوبة ، وإلا لما تحقق الفرق بين الشرك ، وما دونه.

وأما ما ذكروه على باقى النصوص من منع العموم ، فمندفع فإنها : إما أن تكون عامة فى نفس الأمر ، أو لا تكون عامة.

فإن كان الأول : فهو المطلوب ، [وإن كان الثانى : فيحتمل أن يكون مدلولها هو نفس محل النزاع ، ويحتمل / / أن يكون غيره] (٢) ، وغير محل النزاع لا يخرج عن حالة التوبة ، والصغائر ، والعفو ، والغفران فى ذلك واجب عندهم ، ومحل النزاع الكبائر من [غير] (٣) توبة وهو متفضل بالغفران فيه ، واحتمال دلالتها على محل النزاع أولى من غيره ؛ لأنها إنما وردت فى معرض الامتنان ، والإنعام بالعفو والغفران ؛ وذلك أولى بحالة التفضل من حالة الوجوب على ما لا يخفى ، وبه يبطل التأويل أيضا.

وأما ما ذكروه من المعارضات لدليل الشفاعة فمندفعة ، أما قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (٤) فلا نسلم أن صيغة الجمع للعموم فإنها قد ترد تارة للاستغراق ، وتارة للخصوص ، وليس جعلها حقيقة فى أحد الأمرين أولى من الآخر ؛ بل جعلها ظاهرة فى البعض أولى ؛ لتيقنه ، والشك فيما زاد ؛ ولأنه يحسن الاستفسار عنها ، هل المراد بها الكل ، أو البعض؟ ولو كانت للعموم ، لما حسن الاستفسار.

__________________

(١) ساقط من (أ).

/ / أول ل ٣٠ / ب.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) ساقط من (أ).

(٤) سورة غافر ٤٠ / ١٨.

٣٧٣

وعلى هذا : فأمكن أن يكون المراد من الظالمين الكفار ؛ فإن الكفار ظلمة على ما قال ـ تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١).

وإن سلمنا العموم غير أنه / يجب حمله على الكفار ؛ ضرورة الجمع بينه ، وبين ما ذكرناه من الدليل ، وربما قيل بموجب هذه الآية من حيث إنها نفت أن يكون فى الآخرة شفيع مطاع ، ولا يلزم من نفى الشفيع المطاع ؛ نفى الشفيع مطلقا ، وهو بعيد من جهة أن الطاعة فى اللغة عبارة عن فعل مراد الطالب.

وسواء كان الطالب مساويا ، أو أعلى أو أدنى ، ولذلك قال عليه‌السلام لابن عباس : «إن أطعت الله أطاعك» : أى إن فعلت ما أراد ؛ فعل ما تريد ، وقد حققنا ذلك فيما تقدم (٢) ، ولو لم يكن فى الآخرة شفيع مطاع ؛ لما كان مراده حاصلا من شفاعته ، وهو خلاف مطلوبنا ، وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) (٣).

فنحن وإن سلمنا جدلا أن العموم له صيغة غير أن الضمير فى قوله تعالى : (وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) إنما هو عائد إلى النفس المذكورة ثانيا ، وهى نكرة ، والأصل فى النكرات الخصوص ، إلا إذا كانت منفية كقولهم : لا رجل فى الدار ، أو نفى عنها شيء كقولهم : ما جاءنى أحد. والنفس المذكورة ثانيا غير منفية ، ولا نفى عنها شيء فتبقى على الخصوص.

وعلى هذا : فيمكن أن يكون المراد منها النفس الكافرة ، ويجب الحمل عليها جمعا بين الدليلين.

فإن قيل : النكرة وإن لم تكن منفية ، ولا نفى عنها شيء إلا أنها إذا كانت متعلقة بما نفى عنه شيء ، فتكون عامة كما لو قال القائل : والله لا شربت ماء من إداوة (٤) ، فإن المنفى : هو الشرب ، والماء محله ، والإداوة عمل المحل ، ومع ذلك فإنه يعم كل إداوة ، حتى أنه يحرم الشرب من أى إداوة كان.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٢٥٤.

(٢) راجع ما تقدم ل ٢٢٧ / ب.

(٣) سورة البقرة ٢ / ١٢٣.

(٤) الإدواة : إناء صغير يحمل فيه الماء (ج) أداوى. [المعجم الوسيط مجمع اللغة العربية ـ الطبعة الثالثة ـ باب الهمزة. ١ / ١٠].

٣٧٤

قلنا : هذا يدل على كون الإداوة مطلقة لا عامة ، وإلا فلو كان اللفظ مقتضيا للعموم فى كل إداوة ، لحرم الشرب من باقى الإداوات ، بعد شربه من واحدة منها ، وليس كذلك.

وقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (١) فهو حقيقة فى ذات المشفوع له. والرضى غير متعلق بذاته ؛ ولهذا فإنه لا يقال رضيت ذات فلان ؛ فلا بد من التجوز ، فكما يمكن التجوز بذلك عمن ارتضى أفعاله ، فيمكن التجوز به عمن ارتضيت الشفاعة له ؛ وليس أحد المجازين أولى من الآخر.

وبتقدير أن يكون المراد منه ، من ارتضيت الشفاعة له ؛ لا يدل على نفى الشفاعة إلا بتقدير عدم الرضا بالشفاعة ، ولا سبيل إلى بيانه فى محل النزاع.

وإن سلمنا وجوب حمل الآية على من ارتضى فعله / فلا نسلم وجوب حمله على كل الأفعال ؛ فإن حمل اللفظ على الفعل ؛ إنما كان ضرورة العمل باللفظ ؛ فيكون حجة فى أقل ما تندفع به الضرورة ، ولا يعم.

وعلى هذا ، فيكون الفاسق المؤمن ، مرضيا بعمله من جهة إيمانه ؛ فلا يكون خارجا عن صورة الاستثناء.

وقوله تعالى (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (٢).

دليل أن من حقت عليه كلمة العذاب أنه لا شفاعة / / فى حقه ، ونحن نقول به ؛ فإن المراد من قوله : (حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) أنه قطع بعذابه ، وذلك عندنا غير متصور فى حق غير الكافر الّذي مات على كفره.

وقوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٣). فجوابها ما سبق فى جواب الآية الأولى ، ويخصها جواب آخر ، وهو القول بالموجب ، فإن المفهوم من النصرة : المدافعة بجهة القهر والغلبة ، ومن الشفاعة : الطلب من جهة الخضوع ، ولا يلزم من نفى

__________________

(١) سورة الأنبياء ٢١ / ٢٨.

(٢) سورة الزمر ٣٩ / ١٩.

/ / أول ل ١٣١ / أ.

(٣) سورة البقرة ٢ / ٢٧٠.

٣٧٥

أحدهما ، نفى الآخر ، وقوله تعالى : (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) (١) فالمفهوم من العاصم هو المانع على طريق القهر والغلبة ، ولا يلزم من نفى ذلك ، نفى الشفيع ؛ لما عرف ، وقوله عليه‌السلام : «لا تنال شفاعتى أهل الكبائر من أمتى».

فقد قيل : إنه مرسل ؛ فلا يكون حجة ، وإن كان حجة ؛ غير أنه أمكن حمله على من كفر من أمته ، وكون تسميته من أمته بطريق المجاز باعتبار ما كان عليه ، كما فى تسمية المعتق عبدا ، ونحوه ويجب حمله عليه جمعا بينه ، وبين ما ذكرنا من الأخبار (٢).

فلئن قالوا : أليس تأويل هذا الخبر بحمله على من كفر من أمته ضرورة إجراء ما ذكرتموه على ظاهره؟.

قلنا : فهذا ممتنع ؛ فإن من تاب عن الكبيرة من المؤمنين ؛ فالعفو عنه واجب عندهم ؛ فلا يحتاج فى كبيرته إلى شفاعة ، وكذلك أن لو حملوه على الصغائر.

قولهم : سلمنا الشفاعة ولكن ليس فى ذلك ما يدل على إسقاط العقوبة.

فقد قيل فى جوابه : إن الشفيع حقيقة فى طالب دفع الضرر بالإجماع ، وليس حقيقة فى طالب جلب النفع ؛ إلا لصح تسمية الواحد من أمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شافعا للنبى عند سؤاله ـ تعالى ـ فى زيادة كرامته ورفع درجته ؛ وليس كذلك بالإجماع ؛ فوجب حمله على الحقيقة دون المجاز ؛ وليس بحق ؛ فإنه إن امتنع إطلاق اسم الشفيع على الواحد من أمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما إذا سأل الله ـ تعالى / الزيادة فى كرامته. فعند ما إذا سأل الله ـ تعالى ـ دفع الضرر عنه : إما أن يقال له شفيع ، أو لا يقال له ذلك.

فإن كان الأول : فالفرق تحكم غير مقبول.

وإن كان الثانى : فكما دل امتناع إطلاق الشفيع على الواحد من الأمة عند طلب الزيادة فى كرامة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن الشفيع ليس حقيقة فى طالب النفع.

__________________

(١) سورة يونس ١٠ / ٢٧.

(٢) رد الإمام الباقلانى على من استشهد بهذا الحديث ووضح أنه من شبه الخصوم فقال : «فصل نذكر فيه شبها لهم يرومون بذلك دفع الأخبار الصحاح المجمع على صحتها فى صحة الشفاعة ... فإن قالوا : هذه الأخبار تعارض بمثلها فإنه قد روى الحسن البصرى وغيره عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «لا تنال شفاعتى أهل الكبائر من أمتى».

فالجواب من وجهين : أحدهما : أن هذا عن الحسن لم يصح ، ولم يرد فى خبر صحيح ولا سقيم ، وإنما هو اختلاق وكذب» [انظر الإنصاف للباقلانى ص ١٦٨ ـ ١٧٦ فقد وضح الموضوع ورد على المخالفين بالتفصيل].

٣٧٦

فامتناع إطلاق الشفيع على طالب دفع الضرر عنه ـ عليه‌السلام ـ يدل على أن الشفيع ليس حقيقة فى طالب دفع الضرر ، وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.

كيف وأنه أمكن أن يقال : بأن حق الشفيع فى العرف أن لا يكون دون المشفوع له فلذلك لم يكن الواحد من أمة النبي شافعا للنبى ، وسواء كان طالبا بجلب نفع ، أو دفع ضرر.

فالحق فى الجواب : أنه وإن كان اسم الشفيع حقيقة فى طالب جلب النفع ، وطالب دفع الضرر غير أن ما ذكرناه من النصوص الدالة على كونه شفيعا صريحة فى كونه شفيعا بمعنى كونه طالبا لإسقاط العقوبة ، ودفع الإضرار ؛ فكانت أولى.

وأما ما ذكروه من المعارضات بآيات الوعيد السابق ذكرها (١) ؛ فلا نسلم عمومها وبتقدير التسليم ، فما ذكرناه من آيات الوعد راجحة على آيات الوعيد ، وبيان الترجيح من ثمانية أوجه (٢).

الأول : أنّا قد بينا الدليل على أن آيات الوعد ، يجب أن تكون خاصة بمحل النزاع. وما ذكروه من آيات الوعيد ، فمتناولة لمحل النزاع بعمومها ، والخاص مقدم على العام على ما لا يخفى.

الثانى : أن آيات الوعد أكثر ؛ فكانت أغلب على الظن.

الثالث : هو أن آيات الوعد ، أكثرها مرتب على الحسنات ، والحسنات أرجح من السيئات ، والمرتب على الراجح راجح ، وبيان أن الحسنات أرجح من السيئات قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (٣) ، فدل [على] (٤) أنها أرجح وأقوى ، وأيضا قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (٥). وربما زاد على ذلك بدليل قوله تعالى : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) (٦) ولا كذلك السيئات.

__________________

(١) راجع ما سبق ل ٢٢٦ / ب وما بعدها.

(٢) قارن بما ورد فى شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٢١٦ ، ٢١٧ وشرح المقاصد ٢ / ١٧٣ ، ١٧٤.

(٣) سورة هود ١١ / ١١٤.

(٤) ساقط من أ.

(٥) سورة الأنعام ٦ / ١٦٠.

(٦) سورة البقرة ٢ / ٢٦١.

٣٧٧

الرابع : أن / / أكثر آيات الوعد مؤكدة كما فى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (١) بخلاف آيات الوعيد.

الخامس : هو أن الخلف فى الوعد قبيح ، والخلف فى الوعيد كرم ، وهو من مستحسنات العقول ولهذا قال الشاعر :

وإنى إذا أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادى ومنجز موعدى (٢)

/ فتأويل آيات الوعيد يكون أولى ، من آيات الوعد.

السادس : أن آيات الوعد دالة على الرحمة ، وآيات الوعيد دالة على الغضب ، والرحمة أقوى وأسبق ، لقوله عليه‌السلام حكاية عن ربه تعالى : «رحمتى سبقت غضبى» (٣).

السابع : أن المقصود الأصلي من خلق الخلق ، أن يكونوا رابحين لا خاسرين ودليله قوله : «خلقتكم لتربحوا عليّ لا لأربح عليكم» وفى ترجيح آيات الوعد تقرير هذا الأصل ، وفى ترجيح آيات الوعيد مخالفته ؛ فكانت آيات الوعد أولى.

الثامن : أن ما ذكروه من الظواهر ، منهم من قيدها بفعل الكبائر دون الصغائر ، ومنهم من زادها تقييدا ، حتى اشترط فى ذلك زيادة مقدار الكبيرة على ما له من الحسنات.

وبالجملة فلا ريب فى تخصيصها بما بعد التوبة ، ولم يوجد شيء من ذلك فيما ذكرناه من آيات الوعد ؛ فكان العمل بها أولى.

__________________

/ / أول ل ١٣١ / ب

(١) سورة النساء ٤ / ١٢٢.

(٢) قائله : عامر بن الطفيل. انظر ديوان عامر بن الطفيل ص ٥٨ ط : صادر بيروت ـ لبنان. وهو : عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر العامرى ، من بنى عامر بن صعصعة فارس قومه وأحد شعراء العرب وساداتهم فى الجاهلية. ولد بنجد سنة ٧٠ ق. الهجرة وتوفى سنة ١١ ه‍ وهو ابن عم لبيد الشاعر. كان عامر يأمر مناديا فى «عكاظ» ينادى هل من راجل فنحمله؟ أو جائع فنطعمه؟ أو خائف فنؤمنه؟ [خزانة الأدب للبغدادى ١ / ٤٧١ ـ ٤٧٤ والأعلام للزركلى ٣ / ٢٥٢].

(٣) رواه مسلم : كتاب التوبة ـ باب فى سعة رحمة الله ـ تعالى ـ وأنها سبقت غضبه ٤ / ٢١٠٨.

٣٧٨

الفصل الرابع

فى أن عقاب العصاة من المؤمنين غير مخلد

هذا هو مذهب أهل الحق (١).

وذهبت المعتزلة ، والخوارج : إلى أن من مات من أرباب الكبائر من المؤمنين من غير توبة ؛ فهو مخلد فى النار ؛ لكن منهم من أوجب ذلك عقلا ، وسمعا. ومنهم من أوجبه سمعا ، لا عقلا. كما سبق إيضاح مذهبهم فى الفصل الثالث (٢). وقد سبق تحقيق المأخذ العقلى من الجانبين نفيا وإثباتا ، فى الفصل الثانى (٣) فعليك بنقله إلى هاهنا.

وأما المسلك السمعى من جانب الخصوم فى تحقيق خلود العقاب فقوله ـ تعالى : ـ (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٤) وأيضا قوله ـ تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) (٥) وأيضا قوله ـ تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) (٦) وأيضا قوله ـ تعالى : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ* يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ* وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) (٧) وذلك يدل على أنهم لا يخرجون منها ؛ وإلا كانوا غائبين عنها ؛ وهو بخلاف دلالة الآية.

وطريق الاعتراض أن يقال : أما قوله ـ تعالى : ـ (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) (٨) فلا نسلم وجود صيغة العموم فى الأشخاص على ما عرف من أصلنا.

سلمنا العموم فى الأشخاص ، ولكن مشروطا بعدم العفو ، أو لا مشروطا به.

__________________

(١) أهل الكبائر من أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى النار لا يخلدون ، إذا ماتوا وهم موحدون ، وإن لم يكونوا تائبين ، بعد أن لقوا الله عارفين ، وهم فى مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله ... وإن شاء عذبهم بعدله ، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته ، ثم يبعثهم إلى جنته» [شرح الطحاوية ص ٤١٣].

(٢) انظر ل ٢٢٦ / أوما بعدها.

(٣) انظر ل ٢٢٤ / ب وما بعدها.

(٤) سورة البقرة ٢ / ٨١.

(٥) سورة النساء ٤ / ١٤.

(٦) سورة النساء ٤ / ٩٣.

(٧) سورة الانفطار ٨٢ / ١٤ ـ ١٦.

(٨) سورة البقرة ٢ / ٨١.

٣٧٩

الأول مسلم ، والثانى ممنوع ؛ وذلك لأنه يستحيل أن يكون العاصى معاقبا مع فرض العفو ، وعند ذلك فيتوقف العموم لمحل النزاع على عدم العفو ، وعدم العفو متوقف / على العموم ؛ وهو دور ممتنع.

سلمنا العموم فى الأشخاص ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من العموم فى الأشخاص العموم فى الأحوال ، وعلى هذا : فلا يلزم من العموم فى كل من عمل سيئة العموم فى كل سيئة.

ولهذا : فإنه لو قال القائل لزوجاته : من دخلت منكن الدار ؛ فهى طالق ، فإنه وإن عم جميع الزوجات ؛ فلا يعم كل دخول ، ولهذا فإن كل واحدة تطلق بالدخول أول مرة ، ولا يتكرر الطلاق بتكرار الدخول. وإذا كان لفظ السيئة ، والخطيئة غير عام ؛ فلا يكون متناولا لكل سيئة وخطيئة ، حتى يندرج فيه محل النزاع ، وغايته أن يكون مطلقا ، والمطلق إذا عمل به فى صورة فقط ؛ بطل وجه الاحتجاج به ، وقد عمل به فى الكفر ؛ فلا يبقى حجة.

سلمنا العموم فى كل سيئة وخطيئة ؛ ولكن لا نسلم أن الخلود عبارة عن اللبث الدائم ، الّذي لا آخر له ، حتى يصح ما ذكروه ؛ بل الخلود عبارة عن طول اللبث فى اللغة ، ومنه يقال : قد خلد فلان ، إذا طال عمره ، ويقال خلد الله ملك الأمير : أى أطاله ، ومنه يقال فى الوقف وقفا مؤبدا / / مخلدا.

وعلى هذا : فنحن نقول بموجب الآية ، وهو أن أهل الكبائر مخلدون فى العذاب بهذا المعنى ، ولا نزاع فيه.

فلئن قالوا : الخلود حقيقة فى الدوام ؛ ومجازا فى غير المؤبد ، ودليله من ثلاثة أوجه :

الأول : أنه حقيقة فى الدّوام المؤبد بالإجماع ؛ فلو كان حقيقة فى غير المؤبد ؛ لكان اللفظ مشتركا ، والاشتراك على خلاف الأصل ؛ لأنّه يخلّ بالتفاهم الّذي هو مقصود أهل الوضع فى وضعهم ، والمجاز وإن كان أيضا على خلاف الأصل ، إلا أن محذور

__________________

/ / أول ل ١٣٢ / أمن النسخة ب.

٣٨٠