أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0327-1
الصفحات: ٣٩٨

فلا بد لها من جامع يجمعها ، ويكون هو المتصرف فيها ، وليس ذلك شيء من أجزاء البدن ، ولا ما هو قائم به.

فإذن هو ما يشير كل واحد إليه أنه هو ذاته ، مع قطع النظر عن جميع الأجزاء البدنية الظاهرة ، والباطنة ، وذلك هو النفس الإنسانية (١).

ثم اختلف هؤلاء فى أربعة مواضع :

الأول : فى قدم النفس الإنسانية ، وحدوثها.

الثانى : فى وحدتها ، وتكثّرها.

الثالث : فى أنها هل تفوت بفوات البدن ، أم لا؟

الرابع : فى أنها هل تنتقل إلى بدن آخر ، أم لا؟

الموضع الأول : اختلفوا فى قدمها ، وحدوثها.

فقال أفلاطون ، (٢) ومن تابعه : إنها قديمة.

وقال أرسطاطاليس (٣) ، ومن تابعه : إنها حادثة بحدوث / بدنها.

وقد احتج القائلون بقدمها بحجتين :

الحجة الأولى : أنهم قالوا لو كانت حادثة بعد أن لم تكن ؛ لكان لها فاعل يحدثها ، وذلك الفاعل : إما أن يكون قديما ، أو حادثا.

لا جائز أن يكون حادثا ؛ وإلا فالكلام فيه كالكلام فيما عند حدوثه ، ويلزم منه التسلسل ، أو الدور ؛ وهما ممتنعان.

فلم يبق إلا أن يكون قديما ، أو مستندا إلى القديم ، ويلزم من قدم العلة قدم معلولها ؛ لاستحالة انفكاكه عنها.

__________________

(١) انظر ما استدل به الفلاسفة على تجرد النفس الإنسانية فى تهافت الفلاسفة للامام الغزالى ص ٢٥٠ ، وتهافت التهافت لابن رشد القسم الثانى : ٨٢ ـ ٨٥.

(٢) راجع ترجمته فى هامش ل ٥٠ / ب من الجزء الثانى.

وانظر رأيه فى محاورات أفلاطون ـ فيدون ـ ترجمة د. زكى نجيب محمود ص ٢٠٩.

(٣) راجع ترجمته فى هامش ل ٨٥ / أمن الجزء الثانى. وراجع رأيه فى الفلسفة الإغريقية للدكتور محمد غلاب ٢ / ٨٠.

٢٨١

فإذن النّفس قديمة ؛ لقدم ما وجبت عنه ، غير قابلة للكون.

اللهم إلا أن يقال بتوقف أعمال العلة القديمة فى معلولها على شيء معين من قابل ، أو فاعل ، أو أن فعل الفاعل ليس بالذات ، والطبع ؛ بل بالإرادة والاختيار.

لا جائز أن يقال بالمعين من القوابل الهيولانية ؛ إذ النفس غير هيولانية كما سبق.

ولا فاعل آخر فإن مثل هذا إنما يكون فى مفعول متجزئ يكون لكل واحد من الفاعلين منه جزء ، وإن لم تتميز الأجزاء. والنفس ذات واحدة لا تتجزأ كما سبق.

ولا جائز أن يكون وجود النفس غير الإرادة ؛ [إذ ليست الإرادة] (١) جوهرا ، وما ليس بجوهر لا يكون مؤثرا فى إيجاد الجوهر ، ولا الجوهر يكون متوقفا فى حدوثه عليه ؛ إذ الجوهر أشرف مما ليس بجوهر ؛ فلا يكون الأشرف مفتقرا إلى الأخس.

الحجة الثانية : أنهم قالوا : النفس جوهر قائم بنفسه غير قائم بالأجسام ، وهو متصل بها وهى مخالفة بذلك لسائر القوى ، والصور العرضية التى تبطل عند مفارقة موضوعاتها ؛ فلا تكون قابلة للكون ، والفساد ؛ إذ القابل لذلك ليس إلا ما كان من الموجودات قائما بالأجسام ، وما يرجع حدوثه إلى الحركات المتحددة المنصرمة ، وما يحدث فيه بذلك من القرب والبعد ، والتجزؤ ، والانفصال ، والاتصال ، والاستحالة بالأضداد التى يفسر بعضها بعضا. أما ما هو برئ عن ذلك كله فلا.

وأما القائلون بحدوث النفس فقد احتجوا بثلاث حجج.

الحجة الأولى : أنهم قالوا النفس الإنسانية من نوع واحد كما سيأتى (٢).

فلو كانت قديمة سابقة الوجود على حلولها فى البدن ، لم يخل إما أن تكون متحدة ، أو متكثرة [لا جائز أن تكون متحدة ، وإلا فعند تكثر الأبدان لا يخلوا : إما أن تبقى متحدة ، أو متكثرة] (٣).

لا جائز أن يقال ببقائها متحدة ؛ وإلا فنسبتها إلى بدن واحد ، أو إلى كل الأبدان.

/ فإن كان الأول : فيلزم خلو باقى الأبدان عن الأنفس ؛ وهو محال.

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) انظر ما سيأتى فى الموضع الثانى : اختلفوا فى وحدة النفس وتكثرها ، ل ٢٠٤ / ب وما بعدها.

(٣) ساقط من (أ).

٢٨٢

وإن كان الثانى : فيلزم أنها إذا علمت شيئا ، أو جهلته أن يشترك الناس كلهم فيه ؛ لاتحاد النفس ، والشيء المدرك ؛ وهو محال.

هذا كله إن قيل باتحادها قبل مقارنة الأبدان.

ولا جائز أن يقال بأنها متكثرة / / قبل الأبدان «إذ التكثر ، والتغاير فيما اتحد نوعه دون مميز محال.

وما به التمايز والتغاير ، إما أن يكون ثابتا لها لذاتها ، أو أن ذلك لها بالنسبة إلى غيرها.

لا جائز أن يقال بالأول : إذ هى من نوع واحد. فما ثبت لواحد منها لذاته ليس أولى من ثبوته لغيره.

وإن كان الثانى : فكل تكثر يفرض مما به تكثير أشخاص الماهية المتحدة الغير مقتضية للتكثر بذاتها فليس إلا بالنسبة إلى المواد وعلائقها ؛ فلا تكثر فيه.

وهذه المحالات : إنما لزمت من فرض وجود الأنفس سابقة على الأبدان ؛ فلا سبق (١).

الحجة الثانية : أنه لو كانت الأنفس الإنسانية موجودة قبل وجود الأبدان ؛ لكانت إما فاعلة متصرفة ، أو معطلة عن الفعل ، والانفعال.

لا جائز أن تكون معطلة ؛ إذ لا شيء من فعل الطبيعة معطلا. ، وإن كانت متصرفة بالفعل ، والانفعال. فتصرفها لا يعدو أحد الأمرين :

إما إدراك عقلى ، وإما تحريك جسمانى مقرونا بإدراك حسى ، وكل واحد من الأمرين ـ فلن يتم لها قبل وجود الأبدان التى هى حاكمة فيها ، والآلات التى بها يتوصل إلى إدراك مدركاتها.

فإذن لا وجود للأنفس قبل وجود الأبدان.

__________________

/ / أول ل ١١٤ / ب من النسخة ب.

(١) راجع ما ورد فى معارج القدس للإمام الغزالى ص ٨٦.

٢٨٣

الحجة الثالثة : أنها لو كانت قديمة موجودة قبل وجود البدن ، لقد كانت توجد فيه ، وهى من القوة والكمال على حد واحد من غير زيادة ، ولا نقصان ؛ والتالى باطل بما نشاهده من ضعفها فى ابتداء حدوث البدن ، وانتقالها معه من ضعف إلى قوة ، ومن عجز إلى قدرة ، وعلى حسب انتقال البدن من ضعف إلى قوة ، ومن صغر إلى عظم ، ومن نقص إلى كمال (١).

الموضع الثانى : اختلفوا فى وحدة النفس الإنسانية وتكثرها.

فقال بعضهم : إنها فى جميع الأشخاص واحدة بالشخص ، وأن نفس زيد هى نفس عمرو ، وأن نسبتها فى أفعالها المختلفة مع اتحاد جوهرها إلى الموضوعات المختلفة من أشخاص الأبدان الإنسانية كنسبة الشمس مع اتحادها فى اختلاف تأثيراتها عند إشراقها على زجاجات مختلفة الألوان فى الألوان الحادثة / عنها محتجين على ذلك بأن قالوا : قد ثبت أن النفس قديمة بما سبق (٢).

وعند ذلك : فإما أن تكون متحدة لذاتها ، أو متكثرة. والقول بالتكثر محال ؛ لما سبق (٣).

وإن كانت متحدة لذاتها ، فالمتحد بذاته يمتنع تكثره ؛ وذلك هو المطلوب.

ومنهم من قال : بأن النفوس الإنسانية متعددة متكثرة (٤) بتكثير أبدانها رادين على من تقدم ، بأنه لو كانت النفس واحدة بالشخص مع تعدد أبدانها ؛ لكان كل ما يوجد من الفعل ، والانفعال ، وينتج من العلوم والأحوال منسوبا إلى نفس شخص واحد معين ، منسوبا إلى غيره من الأشخاص حتى لا يعلم وهم يجهلون ، ولا يجهل وهم يعلمون ، ولا يكون مريدا ، وهم كارهون ، ولا كارها ، وهم مريدون ، وبالجملة لا يكون متميزا عنهم بحال من الأحوال ، ولا فعل من الأفعال ؛ ضرورة أن ما فرض من الأفعال ، والأحوال ؛ فإنما هى

__________________

(١) قارن ما ورد هنا بما ورد فى الإشارات لابن سينا ص ١٢٠ والنجاة له أيضا ص ١٨٣ ، ١٨٤ والروح لابن القيم ص ٢١١.

(٢) راجع ما مر فى ل ٢٠٤ / أوقد احتج القائلون بقدمها بحجتين :

(٣) راجع ما مر فى ل ٢٠٤ / أ ، ب.

(٤) يعرف هذا القول لأفلاطون (فقد كان يقول بوجود ثلاثة نفوس : النفس العاقلة ، والنفس الغضبية ، والنفس الشهوانية). [تاريخ الفلسفة اليونانية د. يوسف كرم].

٢٨٤

للنفس وللبدن من جهة النفس ، وأن اختلاف التابع لا يؤثر فى اختلاف المتبوع ، وهذا كله فخارج عن الإمكان ، ومخالف للحس والعيان ؛ فإذن النفس متعددة لا متحدة.

ثم اختلف هؤلاء : فمنهم من زعم أن الاختلاف بين النفوس الإنسانية بالنوع والحقيقة.

ومنهم من زعم : أنها متحدة بالنوع مختلفة بالشخصى ، والعرض.

وقد احتج الأولون بأنا قد نجد فى الناس العالم والجاهل ، والقوى والضعيف ، والخسيس والنفيس والخير ، والشرير ، والغضوب والحمول ، والصبور والملول. إلى غير ذلك من الاختلافات فى القوى ، والهمم ، والأخلاق. وذلك : إما أن يرجع إلى غرائز نفوسهم الأصلية وفطرتها الأولية ، وإما أن يكون ذلك كله اكتسابيا ، عرضيا ، مأخوذا من اختلاف أمزجة الأبدان.

لا جائز أن يقال بالثانى : فإنا إذا اعتبرناه أدّانا الاعتبار أن بدن الإنسان قد يتغير مزاجه من جهة أخلاق النفس حيث يغضب ؛ فيسخن مزاجه ويغتم فينحف ، ويهزل ، ويفرح فيطرب ويخصب ، ولم تكن الحرارة فى مزاج بدنه أوجبت فى نفسه الغضب ؛ بل حالة الغضب الطارئة على نفسه ، أوجبت حر مزاجه ؛ فكانت بعض أحوال البدن لازمة عن أحوال النفس.

ولهذا كان تغير أحوال النفس بالعادات ، مغيرا لأحوال الأبدان ، وناقلة / / لها من شأن إلى شأن ، حتى أنها تتبدل مع تبدل الأمزجة والأشكال ؛ فتنقل خلقة الشرير إذا صار خيرا إلى خلقة الأخيار ، وكذلك بالعكس وهذا كله يشهد بأن هذا الاختلاف ليس إلا لاختلاف جواهر الأنفس ، لا لاختلاف أمزجة الأبدان.

وأيضا : فإنا قد نشاهد اختلاف النفوس / بأمور لا تعلق لها بالأبدان ، وأمزجتها ، والأجسام ، وأشكالها : كمحبة الصنائع ، والعلوم ، والميل إلى فنون منها ، دون فنون.

وأيضا : فانه لو كان ذلك الاختلاف لاختلاف المزاج ؛ لما بقى الإنسان على خلق واحد نفسانى عند تبدل مزاجه ، وانتقاله من ضدّ إلى ضدّ من حار إلى بارد ، ومن بارد :

__________________

/ / أول ل ١١٥ / أ.

٢٨٥

إلى حار ، ومن رطب إلى يابس ، ومن يابس إلى رطب ؛ بل كان يتبدل ، وينتقل من خلق : إلى ضده على حسب ما يقع الانتقال فى المزاج من ضد إلى ضد.

وأيضا فإن من سلف من الحكماء ـ قد حكموا فى الأنواع المختلفة من ذوات النفوس بأن اختلاف أمزجتها ، وأشكالها ، لاختلاف نفوسها فى طبائعها وخواصها حتى كانت حرارة مزاج الأسد مقصودة ، لموافقة نفسه فى الشجاعة والحرارة ، وبرودة مزاج الأرنب : لموافقة نفسه فى الضعف والجبن.

فما بال الاختلاف بين الأنفس الإنسانية لا لذواتها ؛ بل لا لاختلاف أمزجة أبدانها.

وربما احتجوا [على ذلك أيضا] (١) بحجج خطابية (٢) مأثورة عن الأسلاف منهم وذلك ما نقل عن أرسطاطاليس (٣) أنه قال : «الحرية ملكة نفسانية حارسة للنفس حراسة جوهرية لا صناعية» وكقوله : «إن الحرية طباع أول جوهرى ، لا طباعا ثانيا اكتسابيا.

فلو كانت جواهر النفوس الإنسانية ، وطبائعها متفقة ؛ لزم أن يكون الناس كلهم أحرارا ، وهو خلاف المشاهد.

وأما أرباب المذهب الثانى : فقد احتجوا بأن قالوا : النفوس الإنسانية وإن كانت متعددة فهى مشتركة فى خاصية ، هى القوة النظرية ، والعملية ، كما قد بين ذلك فى الحكميات ، وهو دليل اتحادها فى النوعية.

الموضع الثالث : اختلفوا فى أن النفس الإنسانية هل تفوت بفوات بدنها ، أم لا؟ فذهب كثير من الأقدمين (٤) إلى أنها لا تبقى بعد مفارقة بدنها.

محتجين على ذلك بحجتين :

الأولى : أنه قد ثبت أنه لا وجود للنفس قبل وجود بدنها ؛ بما سبق ذكره (٥) وهو بعينه مساعد فى امتناع وجودها بعد مفارقة البدن.

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) راجع المبين للآمدى ص ٩١ فقد قال : وأما القياس الخطابى : فما كانت مادته من المقبولات ، والمظنونات.

(٣) راجع ترجمته فيما سبق فى هامش ل ٥٠ / ب من الجزء الثانى.

(٤) انظر كتاب النفس لأرسطو ٦ ، ٤٤ ، ٤٥ ترجمة الدكتور الأهوانى.

(٥) راجع ما سبق ل ٢٠٤ / أو ما بعدها.

٢٨٦

الحجة الثانية : أنها بعد مفارقة بدنها لا تفعل ، ولا تنفعل ، وكل ما لا يفعل ، ولا ينفعل فوجوده معطل ، ولا معطل فى الوجود الطبيعى (١).

وذهب فريق آخر إلى التفصيل. وهو أن قال : أفعال النفس منها ما يكون بالبدن والآلة. كالإدراكات الجزئية بالحواس الخارجية ، ومنها ما يكون لها لذاتها : كالتعقلات الكلية ، والتصورات العقلية.

فما كان لها من الأفعال الأولى ؛ فلا يبقى بعد مفارقة البدن. بخلاف ما كان لها من الأفعال الثانية ، وعلى هذا إن / كانت مفارقتها للبدن قبل تصور المعقولات ، وتجريد الكليات من الجزئيات ؛ فإنها لا تعاد ؛ إذ ليس لها فعل يقتضي لها البقاء ، والانفعال. وإن كان تكملت بما حصل له أمن التصورات الكلية ، والتصديقات العقلية فى حالة اتصالها بالبدن ؛ فإنها تبقى ، وإن فارقت البدن.

وذهب أرسطاطاليس ومن تابعه من فحول (٢) الحكماء : إلى لزوم بقائها بعد مفارقة البدن ، وسواء أكانت التعقلات التى هى كمالها الممكن لها قد حصلت حالة المفارقة ، أو لم تكن حاصلة ، محتجين على ذلك بحجج ثلاث :

الحجة الأولى : أن ما يعدم بعد وجوده ، لا يجوز أن يكون انعدامه لذاته ؛ وإلا لما وجد ؛ فانعدامه : إما أن يكون لعدم علته الفاعلة المقتضية لبقائه واستمراره ، كما فى انعدام ضوء المصباح عند انطفائه.

وإما لوجود مزاحم يبطله ، ومضاد يعدمه : كانعدام برودة الماء بالحرارة الطارئة عليه ، الغالبة له ، فلو انعدمت النفس ، لكان انعدامها لأحد هذين الأمرين ، وكل واحد منهما باطل.

أما أنه لا يجوز أن يكون انعدامها لانعدام علتها ؛ إذ العلة الفاعلية للنفس الناطقة إنما هو العقل الفعال ؛ وهو غير قابل للكون ، والفساد / / على ما قرر فى الحكميات.

__________________

(١) قارن بما قاله أرسطو فى النفس ص ٤٤ ، ٤٥ د. الأهوانى ط : الحلبى.

(٢) تابع أرسطو من فلاسفة الاسلام. الكندى : فى رسائله الفلسفية ص ٢٨٠ ، وابن سينا : فى النجاة ص ١٨٥ والإشارات والتنبيهات ٢ / ٤٢٩ ، ٤٣٠ تحقيق د. دنيا.

والإمام الغزالى : تهافت الفلاسفة ص ٣٠٧ ـ ٣٠٩ ومعارج القدس ص ١٣١ ـ ١٣٤.

/ / أول ل ١١٥ / ب من النسخة ب.

٢٨٧

وأما أنه لا يجوز أن يكون انعدامها لوجود مضاد يعدمها ؛ لأن ذلك لا يتصور إلا مع قيام الضدين بموضوع واحد [فى محل واحد] (١) مع استحالة الجمع بينهما فيه ، وإلا فلا تمانع ، ولا مزاحمة. وليس وجود النفس فى البدن على نحو وجود الشيء فى محله ، أو فى موضوعه ؛ إذ لا موضوع لها ؛ لكونها جوهرا ، ولا هى حالة فى محل كما سبق ؛ بل إنما وجودها فيه على سبيل التعلق به بالتصرف فى أحواله كما سبق.

الحجة الثانية : أنه لو لزم فوات النفس من فوات بدنها ؛ لكانت متعلقة به تعلق المتقدم ، أو المتأخر ، أو المكافئ ، وإلا لما كان هذا اللزوم.

لا جائز أن يقال بالأول : وإلا فالنفس متقدمة على البدن ، تقدما بالذات ؛ ضرورة أن غير هذا النوع من التقدم ، لا يوجب الفوات من الفوات. ولو كان كذلك ؛ لكان فوات البدن لازما عن فوات النفس ، لا أن فوات النفس ، لازم عن فوات البدن ؛ إذا العلة لا تبطل لبطلان معلولها ، وإنما المعلول هو الّذي يبطل ببطلان علته.

ولا جائز أن يقال بالثانى : وإلا فالبدن للنفس إما علة فاعلية ، أو مادية ، أو صورية ، أو غائية ؛ ضرورة أن ما يفوت بفوات ما هو متقدم عليه ، لا يخرج عن هذه الأقسام.

وليس هو فاعلية : وإلا كان الأشرف مستفادا / من الأخس.

وليس علة مادية لها ؛ لما سبق من أن النفس غير قائمة بمحل. وليست علة صورية ولا غائية ، إذ الأولى أن يكون فيها بالعكس ، ولا جائز أن يقال بالثالث ؛ وهو تعلق التكافؤ ؛ وإلا فهما حقيقتان ، أو غير حقيقتين ، لا جائز أن يقال بالأول : وإلا كانت النفس والبدن عرضا لا جوهرا.

وإن قيل بالثانى : فغاية ما يلزم من فوات أحدهما فوات العارض للذات لا نفس الذات المعروضة.

الحجة الثالثة : لو كانت النفس قابلة للفساد ؛ لكان فيها قوة قابلة للفساد ، وكل ما له قوة أن يفسد ، فقبل الفساد ، له قوة أن يبقى بالفعل ، وليس بقاؤه بالفعل هو نفس قوة أن يبقى بالفعل.

__________________

(١) ساقط من أ.

٢٨٨

فالنفس قبل الفساد لها قوة أن تبقى ، فالنفس مركبة من صورة ؛ وهى ما بها تكون النفس موجودة وباقية بالفعل ، ومن مادة : وهى الذات التى لها هذه القوة أعنى قوة أن يبقى.

والنفس بسيطة غير مركبة على ما سبق ؛ فهى غير قابلة للفساد.

الموضع الرابع : اختلف القائلون ببقاء النفس بعد مفارقة بدنها فى تناسخ الأبدان لها ، وانتقالها من بدن إلى بدن.

فمنهم : من أثبت ذلك ، ومنهم من نفاه.

فأما المثبتون : فمنهم من أوجب ذلك ، وأحال بقاء النفس غير متعلقة ببدن آخر غير بدنها الّذي فارقته.

محتجين على امتناع عزوها عن البدن بعد المفارقة بمثل احتجاجهم على امتناع وجودها قبل البدن كما سبق (١).

ومنهم من جوز عليها الأمرين حتى أنها تكون مفارقة للبدن تارة ، ومقارنة له تارة ، ومقارنة بعد المفارقة ، ومفارقة بعد المقارنة ، ولم يلتزم فى ذلك قانونا معينا ، ولا نظاما مخصوصا.

ثم من أوجب المقارنة بعد المفارقة : فمنهم من يرى أنها لا بد وأن تكون حافظة للصورة النوعية فى الأشخاص ، حتى انها لا تنتقل من شخص الإنسان إلا إلى شخص إنسانى ، وسمى هذا الانتقال نسخا (٢) ، ومنهم من يرى أنها غير حافظة للنوع فى الأشخاص ، بل قد تستبدل صورة الانسان بصورة أخرى.

ثم أختلف هؤلاء :

فمنهم من جوز الانتقال إلى غيره من أبدان الحيوان ، وسمى ذلك مسخا (٣) ومنهم من جوزه إلى النبات ، وسمى ذلك فسخا (٤). ومنهم من جوزه إلى الجمادات ، وسماه :

__________________

(١) راجع ما مر ل ٢٠٤ / أ ، ب من الجزء الثانى.

(٢) النسخ : هو الانتقال من شخص الإنسان إلى شخص انسانى.

(٣) المسخ : هو الانتقال من شخص الإنسان إلى أبدان الحيوان.

(٤) الفسخ : هو الانتقال من بدن إنسان إلى النبات.

٢٨٩

رسخا (١). ، ومنهم من يرى أن النفس عند ابتدائها تبتدئ من أضعف الصور وأخسها ، كصورة الدود ، والذباب ، وتتردد إلى الأقوى والأفضل / حتى تنتهى إلى صورة الإنسان ، وحينئذ إن سعدت بفعل ما يسعد ، ارتقت فى كل دور إلى مزاج أفضل ، وقوة أكمل ، حتى تبلغ أقصى الكمال ، وإن شقيت بفعل ما يشقى ويردى عادت إلى العكس والقهقرى وكذا لا تزال تتردد فى كل دور إلى ما فارقته ، أو أفضل ، أو أنقص.

ثم منهم من يرى / / أن ذلك يدوم ، ويتكرر دورا بعد دور ، لا انقضاء لأمده ، ولا انتهاء لعدده. ومنهم من يرى انتهاء ذلك ، وأن النفس قد يتفق لها سعادة ناقلة لها فى مرة أو مرات إلى أجلّ حالاتها ، وأكمل كمالاتها ؛ فينقطع تعلقها بالأبدان ، ويلتحق بالمبادئ الأولى صائرة عالما عقليا ، مجردة عن المواد ، وعلائقها ؛ فلا تعود إلى التعلق بالأبدان أبدا.

وأما الّذي عليه المحققون من الفلاسفة (٢) : امتناع القول بالتناسخ ، واستحالة انتقال النفس بعد مفارقة بدنها المقارن وجودها لوجوده ، إلى بدن آخر ، محتجين على ذلك بحجتين :

الأولى : أن وجود النفس مع وجود البدن إنما كان لشوق جبلى ، وميل طبيعى من الأنفس إلى الأبدان [للاهتمام به ، والتصرف فى أحواله كما سبق.

وعلى هذا : فكل بدن فإنه يستحق لذاته نفسا تدبره ، وتتصرف فيه ، وليس ذلك لبعض الأبدان] (٣) دون البعض ؛ إذ كلها من نوع واحد ، فلو قيل بتناسخ بدنين لنفس واحدة ؛ لأدى ذلك إلى اجتماع نفسين فى بدن واحد ، وهى النفس المستحقة له لذاته ، والنفس المنتقلة إليه من غيره ، وهى محال.

الحجة الثانية : أنه لو انتقلت النفس فى بدن إلى بدن آخر ؛ لتذكرت ما كان لها من الأحوال حالة كونها فى البدن الآخر ؛ ضرورة اتحاد النفس فيها ، والأمر بخلافه كما تقدم (٤).

__________________

(١) الرسخ : هو الانتقال من شخص الانسان إلى جسم جماد.

/ / أول ل ١١٦ / أ.

(٢) انظر الإشارات لابن سينا ٣ / ٧٧٩ وما بعدها وشرح الطوسى لها وانظر النجاة أيضا ص ١٨٩. ثم قارنها بما ذكر الآمدي هاهنا وفى غاية المرام ص ٢٧٨.

(٣) ساقط من (أ).

(٤) راجع ما مر ل ٢٠٤ / ب و ٢٠٥ / أ.

٢٩٠

ثم قالوا : لا شك أن سعادة كل شيء ، ولذته إنما هو بحصول ما له من الكمالات الممكنة له ، وذلك كحصول الإبصار للقوة الباصرة ، والسمع للقوة السامعة ، وكذلك فى كل قوة بحسبها ، وكذلك شقاوة كل شيء وتألمه ؛ إنما هو بعدم ما له من الكمالات الممكنة له.

فعلى هذا سعادة النفس الناطقة إنما هو فيما يحصل لها [الكمالات الممكنة لها] (١) ، وكمالها الخاص بها ، وهو مصيرها ، عالما عقليا منطبعا فيها صورة المعقولات ، وكذلك شقاوتها ، وتألبها : إنما هو بانتفاء كمالاتها عنها وعندئذ فالنفس الناطقة بعد مفارقة بدنها إما أن تكون قد استعدت لقبول كمالها أو لم تستعد. فإن كانت قد استعدت لكمالها وتنبهت له ومالت إليه باشراف العقل الفعال عليها ؛ فلها أحوال أربعة.

الحالة الأولى : أن تكون قد حصلت شيئا من كمالاتها بالبحث عنه والتفكر فيه (٢) وانسلخت عن عالم الضلال ، وتركت الاشتغال بالرزائل ، والاهتمام بالبدن وعلائقه ؛ فقد سعدت وحصلت لها اللذة ، والنعيم / الدائم.

وعلى حسب زيادة حصول الكمال يكون زيادة الالتذاذ. وليس ما يحصل للنفس من اللذة بحصول كمالها ، كالتذاذ البهائم ، والحيوانات بمطاعمها ومشاربها (٣). فإن كان الالتذاذ بالشيء ، وزيادته على حسب كمال الملتذ به وبهائه ، وقوة الإدراك له ، ودوامه.

ولا يخفى أن كمال النفس ، بالنسبة إلى سائر كمالات باقى القوى أشرف وأجلّ ، وأن إدراك النفس لما تدركه أعظم وأشدّ من إدراك غيرها لكماله من حيث إن إدراك ، النفس للماهية بخلاف إدراك غيرها من القوى.

فإذن التذاذها أشد ، وسعادتها أكمل. ولا خفاء بأن ما يحصل لها من الالتذاذ بكمالها قبل مفارقة البدن بالنسبة إلى ما يحصل لها بعد مفارقته كنسبة الالتذاذ برائحة المطعوم إلى لذة آكله ، وذلك قدر يسير وإنما كان كذلك من حيث إن النفس قبل المفارقة مشغولة بالبدن وعلائقه ، والانغماس فى الشهوات والرذائل.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) (والتفكر فيه) ساقط من ب.

(٣) قارن بما ذكره ابن سينا فى الإشارات ٣ / ٧٤٩ وما بعدها وبما ذكره الإمام الغزالى فى تهافت الفلاسفة ص ٢٨٣ وما بعدها وفى معارج القدس ص ١٢٧.

٢٩١

وكل ذلك فمضاد ومانع يمنعها من تمام الالتذاذ بحصول كمالها. فإذا زال ذلك المانع ، حصلت اللذة التامة ، والسعادة الدائمة التى لا يشاكلها شيء من أنواع الملاذ فيكون حالها بالنسبة إلى اللذتين كنسبة اللذة الحاصلة بأكل الشيء الحلو للمريض بالنسبة إلى لذة أكله بعد الصحة ، وزوال المانع.

وهذه اللذة العظيمة وإن لم يدركها فى حالة مقارنة البدن على ما هى عليه ولا يتشوقها غاية التشويق ؛ لكونها مشغولة بعوائق البدن ؛ لكنا نقطع بوجودها فحالنا بالنسبة إليها كحال الأكمه (١) بالنسبة إلى الالتذاذ برؤية الصور الجملية ، فإنه يقطع بها وإن لم يكن حاله فى التشوّق إليها كحال من عرفها بالنظر إليها وكحال عنين بالنسبة إلى لذة الجماع ؛ لكن هذه اللذة العظيمة إنما هى لمن استكملت نفسه بالعلوم ، وحصلت لها كمالاتها فى الدنيا (٢) ، وكانت متجردة عن الأمور الدنيوية.

الحالة الثانية : أن تكون قد حصلت ما لها من الكمالات فى الدنيا ؛ لكنها مع ذلك ظالمة ، فاجرة ، مشتغلة بالرزائل ، والشهوات البهيمية ، فبعد المفارقة / / وإن حصلت لها اللذة بما لها من كمالها ، فما استقر فيها من صور تلك الأمور الدنيوية ، يجذبها إلى الملأ الأسفل ، وما حصل فى جوهرها من الكمالات ، يجذبها إلى الملأ الأعلى ، فيحصل لها بسبب هذا التجاذب والتضاد ، ألم عظيم ؛ لكنه لا يدوم ؛ لكون النفس كاملة فى جوهرها وأن تلك الأمور الأخر عارضة ، والعارض قد يزول / على طول الزمان ، وعلى حسب رسوخ تلك الهيئات العارضة فى النفس يكون بعد زوال هذا العذاب والألم ، وما مثل هذه النفس تسمى المؤمنة الفاسقة (٣).

الحالة الثالثة : أن لا تكون النفس قد حصل لها شيء من الكمالات ؛ لكنها مع ذلك زكية طاهرة مشتغلة عن الرذائل ، والشهوات ، بالنسك والعبادات : كأنفس الزهاد والصلحاء من العامة ؛ فغير بعيد أن تنتقل نفوسهم بعد المفارقة إلى جرم فلكى يتخيل به صور ما كانت تسمعه فى دار الدنيا من أنواع الملاذ من المأكولات ، والمشروبات ، والمنكوحات على نحو ما كانت تتخيل بالحواس الباطنة حالة المقارنة.

__________________

(١) قارن ما ذكره الآمدي عن الأكمه ، والعنين بما ذكره ابن سينا فى الإشارات ٣ / ٧٦٢ ، والنجاة ص ٢٩٢. وبما ذكره الغزالى فى معارج القدس ص ١٢٦ وما بعدها والمقصد الأسنى ص ٢٦.

(٢) قارن بما ورد فى غاية المرام ص ٢٦٩ ، وبما ورد فى تهافت الفلاسفة للإمام الغزالى ص ٢٨٣.

/ / أول ل ١١٦ / ب.

(٣) راجع ما ورد فى تهافت الفلاسفة ص ٢٨٦ ، ومعارج القدس للإمام الغزالى ص ١٣٢ ، وقارن بما ورد فى غاية المرام ص ٢٧٠.

٢٩٢

وعند ذلك : فتجد من اللذة والنعيم ما لا كانت تجده حالة المقارنة للبدن. وهذا الالتذاذ لا يتقاصر عما يجده النائم من اللذة حالة منامه فإنه قد يتضاعف على ما يجده فى حالة يقظته لقلة الشواغل (١).

الحالة الرابعة : أن لا يكون قد حصل لها شيء من كمالها وهى مع ذلك منغمسة فى الرذائل ، منهمكة فى الشهوات البهيمية ، بحيث ترسخت فيها صورها ، واشتدت القوة النزوعية إليها ، فعند مقارنة البدن ، وزوال العائق تحس بما فاتها من كمالها ، وتتألم بمفارقته فيحصل لها بسبب ذلك ، وبسبب ما استقر من هيئات الرذائل الحادثة لها ، عذاب وألم عظيم على نحو ما يحصل للنفس الكاملة الذكية من اللذة والنعيم ؛ بل أشد عذابا من هذا العذاب من كانت نفسه مع ذلك قد أكبت على اعتقادات فاسدة ، وركنت إلى نقيض الحق وجحدت الرأى الصدق ، فحالها كحال من يرجح لفساد مزاجه الأشياء الكريهة ، على الأشياء المستلذة.

فإذا زال عنه العائق والمانع حصل له التألم بالمستكره ، ومفارقة المستلذ ؛ بل أسوأ حالا من هذه الحال ، حال من كان مع اشتغاله بالرذائل ، قد طالع شيئا من المبادئ الموصلة إلى المعلومات النظرية ، واشتد شوقه إليها ، ثم تركها ، واشتغل بما سواها من الرذائل ؛ فإن تألمه بعد المفارقة يكون أشد ؛ لأن الشوق إلى المعشوق فى حق من عرف مباديه ، وتنبه له يكون أشد ممن لم يحصل له ذلك ، وحسرته على فواته تكون أعظم. كمن حصلت له مبادئ شهوة الجماع أو الأكل ، ثم منع منه ؛ فإن تألمه يكون أشد من تألمه قبل ذلك.

ولا يبعد أن تكون أيضا هذه الأنفس الجاهلة ، الفاجرة ، بعد المفارقة تتصل ببعض الأجرام الفلكية ؛ فتتخيل به صور ما كانت تسمعه من النار والأغلال ، وغير ذلك مما كانت تتواعد به على الأفعال القبيحة ؛ فيحصل لها بسببه من الألم ، والعذاب ما لا يقاس به / غيره من أنواع العذاب.

هذا كله إن كانت النفس الناطقة قد استعدت لقبول كمالها ، وتهيأت له.

__________________

(١) انظر : تهافت الفلاسفة للإمام الغزالى ثم قارن بما ورد فى غاية المرام للآمدى ص ٢٧١.

٢٩٣

وأما إن لم يكن قد حصل لها ذلك : كانفس الصبيان ، والمجانين ، وغيرهما من الأنفس الساذجة ؛ فهى لا تتألم ولا تلتذ ؛ لعدم اشتياقها إلى كمالها ، ولعدم استعدادها لقبوله (١).

وإذ أتينا إلى شرح المذاهب فى النفس الناطقة بالبيان الموجز ، الشّامل لمعانيها ، فلا بد من التنبيه على ما فيها ، وما هو المختار منها إن شاء الله ـ تعالى ـ.

فنقول : أما من قال من أصحابنا : إنها عرض (٢) فهو مطالب بالدّلالة على ذلك.

قوله : كل مخلوق لا يخرج عن كونه جسما ، أو عرضا.

فلقائل أن يقول : أولا لا نسلم الحصر ، وما المانع أن يكون جوهرا فردا كما قاله الغزالى وغيره (٣)؟ أو أن يكون جوهرا غير متحيّز مجردا عن المادّة دون علائق المادة كما قاله الفلاسفة (٤)؟ وقد بينا أن إبطال ذلك صعب جدا.

وإن سلمنا الحصر فيما ذكر ؛ ولكن ما المانع أن تكون النفس جسما كما قاله الغير؟

قوله : لأن الأجسام متجانسة.

فقد بينا ضعف هذه المقالة فى تجانس الأجسام (٥) وأن ذلك مما لا سبيل إلى الدلالة عليه.

وإن سلمنا تجانس الأجسام ، ولكن ما المانع أن تكون النفس جسما مع / / عرض خاص ، يخلقه الله فيه ، كما قاله بعض المخالفين كما تقدم (٦)؟

فلا يكون جسما فقط ، ولا عرضا مجردا.

وإن سلمنا دلالة ما ذكر على أن النفس عرض ، غير أنا قد بينا فيما تقدم امتناع بقاء الأعراض ، وأنها متجددة (٧) فلو كانت النفس عرضا ؛ لكانت متجددة غير باقية.

__________________

(١) لمزيد من الايضاح ارجع إلى : الإشارات والتنبيهات لابن سينا ٣ / ٧٣٧ وما بعدها ، ٣ / ٧٧٧ وما بعدها ، وتهافت الفلاسفة للإمام الغزالى ص ٢٨٢ وما بعدها فمنها يتضح أن الآمدي قد اعتمد عليهما فى العرض ، والنقد.

(٢) كالإمام الهراسى. انظر عنه ما مر فى هامش ل ٢٠١ / ب.

(٣) راجع مقالتهم ل ٢٠١ / ب.

(٤) راجع ما مر ل ٢٠١ / ب.

(٥) راجع ما سبق فى تجانس الأجسام ل ٢٥ / أوما بعدها.

/ / أول ل ١١٧ / أمن النسخة ب.

(٦) راجع ما سبق ل ٢٠١ / ب

(٧) راجع ما تقدم ل ٤٤ / ب وما بعدها.

٢٩٤

وعند ذلك : فالأعراض المتجددة من أول حياة الإنسان ، إلى مماته : إما أن يكون كل واحد منها نفسا ، أو أن النفس واحد منها دون الباقى ، أو أن النفس جملتها ، أو أنها جملة من جمل تلك الأعداد.

فإن كان الأول : فهو ممتنع لوجهين :

الأول : أنه يلزم من ذلك أن من علم شيئا بالاكتساب والنظر فى حالة أن لا يكون عالما به فى الحالة التى تلى تلك الحالة ؛ لفوات ذلك المدرك منه إلا بنظر ثان ، وكذلك فى كل حالة متجددة ؛ وهو محال خلاف المعقول من أنفسنا.

الثانى : أنه يلزم من ذلك أن من كان كافرا فى بعض الأحوال ، ومؤمنا فى بعض الأحوال : أن تكون نفسه المؤمنة غير الكافرة ؛ ضرورة التجدد ، وأن تخلد نفسه الكافرة فى النار ، والمؤمنة فى الجنة ، ويكون الشخص الواحد معذبا ، منعما باعتبار ما له من النفسين ، ولم يقل به قائل.

وإن كان الثانى : فهو ممتنع لوجهين :

الأول : أنه ليس البعض بأن يكون هو النفس منها دون / الباقى ، أولى من العكس ؛ ضرورة التماثل.

والثانى : أنه يلزم من ذلك خلو الإنسان عن النفس قبل ذلك الجزء وبعده ، وهو المحال.

وإن كان الثالث : فيلزم من ذلك أن لا تكون له نفس قبل بلوغ تلك الجملة ؛ وهو أيضا محال ، وبمثل هذا يبطل القسم الرابع أيضا.

وأما القول بأن النفس هى المزاج : فهو مبنى على القول بوجود المزاج ؛ وقد أبطلناه بالوجوه الكثيرة المتعددة عند الرد على الفلاسفة فيه.

وبتقرير تسليم المزاج جدلا ؛ فهو عرض متجدد كما سبق (١).

فلو كان هو النفس : فنحن نعلم أن من لمس شيئا متكيّفا ببعض الكيفيّات الملموسة ، أنه يكون مدركا له ، والمدرك منه : إما المزاج المتقدم ، أو المتجدد بعد اللمس الأول محال ؛ لعدم المدرك.

__________________

(١) راجع ما مر ل ٣٧ / أوما بعدها.

٢٩٥

والثانى محال ؛ لتجدده بعد اللمس.

وربما قيل فى إبطاله وجوه أخرى ضعيفة أبطلناها فى كتاب دقائق الحقائق (١).

والقول بفوات النفس عند فوات ذلك المزاج ، لا يدل على كونه هو النفس ؛ لجواز أن يكون غيرها وهو ملازم لها ثم إنه كما أن النفس تفوت بفوات المزاج ؛ فقد تفوت بفوات واحد من الأخلاط ، والأخلاط عند هذا القائل ليست نفسا. ثم لو كان كل ما تفوت النفس بفواته يكون نفسا ؛ لكان للشخص الواحد نفوس كثيرة ، وهى ما تفوت بها النفس من الأخلاط وصفة الحياة.

وما قيل من أن النفس من جملة القوى الفعالة (٢) ، فليس أولى من قول القائل أنها المزاج ، ثم إن القوى عرض ، والنّفس لا تكون عرضا ؛ لما تقدّم فى المزاج ، وبه يبطل القول بأنّ النّفس هى الحياة.

والقول بأنّها الشّكل الخاص ، والتخّطيط باطل بما بعد الموت ، فإنّ النّفس مفارقة للبدن بالإجماع مع بقاء الشكل الخاص ، والتخطيط.

والقول بأن النّفس هى الجثّة الخاصة المركبة من الجواهر والأعراض ، القائمة بها ؛ فيلزم به أن تكون الأعراض القائمة بها مأخوذة فى حقيقة النفس ووجودها والأعراض متجددة ؛ فتكون النفس متجددة ؛ ويلزم عليه المحالات السّابقة (٣).

والقول بأن النفس جسم مركب من العناصر فى داخل هذه الجثة الخاصة ؛ فليس أولى من غيره من الأقوال (٤).

قولهم : بأن النفس مدركة للمركبات ، وإنما يدرك الشيء بشيء يشبهه ، فيلزم أن لا تكون النفس مدركة لما تركب من العناصر ، وطبيعته مخالفة لطبيعتها فى التركيب وأن لا تكون نفس الإنسان مدركة للفرس ، والحمار ، ونحوه من أنواع المركبات فإنها وإن شابهتها فى كونها مركبة من العناصر عند هذا القائل ، فغير شبيهة لها فى نفس التأليف والمزاج.

__________________

(١) راجع مؤلفات الإمام الآمدي فى قسم الدراسة ص ٩٤ ـ ٩٨ ففيه معلومات وافية عن كتاب دقائق الحقائق.

(مكتبة كلية أصول الدين).

(٢) راجع ما مر ل ٢٠١ / ب.

(٣) راجع ما مر ل ٤٤ / ب.

(٤) راجع ما مر ل ٢٠١ / ب.

٢٩٦

وإلا كان / فى تأليف النفس الإنسانية جميع أمزجة هذه الأنواع ، وهو محال ، ويلزم منه أيضا أن يكون كل جسم من الأجسام المدركة ، مدركا لما هو من نوعه غير مدركة لما هو مخالف له فى نوعه ، وأن لا تكون قوة واحدة تدرك الأضداد ؛ بل كان يجب أن البصر إذا أدرك البياض / / مثلا أن يدركه بجزء من البصر أبيضا ، وكذلك فى السواد ونحوه تحقيقا للمشابهة ، وكان يجب أن يكون البصر مستعدا بأجزاء غير متناهية الألوان ، والأشكال ؛ لإدراك الألوان ، والأشكال المختلفة ؛ وهو محال.

والقول بأن النفس هى الأخلاط الأربعة ، مع التناسب المخصوص فيما بينها على ما ذكر ، فليس هو أيضا أولى من غيره من الأقوال.

وما قيل بأنه لا بقاء للنفس مع اختلال هذه الأمور فقد سبق إبطاله (١).

والقول بأن النفس هى الدم (٢) ممنوع.

قولهم : إن الدم أشرف أخلاط البدن.

لا يدل على أنه النفس ؛ بل جاز أن تكون النفس غير الدم ، وأشرف من الدم.

قولهم : إن النفس تبطل عند سفح الدم.

قلنا : وكذلك عند زوال غيره من الأخلاط ، وليست أنفسا عند هذا القائل.

والقول بأن النفس عنصر من العناصر ، ممنوع (٣).

وما قيل من أن المدرك للشيء ، يجب أن يكون من عنصر ، والنفس مدركة للعناصر ؛ فيلزم أن لا تكون النفس إذا كانت عنصرا أن تدرك ما ليس بعنصرى ـ كإدراكنا أنه. لا واسطة بين النفى ، والإثبات ، أو أن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ؛ وهو محال ، ثم إنه ليس القول بأنها بعض العناصر المعينة أولى من غيره ، والقول بأنها عنصر النار ، غير مسلم (٤).

__________________

/ / أول ل ١١٣ ب

(١) راجع ما مر ل ٢٠٨ / أ.

(٢) راجع ما مر ل ٢٠٢ / أ.

(٣) راجع ما مر ل ٢٠٢ / أ.

(٤) راجع ما مر ل ٢٠٢ / أ.

٢٩٧

قولهم : لأن خاصية النار الحركة ، والإشراق ، وذلك متحقق فى النفس فغايته الاشتراك فى هذه الصفات ولا يمتنع اشتراك المختلفات فى عارض واحد ، وبما ذكرنا هاهنا تبطل الدلالة على ما قيل : إن النفس هى الهواء المستنشق ، أو الماء.

والقول بأن النفس هى الروح (١) على ما ذكره الأطباء ؛ فليس أولى من غيره من الأقوال.

قولهم : إنها منبع الحياة ، والنفس ، والنبض [إن أرادوا به أنها سبب للحياة والنفس والنبض] (٢) ؛ فممنوع وغايته الملازمة بينهما ، وليس فى ذلك ما يدل على أن الروح هى النفس الانسانية.

وبتقدير تسليم كونها سببا لما ذكر ، فليس فيه أيضا دلالة على أن الروح هى النفس ؛ بل أمكن أن تكون النفس غير الروح كما قاله الغير.

وبهذا يبطل القول بأنها الروح الكائنة فى الدماغ أيضا.

[والقول بأن النفس هى الأجسام الأصلية فى كل بدن ، فليس أولى من غيره من الأقوال ولا يخفى أن الدلالة على ذلك صعب جدا] (٣).

والقول بأن النفس جوهر فرد (٤) ، كما ذهب إليه / الإمام الغزالى ، وغيره فلا يخفى أن الجواهر على أصله متماثلة.

فلو جاز أن يكون بعض الجواهر الفردة نفسا إنسانية ؛ لجاز ذلك فى غيره من الجواهر ، ثم ليس اختصاص بعض الجواهر بأنه النفس ، أولى من غيره ؛ ضرورة التماثل.

وأما مذهب الفلاسفة : فمبنى على وجود جوهر غير متحيز ، وهو ممنوع على ما تقدم فى الجواهر (٥).

قولهم : كل واحد من أشخاص الناس فيه شيء به إدراك المعقولات البسيطة (٦). مسلم.

__________________

(١) راجع ما مر ل ٢٠٢ / أ.

(٢) ساقط من أ.

(٣) ساقط من أ.

(٤) راجع عن هذا القول ما سبق ل ٢٠١ / ب.

(٥) راجع ما تقدم ل ٢ / أوما بعدها.

(٦) الرد على الشبهة الأولى للفلاسفة ومن وافقهم ـ الواردة فى ل ٢٠٢ / أ.

٢٩٨

قولهم : يمتنع أن يكون المدرك لذلك جسما ، أو ما هو قائم بالجسم. ممنوع.

قولهم : لأنه يلزم أن يكون متجزئا.

لا نسلم ذلك. وما ذكروه فمبنى على أن المعلوم لا بد وأن يكون منطبعا فى المدرك وحالا فيه ، وهو غير مسلم على ما سبق فى الصفات (١).

وإن سلمنا أن العلم لا يكون إلا بانطباع صورة المعلوم فى المدرك ؛ ولكن لا نسلم أن انطباع ما لا يتجزأ فيما يتجزأ يكون موجبا لتجزؤ المنطبع (٢).

وما ذكروه فى تقريره ، فهو منتقض على أصلهم ؛ بالإضافة فإنها عرض موجود قائم بالجسم : كقيام الأبوة بذات الأب ، والبنوة بذات الابن. وذات الأب ، وذات الابن متجزئة ؛ لكونها جسما ، ونفس الإضافة وهى الأبوة غير متجزئة ؛ لتجزأ محلها ؛ فإنه لا يصح أن يقال إن الأبوة ذات أبعاض وكل بعض منها قائم ببعض من ذات الأب ، وكذلك فى البنوة بالنسبة إلى ذات الابن.

وكذلك فإن القوة الوهمية عندهم من القوى الجسمانية ، وهى مدركة من الصورة المحسوسة للذئب المعنى الموجب لنفرتها (٣) عن الذئب ؛ وهو غير محسوس ، ولا متجزئ وانطباعه عندهم فيما هو متجزئ.

وإن سلمنا امتناع انطباع ما لا يتجزأ فيما يتجزأ. فما المانع أن يكون الانطباع فى جزء من / / الجسم؟.

قولهم : كل جزء من الجسم متجزئ ، إلى غير النهاية فقد أبطلناه فيما تقدم.

قولهم : إنا نتعقل صورا مجردة عن الأوضاع ، والمقادير إلى آخر الحجة (٤) ؛ فهو مبنى على أن المدرك محل للشيء المدرك ، وليس كذلك كما تقدم تحقيقه (٥).

وإن سلمنا أنه محل له فما ذكروه إنما يستقيم بعد صحة الحصر فى الأقسام الثلاثة وما المانع من وجود قسم رابع وهو مما لا سبيل إلى الدلالة على نفيه؟

__________________

(١) راجع ما تقدم ل ٣ / ب من الجزء الأول.

(٢) راجع ما سبق ل ٣ / ب من الجزء الأول.

(٣) قارن بما ورد فى النجاة لابن سينا ص ١٥٩ وما بعدها ، ورسالة ابن سينا فى القوة الإنسانية ضمن تسع رسائل ص ٦ وما بعدها.

/ / أول ل ١١٨ / أمن النسخة ب.

(٤) راجع ما تقدم ل ٢٠٢ / ب.

(٥) راجع ما تقدم ل ٢٠٢ / ب. وفيه الرد على الشبهة الثانية للفلاسفة. [الحجة الثانية].

٢٩٩

وإن سلمنا الحصر فيما ذكروه ؛ ولكن ما المانع أن يكون تجرد ذلك المعنى المعقول عن الوضع والمقدار ، لا لذاته ولا لذات ما أخذ عنه ، بل لذات الأخذ / ، ولا يلزم من كون الأخذ هو الموجب لتجريد الصورة المعقولة عن الوضع والمقدار ، أن يكون هو متجردا فى نفسه عن ذلك.

قولهم : لو كانت النفس مدركة بآلة جرمانيّة لما أدركت نفسها ، ولا آلتها كما فى الحواس الخمس ؛ فهو تمثيل من غير دليل جامع (١).

قولهم : إنّ إدراكها لآلتها : إمّا بآلة ، أو لا بآلة.

ما المانع أن يكون ذلك بآلة؟

قولهم ؛ إما أن يكون بعين تلك الآلة ، أو بغيرها.

ما المانع أن تكون بعين تلك الآلة؟

قولهم : إما أن يكون ذلك لوجود صورة آلتها تلك فى آلتها ، أو لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها.

فهو مبنى على القول بأن الإدراك لا يكون إلا بجهة حلول المدرك فى المدرك ؛ وهو باطل بما سبق (٢).

قولهم : لو كانت مدركة بآلة جرمانيّة ؛ للزم كلالها عند المواظبة على الإدراك كما فى الحواس ؛ فهو تمثيل من غير دليل جامع (٣).

ثم ما المانع أن تكون القوّة المدركة النّفسانية مع كونها مدركة بآلة جرمانيّة أقوى ، وأثبت من القوى المدركة الحساسة ؛ فلذلك لا تكل ، وإن كلت الحواس.

وبه يبطل ما ذكروه من الشبهة الخامسة ، والسادسة ، والسابعة أيضا (٤).

__________________

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ل ٣٩ / أوما بعدها (وفيه الرد على الشبهة الثالثة).

(٢) راجع ما تقدم فى الجزء الأول ل ٩٩ / أوما بعدها.

(٣) راجع ما مر في الجزء الأول ـ القاعدة الثالثة : الدليل الثالث ل ٣٩ / أوما بعدها. وفيه الرد على الشبهة الرابعة للفلاسفة الواردة فى ل ٢٠٣ / أ.

(٤) راجع ما مر ل ٢٠٣ / أ.

٣٠٠