أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0327-1
الصفحات: ٣٩٨

قولهم : لو كانت داركة بآلة جرمانيّة ؛ لأمكن أن يكون البعض من تلك الآلة مدركا لشيء ، والبعض الآخر غير مدرك له (١) ، فيكون الشخص الواحد عالما بشيء ، وجاهلا به عنه جوابان :

الأول : أن مثل هذا على أصولنا غير ممتنع.

الثانى : أن ما ألزموه فى التعقل لازم عليهم فى القوى الجسمانية : كالشهوة والغضب ، وكل ما هو جواب لهم فيها ؛ فهو جواب لنا فى محل النزاع.

قولهم : لو كانت مدركة بآلة جرمانيّة ؛ لما كانت مدركة للمتضادات (٢).

عنه جوابان :

الأول : أن ما ذكروه مبنى على أنّ التّعقل إنّما يكون بالحلول ، والانطباع ، وهو ممتنع ؛ لما سبق.

الثانى : أنّ ما ذكروه لازم عليهم عند كون النفس ليست جسما ، وما ذكروه فى الجواب عنه ؛ فهو الجواب فيما نحن فيه.

قولهم : إن قوى النفس الإنسانية غير متناهية ، ولو كانت مدركة بآلة جرمانيّة ؛ لكانت متناهية (٣).

فمندفع ؛ إذ لا معنى لكون قوة النفس الإنسانيّة غير متناهية غير صلاحيتها لإدراك ما لا يتناهى من الصّور المعقولة صورة بعد صورة ومعقول بعد معقول ، ومثل ذلك متحقق فى القوة الخالية (٤) والقوى الحساسة الجسمانية ، وما لزم من ذلك فى القوى الخيالية (٤) والحواس الظاهرة أن لا تكون مدركة / بآلة جرمانيّة ، فكذلك فى النفس.

قولهم : إن الأجسام وقواها فاعلة منفعلة ، والنفس فاعلة غير منفعلة كما قرروه (٥) غير صحيح ؛ إذ أمكن أن يقال إن القوى الجسمانية فاعلة بإدراكها غير منفعلة فى نفسها ؛ بل المنفعل : إنما هو هيولاها ، وكذلك فى القوى النفسية.

__________________

(١) الرد على الشبهة الثامنة [الحجة الثامنة للفلاسفة الواردة فى ل ٢٠٣ / أ]

(٢) الرد على الشبهة التاسعة [الحجة التاسعة للفلاسفة الواردة فى ل ٢٠٣ / أ].

(٣) الرد على الشبهة العاشرة للفلاسفة [الحجة العاشرة الواردة فى ل ٢٠٣ / أ].

(٤) من أول : (والقوى الحساسة الجسمانية وما لزم من ذلك فى القوى الخيالية) ساقط من ب.

(٥) راجع الحجة الحادية عشرة ل ٢٠٣ / ب [الرد على الشبهة الحادية عشر].

٣٠١

قولهم : إن الأجسام وقواها إنما تتخلص عما يؤذيها بالهرب عنه ، والحركة المكانية بخلاف القوى العاقلة (١) ؛ فهو باطل ؛ فإنه إن ادعى ذلك فى كل قوة جسمانية ؛ فهو عين المصادرة على المطلوب ، وإن ادعى ذلك فى بعض الأجسام وقواها ؛ فهو غير مفيد للمطلوب ، وبهذا يبطل ما ذكروه من الشبهة الثالثة عشرة (٢).

قولهم : إن كل واحد يعلم من نفسه علما ضروريا أنه الّذي كان من حين ولادته مع علمه بتبدل أجزائه الجسمية (٣).

قلنا : أما الأول : فمسلم.

وأما الثانى : فممنوع. وما المانع أن يقال بأن كل إنسان مشتمل على أجزاء أصلية لا يتصور عليها التبدل والتغير ، من أول الحياة إلى آخرها كما سبق (٤)؟

وتلك الأجزاء جسم لطيف مشابك للبدن كما ذكره الأطباء ، والقاضى أبو بكر (٥).

قولهم : القوى الجسمانية التى هى مصدر الأفعال المختلفة لا بد لها من جامع يجمعها ، ويتصرف / / فيها ، وذلك هو النفس. مسلم.

ولكن لا نسلم أن ذلك الجامع الحاكم لا يكون جسما ، وما المانع أن يكون جسما لطيفا فى داخل هذه الجثة ، وإن لم يكن شيئا من أجزاء الجثة؟. ولا دليل لهم على إبطال ذلك (٦).

وعلى هذا فلا سبيل إلى القطع (٧) فى شيء مما قيل من المذاهب فى حقيقة النفس الإنسانية المدركة العاقلة ، وإن كان الحق غير خارج عنها فعليك بالاجتهاد فى تعيينه ، وإظهاره.

هذا ما عندى فى ذلك. لعل عند غيرى غيره.

__________________

(١) راجع الحجة الثانية عشرة ل ٢٠٣ / ب [الرد على الشبهة الثانية عشر].

(٢) راجع ما مر ل ٢٠٣ / ب.

(٣) راجع الحجة الرابعة عشرة ل ٢٠٣ / ب [الرد على الشبهة الرابعة عشر].

(٤) راجع ما مر ل ٢٠٢ / أ.

(٥) راجع رأى الأطباء والقاضى أبى بكر ل ٢٠٢ / أ.

/ / أول ل ١١٨ / ب.

(٦) راجع ما مر ل ٢٠٣ / ب الحجة الخامسة عشرة للفلاسفة. [الرد على الشبهة الخامسة عشرة].

(٧) بعد هذه المناقشة العميقة للآراء المختلفة فى حقيقة النفس الإنسانية المدركة العاقلة. قرر الآمدي بأنه لا سبيل إلى القطع فى شيء منها. ثم قرر أن الحقّ غير خارج عنها ، وطلب من طلاب العلم الاجتهاد فى تعيينه واظهاره والاستدلال عليه بالحجج القاطعة. والبراهين الساطعة. ولأنه من طلاب الحق ؛ فلا يقلقه أن يظهر الحق على يد غيره فيقول «هذا ما عندى فى ذلك ، ولعل عند غيرى غيره» رحمه‌الله. آمين.

٣٠٢

وإذ أتينا على ما أردناه من إيراد المذاهب فى حقيقة النفس وتتبعها ؛ فلا بد من الإشارة إلى إبطال ما قيل من التفريعات على كون النفس جوهرا بسيطا ، وتتبعها كالجارى من عادتنا.

أما التفريع الأول (١) : فى القدم ، والحدوث.

فنقول : أما من قال بقدم النفس (٢) ؛ فلا بد له من دليل.

قولهم فى الحجة الأولى (٣) : لو كانت حادثة فالفاعل لها إما قديم ، أو حادث. ما المانع أن يكون قديما.

قولهم : يلزم أن تكون قديمة لقدمه ؛ فهو مبنى على القول بأن الموجب ، موجب بالذات ؛ وهو باطل بما سبق.

وبتقدير أن يكون الموجب موجبا بالذات جدلا ؛ فلا نسلم أنه يلزم من قدمه قدم معلوله.

وما المانع على أصلهم من توقف فعل الفاعل بذاته ، وتأثيره فى معلوله على تهيئ القابل / للمعلول : استعداده له ، كما قالوه فى الصّور الجوهرية العنصرية فإنها وإن كانت معلولة لجوهر قديم هو العقل الفعّال ، وأنه فاعل لها بذاته ، فليست قديمة بقدمه ؛ لتوقّف تأثيره فيها على تهيئ القابل لها على أصولهم.

فلئن قالوا : ذلك إنّما يتصوّر فيما يكون وجوده وجودا ماديا ، والنفس ليست كذلك ؛ فهو مبنى على اعتقادهم كون النفس غير ماديّة ، وكل ما يذكرونه فى الدّلالة على ذلك فقد أبطلناه (٤).

وإن سلمنا أن النفس ليست مادّية ، ولكن بمعنى أنّها ليست موجودة فى المادة ، أو بمعنى أنّها غير متعلقة الوجود بوجود المادة.

الأول مسلم ، والثانى ممنوع.

__________________

(١) راجع ما مر ل ٢٠٣ / ب.

(٢) الرد على أفلاطون ومن تابعه.

(٣) الرد على الشبهة الأولى من شبه أفلاطون ومتابعيه. (راجع ل ٢٠٤ / أالحجة الأولى).

(٤) راجع ما مر ل ٢٠٨ / ب.

٣٠٣

وعلى هذا : فما لم تكن المادة موجودة ؛ فلا وجود للنفس وإن كان الفاعل لها بذاته موجودا.

وعلى هذا : فما ذكروه من لزوم قدم النفس ، لقدم علتها : إنما يصح أن لو لم تكن النفس متعلقة بالمادة ، وإنما لا تكون متعلقة بالمادة ؛ أن لو لزم قدمها ، لقدم علتها ؛ وهو دور ممتنع وعلى ما حققناه هاهنا ؛ فلا يخفى الوجه فى إبطال الحجة الثانية على قدم النفس أيضا (١).

وأما القول بحدوث النفس (٢) ، وإن كان قولا حقا ، غير أنه لا بد من تتبع حجج قائليه.

أما الحجة الأولى : فهى باطلة (٣) ؛ أما أولا فلا نسلم أن النفوس الإنسانية من نوع واحد ، وما المانع أن تكون مختلفة بالنوعية؟ وسيأتى إبطال كل ما يذكرونه على ذلك (٤). وإن سلمنا اتحاد نوعيتها ، فما المانع من قدمها على قولهم : بجواز قدم الممكنات؟.

قولهم : لأنها إما أن تكون متحدة ، أو متكثرة. مسلم.

ولكن ما المانع من اتحادها.

قولهم : لأنه يلزم منه اشتراك جميع الأشخاص فيما علمه الواحد ، أو جهله إنما يلزم أن لو لم تكن نسبة النفس إلى بدن كل شخص شرطا فى شعوره فلم قالوا بعدم هذا الاشتراط؟

وإن سلمنا امتناع اتحادها ، فما المانع من تكثرها؟

قولهم : لأن تكثير المتحد بالنوع يستدعى ما به يقع التمايز : مسلم ؛ ولكن لم قالوا بامتناعه؟

قولهم : لأن التمايز إما أن يكون [بين الأنفس لذواتها] (٥) ، أو لأمر خارج.

__________________

(١) الرد على الشبهة الثانية لأفلاطون ومتابعيه. (راجع ل ٢٠٤ / أالحجة الثانية).

(٢) الرد على شبه أرسطو ومن تبعه :

(٣) الرد على الشبهة الأولى لأرسطو ومن تبعه. (راجع ل ٢٠٤ / أالحجة الأولى).

(٤) انظر ما سيأتى ل ٢١٢ / أو ما بعدها.

(٥) ساقط من (أ).

٣٠٤

قلنا : ما المانع أن يكون لازما لها لأمر خارج؟

قولهم : لأن ذلك إنما يكون بسبب المادة ، ولا مادة قبل وجود الأبدان إنما يصح ذلك ؛ إذا لم يكن الموجب لتخصيص كل نفس بعارضها فاعلا مختارا.

وما المانع منه على ما سبق تحقيقه (١)؟

وإن سلمنا أن ذلك لا يكون إلا سبب المادة ولكن ما المانع من ذلك؟

قولهم : لأنه لا مادة قبل وجود الأبدان [إنما يصح أن لو تصور خلو النفس عن البدن] (٢) ، وما المانع على أصولهم أن تكون النفس قديمة ، والأبدان لم تزل تتناسخها من الأزل / إلى الأبد ، وما يذكرونه فى إبطال التناسخ على أصولهم فسيأتى إبطاله (٣).

/ / وإن سلمنا امتناع التناسخ ، وأن الأبدان حادثة لها أول ؛ ولكن يلزم على ما ذكروه امتناع التعدد فى أشخاص العنصر الواحد ؛ وهو محال مخالف للحسّ ، والعيان.

وبيان اللزوم أن يقال : لو تعددت أشخاص العنصر الواحد ؛ فلا بد من تمايزها.

وما به التمايز : إما أن يكون لازما لذات العنصر ، أو لعارض خارج ، الأول محال ؛ لما ذكروه (٤).

والثانى يلزم منه أن يكون ذلك بسبب المادة ، والمادة إما مادة العنصر أو غيرها ، الأول محال ؛ ضرورة اتحاد نوعها ، والثانى يلزم منه أن تكون المادة مادة ؛ وهو تسلسل محال.

وأما الحجة الثانية (٥) : فمبنية على القول بأن الطبيعة لها فعل ، وهو ممتنع على ما سبق (٦) ، وبتقدير التسليم لذلك جدلا ، فلا نسلم أنه لا شيء من فعل الطبيعة معطلا.

وإن سلمنا أنه لا شيء من فعل الطبيعة معطلا ؛ ولكن دائما ، أو فى بعض الأوقات ، الأول ممنوع ، والثانى مسلم.

__________________

(١) راجع ما مر ل ٢١٨ / أوما بعدها.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) انظر ما سيأتى ل ٢١٤ / ب.

/ / أول ل ١١٩ / أ.

(٤) راجع ما مر ل ٢٠٤ / ب وما بعدها.

(٥) الرد على الشبهة الثانية لأرسطو ومتابعيه. (راجع ل ٢٠٤ / ب الحجة الثانية).

(٦) راجع ما مر فى الجزء الأول ل ٢٢٠ / ب وما بعدها فى الرد على الطبيعيين.

٣٠٥

وعلى هذا تفعل الطبيعة للنفس قبل وجود البدن ، وإن كان معطلا ؛ فلا يكون معطلا بتقدير المقارنة للبدن ،

وإن سلمنا امتناع تعطيل فعل الطبيعة دائما ؛ ولكن إنما يلزم ذلك أن لو خلت النفس عن البدن ، وذلك مبنى على امتناع التناسخ على أصولهم ؛ وسيأتى إبطاله.

ثم يلزم على من قال منهم ببقاء أنفس الأطفال بعد المفارقة أن لا يبقى ؛ لأنها تكون معطلة عن الإدراك والتحريك الجسمانى كما ذكروه.

وأما الحجة الثالثة : فباطلة أيضا (١) ؛ إذ ليس يمتنع أن يقال إن ما وجدنا النفس عليه من الحال عند ابتداء وجود البدن هو حالها ، وكمالها فى العدم قبل حدوث البدن ، وما يتجدد لها من الأحوال ، والانتقالات وأنواع التغيرات : فإنما هو لها بسبب البدن.

وأما التفريع الثانى : فى وحدة النفس الإنسانية وتكثرها.

فنقول ـ [أما] (٢) حجة من قال بوحدتها : فمبنية على القول بقدمها ، وامتناع تكثرها قبل وجود الأبدان ، وقد أبطلناه (٣).

وأما القول بتكثرها وإن كان هو الحق : غير أن بناء ذلك على ما قيل من الحجة وهو فاسد بما أسلفناه (٤) من جواز أن يكون ما اختص به كل واحد من أشخاص الناس من العلم ، والجهل ، وغيره مما قيل مشروطا باتصال تلك النفس المتحدة ببدنه.

وعلى هذا : فقد بطل التفريع على ذلك بأنها متكثرة بالنوع والشخص ، وبتقدير التسليم لأصل التكثر ؛ فلا بد من تتبع حجج المذهبين.

أما الحجة على القول بتكثرها بالنوع ففاسدة ؛ / فإنه لا مانع من أن يكون اختلاف النفوس فيما فرض من الأحوال المذكورة لتخصيصها بها مستندا ذلك إلى فعل فاعل مختار كما سبق تحقيقه (٥).

وبتقدير أن لا يكون المخصص لها بذلك فاعلا مختارا ، فلا مانع أن يكون ذلك ، بسبب اختلاف أمزجة أبدانها ، لا لاختلافها فى جوهرها.

__________________

(١) الرد على الشبهة الثالثة لأرسطو ومتابعيه. (راجع ل ٢٠٤ / ب الحجة الثالثة).

(٢) ساقط من (أ).

(٣) راجع ما مر فى ل ٢١١ / أ.

(٤) راجع ما مر فى ل ٢٠٥ / أ.

(٥) راجع ما مر فى الجزء الأول ل ٢١١ / ب وما بعدها.

٣٠٦

وليس ذلك إلا كما قيل من نسبة اختلاف أحوال النار فى لهبها فى الكمية والكيفية وطول الزمان ، وقصره إلى المواد التى فيها الاشتعال من الحطب ، والقصب واللطيف والكثيف مع اتحاد جوهر النار وصورتها النوعية ، وكذلك اختلاف الألوان الحادثة بسبب مطرح شعاع الشمس على ما قبلها من الزجاجات المختلفة الألوان ، بسبب اختلاف الزجاجات المقابلة ، وإن كان الشعاع المتصل بها واحدا فى نوعه.

وهذه الأحوال وإن كان منها ما قد يعرض للبدن بآليته للنفس ، وبسبب عوارض النفس كما قيل ، إلا أنها غير مستعينة فى عروض ذلك العارض لها عن البدن ومزاجه ويكون البدن معينا فى عروض ذلك العارض لها ، أولا بالفعل ، ويكون على حسب مزاج ذلك البدن ، وحاله ، حتى أنه لو كان على مزاج غير ذلك المزاج ، لم يعرض لها إلا ما عرض ، وتكون هى بعد ذلك متعينة ، وسببا لعروض ما يعرض للبدن ثانيا.

كيف لا يكون كذلك ، واختلاف ما قيل من أحوال الأنفس للأشخاص المتعددة لا يزيد على اختلاف حال النفس الواحدة لبدن واحد ، حتى أنها تكون تارة عالمة ، وتارة جاهلة ، وتارة قوية ، وتارة ضعيفة إلى غير ذلك من الاختلافات الكائنة من الأنفس المتعددة ، فلو كان ذلك يدل / / على اختلاف الأنفس فى جوهريتها ، ونوعيتها عند تعددها بتعدد الأشخاص ؛ لدل على اختلافها بالجوهرية مع اتحاد الشخص ؛ وللزم من ذلك إما اجتماع نفسين فى بدن واحد ؛ وهو محال على ما تقدم (١).

أو أن يكون ما كان العارض الأول لها قد فسدت ، ولم يقولوا بذلك. وإذا لم يلزم من اختلاف هذه الأحوال اختلاف جوهرية النفس مع اتحاد الشخص ، لم يلزم مع تعدد الاشخاص.

وعلى هذا : إذا كانت على خلق عند كون بدنها على مزاج مخصوص ، ثم انتقل عنه إلى مزاج آخر يضاد الأول : كالانتقال من الصحة إلى المرض ، والحرارة إلى البرودة ، والرطوبة إلى اليبوسة ، وبالعكس ، فقد لا يبقى خلق النفس على حالة واحدة ، بل ينتقل إلى خلق / آخر مضاد للأول ، وهذا كما نشاهده من تبدل الخلق السيئ بالحسن ، والبخل بالكرم ، والعلم بالجهل ، وبالعكس فى الكل عند اختلاف أمزجة الأبدان ، وانتقالها من

__________________

/ / أول ل ١١٩ / ب.

(١) راجع ما مر ل ٢٠٥ / أ.

٣٠٧

المرض إلى الصحة ، وبالعكس إلا أنه ربما لا يؤثر على أى انتقال قدر ، وأى اختلاف اتفق ، حتى يكون اختلاف خلق النفس تابعا لاختلاف مزاج البدن مهما كان ووقع ؛ بل يكون ذلك متوقعا على حد محدود ، واختلاف معين فى المزاج البدنى عند الطبيعة على نحو ما قالوه فى كون الصور العنصرية ، وفسادها عند استحالة عوارض موادها ، وانتقالها من حالة إلى حالة ، نعم لا يبعد أن تكون الطبيعة قد اقتضت وضع البدن ، أو بعضه على مزاج مخصوص قابل للنفس من حيث هى نفس إنسانية ، أو غيرها ، ويكون اقتضى ذلك مع اقتضاء كون النفس ، أو قبله حتى لو فسد ، أو تغير عن ذلك الحد المحدود الّذي يتوقف عليه اتصال النفس بالبدن ؛ لفارقت النفس البدن ، وما مثل هذا المزاج لا يتصور أن يخالف فيه بدن بدنا من الأبدان الإنسانية.

وأما ما وراء ذلك من الامتزاجات التى تتوقف عليها العوارض النفسية الخارجة عن جوهرية النفس فمما لا يبعد تبدلها ، والقول بانتقالها من حال إلى حال ، ومن شأن إلى شأن.

وعلى هذا فما احتجوا به من أقوال أسلافهم من أن الأنواع المختلفة ذوات النفوس إنما اختلفت أمزجتها ، وأشكالها ؛ لاختلاف طبائعها فى أنفسها ؛ فقول غير موثوق به ، ولا هو حجة فى نفسه.

وبتقدير أن يكون حجة ؛ فيجب حمله على الأمزجة التى بها قبول البدن للنفس من حيث هى نفس مخصوصة ، إما نفس إنسان ، أو فرس لا على غيرها من الأمزجة.

وأما قول أرسطو فى الحرية فليس بحجة.

وإن كان حجة ؛ فلا يمتنع أن يكون المراد من قوله الحرية ملكة نفسانية ، ومن قوله إن الحرية طباع أول جوهرى ـ أن ذلك من توابع النفس مشروطا بمزاج البدن ؛ وذلك لا يلزم منه عموم الحرية لكل إنسان ، وإن اتحدت طبيعة أنفسهم.

وأما الحجة على القول باتحاد نوع الأنفس الإنسانية ، فمبنية على اشتراك الأنفس فى أصل القوة العملية والنظرية ، وإنما يلزم ؛ أن لو كان اشتراكها فى هذه القوى لذاتها.

وما المانع أن يكون ذلك لها من فاعل مختار؟

وبتقدير أن تكون تلك القوى من لوازم ذاتها ؛ فلا مانع من اشتراك المختلفات فى لازم عام لها.

٣٠٨

وأما حجج التفريع الثالث : وهو أن النفس هل تفوت بفوات البدن أم لا؟ فمدخولة.

أما الحجة الأولى : على امتناع / بقائها : فمبنية على امتناع وجود النفس قبل وجود بدنها ، وقد سبق إبطال حججهم على ذلك (١) ، وبتقدير امتناع سبق النفس على البدن فى الوجود ، فالقول بامتناع وجودها بعد مفارقتها لبدنها ؛ لامتناع وجودها [قبله تمثيل من غير دليل وما هو المساعد فى امتناع وجودها] (٢) قبل وجود البدن غير متحقق بعد المفارقة وذلك لأن امتناع وجودها قبل البدن إنما كان عندهم ؛ لاستحالة وجودها متحدة ومتكثرة على ما قرروه (٣) ؛ وهو غير مساعد بعد المفارقة إذ أمكن القول بتكثرها ، بسبب نسبتها إلى ما كان لها من أبدانها ؛ وذلك غير متحقق قبل وجود الأبدان ؛ فافترقا.

/ / وأما الحجة الثانية : فمبنية على أن النفس من فعل الطبيعة ، وأن وجود النفس قبل البدن يكون معطلا ، وقد سبق إبطاله (٤).

وأما حجة القول بالتفصيل ؛ وهو القول ببقاء الأنفس الكاملة دون غيرها ؛ ففاسدة أيضا.

قولهم : لأن أفعال النفس منها ما يكون بالبدن والآلة ، ومنها ما يكون للنفس لذاتها ؛ فهو باطل.

أما القسم الأول ؛ فلأنه مبنى على أن النفس فى بعض أفعالها تفتقر إلى آلة وبنية مخصوصة ، وأما الثانى فمبنى على أن النفس قد تعقل بذاتها ، وقد أبطلناهما ، وبينا أن كل الأفعال للأنفس وغيرها ليس إلا عن فاعل قديم مختار كما سبق (٥).

وبتقدير التسليم لما ذكروه من القسمين ، غير أنه يمتنع القول بوجوب عدم النفس إذا لم يكن قد تكملت بالعلوم ولا بقيت فاعلة بالآلة ؛ إذ هو مبنى على امتناع وجود النفس معطلة عن الأفعال ، وقد أبطلناه فيما تقدم.

وأما حجج القول بوجوب بقاء النفس بعد المفارقة مطلقا ، فمدخولة أيضا.

__________________

(١) انظر ما مر ل ٢٠٤ / أ.

(٢) ساقط من أ.

(٣) قارن بما ورد فى غاية المرام للآمدى ص ٢٧٣.

/ / أول ل ١٢٠ / أ.

(٤) قارن بما ورد فى غاية المرام ص ٢٤٣.

(٥) راجع ما مر ل ٢١٠ / أ.

٣٠٩

أما الحجة الأولى القائلة بأن ما انعدم بعد وجوده إما أن يكون انعدامه لعدم علته ، الفاعلة له ؛ أو لوجود مضاد يعدمه ـ فباطلة.

أما أولا : فلا نسلم الحصر ، وما المانع أن يكون انعدامه فى الحال الثانى من وجوده لذاته كما تقرر فى الأعراض؟ ، وبتقدير تسليم امتناع عدم ما وجد لذاته ، فما المانع أن يكون انعدامه لفاعل مختار أعدمه ، أو لفوات شرط بقائه ، وانقطاع وجود ما لا بد لوجوده منه بأن لا يخلقه الله ـ تعالى ـ كما سبق فى الفناء (١).

وإن سلمنا الحصر فى القسمين ، ولكن ما المانع من عدم النفس على أصولهم لعدم علتها؟

قولهم : لأن علتها العقل الفعال ، وهو غير قابل للفساد.

قلنا : لا نسلم وجود العقل الفعال فضلا عن كونه علة كما سبق تحقيقه.

وإن سلمنا وجوده ؛ فلا نسلم أنه العلة للنفوس الإنسانية.

وإن سلمنا أنه / علة النفوس الإنسانية ؛ فلا نسلم أنه غير قابل للفساد ، بل النزاع فيه كالنزاع فى النفس.

وإن سلمنا امتناع انعدامها لانعدام علتها ؛ فما المانع أن يكون ذلك بسبب وجود مضاد لها؟

وأما قولهم : لأن ذلك إنما يتصور مع قيام الضدين (٢) بموضوع واحد ، أو محل واحد لا نسلم ذلك وما المانع أن يكون ضدا لها ، بمعنى أنه يمتنع وجودها مع وجوده وإن لم يجتمعا فى موضوع ولا محل ، وهو أعم من كونه ضدا مانعا فى المحل.

وإن سلمنا أن ذلك لا يكون إلا كما ذكروه ، ولكن لا نسلم أن النفس ليست موجودة فى موضوع ، وإنما لا يكون فى موضوع أن لو كانت جوهرا ، ودليله غير يقينى.

وإن سلمنا امتناع وجودها فى موضوع ؛ فلا نسلم امتناع وجودها فى محل. وما المانع من قيامها بالمحل على نحو قيام الصور الجوهرية بموادها؟ وما ذكروه فى إحالة ذلك فقد أبطلناه.

__________________

(١) انظر ما مر فى الأصل الخامس : فى فناء الجواهر والأعراض ل ١٠٣ / أو ما بعدها.

(٢) الضدان : صفتان وجوديتان تتعاقبان فى موضع واحد ، يستحيل اجتماعهما : كالسواد ، والبياض. والفرق بين الضدين ، والنقيضين : أن النقيضين لا يجتمعان ، ولا يرتفعان : كالعدم ، والوجود. والضدين : لا يجتمعان ، ولكن يرتفعان : كالسواد ، والبياض ، [التعريفات للجرجانى ص ١٥٥].

٣١٠

وأما الحجة الثانية القائلة بأنه لو لزم فوات النفس من فوات بدنها ؛ لكانت متعلقة به تعلق المتقدم ، أو المتأخر ، أو المكان ؛ فباطلة أيضا (١).

فإنه ما المانع أن يكون انعدامها عند انعدام البدن ، ومفارقتها له بإعدام فاعل مختار لهما ؛ لا لما بينهما من التعلق؟

وإن سلمنا الحصر فيما ذكر من الأقسام ؛ فما المانع أن تكون النفس متقدمة؟

قولهم : لأنه يلزم أن تكون متقدمة بالذات.

لا نسلم ؛ وما المانع من تقدمها عليه بغير هذه الجهة؟

قولهم : لأن غير هذا النوع من التقدم ، لا يوجب الفوات من الفوات ، لا نسلم ، فإن التقدم بالطبع غير التقدم بالذات كما سبق تحقيقه (٢) كما فى تقدم الواحد على الاثنين ، ومع ذلك فإنه يلزم من فوات الواحد ، فوات الاثنين.

قولهم : لو كان كذلك للزم فوات البدن من فوات النفس ، لا فوات النفس من فوات البدن ؛ إذ المعلول لا يوجب فواته فوات علته.

[قلنا : المعلول] (٣) من حيث هو معلول ، وإن لم يوجب فواته فوات علته ، فلم قلتم إنه لا يوجب فوات علته من جهة أخرى؟ ولا سبيل إلى نفى ذلك.

وإن سلمنا امتناع كونها متقدمة على البدن ، فما المانع من تقدم / / البدن عليها؟

قولهم : يلزم من ذلك أن يكون البدن علة للنفس. ممنوع.

وما المانع من تقديمه عليها بالذات ؛ لكونه شرطا فى وجودها لا علة؟

وإن سلمنا أنه لا بد وأن يكون علة لها ، فما المانع من ذلك؟

قولهم : إما أن تكون علة فاعلية ، أو مادية ، أو صورية ، أو غائية ؛ مسلم ؛ ولكن ما المانع أن تكون علة فاعلية؟

قولهم : يلزم / منه استفادة الأشرف من الأخس.

__________________

(١) قارن بما ذكره فى غاية المرام ص ٢٧٥.

(٢) راجع ما مر فى الأصل الثالث ـ الفصل الثامن : فى معنى المتقدم والمتأخر ومعا ل ٨١ / أوما بعدها.

(٣) ساقط من (أ).

/ / أول ل ١٢٠ / ب.

٣١١

فهو مبنى على أن النفس جوهر بسيط عقلى ، كما هو مذهبهم ؛ وهو غير مسلم كما سبق إبطاله (١).

وعند ذلك فإما أن يكون جسما ، أو جوهرا فردا ، أو عرضا.

فإن كان الأول : فلا نسلم التفاوت بين الأجسام فى الشرف ، والخسة ؛ إذ هى متجانسة على ما عرف من أصلنا ، وإن كانت جوهرا فردا فالبدن أيضا [مؤلف] (٢) من جواهر فردة ، وإنما يلزم التفاوت فى البدن أن لو لم تكن الجواهر متجانسة ؛ وهو غير مسلم.

وإن سلمنا امتناع كونه فاعلا لها ؛ فما المانع أن يكون قابلا؟ [وما ذكروه فى إبطاله فقد عرف ما فيه.

وإن سلمنا امتناع التقدم والتأخر فما المانع من التكافؤ] (٣).

وما ذكروه فى تقرير امتناعه ، فإنما يلزم أن لو كان كل متكافئين متضايفين بحيث يتوقف تعقل كل منهما على تعقل الآخر ، وليس كذلك ، بل التكافؤ أعم من ذلك ، وذلك بأن يكون كل واحد من الأمرين بحيث يلزم من وجوده ، وجود الآخر ومن عدمه عدمه ، فى نفس الأمر لا فى التعقل.

وأما الحجة الثالثة : القائلة بأن النفس لو كانت قابلة للفساد ؛ لكان فيها قوة قابلة للفساد ؛ فأظهر فى الفساد (٤).

وذلك أنهم [إن] (٥) أرادوا بقوة قبول البقاء ، وقوة قبول الفساد ، إمكان بقائها وفسادها ؛ فمسلم. وقد بينا أن الإمكان صفة عدمية لا وجودية. وعلى هذا ؛ فلا يلزم التركيب فى النفس كما ذكروه.

وإن أرادوا بالقوة غير ذلك ؛ فهو غير مسلم ، ولا دليل عليه.

وإن سلمنا أن قوة قبول البقاء والفساد ، أمر وراء الإمكان ، فإنما يلزم التركيب فى النفس أن لو كانت هذه القوى داخلة فى حقيقة النفس ، وهو غير مسلم.

وما المانع أن تكون من الصفات العرضية للنفس مع بساطتها ، والنفس قابلة لها؟

__________________

(١) راجع ما مر ل ٢١٠ / أ.

(٢) ساقط من أ.

(٣) ساقط من أ.

(٤) قارن بما ذكره فى غاية المرام ص ٢٧٥.

(٥) ساقط من (أ).

٣١٢

ولا تكون هذه القوى من قبل الصورة المقومة للنفس ، ثم يلزم على ما ذكروه ؛ امتناع قبول الصور الجوهرية العنصرية للفساد ؛ ضرورة بساطتها ، وعدم التركيب فيها ، ولم يقولوا به (١) وكل ما هو جواب لهم فى الصور العنصرية ؛ فهو جواب فى النفوس الإنسانية.

وإن سلمنا أن ذلك يفضى إلى التركيب فى النفس ، ولكن لا نسلم امتناعه ، وما ذكروه فى تقرير امتناعه ؛ فقد أبطلناه ، فيما تقدم (٢).

وأما التفريع الرابع : المتعلق بالتناسخ :

أما حجة القائلين بوجوب التناسخ : فمبنية على أن النفس باقية بعد فوات البدن ، وقد بينا إبطال أدلتهم على ذلك (٣).

وبتقدير بقائها بعد مفارقة بدنها ؛ فلا نسلم امتناع قيامها بنفسها مجردة عن الأبدان ، وما ذكروه من دليل امتناع وجود النفس قبل وجود بدنها ؛ فقد سبق (٤) إبطاله.

وإن سلمنا امتناع / وجودها سابقة على وجود بدنها ؛ ولكن لا نسلم مساعدة دليل ذلك بعد مفارقة البدن على ما سبق تحقيقه (٥) ، ثم لو وجب التناسخ ؛ امتنع بقاء النفس دون بدن تتصل به ؛ فلا يخلوا : إما أن يكون كل بدن اتصلت به قد اتصلت قبله ببدن آخر إلى غير النهاية ، أو يقف الأمر على بدن لم تتصل قبله ببدن آخر.

فإن كان الأول : لزم منه وجود أبدان كائنة متعاقبة غير متناهية ؛ وهو محال كما سبق فى إثبات واجب الوجود (٦).

وإن كان الثانى : فذلك البدن لا يخرج عن أن يكون نفيسا ، أو خسيسا. وأى الأمرين قدر ؛ فهى لم تستحقه ؛ بناء على فعل لها سابق عليه ؛ وهو خلاف أصل هذا القائل.

وأما حجج القائلين بامتناع التناسخ : فضعيفة أيضا.

__________________

(١) قارن بما فى غاية المرام ص ٢٧٥.

(٢) راجع ما مر ل ٢٠٥ / أ.

(٣) انظر ما مر ل ٢١٣ / ب.

(٤) راجع ما مر ل ٢١١ / أوما بعدها.

(٥) راجع ما مر ل ٢١١ / ب.

(٦) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الأول ـ المسألة الأولى : فى إثبات واجب الوجود لذاته ل ٤١ / أوما بعدها.

٣١٣

أما الحجة الأولى : فهى مبنية على أن كل بدن ، فإنه يستحق لذاته نفسا تدبره وهو غير مسلم ، وما المانع أن يكون وجود النفس للبدن بفعل فاعل مختار ، لا أنه يكون مستحقا لها لذاته ؛ لما بيناه من إبطال الاقتضاء الطبيعى ، ووجوب إسناد جميع الكائنات إلى الله (١) ـ تعالى ـ؟

وإن سلمنا جدلا أن كل / / بدن فانه يستحق لذاته نفسا تدبره ؛ ولكن ما المانع أن تكون هى ما انتقلت إليه من البدن الآخر؟

وعلى هذا : فلا يفضى إلى اجتماع نفسين فى بدن واحد كما ذكروه.

أما الحجة الثانية : فإنما يلزم أن لو لم يكن اتصالها بالبدن الأول شرطا فى تذكر تلك الأحوال الموجودة معه [وبا عانته] (٢) ولعله شرط وقد انتفى ، ويمتنع وجود المشروط مع انتفاء شرطه.

فإن قيل : فما ذكرتموه وإن دل على إبطال مآخذ الفريقين ؛ فما مذهبكم فى التناسخ؟

قلنا : إما أن تكون النفس فى نفس الأمر عرضا ، أو جوهرا.

فإن كانت عرضا فلا يمتنع إعادتها عقلا فى بدنها ، أو غيره.

وإن كانت جوهرا ، فلا يمتنع عقلا أن ينقله الله ـ تعالى إلى جسم آخر ، أو يعدمه ، ويعيده فى غير ذلك البدن الأول ؛ وقد ورد السمع بذلك حيث قال عليه‌السلام «إن أرواح المؤمنين فى حواصل طيور خضر فى الجنة» (٣) وروى عنه أيضا أنه قال «أرواح المؤمنين فى قناديل معلقة تحت العرش» (٤).

غير أن الأمة من المسلمين متفقة على امتناع التناسخ ؛ فوجب اتباعه.

__________________

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الثانى ـ فى أنه لا خالق إلا الله تعالى ـ ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه. الفرع الثالث : فى الرد على الطبيعيين ل ٢٢٠ / ب.

/ / أول ل ١٢١ / أ.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) رواه مسلم فى كتاب الإمارة : بلفظ : أرواح الشهداء ، ورواه أحمد : نسمة المؤمن فى طائر تعلق فى شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم القيامة. راجع التذكرة للقرطبى ١٧٥ ـ ١٨٥.

(٤) رواه أحمد عن ابن عباس رضى الله عنهما ـ وراجع معارج القدس للغزالى ص ٩٥.

٣١٤

وأما ما ذكره الفلاسفة الإلهيون من أحوال النفس ، ونعيمها ، وعذابها بعد مفارقة البدن على ما وصفوه (١).

فلقائل أن يقول : وإن سلمنا وجود الأنفس الإنسانية على وفق ما يعتقدونه وأنها لا تفوت بفوات الأبدان ، وأن الأبدان لا يتناسخها / مع ما فى كل واحد من الأشكال على أصولهم كما تقدم (٢) ، غير أن القول بسعادة النفس وشقاوتها بعد مفارقة بدنها على ما ذكروه فمتوقف على كون النفس عالمة بمعنى انطباع صور المعقولات فيها ؛ وهو غير مسلم على ما سبق.

وإن سلمنا أن العلم عبارة عن انطباع صورة المعلوم فى النفس ؛ ولكن ما ذكروه إنما يستقيم أن لو أمكن انطباع صور المعقولات فيها بعد المفارقة.

وما المانع أن يكون اتصالها بالبدن شرطا فى دوام الانطباع وحصول العلم لها كما كان شرطا فى الابتداء ، أو أن تكون المفارقة مانعة من ذلك؟.

وقولهم : غير بعيد أن تتصل النفس بعد مفارقة بدنها ببعض الأجرام الفلكية يتخيل به صورا يلتذ بها ، أو يشقى ؛ فهو اعتراف بعين التناسخ الّذي أبطلوه ، ولم يقولوا به.

كيف وأن ما يتخيل بالقوى الجسمانية عندهم غير خارج عن الأمور الجزئية ، والنفس الناطقة غير مدركة للأمور الجزئية عندهم.

هذا ما يتعلق بالمعاد النفسانى (٣).

__________________

(١) راجع ما مر ل ٢٠٧ / أوما بعدها.

(٢) انظر ما مر ل ٢٠٧ / أ.

(٣) لمزيد من البحث والدراسة انظر ما ذكره ابن سينا فى النجاة ١٨٩ وقارن بما ذكره عبد الجبار فى المغنى ١٣ / ٤٠٥ ـ ٤٣٠ وأصول الدين للبغدادى ص ٢٣٥ وما بعدها وغاية المرام للآمدى ص ٢٧٨.

٣١٥
٣١٦

الأصل الثانى : فى السمعيات.

ويشتمل على أربعة فصول :

الفصل الأول : فى الدليل السمعى وأقسامه وأنه هل يفيد اليقين أم لا؟

الفصل الثانى : فى خلق الجنة والنار.

الفصل الثالث : فى عذاب القبر ، ومساءلة منكر ونكير.

الفصل الرابع : فى الصراط ، والميزان ، والحساب ، وقراءة الكتب ، والحوض المورود ، وشهادة الأعضاء.

٣١٧
٣١٨

الفصل الأول

فى الدليل السمعى ، وأقسامه ، وأنه هل يفيد اليقين ، أم لا؟

وقد كنا بينا فى مبدأ الكتاب انقسام الدليل : إلى عقلى ، وسمعى. وبينا الدليل العقلى ، وأقسامه (١).

وهذا أوان بيان الدليل السمعى ، وأقسامه.

والدليل السمعى فى العرف هو الدليل اللفظى المسموع.

وفى عرف الفقهاء : الدليل السمعى ، هو الدليل الشرعى.

وهو عندهم منقسم إلى : الكتاب (٢) ، والسنة (٣) ، وإجماع (٤) الأمة والقياس (٥) والاستدلال (٦).

وذلك لأن الدليل الشرعى : إما أن يكون وروده وظهوره ، من جهة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو من جهة غيره.

فإن كان الأول : فإما أن يكون من قبيل المتلو ، أو غيره.

فإن كان من قبيل المتلو : فهو الكتاب.

__________________

(١) انظر ما سبق فى القاعدة الثالثة : فى الطرق الموصلة إلى المطلوبات النظرية ـ الباب الثانى : فى الدليل ـ الفصل الأول : فى حد الدليل وانقسامه إلى : عقلى ، وغير عقلى. (ل ٣٢ / ب وما بعدها). ولمزيد من البحث والدراسة:

انظر الإحكام للآمدى ١ / ٨ ، منتهى السئول ١ / ٤ له أيضا. وشرح الطوالع ص ٢٥ ، ٢٦ ، وشرح المواقف ١ / ١٥٣ ، وشرح المقاصد ١ / ٣٩.

(٢) الكتاب : هو القرآن المنزل. [انظر الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى ١ / ١٣٧].

(٣) السّنة : «وهى فى اللغة عبارة عن الطريقة». «وأما فى الشرع : فقد تطلق على ما كان من العبادات نافلة منقولة عن النبي ـ عليه‌السلام ـ. وقد تطلق على ما صدر عن الرسول من الأدلة الشرعية مما ليس بمتلو ، ولا هو معجز ، ولا داخل فى المعجز. وهذا النوع هو المقصود بالبيان هاهنا. ويدخل فى ذلك أقوال النبي ـ عليه‌السلام ـ وأفعاله وتقاريره» [أنظر الإحكام للآمدى ١ / ١٤٥].

(٤) الإجماع : «عبارة عن اتفاق جملة أهل الحل والعقد من أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع» [المصدر السابق ١ / ١٦٨].

(٥) القياس : قال الآمدي : «والمختار فى حد القياس أن يقال : إنه عبارة عن الاستواء بين الفرع والأصل فى العلة المستنبطة من حكم الأصل». [المصدر السابق ٣ / ١٧٠ ، ١٧١].

(٦) الاستدلال : قال الآمدي : «أما معناه فى اللغة : فهو استفعال من طلب الدليل والطريق المرشد إلى المطلوب».

وأما فى اصطلاح الفقهاء : «فإنه يطلق تارة بمعنى ذكر الدليل ، وسواء كان الدليل نصا أو اجماعا ، أو قياسا أو غيره. ويطلق تارة على نوع خاص من أنواع الأدلة وهذا هو المطلوب بيانه. وهو عبارة عن دليل لا يكون نصا ولا إجماعا ولا قياسا.» [المصدر السابق ٤ / ٣٦١].

٣١٩

وإن كان من قبيل غير المتلوّ : فهو السّنة. ويدخل فيه أقوال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأفعاله وأقاريره.

وإن كان الثانى : فإما أن يشترط فيه عصمة من صدر عنه ، أو لا يشترط.

فإن كان الأول : فهو الإجماع.

وإن كان الثانى : فإما أن تكون صورته ونظمه يحمل على معلوم مجمع عليه من / الأمة ، أو منصوص عليه من الشارع ، أو لا يكون كذلك.

فإن كان الأول : فهو القياس.

وإن كان الثانى : فهو الاستدلال. وقد عرفنا حقيقة كل واحد فى غير هذا من كتبنا (١).

/ / وأما فى عرف المتكلمين : فإنهم إذا أطلقوا الدليل السمعى : فلا يريدون به غير الكتاب ، والسنة ، وإجماع الأمة (٢).

ولا بد من النظر فى متنه وسنده ، أما النظر فى متنه : أى فى دلالته (٣) : فهو ينقسم إلى ما يدل بمنظومه : أى بصريح دلالته اللفظية. وإلى ما يدل لا بجهة المنظوم.

فإن كان الأول : فلا يخلو إما أن يتحد مدلوله بحيث لا يحتمل اللفظ غيره. أو لا يتحد ، بل هو متكثر.

فإن كان الأول : فهو الدلالة النصية القاطعة من جهة اللفظ : وذلك كدلالة لفظ العشرة على معناها مع الاقتصار عليه ، فإنه لا يحتمل لغة عند الاقتصار عليه أن يحمل على ما هو أزيد ، أو أنقص من ذلك.

__________________

(١) راجع الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى (أربعة أجزاء) طبع دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان. ومنتهى السئول فى علم الأصول (مختصر الإحكام) طبع محمد على صبيح بمصر.

/ / أول ل ١٢١ / ب.

(٢) ذكر الآمدي فى الجزء الثانى من كتابه الإحكام فى أصول الأحكام : الأصل الرابع : فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع : وهو نوعان : يتعلق أحدهما بالنظر فى السند ، والآخر بالنظر فى المتن.

النوع الأول : النظر فى السند. وهو الأخبار عن المتن. ويشتمل على ثلاثة أبواب.

الباب الأول : النظر فى السند. وهو الأخبار عن المتن. ويشتمل على ثلاثة أبواب.

الباب الأول فى حقيقة الخبر وأقسامه. من ص ٢٤٧ ـ ٢٥٧.

الباب الثانى فى المتواتر. من ص ٢٥٨ ـ ٢٧٢.

الباب الثالث : فى أخبار الآحاد. من ص ٢٧٣ ـ ٣٥٥.

النوع الثانى : فيما يتعلق بالنظر فى المتن وفيه بابان :

أولهما : فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع.

وثانيهما : فيما يشترك فيه الكتاب والسنة دون ما عداهما من الأدلة.

(٣) الدلالة : هى كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر. والشيء الأول : هو الدال والثانى : هو المدلول. [كتاب التعريفات للجرجانى ص ١١٦].

٣٢٠