أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0327-1
الصفحات: ٣٩٨

وهو إما مطلق كقولك : عشرة. وإما مقيد : كقولك هذه العشرة ، أو عشرة رجال.

وإن كان الثانى : فلا يخلوا : إما أن يكون حقيقة فى كل واحد من مدلولاته ، أو هو حقيقة فى البعض دون البعض.

فإن كان الأول : فإما أن تتحد جهة دلالته ، أو تختلف.

فإن اتحدت فهو العام. وهو سبعة أقسام :

الأول : ما كان من أدوات الشرط والجزاء كقوله عليه‌السلام «من أحيا أرضا ميته فهى له» (١)

الثانى : النكرة المنفية كقولهم : لا رجل فى الدار.

الثالث : أسماء الجموع المعرفة : كالرجال.

الرابع : اسم الجنس إذا دخله الألف واللام : كالرجل.

الخامس : الألفاظ المؤكدة مثل : كل ، وجميع ، وأجمعون.

السادس : من : فيمن يعقل كقوله ـ تعالى ـ : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢).

السابع : ما : فيما لا يعقل كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) (٣) الآية

وإن كان الثانى : فهو المشترك : وذلك كدلالة : لفظ العين ، والقرء ، والجوف ، ونحوه.

وإن كان الثانى : فهو المجازى : وذلك كدلالة الأسد عن السبع ، وعلى الإنسان الشجاع ونحوه.

وإن كان الثانى : وهو الدال لا بجهة المنظوم [فلا يخلوا : إما أن تكون جهة دلالته مقصودة للمتكلم ، أو لا تكون مقصودة له.

__________________

(١) أخرجه أبو داود فى سننه ٣ / ١٧٨ (كتاب الخراج والإمارة والفيء ـ باب إحياء الموات).

(٢) سورة الرعد ١٣ / ١٥.

(٣) سورة الأنبياء ٢١ / ٩٨.

٣٢١

فإن كانت مقصودة له فلا يخلو] (١) : إما أن يكون ما فهم من دلالته فى محل النطق ، أو فى غيره.

فإن كان مفهوما منها فى محل النطق : فهو ينقسم إلى : ما يسمى دليل الاقتضاء ، وإلى ما يسمى دليل التنبيه والإيماء.

أما دليل الاقتضاء (٢) : فينقسم إلى ثلاثة أقسام :

الأول : ما يفهم من اللفظ ضرورة صدق المتكلم ، كفهم نفى الصحة ، أو الكمال من قوله عليه / السلام «لا صيام لمن يبيت الصيام من الليل (٣)».

الثانى : ما يفهم من اللفظ ضرورة وقوع الملفوظ به شرعا : كفهم حصول الملك لمن قال لغيره اعتق عبدك عنى على ألف قبيل العتق (٤).

الثالث : ما يفهم من اللفظ ضرورة وقوع الملفوظ به عقلا : كفهم الوطء من قوله ـ تعالى ـ : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) (٥).

وأما دليل التنبيه والإيماء (٦) : وذلك كفهم كون الوصف علة للحكم المرتّب عليه بفاء التعقيب كما فى فهم كون السرقة علة للقطع من قوله ـ تعالى ـ : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٧). أو من ذكره مع حكم لو لم يقدر التعليل به ؛ لكان ذكره عبثا : كفهم كون الطوف فى الهرة علة طهارتها من قوله عليه‌السلام : «إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات» (٨). والأقسام كثيرة ذكرناها فى كتبنا المخصوصة بهذا الفن (٩).

وأما إن كان المفهوم من دلالة اللفظ فى غير محل النطق فلا يخلوا : إما أن يكون المفهوم منه فى غير محل النطق مماثلا للمفهوم منه فى محل النطق ، أو مخالفا له.

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) دلالة الاقتضاء : ما كان المدلول فيه مضمرا : إما لضرورة صدق المتكلم وإما لصحة وقوع الملفوظ به (الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى ٣ / ٦١).

(٣) رواه أبو داود عن حفصة أم المؤمنين ـ رضى الله عنها (كتاب الصيام ـ باب النية فى الصيام ٢ / ٣٢٩). وراجع الإحكام للآمدى ٣ / ٥٦ المسألة الرابعة.

(٤) قال الآمدي فى الإحكام ٣ / ٦ : «فإنه يستدعى تقدير سابقة انتقال الملك إليه ضرورة توقف العتق شرعا عليه».

(٥) سورة النساء ٤ / ٢٣.

(٦) دلالة التنبيه والإيماء : ما كان التعليل لازما من مدلول اللفظ وصفا لا أن يكون اللفظ دالا بوضعه على التعليل ، وهو ستة أقسام (الإحكام ٣ / ٢٢٤ وما بعدها).

(٧) سورة المائدة ٥ / ٣٨.

(٨) رواه ابن ماجة (١ / ١٣١) كتاب الطهارة ـ باب الوضوء بسؤر الهرة : والرخصة فى ذلك. وأخرجه الدارمى (١ / ١٥٣) كتاب الصلاة والطهارة ـ باب الهرة إذا ولغت فى الإناء.

(٩) انظر : الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى ٣ / ٢٢٤ وما بعدها.

٣٢٢

فإن كان مماثلا له : فيسمى مفهوم الموافقة وفحوى الخطاب (١) : وذلك كفهم تحريم شتم الوالدين ، والضرب العنيف من تحريم التأفيف لهما من قوله ـ تعالى ـ : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) (٢)

وإن كان المفهوم من اللفظ فى غير محل النطق مخالفا له فى محل النطق فيسمى مفهوم المخالفة ودليل الخطاب (٣). وهذا النوع على أقسام ثمانية متفاوته فى الرتبة.

الأول : الاستثناء من النفى ، والإثبات كقوله : لا عالم فى البلد إلا زيد.

الثانى : ما ورد بلفظ إنّما كقوله عليه‌السلام «إنما الولاء / / لمن أعتق» (٤).

الثالث : ذكر الاسم العام [مقترنا] (٥) بالصفة الخاصة كقوله ـ عليه‌السلام ـ «فى الغنم السائمة زكاة» (٦).

الرابع : ذكر الحكم مقترنا بشرط كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) (٧) الآية.

الخامس : مد الحكم إلى غاية كقوله ـ تعالى ـ : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) (٨).

السادس : تخصيص الحكم بالوصف الطارئ كقوله عليه‌السلام «السائمة فيها الزكاة».

السابع : ذكر الاسم المشتق الدّال على الجنس كقوله عليه‌السلام «لا تبيعوا الطعام بالطّعام» (٩).

__________________

(١) مفهوم الموافقة : ما يكون مدلول اللفظ فى محل السكوت ، موافقا لمدلوله فى محل النطق. ويسمى أيضا : فحوى الخطاب ، ولحن الخطاب (الإحكام للآمدى ٣ / ٦٣ وما بعدها).

(٢) سورة الاسراء ١٧ / ٢٣.

(٣) مفهوم المخالفة : هو ما يكون مدلول اللفظ فى محل السكوت مخالفا لمدلوله فى محل النطق. ويسمى دليل الخطاب أيضا (الإحكام للآمدى ٣ / ٦٧ وما بعدها).

(٤) رواه مسلم (٢ / ١١٤١) كتاب العتق ـ باب إنما الولاء لمن أعتق.

/ / أول ل ١٢٢ / أ.

(٥) ساقط من أ.

(٦) رواه أبو داود (٢ / ٩٦) كتاب الزكاة ـ باب زكاة الغنم.

(٧) سورة الطلاق ٦٥ / ٦.

(٨) سورة التوبة ٩ / ٢٩.

(٩) رواه مسلم : كتاب البيوع ـ باب ما يذكر فى بيع الطعام.

٣٢٣

الثامن : مفهوم اللّقب : وهو تخصيص المذكور باسمه ولقبه ، كما فى قوله عليه‌السلام «لا تبيعوا البر بالبر ، ولا الشّعير بالشّعير» إلى آخر الحديث (١).

وأما إن لم تكن جهة دلالة اللفظ مقصورة للمتكلم ؛ بل هى واقعة بطريق اللزوم ، والاستتباع فيسمى دليل الإشارة ، وذلك كفهم كون أكثر الحيض / وأقل الطهر خمسة عشر يوما من قوله عليه‌السلام «النساء ناقصات عقل ودين» (٢) حيث إنه فسر نقصان الدين بكون المرأة تمكث شطر دهرها لا تصلى. فإنه وإن كان المقصود إنما هو بيان نقصان الدين ، غير أن فهم كون أقل الطهر وأكثر الحيض خمسة عشر يوما وقع لازما من ذلك تابعا.

وأما السّند : فينقسم إلى مقطوع ، ومظنون.

أما المقطوع [فهو] (٣) : مما أفاد اليقين بمخبره : وذلك كخبر النبي الصادق ، أو الواحد إذا احتفت به القرائن ، أو التواتر.

وأما المظنون : فهو ما أفاد الظن ، ويسمى خبر الآحاد.

وهو منقسم إلى : مستفيض ، وغير مستفيض ، وأما أن الدليل السمعى هل يفيد اليقين أم لا؟ فقد اختلف فيه.

فذهبت الحشوية (٤) : إلى أنه يفيد اليقين حتى بالغوا وقالوا : لا يعلم شيء بغير الكتاب والسنة.

وذهب آخرون إلى أنه غير مفيد لليقين ؛ لأنه موقوف على أمور ظنية ، وما يتوقف على الأمر الظنى ؛ فظنى.

أما المقدمة الثانية فظاهرة ، وأما المقدمة الأولى فبيانها :

أن التمسك بالدليل السمعى موقوف على معرفة مفهوم اللفظ لغة ، وذلك غير معلوم قطعا ؛ بل غايته أنه معلوم بطريق الآحاد ، والآحاد ؛ فلا يفيد غير الظن.

__________________

(١) رواه البخارى ـ كتاب البيوع ـ باب ما يذكر فى بيع الطعام والحكرة فتح البارى ٤ / ٤٠٨ عن عمر رضي الله عنه.

(٢) رواه مسلم (١ / ٨٦) ـ كتاب الإيمان ـ بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات.

(٣) ساقط من (أ).

(٤) الحشوية : هم المشبهة ، والمجسمة ، وأهل الظاهر الذين لا يسلكون سبيل التأويل للمتشابه من القرآن (الملل والنحل للشهرستانى ١ / ١١٠) قيل إن الّذي سماهم بالحشوية الحسن البصرى عند ما قال عن جماعة من الرواة حضروا مجلسه يوما ، ولما تكلموا عنده قال : ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة فسموا بالحشوية.

٣٢٤

وبتقدير معرفة أصل الوضع قطعا ، فيحتمل أن يكون اللفظ مشتركا ، وتعيين أحد محامله لا يكون مقطوعا به.

وبتقدير أن لا يكون مشتركا ؛ فيحتمل أن يكون مطلقا بإزاء معنيين ، هو فى أحدهما حقيقة وفى الآخر مجاز ، وحمله على جهة الحقيقة ، وإن كان هو الأصل ؛ لكنه ليس بقطعى ؛ بل ظنى ؛ لاحتمال إرادة جهة المجاز.

والحمل على جهة المجاز فغير قطعى ، وما يساعد عليه إما قرينة لفظية : والكلام فيها ، كالكلام فى الأولى ، وإما قرينة حالية ؛ وهى غير يقينية ؛ لاضطرابها وتعارض القرائن. وبتقدير أن لا يكون مجازا أصلا غير أن دلالة اللفظ على المعنى قد تختلف بالحذف ، والإضمار ، والتقديم ، والتأخير ، وكل ذلك فالطرق الموصلة إليه ظنية غير يقينية.

وبتقدير أن لا يتوقف على ذلك غير أنه متوقف على معرفة نقله من جهة الشارع وأكثر سنده الآحاد.

وبتقدير أن يكون منقولا عن الشارع تواترا ، إلا أنه يتوقف العمل به على نفى المعارض ، ولا سبيل إلى معرفة ذلك بغير البحث والسبر. مع عدم الاطلاع ؛ وهو غير يقينى كما سبق (١).

وبتقدير عدم المعارض فالعمل به يتوقف على عدم نسخ ما يدل عليه ؛ فطريقه أيضا ظنى.

والحق فى ذلك أن يقال : أما قول الحشوية (٢) : أنه لا طريق / إلى العلم واستدراك مطلوب من المطلوبات إلا بالكتاب والسنة. ففى غاية البطلان ؛ فإنا لو قدرنا عدم ورود السمع والأدلة السمعية ؛ لقد كنا نعلم وجود الرب ـ تعالى ـ وحدوث العالم وما يتعلق بأحكام الجواهر ، والأعراض ، وغير ذلك من المسائل العقلية ، وليس مدرك ذلك كله غير الأدلة العقلية.

__________________

(١) انظر ما سبق ل ٣٩ / ب وما بعدها الجزء الأول ـ القاعدة الثالثة ـ الباب الثانى : فى الدليل. الفصل السابع : فيما ظن أنه من الأدلة المفيدة لليقين وليس منها. الدليل الثالث : قياس التمثيل ـ السبر والتقسيم.

(٢) قارن بما أورده الآمدي فى الإحكام فى أصول الأحكام ٣ / ٦٣.

٣٢٥

وأيضا فيقال لهم : فبما ذا عرفتم أن هذا كتاب الله وسنة رسوله؟.

فإن قالوا عرفناه به ؛ كان / / دورا. وإن قالوا عرفناه بغيره ؛ فهو المطلوب.

وأما ما قيل فى بيان أن الدليل السمعى ظنى ؛ فإنما يصح أن لو لم تقترن به قرائن مفيدة للقطع وإلا فبتقدير أن تقترن به قرائن مفيدة للقطع فلا. ولا يخفى أن ذلك ممكن فى كل نقلى غير ممتنع.

وإذا عرفت ذلك : فاعلم أن الدليل : إما أن يكون عقليا محضا : كأدلة حدوث العالم ووجود الصانع ونحوه ، وإما سمعيا محضا : كأدلة وجوب الصلاة ، والزكاة ، وغير ذلك.

وإما مركب من الأمرين : بأن تكون بعض مقدماته عقلية ، والبعض سمعية : وعلى هذا :

فالمطلوب منه ما لا يعرف بغير الدليل العقلى : كحدوث العالم ، ووجود الصانع قبل ورود السمع.

ومنه ما لا يعرف بغير الدليل السمعى : كالأحكام الشرعية : من وجوب الصلاة ، وتحريم الخمر ونحوه.

ومنه ما يمكن معرفته بكل واحد من الطريقين : كخلق الأفعال ، وروية الله ـ تعالى ـ على ما سبق تحقيقه (١).

__________________

/ / أول ل ١٢٢ / ب.

(١) راجع الجزء الأول ل ٣٢ / ب وما بعدها.

٣٢٦

الفصل الثانى

فى خلق الجنة والنار (١)

[مذهب الأشاعرة ، وأكثر المتكلمين : أن الجنة ، والنار] (٢) اللتان هما دار الثواب والعقاب ، مخلوقتان فى وقتنا هذا. ووافقهم على ذلك من المعتزلة الجبائى ، وبشر بن المعتمر ، وأبو الحسين البصرى (٣). ثم اختلف هؤلاء :

فمنهم من قال : إنهما تفنيان. ومنهم من قال : بأنهما لا تفنيان.

وذهب عباد الصيمرى ، وضرار بن عمرو ، وأبو هاشم ، وعبد الجبار (٤) : إلى أنهما غير مخلوقتين فى وقتنا هذا ، غير أن عباد : زعم أنه يستحيل فى العقل ذلك قبل حلول المكلفين فيها.

وخالفه أبو هاشم فى ذلك : وزعم أن خلقهما فى وقتنا ، غير ممتنع عقلا ، وإنما هو ممتنع سمعا (٥) :

والمعتمد فى المسألة : الكتاب ، والسنة ، وإجماع الأمة.

أما الكتاب : فقوله ـ تعالى ـ : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (٦) وقوله ـ تعالى ـ : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٧) ووجه الاحتجاج من الآيتين : وصفه ـ تعالى للجنة ، والنار بالإعداد ،

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما أورده الآمدي هاهنا : راجع كتاب الإرشاد لإمام الحرمين الجوينى ص ٣٧٧ وما بعدها. وأصول الدين للبغدادى ص ٢٣٧ وما بعدها. وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس تحقيق الدكتور أحمد المهدى ـ المقصد الرابع : ص ١٩٥ وما بعدها. وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٦١ وما بعدها. وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبى العز الحنفى ص ٤٨٤ وما بعدها.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) لتوضيح مذهب الجبائى ومن وافقه : انظر شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ١٩٥. وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٦١.

(٤) قارن بما ورد فى شرح المواقف ـ الموقف الساد ص ١٩٥ حيث قال : «وأنكره أكثر المعتزلة كعباد الصيمرى ، وضرار بن عمرو ، وأبى هاشم وعبد الجبار. وقالوا : إنهما يخلقان يوم الجزاء».

(٥) قال شارح المواقف ص ١٩٦ من الموقف السادس : «وأما المنكرون فتمسك عباد فى استحالة كونهما مخلوقتين فى وقتنا هذا بدليل العقل. وأبو هاشم بدليل السمع ؛ إذ ليس عنده للعقل دلالة على ذلك». قال عباد : لو وجدنا : فاما فى عالم الأفلاك ، أو العناصر ، أو فى عالم آخر ، والثلاثة باطلة. واحتج أبو هاشم بوجهين : الأول :

قوله تعالى : ـ (أُكُلُها دائِمٌ) مع قوله (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فلو كانت مخلوقة ؛ وجب هلاك أكلها. (شرح المواقف ٦ / ١٩٦ ، ١٩٧. بتصرف.

(٦) سورة آل عمران ٣ / ١٣٣.

(٧) سورة البقرة ٢ / ٢٤.

٣٢٧

واعدادهما يدل / ظاهرا ، على وجودهما ؛ لاتفاق أهل اللغة على أن إعداد الشيء ، ينبئ عن وجوده ، وثبوته ، والفراغ منه.

[ولهذا لو قال القائل لغيره : لقد أعددت لك طعاما ؛ فإنه يتبادر إلى الفهم وجود الطعام ، والفراغ منه] (١).

وأيضا. ما ورد فى حق آدم وحواء من إسكانهما الجنة وإهباطهما منه بقوله ـ : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) (٢) وقوله ـ تعالى ـ : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) (٣) وهذا يدل على كون الجنة مخلوقة.

وأيضا. قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ١٣ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ١٤ عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (٤) أخبر ـ تعالى ـ عن وجود جنة المأوى ، وعن موضعها ؛ فدل على كونها مخلوقة.

وأما السنة : فأخبار صحاح رواها مسلم فى صحيحه. منها ما يخص الجنة. ومنها ما يخص النار ، ومنها ما يعم الأمرين :

أما ما يخص الجنة : فمنها ما روى عنى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «سيحان ، وجيحان ، والفرات ، والنيل كل من أنهار الجنة» (٥) ، وذلك يدل عن وجودها.

وأيضا ما روى عنه ـ عليه‌السلام ـ أنه قال حكاية عن ربه «أعددت لعبادى الصّالحين : ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» (٦).

والإعداد يدل على الوجود على ما سبق ؛ وذلك لا يكون إلا فى الجنة.

وأيضا ما روى عنه : عليه‌السلام ـ أنه قال «إنّ فى الجنّة شجرة يسير الرّاكب تحتها مائة عام» (٧) ولو لم تكن الجنة موجودة لما قال فيها ؛ بل سيكون : وقد أجمع المفسرون على أن المراد بلفظ الجنة فى هذه الأحاديث الجنة التى كان آدم فيها وأهبط منها ـ وأنّها هى دار الثّواب؟

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) سورة البقرة ٢ / ٣٥.

(٣) سورة البقرة ٢ / ٣٨.

(٤) سورة النجم ٥٣ / ١٣ ، ١٤ ، ١٥.

(٥) رواه مسلم ـ كتاب الجنة ـ باب ما فى الدنيا من أنهار الجنة ٤٠ / ٢١٨٣.

(٦) رواه مسلم ـ كتاب الجنة ـ ٤ / ٢١٧٤ ، ٢١٧٥.

(٧) رواه مسلم ٤ / ٢١٧٥. كتاب الجنة.

٣٢٨

وأما ما يخص النار فمنها : ما روى أبو هريرة أنه قال : كنّا مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذ سمع وجبة فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أتدرون ما هذا؟ / / قلنا : الله ورسوله أعلم. قال : هذا حجر رمى فى النار منذ سبعين خريفا ؛ فهو يهوى فى النار إلى حين انتهى إلى قعرها (١) ، وهذا من أدلّ الدّلائل على وجود النّار.

وأيضا قوله ـ عليه‌السلام ـ [«رأيت عمرو بن عامر (٢) الخزاعى فى النار (٣).

وأما ما يعم الجنة والنار] (٤) فقوله ـ عليه‌السلام ـ «احتجت الجنة والنار فقالت هذه يدخلنى الجبارون ، والمتكبرون ، وقالت هذه يدخلنى الضعفاء ، والمساكين. فقال الله عزوجل : لهذه : أنت عذابى أعذب بك من أشاء ، وقال لهذه : أنت رحمتى أرحم بك من أشاء ، ولكل واحدة منكما ملؤها (٥) وذلك أيضا دليل على وجود الجنّة والنّار حيث إنه أضاف المحاجة إليهما بصيغة الماضى.

وأما الإجماع : فهو أن الأمة قاطبة ، كانت مجمعة قبل ظهور المخالفين : على وجود الجنة ، والنار التى هى دار الثواب ، والعقاب ، ولم يسمع من أحد نكير ، إلى حين ظهور المخالفين ؛ فكان حجة عليهم (٦).

فإن قيل : إنما يمكن العمل / بظاهر ما ذكرتموه : أن لو أمكن ذلك عقلا ، وليس كذلك.

وبيانه : هو أن أفعال الرب ـ تعالى ـ لا تخلو عن فائدة ، وحكمة كما سبق (٧).

__________________

/ / أول ل ١٢٣ / أ.

(١) رواه مسلم ـ كتاب الجنة ـ باب فى شدة حر نار جهنم ، وبعد قعرها ٤ / ٢١٨٤ ، ٢١٨٥.

(٢) عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن عدنان جد جاهلى من أشراف الجاهلية ـ من أحفاده : خالد ، وحرملة الصحابيان (الأعلام ٥ / ٨٠).

(٣) رواه مسلم. كتاب الجنة ـ والنار ٤ / ٢١٩١.

(٤) ساقط من (أ).

(٥) رواه مسلم ـ كتاب الجنة ـ باب والنار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء ٤ / ٢١٨٦.

(٦) لمزيد من البحث والدراسة راجع رأى أهل السنة والقائلين بوجود الجنة والنار فى مقالات الإسلاميين للأشعرى ٢ / ٥٤٩ والإرشاد للجوينى ص ٣١٩ ، والفصل لابن حزم ٤ / ٧٠ ، وأصول الدين للبغدادى ص ٢٣٧ ، وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ١٩٧ ، ١٩٨ وشرح الطحاوية ص ٤٨٤ ـ ٤٩٩.

(٧) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الأول ـ المسألة الثالثة ل ١٨٦ / ب وما بعدها.

٣٢٩

والفائدة فى خلق الجنة والنار : إنما هو المجازاة بالثواب ، والعقاب ، وذلك غير متحقق قبل يوم القيامة بإجماع المسلمين ؛ فلا يكون خلق الجنة ، والنار فى وقتنا هذا مفيدا ؛ فكان ممتنعا عقلا.

وإن سلمنا الإمكان العقلى : غير أن ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيض مقتضاه ، وبيانه من وجهين :

الأول : أن الجنة لو كانت موجودة ؛ لكانت دائمة ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) (١) ودوام أكلها وظلها ، مع عدم دوامها ؛ محال. وليست دائمة بدليل قوله ـ تعالى ـ : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٢) الآية دالة على فناء كل مخلوق ؛ فيدخل فيه الجنة ، ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم ؛ فدل على أنها غير مخلوقة الآن ، وإنما تخلق بعد فناء كل مخلوق.

الثانى : قوله ـ تعالى ـ : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) (٣) ووجه الاحتجاج أن الآية دلت على أن أقطار السموات والأرض ، لا تسع الجنة الموعودة لمستحقى الثواب ، وهو دليل ظاهر على عدمها ، فى وقتنا هذا. وعند تعارض الأدلة ، فليس العمل بالبعض ، أولى من البعض ؛ فيحتاجون إلى الترجيح.

والجواب :

قولهم : إنّ ذلك غير ممكن عقلا :

قلنا : دليل الإمكان العقلى : أنّا لو فرضنا أنّ الله ـ تعالى ـ خلقهما فى الآن لم يعرض عنه المحال لذاته ، ولا معنى للممكن العقلى إلا هذا :

وما ذكروه فى تقريره : فمبنى على فاسد أصولهم فى رعاية الغرض ، والحكمة فى أفعال الله ـ تعالى ـ وقد أبطلناه (٤) ، وبتقدير التسليم لوجوب رعاية الحكمة فى أفعاله لا يبعد أن يكون له فى ذلك حكمة قد أستأثر بعلمها وحده ، ولا يخفى أنّ نفى ذلك مما لا سبيل إليه بطريق قطعى.

__________________

(١) سورة الرعد ١٣ / ٣٥.

(٢) سورة القصص ٢٨ / ٨٨.

(٣) سورة آل عمران ٣ / ١٣٣.

(٤) انظر فى الجزء الأول من أبكار الأفكار ل ١٨٦ / وما بعدها.

٣٣٠

قولهم : لو كانت الجنّة مخلوقة : لكانت دائمة. لا نسلم ذلك ، وقوله ـ تعالى ـ : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) (١) فالمراد بالأكل : إنّما هو المأكول : وهو ثمر الجنة باتفاق المفسرين ، وذلك غير دائم ضرورة فنائه عند أكل أهل الجنة له.

فإذن ما هو الظاهر من دوام الأكل غير معمول به ، فتعين حمل دوام الأكل على تجدده ، من غير انقطاع ؛ وذلك لا ينافى عدم الجنة.

وان سلمنا أنّها لو كانت موجودة ؛ لكانت دائمة ، ولكن لا نسلم أنها غير دائمة. وقوله ـ تعالى ـ / : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٢) لا نسلّم العموم على ما عرف من أصلنا.

وإن سلّمنا العموم لغة ، غير أن المراد بقوله (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) كلّ حي ميّت : على ما قاله ترجمان القرآن : وهو ابن عباس كما سبق تحقيقه / / فيما سلف (٣) ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) (٤) إنما يدل على عرضهما ؛ أن لو وجب كون الجنة فى حيز السموات والأرض ، وليس كذلك ، بل أمكن أن تكون خارجة عن حيزهما ، ويكون المراد من قوله ـ تعالى ـ : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) مثل السموات والأرض ، لا أنها عينها ، ويدل عليه ما روى «أن الدرجة السفلى من الجنة فوق السماء السابعة وإليه الإشارة بقوله ـ تعالى ـ : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (٥) / / وسدرة المنتهى فوق السماء السابعة ، ولذلك سميت سدرة المنتهى ؛ لانتهاء أوهام الناس إليها ، وأنّها لا تتعداها.

__________________

(١) سورة الرعد ١٣ / ٣٥.

(٢) سورة القصص ٢٨ / ٨٨.

(٣) راجع ما سبق ل ٢١٨ / أوما بعدها.

(٤) سورة آل عمران ٣ / ١٣٣.

(٥) سورة النجم ٥٣ / ١٤ ، ١٥.

/ / أول ل ١٢٣ / ب من النسخة ب.

٣٣١

الفصل الثالث

فى عذاب القبر ومساءلة منكر ونكير

وقد اتفق سلف الأمة قبل ظهور الخلاف ، وأكثرهم بعد ظهوره : على إثبات إحياء الموتى فى قبورهم ، ومسألة الملكين لهم ، وتسمية أحدهما منكرا ، والآخر نكيرا ، وعلى إثبات عذاب القبر للمجرمين ، والكافرين (١).

وذهب أبو الهذيل ، وبشر بن المعتمر : إلى أن من ليس بمؤمن. فإنه يسأل ، ويعذب فيما بين النفختين أيضا (٢).

وذهب الصالحى (٣) من المعتزلة : وابن جرير الطبرى (٤) ، وطائفة من الكرامية إلى تجويز ذلك على الموتى فى قبورهم من غير إحياء لهم (٥).

وذهب بعض المتكلمين (٦) إلى أن الآلام تجتمع فى أجساد الموتى ، وتتضاعف من غير حس بها فإذا حشروا أحسوا بها دفعة واحدة.

وذهب ضرار بن عمرو ، وبشر المريسى ، وأكثر المتأخرين من المعتزلة إلى إنكار ذلك كله (٧).

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة : انظر مقالات الإسلاميين للأشعرى ٢ / ١٤٧. وانظر كتاب الإرشاد للجوينى ص ٣٧٥ وما بعدها ، وأصول الدين للبغدادى ص ٢٣٧ وما بعدها ، وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ٢٢٤ وما بعدها. وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٦٢ وما بعدها ومطالع الأنظار ص ٢٢٧ وما بعدها ، والروح لابن القيم ص ٧٢ وما بعدها وشرح العقيدة الطحاوية ص ٤٥١ وبعدها.

ومن كتب المعتزلة : انظر شرح الأصول الخمسة ص ٧٣٠ وما بعدها.

(٢) انظر رأيهم فى أصول الدين للبغدادى ص ٢٤٦. والروح لابن القيم ص ٨٠ حيث نسب هذا القول للعلاف ، والمريسى.

(٣) راجع ترجمته فى الجزء الأول هامش ل ٨٩ / أ.

(٤) ابن جرير الطبرى محمد بن جرير بن يزيد الطبرى (أبو جعفر) : المفسر المؤرخ ، المحدث ، الفقيه ، الأصولى. ولد فى آمل طبرستان سنة ٢٢٥ ه‍ وطوف الأقاليم ، واستوطن بغداد وتوفى بها فى شوال سنة ٣١٠ ه‍ من تصانيفه :

جامع البيان فى تأويل القرآن ، وتاريخ الأمم والملوك وتهذيب الآثار واختلاف الفقهاء.

وفيات الأعيان لابن خلكان ١ / ٥٧٧ ، ٥٧٨ ، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادى ٢ / ١٦٢ ـ ١٦٩).

(٥) راجع شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٢٢٥ ، فقد حكم على رأى الصالحى ، وابن جرير الطبرى ، وطائفة من الكرامية بأنه خروج على المعقول.

(٦) قارن بالروح لابن القيم ص ٨١. فقد نقل هذا القول. ووضح أنه لبعض المعتزلة وقارن بشرح المواقف ص ٢٢٥.

(٧) وقد رفض القاضى عبد الجبار هذه التهمة. فقال «وجملة ذلك أنه لا خلاف فيه بين الأمة ، إلا شيء يحكى عن ضرار بن عمرو ، وكان من أصحاب المعتزلة ، ثم التحق بالمجبرة. ولهذا ترى ابن الراوندى يشنع علينا ؛ ويقول :

إن المعتزلة ينكرون عذاب القبر ، ولا يقرون به» شرح الأصول الخمسة ص ٧٣٠ وما بعدها.

٣٣٢

وأنكر الجبائى ، وابنه ، والبلخى تسمية الملكين : منكرا ، ونكيرا ؛ مع الاعتراف بهما وإنما المنكر : ما يصدر من الكافر عند تلجلجه إذا سئل ، والنكير : تقريع الملكين له.

والدليل على إحياء الموتى فى قبورهم قبل الإحياء للحشر قوله ـ تعالى ـ : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (١) والمراد بالإماتتين : الموتة التى قبل مزار القبور ، والموتة التى بعد مساءلة منكر ونكير ، والمراد بالحياتين : الحياة الأولى ، والحياة لأجل المساءلة على ما قاله المفسرون (٢).

فإن قيل : لا نسلم أن المراد بالإماتتين ، والحياتين ما ذكرتموه ، وما ذكرتموه عن المفسرين : فهو معارض بما يناقضه من قول غيرهم من المفسرين أيضا : فإنه قد قيل إن المراد بالإماتتين : الموتة الأولى : فى أطوار النطفة قبل نفخ الروح فيها ، والثانية : التى قبل مزار القبور ، والمراد بالحياتين : التى قبل / مزار القبور ، والحياة لأجل الحشر.

وليس أحد القولين أولى من الآخر ؛ بل هذا القول أولى ؛ لأنه لو كان كذلك فيكون على وفق المفهوم من قوله ـ تعالى ـ (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) حيث إنه يدل بمفهومه على نفى حياة ثالثة ، وما ذكرتموه يلزم منه أن يكون الإحياء ثلاث مرات : الإحياء الأول : الّذي قبل مزار القبور. والإحياء للمسائلة ، والإحياء للحشر : وهو خلاف المفهوم من الآية (٣).

قلنا : ما ذكرناه أولى لوجهين :

الأول : أنه الشائع المستفيض بين أرباب التفسير ، وما ذكرتموه فقول شذوذ لا يؤبه لهم.

الثانى : أن حمل الإماتة على حالة أطوار النطفة مخالف للظاهر. فإن الإماتة لا تطلق إلا بعد سابقة الحياة وما ذكرناه ، فعلى وفق الظاهر ؛ فكان أولى.

قولهم : يلزم مما ذكرتموه مخالفة مفهوم الآية. لا نسلم أن المفهوم حجة.

__________________

(١) سورة غافر ٤٠ / ١١.

(٢) راجع تفسير القرطبى ، وشرح المقاصد ٢ / ١٦٢. وقارن بتفسير الطبرى ٢٤ / ٣٢ ، وتفسير الرازى ٢٧ / ٣٨ وما بعدها.

(٣) انظر الفصل فى الملل والأهواء والنحل لابن حزم ٤ / ٥٥ وما بعدها والروح لابن القيم ص ٦٠.

٣٣٣

وإن سلمنا أنه حجة ؛ ولكن لا نسلم مخالفة المفهوم فيما نحن فيه. وبيانه من ثلاثة أوجه:

الأول : أنهم إنما ذكروا الحياة بعد الموت ، والحياة بعد الموت لا تزيد على اثنتين ولهذا قالوا (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ).

[الثانى : أنهم إنما ذكروا الإحياء الماضى بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) بصيغة الماضى ، والإحياء الماضى لا يزيد على اثنتين] (١).

[الثالث] (٢) : أنهم إنما ذكروا الإحياء الّذي عرفوا الله ـ تعالى ـ به ، وذلك لا يزيد أيضا على اثنتين ، وهو الإحياء للمسائلة ، والإحياء للحشر بخلاف الإحياء الأول ؛ فإنهم لم يعرفوا الله ـ تعالى ـ به.

وإن سلمنا مخالفة المفهوم : غير أن ما ذكروه يلزم منه مخالفة ما ذكرناه من الظواهر ؛ وهو ظاهر متفق على العمل به بخلاف المفهوم ؛ إذ هو مختلف فى صحته والعمل بالمتفق عليه أولى.

كيف وأن ما ذكرناه على وفق ما روى مسلم فى صحيحه عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه ترك قتلى بدر ثلاثا : ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم فقال : يا أبا جهل بن هشام (٣) ، يا أمية بن خلف (٤) ، يا عتبة بن ربيعة (٥) : أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإنى قد وجدت ما وعدنى ربى حقا؟ «فسمع عمر قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال عمر : يا رسول الله : كيف / /

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) فى (أ) الثانى. والصحيح الثالث كما ورد فى ب.

(٣) أبو جهل بن هشام : عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومى القرشى أشد الناس عداوة للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى صدر الإسلام قال صاحب عيون الأخبار : سوّدت قريش أبا جهل ولم يطر شاربه فأدخلته دار الندوة مع الكهول. كان يقال له (أبو الحكم) ؛ فدعاه المسلمون أبا جهل كان فرعون هذه الأمة. يؤذى المسلمين ويكيد لهم حتى هلك فى غزوة بدر الكبرى ، وأراح الله المسلمين من شره.

[عيون الأخبار ١ / ٢٣٠ والأعلام للزركلى ٥ / ٨٧].

(٤) أمية بن خلف بن وهب ، من بنى لؤى : أحد جبابرة قريش فى الجاهلية ، أدرك الإسلام ولم يسلم ، وهو الّذي عذب بلالا رضي الله عنه فى بداية الإسلام. أسره عبد الرحمن بن عوف يوم بدر ؛ فرآه بلال ؛ فصاح بالناس يحرضهم عليه ؛ فقتلوه. [الكامل لابن الأثير ٢ / ٤٨ والأعلام للزركلى ٢ / ٢٢].

(٥) عتبة بن ربيعة بن عبد شمس : أبو الوليد. كبير قريش وأحد ساداتها فى الجاهلية. أدرك الإسلام ، وطغى وشهد بدرا مع المشركين ، وخرج للمبارزة ؛ فقتل : قتله حمزة رضي الله عنه وقصة ابنته هند بنت عتبة فى انتقامها من سيد الشهداء بعد استشهاده مشهورة. [نسب قريش ١٥٢ ، ١٥٣ والأعلام للزركلى ٤ / ٢٠٠].

/ / أول ل ١٢٤ / أ.

٣٣٤

يسمعون ، وأنى يجيبون وقد جيفوا؟ فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : والّذي نفسى بيده : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا» (١).

وأيضا ما روى عنه عليه‌السلام أنه قال «إن العبد إذا وضع فى قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم (٢)» وذلك بدون الحياة غير متصور.

والدليل على إثبات عذاب القبر. الكتاب ، والسنة.

أما الكتاب فآيات :

الآية الأولى : قوله ـ تعالى : ـ (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ / السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٣) ووجه الاحتجاج بها من ثلاثة أوجه :

الأول : أنها صريحة فى العذاب قبل يوم القيامة ، وذلك لا يكون إلا قبل الانتشار من القبور.

الثانى : أن عذاب يوم القيامة يكون أبدا [سرمدا] (٤) ، غير مفتّر ، وما أثبته من العذاب فليس دائما ؛ بل بكرة وعشيا على ما قاله ـ تعالى ـ (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) وإذا لم يكن هو عذاب يوم القيامة ، تعين أن يكون هو عذاب القبر ، إذ الآية إنما وردت فى حق الموتى.

الثالث : هو أن الآية قد فرقت بين العذابين ، ووصفت عذاب يوم القيامة بأنه أشدّ العذاب على ما قال ـ تعالى ـ : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) والعرض على النار غدوا ، وعشيّا ؛ ليس هو أشدّ العذاب ؛ فلا يكون هو عذاب يوم القيامة فتعيّن أن يكون هو عذاب القبر.

الآية الثانية : قوله ـ تعالى : ـ فى حق قوم نوح (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) (٥) والفاء فى اللغة للتعقيب من غير مهلة ، وذلك ظاهر فى عذاب القبر.

__________________

(١) رواه مسلم ٤ / ٢٢٠٣ كتاب الجنة.

(٢) رواه البخارى ٣ / ١٨٨ ـ ١٨٩ فى الجنائز : باب ما جاء فى عذاب القبر ، وباب الميت يسمع خفق النعال.

(٣) سورة غافر ٤٠ / ٤٦.

(٤) ساقط من (أ).

(٥) سورة نوح ٧١ / ٢٥.

٣٣٥

الآية الثالثة : قوله ـ تعالى : ـ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) (١) وقد اختلف أهل التفسير فى ذلك :

فمنهم من حمل المعيشة الضّنك على عذاب القبور ، ومنهم من حملها على سوء الحال ، ونكد العيش حالة الحياة ؛ غير أن الأول أولى ، وأقرب إلى الظاهر ، وذلك لأن من أعرض عن ذكر الله ـ تعالى ـ قد يكون فى الدنيا فى أنعم عيش وأرغده ، والمؤمن على الضد منه على ما هو المشاهد المحسوس ، ولهذا قال عليه‌السلام «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» (٢).

فلو كان المراد بالمعيشة الضنك : المعيشة فى حالة الحياة ؛ لكانت هذه الأمور على خلاف ظاهر الآية.

وأما السنة : فأخبار صحيحة فى صحيح مسلم منها ما روى عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه مر بقبرين فقال : إنهما ليعذّبان وما يعذّبان فى كبير أمّا أحدهما فكان لا يستنزه من البول ، وأما الثانى فكان يمشى بالنّميمة» (٣).

وأيضا ما روى عنه عليه‌السلام أنه قال «استنزهوا [من البول] (٤) فإن عامة عذاب القبر من البول» (٥).

وأيضا قوله عليه‌السلام فى سعد بن معاذ «لقد ضغطته الأرض ضغطة اختلفت لها ضلوعه (٦)».

وأيضا ما روى عنه عليه‌السلام «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» (٧) وقد حمله المؤولون على ما إذا وصى بذلك.

__________________

(١) سورة طه ٢٠ / ١٢٤.

(٢) رواه الترمذي عن أبى هريرة ، وقال : حديث حسن صحيح.

(٣) متفق على صحته : رواه البخارى ١ / ٢٧٣ فى الوضوء باب من الكبائر.

ورواه مسلم ٣ / ٢٠٠ وما بعدها ـ كتاب الطهارة ـ باب الدليل على نجاسة البول ، ووجوب الاستبراء منه ـ عن ابن عباس رضي الله عنه.

(٤) ساقط من (أ).

(٥) رواه مالك فى الموطأ ـ كتاب الطهارة ١ / ١٨.

(٦) رواه مسلم ـ كتاب فضائل الصّحابة ـ باب فضائل سعد بن معاذ رضي الله عنه ٤ / ١٩٢٥.

(٧) رواه مسلم ـ كتاب الجنائز ـ ٦ / ٢٢٨ «حدثنا نافع عن عبد الله أنّ حفصة بكت على عمر فقال مهلا يا بنيّة ألم تعلمى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الميت يعذّب ببكاء أهله عليه».

٣٣٦

[وأيضا ما روى عنه ـ عليه‌السلام ـ أنه كان يكثر من قوله «اللهم إنى أعوذ بك من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنه المسيخ (١) الدجال] (٢).

وأيضا ما روى عنه ـ عليه‌السلام ـ أنه خرج بعد غروب الشمس فسمع صوتا فقال يهود تعذب فى / قبورها (٣) ، والأخبار المأثورة ، والآثار المشهورة فى ذلك أكثر من أن تحصى.

والدليل على مساءلة الملكين ما روى مسلم فى صحيحه عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى أثناء حديث مطول «إن ملكين يدخلان القبر ويجلسان الميت ويقولان : أنت فى البرزخ؟ فمن ربك ومن نبيك؟ فإن كان كافرا قال : لا أدرى فيقولان لا دريت ولا اهتديت. وإن كان مؤمنا قال : آمنت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، فيفسح له فى قبره ويرى موضعه من الجنة ، ويقال له أرقد رقدة العروس» (٤).

وتسمية أحد الملكين منكرا ، والآخر نكير ؛ فمأخوذ من إجماع السلف من الأمة وأخبار مروية عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

فإن قيل : ما ذكرتموه من الظواهر فى عذاب / / القبر ، ومسائلة منكر ونكير ، إنما يمكن العمل بها أن لو لم تكن مخالفة للمعقول ، وليس كذلك ، ودليل مخالفتها للمعقول [هو : أنا قد نرى شخصا يقتل ويصلب ويبقى على صلبه إلى أن تذهب (٥)] أجزاؤه ، ولا نشاهد منه حياة ، ولا مسائلة ، والقول بذلك مع عدم مشاهدته منه مخالف للمعقول.

وأيضا : فإنّ من افترسته السّباع الضّوارى ، وتفرقت أجزاؤه فى بطون السّباع وحواصل الطّيور ؛ بل أبلغ من ذلك من أحرق بحيث تفتت أجزاؤه ، وصارت هباء ، وذريت فى

__________________

(١) رواه مسلم ٥ / ٨٧ وما بعدها ـ كتاب المساجد ـ باب استحباب التعوذ من عذاب القبر وعذاب جهنم عن أبى هريرة رضي الله عنه.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) متفق عليه ـ صحيح مسلم ١٧ / ٢٠٣ وما بعدها ـ كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها ـ باب عرض مقعد الميت عليه وإثبات عذاب القبر ، والتعوذ منه. عن أبى أيوب رضي الله عنه.

(٤) رواه مسلم : صحيح مسلم ـ كتاب الجنة ـ باب عرض مقعد الميت من الجنة والنار عليه ، وإثبات عذاب القبر ، والتعوذ منه ٤ / ٢٢٠٠.

/ / أول ل ١٢٤ / ب من النسخة ب.

(٥) ساقط من (أ).

٣٣٧

الرياح العواصف ؛ فإنا نعلم استحالة عذابه ، ومسائلته فى تلك الحالة ؛ لأنه إن كان ذلك من غير حياة ؛ فهو محال ؛ وان كان مع الحياة. [فالحياة] (١) ، لا تقوم بالأجزاء الفردة دون تأليف خاص ؛ وإلا لجاز أن يقال بأن ما من جوهر [يوجد (٢)] إلا وهو حي ، عالم ، قادر ، مريد ، مكلف ، والقول بذلك مما لا يرتضيه لنفسه محصل.

وإن سلمنا الإمكان العقلى غير أن ما ذكرتموه من الظواهر معارض بمثلها

الأول : منها قوله حكاية عن الكفار إذا حشروا (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) (٣) وهو دليل ظاهر على أنهم لم يكونوا [معذبين] (٤) قبل ذلك.

الثانى : قوله ـ تعالى ـ : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (٥) وهو خلاف قول من يقول بأن الميت يحيى للمسألة ثم يموت.

الثالث : قوله ـ تعالى ـ : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (٦) فإنه يدل على الإحياء ابتداء ثم الإماتة ، ثم الإحياء للحشر من غير مزيد ، ومن قال بالإحياء للمسألة وبالموت بعدها ، فقد زاد على مدلول الآية.

الرابع : قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) (٧) وقوله ـ تعالى ـ : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٨) وهو خلاف القول بالمساءلة / لاستدعائها ، السمع ، والإسماع.

والجواب :

أما ما ذكروه من الشبهة الأولى ؛ فقد اختلف المتكلمون فى جوابها.

فمنهم من قال : بالتزام الثّواب والعقاب ، فى حق الموتى ، من غير حياة ، كما حكيناه عن الصالحى ، وابن جرير الطبرى ، وبعض الكرامية (٩) ، وهو مكابرة للمعقول.

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) ساقط من (أ).

(٣) سورة يس ٣٦ / ٥٢.

(٤) ساقط من (أ).

(٥) سورة الدخان ٤٤ / ٥٦.

(٦) سورة البقرة ٢ / ٢٨.

(٧) سورة النمل ٢٧ / ٨٠.

(٨) سورة فاطر ٣٥ / ٢٢.

(٩) انظر رأيهم فيما سبق ل ٢١٩ / أ.

٣٣٨

وأما أصحابنا : فقد اختلفوا فى صورة المصلوب ، وكذا كل ما نشاهده من الميت بعد موته ، وهو على هيئته مددا متطاولة.

فمنهم من قال : ترد الحياة إلى بعض أجزاء البدن ، واختصاصها بذلك والمساءلة ، والعذاب ، وإن لم يكن ذلك مشاهدا لنا.

وأما القاضى أبو بكر (١) : فقد قال : لا يبعد أن ترد الحياة إلى المصلوب وإن كنا نحن لا نشعر بها : كما فى صاحب السكتة ، ويسأل ، ويعذب ، ويكون ذلك خفيا عنا مستورا منا ، ولا بعد فيه ، كما لا بعد فى رؤية النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جبريل ؛ وهو بين أظهر أصحابه ، مع ستره عنهم.

وأما الصورة الأخرى : فجوابها : بمنع اشتراط البنية المخصوصة فى الحياة ، وعند ذلك : فلا مانع أن يرد الله ـ تعالى ـ الحياة إلى كل جزء من البدن ، أو إلى أجزاء مخصوصة منه كما سبق ويسأل ، ويعذب ، وإن كان ذلك مستورا عنا ، وغايته أنه من الخوارق للعادة وهى غير ممتنعة فى مقدور الله ـ تعالى ـ كما سبق تحقيقه.

وأما قوله ـ تعالى ـ : (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا) (٢)؟ فهو دليل على حياتهم ؛ لأن المفهوم من المرقد : هو موضع الاضطجاع للرقاد ، والرقاد من صفات الأحياء. فإثبات المرقد لهم يدلّ على كونهم أحياء فى قبورهم ، وليس فيه ما يدل على عدم العذاب ؛ لجواز أن يكونوا فى مراقدهم معذبين.

ولهذا فإنه يصح أن يقول المريض المدنف (٣) الّذي استولت عليه الآلام : تعذبت فى مرقدى ، وأنا على غاية الألم والقلق ؛ فدل أن المرقد يكون مع الراحة تارة ، ومع مقابلها أخرى. ويحتمل أن يقال : بأن ما يلقونه من عذاب القبر بالنسبة إلى ما يلقونه من عذاب يوم القيامة يكون كالروح والراحة (٤) ، حالة كون الانسان راقدا فى مرقده ، فلذلك قالوا : يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا : أى ما كنا فيه من الروح والراحة بالنسبة إلى هذا العذاب.

__________________

(١) انظر شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٢٢٨ فقد وضح قول القاضى أبو بكر.

(٢) سورة يس ٣٦ / ٥٢.

(٣) المدنف : الدنف بفتحتين : المرض الملازم. وقد دنف المريض من باب طرب : أى ثقل ... وأدنفه المرض يتعدى ولا يلزم فهد مدنف ومدنف. (مختار الصحاح للرازى).

(٤) الروح : الاستراحة وكذا الراحة ـ مختار الصحاح للرازى.

٣٣٩

وإن سلمنا منافاة المرقد للعذاب / / مطلقا ؛ غير أن بعثهم من مرقدهم لا يدل على انتفاء عذاب القبر مطلقا لوجهين :

الأول : أن عذاب القبر غير دائم فى بعض الأوقات دون البعض على ما قال ـ تعالى ـ : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (١) وفيما بين ذلك فالعذاب / يكون مفتّرا ، وقيام الساعة إنما يكون عند ارتفاع النهار على ما وردت به الأحاديث ولعل ذلك يقع مصادفا لوقت الفترة فى مرقدهم.

الثانى : أنه قد ورد فى الروايات الصحاح عن النبي عليه‌السلام «أن عذاب القبر يرتفع فيما بين النفختين : نفخة الصعقة ، ونفخة الحشر (٢) ؛ فلا تقوم الساعة إلا وهم فى مرقدهم غير معذبين. وبه الرد على الصالحى وموافقيه (٣).

وأما قوله ـ تعالى ـ : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (٤) فهو وارد فى حق أهل الجنة ، وعند ذلك فيحتمل أن يكون المراد من قوله (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) جنس الموت ، وإن كانت الصيغة صيغة الواحدان كما فى قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (٥).

والمراد به جنس الناس ، وليس فى ذلك ما يدل على انتفاء كثرة الموت فى نفسه.

وإن سلمنا ظهور اللفظ فى الموتة عن الحياة الأولى ؛ غير أنه يحتمل أنه أراد بذلك تعريف أنهم لا يذوقون فيها ألم الموت كما لقوه فى الموتة الأولى ، [وليس فى ذلك ما يدل على انتفاء موتة أخرى ؛ لجواز أن لا يذوقون فيها ألم الموت ، وشدته كما لقوه فى شدة الموتة الأولى] (٦) ولا يلزم من انتفاء وصف الموتة الأولى عن غيرها ، انتفاء أصل الموت.

ويحتمل أنه أراد بذلك بيان دوام نعيمهم ، وعدم انقطاعه فقال (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ) : أى لا ينقطع نعيمهم بالموت : كانقطاع نعيم أهل الدنيا بالموت ، وليس فى

__________________

/ / أول ل ١٢٥ / أ.

(١) سورة غافر ٤٠ / ٤٦.

(٢) وقد أورده ابن القيم بمعناه فى كتابه الروح ص ١٢٣.

(٣) راجع قول الصالحى ، وابن جرير الطبرى ، وبعض الكرّاميّة ل ٢١٩ / أ.

(٤) سورة الدخان ٤٤ / ٥٦.

(٥) سورة العصر ١٠٣ / ٢.

(٦) ساقط من (أ).

٣٤٠