أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0327-1
الصفحات: ٣٩٨

ذلك أيضا : ما يدل على انتقاء موتة أخرى بعد المسألة ؛ إذ لم ينقطع بها نعيمهم ويجب الحمل على ما ذكرناه جمعا بينه ، وبين ما ذكرناه من الأدلة.

وأما الآية الثالثة : فالمراد من قوله ـ تعالى ـ : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) الحياة الأولى : وقوله (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) الموتة الأولى وقوله (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) إحياء المساءلة ، وأما إحياء النشر ، والموت قبله ؛ فهو مستفاد من قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١).

فالآية دالة على ما منعوه من الزيادة ، لا أنها نافية له.

وإن سلمنا دلالة الآية على الإحياء الأول والموت منه ، والإحياء للنشر ؛ فليس فيه ما يدل على نفى الزيادة على ذلك إلا بطريق المفهوم ، وليس بحجة ، وبتقدير أن يكون حجة غير أن العمل بما ذكرناه أولى ؛ لأنه منطوق.

وأما قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) (٢) تشبيه للكفار بالموتى ، ونحن لا ننكر أن الميت لا يسمع ، وليس فى ذلك ما يدل على أن الميت لا يحيى فى قبره ولا يسمع بتقدير إحيائه.

وقوله تعالى (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٣) معناه : بتقدير أن يكونوا موتى ، ونحن نقول به. وإلا فبتقدير أن يكونوا أحياء ؛ فلا امتناع فى إسماعهم إجماعا.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٢٨.

(٢) سورة النمل ٢٧ / ٨٠.

(٣) سورة فاطر ٣٥ / ٢٢.

٣٤١

الفصل الرابع

فى الصراط / والميزان ، والحساب ، وقراءة الكتب

والحوض المورود ، وشهادة الأعضاء (١)

أما الصراط (٢) :

فمذهب أكثر المتكلمين إثبات الصراط على متن جهنم. وهو كالجسر الممدود عليها.

وعليه يعبر جميع الخلائق المؤمنين ، وغير المؤمنين.

وأما المعتزلة :

فقد اختلفوا :

فذهب أبو الهذيل ، وبشر بن المعتمر إلى جوازه دون الحكم بوقوعه ، وتردد الجبائى فى نفيه ، وإثباته ، فأثبته مرة ، ونفاه أخرى.

وذهب أكثر المعتزلة إلى نفى الصراط بهذا المعنى (٣).

واحتج أهل الحق : بأن إثبات الصّراط بهذا الاعتبار ممكن ؛ إذ لو فرض لم يلزم عنه لذاته محال ، ونصوص الكتاب والسنة ، وإجماع الأمة دالة عليه ؛ فوجب إثباته.

أما الكتاب : فقوله ـ تعالى ـ : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ* وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٤).

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما ورد هاهنا :

انظر : الإرشاد للجوينى ص ٣٧٩ وما بعدها وأصول الدين للبغدادى ص ٢٤٥ وما بعدها ، وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٢٣١ وما بعدها ، وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٦٣ ، وشرح العقيدة الطحاوية ص ٤٧٣ وما بعدها ومن كتب المعتزلة شرح الأصول الخمسة ص ٧٣٤ وما بعدها.

(٢) الصراط : هو جسر على جهنم إذا انتهى الناس بعد مفارقتهم مكان الموقف إلى الظلمة التى دون الصراط كما قالت عائشة ـ رضى الله عنها : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سئل أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ «هم فى الظلمة دون الجسر». [شرح العقيدة الطحاوية ص ٤٧٧].

(٣) يقول القاضى عبد الجبار فى شرح الأصول الخمسة ص ٧٣٧ ، ٧٣٨ : «ومن جملة ما يجب الإقرار به واعتقاده:

الصّراط وهو طريق بين الجنة والنار. يتسع على أهل الجنة ، ويضيق على أهل النار إذا راموا المرور عليه. وقد دل عليه القرآن ، قال الله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ٦ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) سورة الفاتحة ١ / ٦ ، ٧ فلسنا نقول فى الصراط ما يقوله الحشوية».

(٤) سورة الصافات ٣٧ / ٢٣ ، ٢٤.

٣٤٢

وأما السنة : فإنه قد روى أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخبر عنه ووصفه بأنه «أدق من الشعرة وأحد من غرار السيف» وعلى جنبتيه خطاطيف وكلاليب ، وأن الكلّوب منها يحتوى على عدد ربيعة ومضر ، ويهوى بهم إلى قعر جهنم (١).

وروى عنه عليه‌السلام : «أنه قيل له إذا طويت السموات ، وبدلت الأرض أين يكون الخلق يومئذ؟ فقال / / إنهم على جسر جهنم (٢).

وروى عنه عليه‌السلام أنه سأله بعض أصحابه أين نطلبك فى عرصات القيامة؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عند الصراط ، أو عند الحوض ، أو الميزان (٣).

وروى عنه عليه‌السلام أنه وصف العابرين على الصراط فقال : من الجائزين عليه من هو كالبرق الخاطف ، ومنهم من هو كالريح الهابة ، ومنهم من هو كالجواد ، ومنهم من تجور رجلاه ، وتعلق يداه ، ومنهم من يخر على وجهه. إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المأثورة الخارجة عن العد فى ذكر الصراط ، وصفته (٤).

__________________

(١) أخرجه البيهقى فى شعب الإيمان من حديث أنس. وروى عن زياد والنميرى عن أنس مرفوعا «الصراط كحد الشعرة ـ أو كحد السيف» وقال : وهى رواية صحيحة.

/ / أول ل ١٢٥ / ب.

(٢) رواه مسلم. كتاب صفه المنافقين وأحكامهم ـ باب فى البعث والنشور وصفة يوم القيامة ٤ / ٢١٥٠

(٣) رواه مسلم.

(٤) وأرى من المفيد ذكر هذا الحديث فهو يصف حال العابرين على الصراط وصفا دقيقا :

روى البيهقى بسنده عن مسروق ، عن عبد الله قال : «يجمع الله الناس يوم القيامة» إلى أن قال : «فيعطون نورهم على قدر أعمالهم».

فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه.

ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك.

ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه.

ومنهم من يعطى دون ذلك. حتى يكون آخر ذلك من يعطى نوره على إبهام قدمه ، يضئ مرة ويطفأ مرة. فإذا أضاء ؛ قدم قدمه. وإذا طفئ قام.

قال : ويمرون على الصراط ، والصراط كحد السيف ، دحض مزلة.

فيقال لهم : امضوا على قدر نوركم.

فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب. ومنهم من يمر كالريح. ومنهم من يمر كالطرف ومنهم من يمر كشد الرجل يرمل رملا. فيمرون على قدر أعمالهم.

حتى يمر الّذي نوره على إبهام قدمه ، تخر يد ، وتعلق يد ، وتخر رجل ، وتعلق رجل وتصيب جوانبه النار. قال : فيخلصون ، فإذا خلصوا قالوا : الحمد لله الّذي نجانا منك بعد الّذي أراناك ، لقد أعطانا الله ما لم يعط أحدا» الحديث. [رواه الحاكم فى «المستدرك» ٢ / ٣٧٦ ـ ٣٧٧ قال : صحيح على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبى] انظر شرح العقيدة الطحاوية ص ٤٧٧ ـ ٤٧٨.

٣٤٣

وأما الإجماع : فهو أنّ الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين على إثبات الصراط بهذا المعنى ؛ فكان حجة على المخالف.

فإن قيل : خلق الصراط على ما وصفتموه من كونه أدق من الشعرة وأحد من غرار السيف مما يستحيل العبور عليه عقلا ، وقد قلتم بأن عليه عبور الخلائق كلهم ، فيمتنع ، وبتقدير إمكان العبور عليه غير أنه يلزم من ذلك. إتعاب المؤمنين ، ولا تعب عليهم يوم القيامة ولا نصب ؛ إذ هو نوع من العذاب ، والمؤمن غير معذب.

وعند ذلك : فنقول : لفظ الصراط وإن كان قد يرد بمعنى الإسلام ، وبمعنى كتاب الله ، وبمعنى طريق الجنة (١) ، وبمعنى الدين القويم إلا أنه قد يطلق ويراد به / الطريق إلى الشيء ، وعند ذلك : فيجب حمل قوله تعالى (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) على الطريق إليها ؛ لتعذر حمله على ما سواه من الاعتبارات الأخرى.

وعلى ذلك يجب تأويل الأخبار من السنة أيضا :

والجواب :

قولهم : بأن ذلك مما يستحيل العبور عليه ، ليس كذلك ؛ فإنه غير بعيد أن يقدر الله ـ تعالى بعض عباده على ذلك كما أقدر بعض مخلوقاته على الطيران فى الهواء ، وبعضهم على السباحة فى الماء. وغايته : أن ذلك من خوارق العادات ، وغير مستبعد أن يخصص الله ـ تعالى ـ به بعض عباده ، كما حققناه فى المعجزات (٢).

قولهم : فيه إتعاب المؤمنين ـ ممنوع. وما المانع من إقدار الله ـ تعالى ـ لهم على ذلك من غير تعب ، ولا نصب؟

وبتقدير إتعابهم فهو غير ممتنع على أصول أهل الحق ، فإن ذلك مما لا يزيد فى الحرج والمشقة على ما ينال الأنبياء ، والأولياء من زفرة جهنم على ما روى فى صحيح الحديث «إن جهنم تزفر زفرة لا يبقى عندها ملك مقرب ، ولا نبى مرسل إلا جثا على ركبتيه (٣) ، وإليه الإشارة بقوله ـ تعالى ـ : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) (٤) ولا على ما ينالهم

__________________

(١) من أول هنا نهاية ل ٢٢٢ / أ ـ ل ٢٢٤ / أمن النسخة (أ) محذوف من النسخة ب. [وبمعنى طريق الجنة / / بمقتضى العقل] هكذا فى نسخة ب منتصف ل ١٢٥ / ب.

(٢) راجع ما مر ل ١٣٠ / أوما بعدها من القاعدة الخامسة.

(٣) أورده القرطى فى التذكرة ص ٤٤١ : باب ما جاء أن النار لما خلقت فزعت الملائكة حتى طارت أفئدتها. عن ميمون بن مهران قال : لما خلق الله جهنم أمرها فزفرت زفرة ، فلم يبق فى السموات السبع ملك إلا خرّ على وجهه. التذكرة ص ٤٤١.

(٤) سورة الجاثية ٢٥ / ٢٨.

٣٤٤

من الورود على جهنم على ما قال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (١). وإذا جاز ذلك ، جاز ما هو مثله فى المشقة أو أدنى ، وما ذكروه فى تأويل الصراط فهو مدفوع بإجماع الأمة السالفة قبل ظهور المخالفين على تفسيره بما ذكرناه : من أنه جسر على متن جهنم ، وأن عبور الخلائق كلهم عليه (٢).

كيف وفى الأخبار ما يدل على امتناع حمله على الطريق إلى جهنم ، حيث أنه وصف المؤمنين بسرعة العبور ، دون غيرهم.

ولو كان الصراط طريقا إلى جهنم ، لا أنه جسر على جهنم ؛ لكان الأمر بالعكس.

وأما الميزان (٣) : فقد أثبته الأشاعرة ، والسلف ، وأكثر المسلمين ؛ وأنكره المعتزلة. لكن منهم من أحاله عقلا ، ومنهم من جوزه عقلا ، وإن لم يقض بثبوته كالعلاف ، وبشر ابن المعتمر.

وقد أحتج أهل الحق فى ذلك ـ بأن نصب الميزان ممكن ، والنصوص دالة عليه ؛ فوجب إثباته.

أما الجواز العقلى : فإثباته بما تقدم.

وأما النصوص الدالة عليه : فمنها قوله ـ تعالى ـ : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) (٤) وقوله ـ تعالى ـ : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ* أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) (٥) وقوله ـ تعالى ـ : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) (٦) وقوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) (٧) الآية

__________________

(١) سورة مريم ١٩ / ٧١.

(٢) راجع مقالات الإسلاميين ٢ / ١٤٦ وأصول الدين للبغدادى ص ٢٤٦ وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٢٣١ ، وشرح المقاصد ٢ / ١٦٤.

(٣) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما ورد هاهنا انظر : الإرشاد لإمام الحرمين الجوينى ص ٣٨٠ ، والاقتصاد للغزالى ص ١٢٥. نهاية الأقدام للشهرستانى ص ٤٦٩ ، ٤٧٠. وأصول الدين للبغدادى ص ٢٤٦ وغاية المرام للآمدى ص ٣٠٥ ، ٣٠٦ ومن كتب المعتزلة : انظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ٧٣٥ ، ٧٣٦.

وانظر شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٢٢٩ وشرح المقاصد ٢ / ١٦٤ وشرح الطحاوية ص ٤٧٩ ـ ٤٨٣.

(٤) سورة الأنبياء ٢١ / ٤٧.

(٥) سورة الرحمن ٥٥ / ٧ ، ٨.

(٦) سورة الأعراف ٧ / ٨ والآية ساقطة من (أ).

(٧) سورة المؤمنون ٢٣ / ١٠٢ ، ١٠٣.

٣٤٥

فإن قيل : حمل لفظ الميزان ، والموازين / / على ما يوزن به أعمال / العباد ، ممتنع ؛ إذ الأعمال أعراض ، والأعراض مما لا بقاء لها كما تقدم ، ولا هى مما يمكن إعادتها على ما سلف (١) وبتقدير بقائها ، أو إمكان إعادتها ؛ فهى أعراض ، والأعراض ممتنع وزنها ؛ فإنها لا توصف بثقل ، ولا خفة ؛ بل إنّما ذلك من صفات الجواهر.

وبتقدير إمكان وزنها : فلا فائدة فى الوزن ؛ إذ المقصود إنما هو العلم بتفاوت الأعمال ، والله ـ تعالى ـ عالم بذلك ، فلا فائدة فى نصب الميزان ، وما لا فائدة فيه ففعله يكون قبيحا ، والرب ـ تعالى ـ منزه عن فعل القبيح.

وعند هذا : فيجب حمل لفظ الميزان على العدل ، والإنصاف ، وبتقدير الحمل على ما يوزن به ، فالنص قد دلّ على موازين وهو قوله ـ تعالى ـ : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) (٢) وقوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) (٣) وأنتم لا تقولون إلا بميزان واحد.

والجواب : أما ما ذكروه فى بيان تعذر وزن الأعمال ، فمندفع ، بقول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما سئل عن وزن الأعمال «إنما توزن الصحف»

قولهم : لا فائدة فى وزن الأعمال ؛ فهو مبنى على أصولهم فى وجوب رعاية الحكمة وقد أبطلناه (٤) وبتقدير تسليم ذلك لهم فلا مانع أن يكون له فى ذلك حكمة قد استأثر بعلمها وحده.

وعلى هذا : فيتعذر حمل الميزان على العدل ، والإنصاف ، [لما فيه من مخالفة الظاهر من غير دليل. كيف : وأنه يمتنع حمل الميزان على العدل ، والإنصاف] (٥) إذ الموازين موصوفة بالخفة ، والثقل في قوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) والعدل ، والإنصاف لا يوصف بثقل ، ولا خفة.

__________________

/ / أول ل ١٢٧ / أمن النسخة ب.

(١) راجع ما مر فى الجزء الثانى ـ الفرع الرابع ، فى تجدد الأعراض ، واستحالة بقائها ل ٤٤ / ب.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ / ٤٧.

(٣) سورة المؤمنون ٢٣ / ١٠٢.

(٤) راجع ما مر فى الجزء الأول ل ١٨٦ / أوما بعدها.

(٥) ساقط من (أ).

٣٤٦

وقوله : النص قد دل على إثبات موازين.

قلنا : نحن لا ننكر ذلك ، غير أنه قد ثبت فى الأخبار أن الميزان ليس إلا واحدا فيجب حمل الجمع عليه ؛ إذ لا تعذر فيه ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) (١). وأراد بقوله الذين قال لهم الناس واحدة.

وأما الحساب ، وأخذ الكتب ، وقراءتها ، ونصب الحوض ، وشهادة الأعضاء ؛ فهو ممكن عقلا على ما تقدم ، والنصوص دالة على ذلك ؛ فوجب اتباعها.

أما الحساب : فيدل عليه قوله تعالى فى وصف يوم القيامة بيوم الحساب وقوله تعالى ـ : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) (٢).

وأما أخذ الكتب : فيدل عليه قوله ـ تعالى ـ : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) (٣).

وأما قراءة الكتب : فيدل عليه قوله ـ تعالى ـ : (اقْرَأْ كِتابَكَ) (٤).

وأما شهادة الأعضاء : فيدل عليه قوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٥).

وأما نصب الحوض : فيدل عليه ما روى عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما سأله بعض أصحابه : أين نطلبك فى / عرصات القيامة أنه قال : «عند الصراط ، أو الحوض ، أو الميزان» (٦) وللظواهر من الآيات ، والأخبار فى ذلك متسع.

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ / ١٧٣.

(٢) سورة الانشقاق ٨٤ / ٨.

(٣) سورة الانشقاق ٨٤ / ٧.

(٤) سورة الإسراء ١٧ / ١٤.

(٥) سورة النور ٢٤ / ٢٤.

(٦) رواه مسلم ٤ / ٢١٥٠.

٣٤٧
٣٤٨

الأصل الثالث

فى أحكام الثواب والعقاب.

ويشتمل على خمسة فصول :

الفصل الأول (١) : فى استحقاق الثواب والعقاب.

الفصل الثانى : فى أن ثواب أهل الجنة ، وعقاب الكفار غير واجب الدوام عقلا ؛ بل سمعا.

الفصل الثالث : فى استحقاق عصاة المؤمنين العقاب على زلاتهم ، وجواز الغفران عنها عقلا.

الفصل الرابع : فى أن عقاب العصاة من المؤمنين غير مخلد.

الفصل الخامس : فى الإحباط والتكفير.

__________________

(١) فى النسخة ب استخدمت الحروف الأبجدية أب ج للدلالة على ترتيب الفصول.

٣٤٩
٣٥٠

الفصل الأول

فى استحقاق الثواب والعقاب

قد بينا فى التعديل والتجوير أنه من مذهب أهل الحق أنه لا يجب على الله ـ تعالى ـ شيء (١).

وأنه إن أنعم فبفضله ، وإن انتقم فبعدله.

ووافقهم على ذلك البلخى من المعتزلة.

وذهب الباقون من المعتزلة إلى أنه يجب على الله ـ تعالى ـ عقلا أن يثيب المطيع على طاعته ، إذا لم يقارنها محبط.

وأن يعاقب العاصى على معصيته إن مات من غير توبة (٢).

محتجين على ذلك بقولهم : إنّا نعلم بقضية العقل أنّ المطيع المحسن مستوجب للتعظيم ، ورفع الدرجة ، وأن العاصى مستوجب لضد ذلك.

وأيضا : فإن الرب ـ تعالى قد أوجب الطاعات على المكلفين ، فإما أن يكون ذلك لفائدة ، أو لا لفائدة.

لا جائز أن تكون لا لفائدة ؛ إذ هو عبث ، وسفه.

وإن كان لفائدة : فإما أن تعود إلى الخالق ، أو إلى العبد.

لا جائز أن تعود إلى الخالق // ؛ إذ هو يتعالى ويتقدس عن الأغراض والضرر ، والانتفاع ، وإن عادت إلى العبد : فإما أن تعود إليه فى الدنيا ، أو فى الأخرى.

لا جائز أن يقال بالأول ؛ لأنّ العبادة محض عناء ، وتعب ، وكلفة ، ونصب ، وقطع النفس عن الشّهوات ، وأنواع الملاذ ؛ ولا نفع فيها فى الدّنيا ولا فائدة.

وإن كان الثانى : فهو المطلوب.

وأيضا فإنّ الله ـ تعالى ـ قد خلق فى المكلّف شهوة المعاصى ، والقبائح.

__________________

(١) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ١٨٦ / أ.

(٢) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما ورد هاهنا : ارجع إلى الإرشاد للجوينى ص ٣٣١ وما بعدها ، وشرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ٦١١ وما بعدها. وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف الخامس ص ٣٢٤ ، والموقف السادس ص ١٩٩ وما بعدها وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٦٥ وما بعدها.

/ / أول ل ١٢٧ / ب.

٣٥١

فلو لم يعلم المكلف استحقاقه للعقاب على تقدير فعلها ؛ لكان ذلك من الله ـ تعالى ـ إغراء للمكلف بفعل القبيح ؛ فيكون قبيحا ، وهو على الله ـ تعالى ـ محال.

وبالجملة ؛ فحاصل إيجابهم للثّواب ، والعقاب على الله ـ تعالى ـ مبنى على التّحسين والتّقبيح العقلى ، ووجوب رعاية الحكمة فى أفعال الله ـ تعالى.

ومن حقّق ما أسلفناه فى التّعديل والتجوير (١) ؛ لم يخف عليه بطلان مثل هذه الحجج هاهنا غير أنه لا بدّ من تتبعها ، وزيادة الكشف فى إبطالها.

فنقول : أما إيجاب الثواب على فعل الطاعة بناء على كونه / مقتضى العقل فمبنى على التحسين والتقبيح العقلى ، وقد أبطلناه (٢).

وبتقدير التسليم لذلك جدلا.

ولكن لا نسلم أن ذلك من مستحسنات العقول ، وبيانه من أربعة أوجه : ـ

الأول : أنّ ما يأتى به العبد من الطّاعات فهى عندهم واجبة عليه ، شكرا لما أنعم الله عليه من النّعم الدنيوية ، ومن أدى واجبا ؛ فإنه لا يستوجب به بمقتضى العقل ثوابا ، ولا جزاء ؛ ولهذا فإنّ السيّد منّا إذا أحسن إلى عبده ومن هو فى رقه وملكه ، وأفاض عليه النعم ، وأزاح عنه النّقم ، فإنه يستحقّ بمقتضى العقل خدمة العبد له ، وطاعته إياه ، وما يفعله العبد من ذلك بطريق الاستحقاق ، والشكر لإحسان سيده إليه ، لا يكون بمقتضى العقل موجبا لمجازاة السيد إياه على ذلك الفعل (٣).

الثانى : أنه لو استوجب العبد بمقتضى العقل الثّواب الأبدى على فعل الواجب ؛ لاستوجب الرب ـ تعالى ـ الشكر الأبدى على العبد بالنعم السابقة ؛ بل أولى ، واللازم ممتنع.

وبيان الملازمة : أن عبادة العباد مع الآباد. لا توازى نعم الله ـ تعالى عليهم فى دار التكليف ساعة من نهار فإذا جاز بمقتضى العقل إيجاب الثّواب الأبدى على الله ـ تعالى ـ بطاعة العبد ، مع كونها واجبة شكرا لما أنعم الله به عليه ابتداءً ؛ فالقول بإيجاب الشّكر الأبدى لله ـ تعالى ـ على العبد بما أنعم الله تعالى ـ عليه به أولى ، واللازم ممتنع ؛ لما فيه فى لزوم التكليف فى دار الخلود ؛ وهو محال.

__________________

(١) انظر ما سبق ل ١٨٦ / أوما بعدها.

(٢) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ١٧٤ ، ب وما بعدها.

(٣) قارن بما ورد فى الإرشاد للجوينى ص ٣٢١ ، وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٦٦.

٣٥٢

الثالث : أنه لو استوجب العبد بطاعته الواجبة عليه الثواب على الله ـ تعالى (١) بمقتضى العقل ؛ لاستوجب الرب ـ تعالى ـ بمقتضى العقل شكرا آخر بإثابته للعبد وإن كانت الإثابة واجبة ، بل أولى ؛ لأنّ الرب ـ تعالى ـ أولى بالاستحقاق ؛ لابتدائه بالنعم ؛ وذلك يجرّ إلى التّسلسل الممتنع.

الرابع : أنه لو وجب الثّواب على الله ـ تعالى ـ لما وجد عنه محيدا ؛ وذلك يوجب كون الرب ـ تعالى ـ مضطرا فى فعله غير مختار ؛ وهو محال.

قولهم : إيجاب الطاعة لا بدّ وأن يكون لفائدة ، فمبنى على وجوب رعاية الحكمة فى أفعال الله تعالى وقد أبطلناه (٢).

ثم وإن سلّمنا وجوب رعاية الحكمة جدلا ، فما المانع أن يكون ذلك لحكمة غير الثواب.

قولهم : إما أن يعود إلى العبد فى الدنيا ، أو فى الآخرة ، ما المانع من كونها دنيوية؟

قولهم : لا فائدة له فيها دنيويا.

دعوى من غير دليل ، وعدم الوجدان لذلك مع البحث ، والسبر غير يقينى (٣) ، لما علم.

وأما استحقاق العقاب ، وايجابه على الله ـ تعالى فهو أيضا / ممتنع ؛ لأنّه إمّا أن يكون ذلك لفائدة ، أو لا لفائدة.

لا جائز أن يكون لا لفائدة ؛ إذ هو عندهم قبيح.

وإن كان لفائدة ، فإما أن تعود إلى الرّبّ ـ تعالى ، أو العبد.

الأول محال ؛ لما سبق (٤).

وإن عادت إلى العبد ؛ فلا يخفى أنه لا فائدة للعبد فى تحتم عقابه ، ولزوم عذابه على ما أسلفناه فى التعديل والتّجوير (٥).

__________________

(١) الى هنا انتهى المحذوف من النسخة ب (وبمعنى طريق الجنة / / بمقتضى العقل).

(٢) راجع ما سبق ل ١٨٦ / أ.

(٣) راجع ما سبق ل ٢٩ / ب.

(٤) راجع ما سبق ل ١٨٦ / ب.

(٥) انظر ما سبق ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

٣٥٣

قولهم : إنّ الله تعالى ـ قد خلق فى العبد شهوات المعاصى ، فلو لم يعلم العبد استحقاقه للعقاب بالمعصية ؛ لكان ذلك إغراء للعبد بالمعصية.

ليس كذلك ؛ بل لو قيل : إنّ خلق الشّهوة مع المنع باستحقاق العقاب يكون إغراء. كان أولى ، على ما قيل المرء حريص على ما منع.

وإن سلّمنا أنّ المنع ليس بإغراء ، لكن إن اعتبر فى المنع من الإغراء بالمعصية منع المكلف بأبلغ الطرق فكان من الواجب أن لا يقدر العبد على المعصية ؛ إذ هو أبلغ من التمكين مع استحقاق العقاب بالفعل ، وإلّا كان ذلك إغراء بالمعصية ، وإن لم يعتبر فى ذلك أبلغ الطرق فقد أمكن دفع الإغراء بعلم العبد ؛ بجواز عقابه ، وإسقاط ثوابه من غير إيجاب.

كيف وأنه يلزم على ما ذكروه أن يكون الرب ـ تعالى ـ مغريا بالمعصية للعبد حالة جهل العبد بالله ـ تعالى ـ وباستحقاقه للعقاب بمعصية حيث لم يخلق الله ـ تعالى له العلم الضرورى بذلك ، ولم يقل به قائل (١).

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة فى قضية الثواب والعقاب.

انظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ٧٠٠ وشرح المواقف الموقف الخامس ص ٣٢٣ وما بعدها ، والموقف السادس ص ١٩٩ وما بعدها ، وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٦٥ وما بعدها.

٣٥٤

الفصل الثانى

فى أن ثواب أهل الجنة ، وعقاب الكفّار

غير واجب الدّوام عقلا ، بل سمعا

قد بيّنا أن مذهب أهل الحق : أن أصل الثواب والعقاب على الطاعة والمعاصى غير واجب عقلا على ما تقدم فى الفصل الّذي قبله (١). وكذلك الحكم فى دوامه ؛ إذ يستحيل أن يكون دوامه واجبا عقلا ، وأصله غير واجب ؛ بل وجوب دوامه إنما وقع مستفادا من السمع ؛ إذ القرآن / / والسنة مشحونان بخلود نعيم أهل الجنّة ، وعذاب الكفّار.

وأما المعتزلة : فإنهم قالوا بوجوب دوام نعيم المؤمنين ، وعذاب الكفار عقلا ، ونقل عن الصاحب بن عباد (٢) أنه قال : إنّما يجب خلود نعيم من علم الله ـ تعالى ـ منه أنه لو أبقاه فى دار الدّنيا ؛ لبقى على إيمانه ، وكذلك إنّما يجب خلود عذاب من علم الله ـ تعالى ـ منه أنّه لو أبقاه فى الدّنيا أبدا ؛ لبقى على كفره أبدا ، ولا يخلد من لم يعلم منه ذلك. وسنبين بعد الفراغ من حكاية شبه المعتزلة على مذهبهم ، وإبطالها ، ضعف مقالة ابن عباد على أصول المعتزلة ، وتناهيها فى الفساد.

وقد احتج المعتزلة على مذهبهم بحجج ، منها ما يعمّ الخلودين ، ومنها ما هو خاص بأحدهما دون الآخر.

أما الحجة العامة : فهو أنهم قالوا / الموجب لاستحقاق الثّواب ؛ هو الموجب لاستحقاق الثناء والمدح ، وكذلك الموجب لاستحقاق العقاب ؛ هو الموجب لاستحقاق الذّم والتّوبيخ.

__________________

(١) راجع ما سبق فى الفصل الأول ل ٢٢٧ / أ.

/ / أول ل ١٢٦ / أ.

(٢) هو إسماعيل بن عباد بن العباس أبو القاسم الطالقانى : ولد فى الطالقان (من أعمال قزوين) وإليها نسبته سنة ٣٢٦ ه‍ وتوفى بالرى ونقل إلى أصبهان فدفن بها سنة ٣٨٥ ه‍ استوزره مؤيد الدولة ابن بويه ، ولقب بالصاحب لصحبته مؤيد الدولة من صباه ؛ فكان يدعوه بذلك. كان من نوادر الدهر علما وفضلا وتدبيرا وجودة رأى له تصانيف جليلة ، وشعر جيد (له ديوان مطبوع) وكتبت عنه كتب وطبعت [معجم الأدباء لياقوت الحموى ٢ / ٢٧٣ ـ ٣٤٣ والأعلام للزركلى ١ / ٣١٦].

٣٥٥

والثناء والمدح ، وكذلك اللّوم والتّوبيخ غير مقيّدين بزمان دون زمان ، بمقتضى العقل ؛ بل هو دائم ؛ فكذلك الموجب الآخر ، وهو الثواب والعقاب (١).

وأما الحجج الخاصة بخلود الثواب : فثلاث.

الأولى : هو أن الثّواب نفع محض لا يشوبه ضرر. وبيانه من وجهين :

الأول : هو أنّ التفضّل بمنافع خالية عن الضّرر حسن فى العقل ، وجائز ، فلو لم يكن الثواب مجردا عن الضرر ؛ لكان الفضل أحسن منه ؛ وذلك مما يبطل حسن التكليف.

الثانى : هو أنّ الله ـ تعالى ـ قد رغّب المكلّفين بتكليفهم ترك المنافع المشوبة بالاضرار إلى الثّواب ، فلو كان الثّواب نفعا مشوبا بالأضرار ؛ لما حسن التكليف ، والتّرغيب بترك نفع إلى مثله ؛ وإذا ثبت أن الثواب نفع محض لا يشوبه ضرر ، فلو علم المكلفون فى دار الثّواب ، تصرّم نعيمهم ، وأنّ ما هم عليه من النّعيم سينقطع ؛ لتنغّصت عليهم لذاتهم ، وخرج الثواب عن تمحّض النفع ؛ وذلك ممتنع.

الحجة الثانية : أنّه لو كان الثواب منقطعا ؛ لكان التّفضّل أحسن منه ؛ لجواز دوامه ، ويلزم من ذلك أن لا يكون التكليف حسنا ؛ وهو محال.

الحجة الثالثة : أنّه لو كان الثواب غير دائم لم يخل : إمّا أن يعتبر فيه التقدير بالأوقات ، أو لا يعتبر ذلك.

فإن كان الأول : فليس ثبوت الاستحقاق فى بعض الأوقات أولى من البعض ؛ ضرورة تشابه الأوقات.

وإن كان الثانى : أمكن حصوله فى حالة واحدة ؛ ضرورة عدم اعتبار الأوقات ثم يقطع عن المثاب ، وذلك مما لا يحسن الترغيب فيه بالتزام المشاق الدائمة ، وترك المنافع الدائمة بدوام أوقات الحياة فى الدنيا ، وذلك يمنع من حسن التكليف. وإذا بطل كل واحد من اللازمين ؛ لزم بطلان الملزوم.

وبمثل هذه الحجة يستدل على خلود العقاب أيضا.

__________________

(١) لتوضيح رأى المعتزلة بالإضافة لما ورد هاهنا انظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ٦١١ وما بعدها ، والمختصر فى أصول الدين له أيضا ص ٢٦ ضمن رسائل التوحيد والعدل.

٣٥٦

وذلك بأن يقال : لو لم يكن العقاب دائما ؛ لم يخل : إمّا أن يعتبر فيه التقدير بالأوقات ، أو لا يعتبر.

فإن كان الأول : فهو محال ؛ لما تقدّم.

وإن كان الثانى : أمكن وصوله إلى المكلف دفعة واحدة كما فى أقرب زمان.

وعند ذلك : فلا يحسن أن يكون زاجرا عن الملاذ ، والمنافع المحرّمة ، المستمرة باستمرار الحياة ؛ لما فيه من التزام أضرار مستمرة ؛ خوفا من أضرار غير مستمرة ، وذلك مما يمنع من حسن التكليف بالمنع من المعاصى ؛ وهو محال.

والجواب عن الحجة الأولى : لا نسلم استحقاق الثّناء ، ولا الذّم دائما وإن سلمنا ذلك فما ذكروه تمثيل من غير دليل ؛ فلا يصح /.

وعن الحجج الخاصة :

أما الحجة الأولى : لا نسلمّ امتناع ثبوت الثّواب بالضّرر.

قولهم : إنّه يجوز التفضل بما لا يشوبه الضرر ، وذلك يمنع من حسن التّكليف ؛ فهو مبنى على التّحسين ، والتّقبيح ، ورعاية الحكمة فى أفعال الله ؛ وهو باطل كما سبق (١). ثم إن سلّم لهم هذا الأصل جدلا ؛ فما المانع على أصلهم أن يكون حسن التكليف بما فيه من تعظيم المثاب ، بكونه مكرما عالى الرتبة باستيفاء حقه ، بخلاف المتفضل عليه ؛ لكونه ممنونا عليه.

قولهم : إن الله ـ تعالى ـ قد رغّب المكلفين بتكليفهم المنافع المشوبة بالأضرار إلى آخره ، إنّما يلزم أن لو وقع التساوى فى / / أصل منفعة الثواب والمنافع المكلف بتركها ، وليس كذلك ؛ إذ جاز أن تكون منفعة الثّواب أكثر ، وبتقدير التساوى فى أصل المنفعة فإنّما يمتنع الترغيب أن لو وقع التساوى [فى ثبوت الضّرر ، وما المانع من أن يكون ثبوت الضّرر فيما كلف بتركه أكثر؟ وبتقدير التساوى] (٢).

__________________

(١) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

/ / أول ل ١٢٦ / ب.

(٢) ساقط من (أ).

٣٥٧

فلا يمتنع حسن التكليف ؛ لاختصاصه بالتّعظيم كما سبق.

كيف وأن ما ذكروه فمبنى على التحسين ، والتقبيح العقلى ؛ وهو باطل (١).

وإن سلمنا امتناع ثبوت الضرر للثّواب ، ولكن ما المانع من أن لا يخلق الله ـ تعالى ـ لأهل الجنان العلم بانقطاع النّعيم ؛ بل يلهيهم عن ذلك إلى حين انتهائه.

وعلى هذا فيكون نعيمهم خالصا عن شوب الكدر.

فلئن قالوا : النّعيم لا يتم دون كمال العقل. والعاقل لا يخلو عن خطور ذلك بعقله إذا كان جائزا.

قلنا : إذا كان خطور ذلك بعقله من مقدورات الله ـ تعالى ـ كما سبق ، جاز أن لا يخلقه له.

وعن الحجة الثانية : ما سبق فى الوجه الأول من تقرير الحجة التى قبلها.

وعن الحجة الثالثة : ما المانع أن يكون الثّواب مقدورا بالأوقات.

قولهم : ليس تقديره ببعض الأوقات ، دون البعض ، أولى من العكس ممنوع.

قولهم : الأوقات متشابهة.

قلنا : إلا أنّ مقادير الأوقات غير متشابهة ، فلا يلزم من تقدير الثّواب ببعض أعداد الأوقات تقديره بغيره.

وإن سلمنا جواز حصول الثّواب فى حالة واحدة فما المانع منه؟.

وما ذكروه فى تقريره فإنّما يلزم بتقدير التّساوى فى مقدار المنفعة.

وما المانع أن يكون مقدار منفعة الثّواب أكثر بأضعاف مضاعفة ، وبتقدير التّساوى فإنما يمتنع حسن التكليف أن لو لم يختص بالتعظيم على ما تقدم.

وبتقدير أن لا يختص بما يوجب حسنه عقلا فما ذكروه مبنى على التحسين والتقبيح العقلى ، وقد عرف إبطاله (٢).

__________________

(١) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

(٢) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

٣٥٨

وعلى هذا : فقد خرج الجواب عما ذكروه فى الاحتجاج على وجوب دوام العقاب أيضا.

وأما ما ذهب إليه ابن عباد : فحاصله : يرجع إلى إيجاب الثواب الأبدى ، والعقاب الأبدى فى مقابلة ما كان يجوز أن / يقع ، وإن لم يقع ، وفيه ايجاب الثواب والعقاب ، من غير طاعة ولا معصية ، وهو خلاف أصول المعتزلة. ثم يلزم من ذلك أن من مات على كفره ، وقد علم الله أنه لو أحياه لآمن ، وأطاع طول دهره أن يثيبه على ذلك ، وكذلك من مات على إيمانه وقد علم الله أنّه لو أحياه لكفر أن يعاقبه ، ويخلده فى النار ، وكل ذلك خبط وتخليط خارج عن أصول القوم.

٣٥٩

الفصل الثالث

فى استحقاق عصاة المؤمنين العقاب

على زلاتهم ، وجواز الغفران عنها عقلا

والّذي عليه إجماع المسلمين أنّ من مات على كفر ؛ فهو مخلد فى النار أبدا. وقد اختلفوا فى أهل الكبائر من المؤمنين إذا ماتوا عنها من غير توبة.

فالذى عليه إجماع المسلمين : أنهم ماتوا على الإيمان. خلافا للخوارج كما سيأتى تفصيل مذاهبهم ، والرّدّ عليهم فى الأسماء والأحكام (١).

ثم اختلف القائلون بإيمانهم ، فذهب بعض المرجئة (٢) : إلى أن المؤمن لا يستحق على زلته عقابا أصلا ، عاجلا ، ولا آجلا. وأنّه كما لا يستحق مع الشرك بالله ـ تعالى ـ بفعل الطّاعة ثوابا ؛ فلا يستحق مع الإيمان بالمعصية عقابا.

ومنهم من قال بأن المؤمن لا يعاقب على زلّاته فى العقبى ، وإنّما يعاقب عليها فى الدّنيا بالآلام ، والغموم ، والهموم ، والنقص فى الأموال ، والأنفس ، والثّمرات.

وذهب هؤلاء على قياس هذا القول : إلى أنّ ما يفعله الكفار من الخيرات وأنواع الطاعات ، مثابون عليها ؛ لكن فى الدنيا ، لا فى الأخرى ، فثواب الكافر ، وعقاب المؤمن معجّل.

وذهب أهل الحق : إلى جواز استحقاق المؤمن العقاب فى الأخرى على زلاته. ثم اختلفوا فى جواز غفرانه :

فذهبت الأشاعرة إلى جواز ذلك عقلا ، وسمعا (٣).

وذهب البصريون (٤) ، وبعض البغداديين (٥) من المعتزلة : إلى جواز ذلك عقلا ،

__________________

(١) انظر ما سيأتى فى القاعدة السابعة ـ الفصل الثالث ل ٢٤١ / ب وأيضا فى الفصل الرابع : فى أن مخالف الحق من أهل القبلة هل هو كافر أم لا؟ ل ٢٥٢ / أو ما بعدها.

(٢) أنظر آراء المرجئة فى الفصل الثالث من القاعدة السابعة : فى أن العاصى من أهل القبلة هل هو كافر أم لا؟ ل ٢٤١ / ب.

وأيضا فى الفصل الرابع : فى أن مخالف الحق من أهل القبلة هل هو كافر أم لا؟ ل ٢٥٤ / ب وما بعدها.

(٣) راجع الإرشاد لإمام الحرمين ٣٢٩ وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٢٠٦ ـ ٢٠٩ وشرح المقاصد ٢ / ١٧٣.

(٤) البصريون هم الذين نشئوا بالبصرة ، وقد تحدثت عن أشهر رجال فرع البصرة فى هامش ل ١٤ / ب من الجزء الأول.

(٥) البغداديون هم الذين نشئوا ببغداد ، وقد تحدثت عن رجالهم فى هامش ل ١٤ / ب من الجزء الأول.

٣٦٠