أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0327-1
الصفحات: ٣٩٨

الفصل الثانى

فى وجوب وقوع المعاد الجسمانى

وقد اختلف فيه أيضا :

فذهبت الفلاسفة (١) ، والتناسخية (٢) ، وكثير من العقلاء إلى المنع من ذلك.

وذهب أهل الحق من الإسلاميين ، والمتشرعين إلى وجوب ذلك فى بعض الأجسام (٣).

ثم اختلف القائلون بذلك :

فمنهم من أوجب إعادة المكلّفين عقلا : كالمعتزلة بناء على أصولهم فى وجوب الثواب على الطاعة ، والعقاب على المعصية (٤).

ومنهم من أنكر الوجوب العقلى ، ولو يوجب ما أوجب إعادته بغير السمع : كالأشاعرة ومن تابعهم ؛ وهو الحق (٥).

وأما إنكار الوجوب عقلا : فمن جهة أنه مبنى على القول بإيجاب ثواب الطائع ، وعقاب العاصى على الله ـ تعالى ـ ؛ وهو باطل بما سبق فى التعديل والتجويز (٦).

وأما الوجوب السمعى ؛ فلأنه قد ثبت جواز الإعادة عقلا ، فإذا أخبر الشارع عن وقوعها ، وورد السمع بها ؛ لزم القول بوجوبها. ودليل ورود السمع بذلك ، ما نعلمه بالضرورة ، والنقل المتواتر من أخبار جميع الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ بالمعاد.

__________________

(١) من كتبهم التى وضحت آراءهم : رسائل الكندى ١ / ٢٧١ ، ٢٧٢ وفصوص الحكم ص ٧٣ ورسالة أضحوية ص ٨٩.

(٢) انظر عنهم ما مر فى الجزء الأول هامش ل ١٧٥ / أ.

(٣) اختلف جمهور أهل الحق فيما يعاد. هل كل الأجسام ، أم الأجزاء الأصلية. وهل يعاد المعدوم بعينه ؛ بمعنى أنه عدم. ويعيده ـ الله ـ بعد عدمه أم تكون الإعادة بجمع الأجزاء المتفرقة : أى أنها تفرقت ، ولم تعدم. أم تكون الإعادة بانشاء جديد ، مراعا فيه الانشاء السابق. راجع كل هذه الآراء بالتفصيل ـ بالإضافة لما ذكره الآمدي ـ فى المراجع التالية :

شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ١٧٧ وما بعدها. شرح المقاصد ٢ / ١٥٣ وما بعدها ، وشرح العقيدة الطحاوية ص ٤٦٣ وما بعدها.

(٤) راجع رأى المعتزلة فى شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ١٣٤ وما بعدها.

(٥) وانظر رأى الأشاعرة فى شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ١٧٨ وما بعدها. وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٥٦ وما بعدها وقارن بما أورده الآمدي فى غاية المرام ص ٢٨١.

(٦) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الأول ـ المسألة الثانية : فى أنه لا حكم قبل : ورود السمع ل ١٨٤ / ب وما بعدها.

٢٦١

الجسمانى (١) ، والشريعة طافحة بما ورد على لسان الرسول المؤيد بالمعجزات الدالة على صدقه من الآيات ، والأخبار الدالة على وقوع حشر الأجساد ونشرها.

أما الآيات : فقوله تعالى : ـ (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢)

وقوله تعالى : ـ (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) (٣)

وقوله تعالى : ـ (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٤)

وقوله تعالى : ـ (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٥)

وقوله تعالى : ـ (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) (٦)

وقوله تعالى : ـ (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) (٧)

وقوله تعالى : ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٨)

__________________

(١) الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة ، والعقل والفطرة السليمة فأخبر الله عنه فى كتابه العزيز ، وأقام الدليل عليه ، وردّ على منكر به فى غالب سور القرآن. وذلك : أن الأنبياء عليهم‌السلام كلهم متفقون على الايمان بالأخرة ، فإن الإقرار بالرب عام فى بنى آدم ، وهو فطرى ، كلهم يقر بالرب إلا من عاند كفرعون ، بخلاف الإيمان باليوم الأخر ؛ فإن منكريه كثيرون. ومحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما كان خاتم الأنبياء ، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين وكان هو الحاشر المقفى ـ بين تفصيل الآخرة بيانا لا يوجد فى شيء من كتب الأنبياء. ولهذا ظن طائفة من المتفلسفة ونحوهم ، أنه لم يفصح بمعاد الأبدان إلا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وجعلوا هذه حجة لهم فى أنه من باب التخييل والخطاب الجمهورى [شرح الطحاوية ص ٤٦٣ ، ٤٦٤].

(٢) سورة البقرة ٢ / ٢٨.

(٣) سورة البقرة ٢ / ٨٥.

(٤) سورة البقرة ٢ / ٢٨١.

(٥) سورة آل عمران ٣ / ٩.

(٦) سورة آل عمران ٣ / ٢٥.

(٧) سورة آل عمران ٣ / ١٦١.

(٨) سورة آل عمران ٣ / ١٨٥.

٢٦٢

وقوله تعالى : ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١)

وقوله تعالى : ـ (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢)

وقوله تعالى : ـ (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٣)

وقوله تعالى : ـ (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٤)

وقوله تعالى : ـ (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥) وقوله تعالى : ـ (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ) / / (أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) (٦)

وقوله تعالى : ـ (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ ٤٢ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) (٧)

وقوله تعالى : ـ (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٨)

وقوله تعالى : ـ (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ٣٦ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ٣٧ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٩)

وقوله تعالى : ـ (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) (١٠)

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ / ٢٧.

(٢) سورة الأنعام ٦ / ٩٤.

(٣) سورة الأنعام ٦ / ١٦٤.

(٤) سورة الأعراف ٧ / ٥٧.

(٥) سورة التوبة ٩ / ١٠٥.

(٦) سورة يونس ١٠ / ٢٨.

/ / أول ل ١٢١ / أ.

(٧) سورة إبراهيم ١٤ / ٤٢ ، ٤٣.

(٨) سورة ابراهيم ١٤ / ٤٨.

(٩) سورة الحجر ١٥ / ٣٦ ، ٣٧ ، ٣٨.

(١٠) سورة النحل ١٦ / ٢٧.

٢٦٣

وقوله تعالى : ـ (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) (١)

وقوله تعالى : ـ (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (٢)

وقوله تعالى : ـ (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) (٣)

وقوله تعالى : ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤)

وقوله تعالى : ـ (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ١٥ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) (٥)

وقوله تعالى : ـ (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٦)

وقوله تعالى : ـ (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) (٧)

وقوله تعالى : ـ (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) (٨)

وقوله تعالى : ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٩)

وقوله تعالى : ـ (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ / يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١٠)

وقوله تعالى : ـ (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (١١)

__________________

(١) سورة الإسراء ١٧ / ٩٧.

(٢) سورة الكهف ١٨ / ٤٧.

(٣) سورة الكهف ١٨ / ٩٩.

(٤) سورة الحج ٢٢ / ٦.

(٥) سورة المؤمنون ٢٣ / ١٥ ، ١٦.

(٦) سورة المؤمنون ٢٣ / ٧٩.

(٧) سورة النمل ٢٧ / ٨٣.

(٨) سورة العنكبوت ٢٩ / ٨.

(٩) سورة العنكبوت ٢٩ / ٥٧.

(١٠) سورة الروم ٣٠ / ١١.

(١١) سورة الروم ٣٠ / ١٩.

٢٦٤

وقوله تعالى : ـ (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) (١)

وقوله تعالى : ـ (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢)

وقوله تعالى : ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) (٣)؟

وقوله تعالى : ـ (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) (٤) الآية.

وقوله تعالى : ـ (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ٧٨ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٥) الآية.

وقوله تعالى : ـ (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ١٦ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ ١٧ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) (٦)

وقوله تعالى : ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٧)

وقوله تعالى : ـ (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) (٨)

وقوله تعالى : ـ (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (٩)

وقوله تعالى : ـ (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) (١٠)

وقوله تعالى : ـ (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) (١١)

__________________

(١) سورة الروم ٣٠ / ٢٥.

(٢) سورة الروم ٣٠ / ٥٠.

(٣) سورة سبأ ٣٤ / ٤٠.

(٤) سورة يس ٣٦ / ١٢.

(٥) سورة يس ٣٦ / ٧٨ ، ٧٩.

(٦) سورة الصافات ٣٧ / ١٦ ، ١٧ ، ١٨.

(٧) سورة الزمر ٣٩ / ٦٨.

(٨) سورة غافر ٤٠ / ١٦.

(٩) سورة الشورى ٤٢ / ٧.

(١٠) سورة الجاثية ٤٥ / ٢٦.

(١١) سورة الأحقاف ٤٦ / ٦.

٢٦٥

وقوله تعالى : ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (١)

وقوله تعالى : ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ٢٠ وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) (٢)

وقوله تعالى : ـ (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) (٣)

وقوله تعالى : ـ (هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٤)

وقوله تعالى : ـ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) (٥)

وقوله تعالى : ـ (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) (٦)

وقوله تعالى : ـ (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ٣ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (٧)

وقوله تعالى : ـ (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ ٦ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) (٨)

وقوله تعالى : ـ (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ٤٩ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٩)

وقوله تعالى : ـ (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) (١٠) إلى غير ذلك من الآيات.

وأما الأخبار : فما روى مسلم فى صحيحه عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء» (١١) وأيضا قوله ـ صلى الله عليه

__________________

(١) سورة الأحقاف ٤٦ / ٣٣.

(٢) سورة ق ٥٠ / ٢٠ ، ٢١.

(٣) سورة ق ٥٠ / ٤٢.

(٤) سورة الملك ٦٧ / ٢٤.

(٥) سورة الحاقة ٦٩ / ١٨.

(٦) سورة المعارج ٧٠ / ٤٣.

(٧) سورة القيامة ٧٥ / ٣ ، ٤.

(٨) سورة القمر ٥٤ / ٦ ، ٧.

(٩) سورة الواقعة ٥٦ / ٤٩ ، ٥٠.

(١٠) سورة النبأ ٧٨ / ١٨.

(١١) صحيح مسلم ٤ / ٢١٥٠ كتاب : صفة القيامة والجنة والنار ـ باب : فى البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة.

٢٦٦

وسلم ـ «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة» (١) وأيضا قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) (٢)

وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام «يقوم يوم القيامة الناس لرب العالمين حتى يقوم أحدهم فى رشحه إلى أنصاف أذنيه» (٣).

وروى أيضا فى صحيحه عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ / أنه قال «يجئ يوم القيامة ناس بذنوب أمثال الجبال ؛ فيغفرها الله لهم» (٤).

وروى أيضا فى صحيحه عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال «يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه. فيقول هل تعرف؟

فيقول رب أعرف ـ قال : فإنى قد سترتها عليك فى الدنيا ، وإنى أغفرها لك اليوم ، وأما الكفار والمنافقون ، فينادى / / بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم» (٥).

والأدلة السمعية فى ذلك متسع لا يحويها كتاب ولا يحصرها خطاب ، وكلها ظاهرة فى الدلالة على حشر الأجساد ونشرها ، مع إمكان ذلك فى نفسه ؛ فلا يجوز تركها من غير دليل.

لكن هل الإعادة للأجسام بإيجادها بعد عدمها ، أو بتأليف أجزائها بعد تفرقها؟ فقد اختلف فيه.

والحق إمكان كل واحد من الأمرين ، والسمع موجب لأحدهما من غير تعيين ، وبتقدير أن تكون الإعادة للأجسام بتأليف أجزائها بعد تفرقها ، فهل تجب إعادة عين ما انقضى ومضى ، من التأليفات فى الدنيا ، أو أن الله ـ تعالى ـ يجوز أن يؤلفها بتأليف آخر؟ (٦).

__________________

(١) رواه مسلم فى صحيحه كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها ـ باب فناء الدنيا ، وبيان الحشر يوم القيامة ٤ / ٢١٩٤.

(٢) رواه مسلم فى صحيحه ٤ / ٢١٩٤ ، ٢١٩٥ ـ جزء من الآية رقم ١٠٤ من سورة الأنبياء.

(٣) رواه مسلم فى صحيحه ٤ / ٢١٩٥.

(٤) رواه مسلم فى صحيحه كتاب التوبة ـ باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله ٤ / ٢١٢٠.

/ / أول ل ١١١ / ب.

(٥) صحيح مسلم كتاب التوبة ـ باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله ٤ / ٢١٢٠.

(٦) قارن بما ورد فى شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ١٨٤ وما بعدها. وشرح المقاصد ٢ / ١٦٠ ، ١٦١.

٢٦٧

فذهب أبو هاشم (١) : إلى المنع من إعادتها بتأليف آخر ؛ مصيرا منه إلى أن جواهر الأشخاص متماثلة ، وإنما يتميز كل واحد عن الآخر بتعينه ، وتأليفه الخاص ، فإذا لم يعد ذلك التأليف الخاص به ؛ فذلك الشخص لا يكون هو العائد ؛ بل غيره ؛ وهو مخالف لما ورد به السمع من حشر الناس على صورهم. ومذهب من عداه من أهل الحق : أن كل واحد من الأمرين جائز عقلا ، ولا دليل على التعيين من سمع ، وغيره.

وما قيل من أن تعيين كل شخص إنما هو بخصوص تأليفه.

لا نسلم ذلك ؛ بل جاز أن يكون بلونه ، أو بعرض أخر مع التأليف.

ومن مذهب أبى هاشم أنه لا يجب إعادة غير التأليف من الأعارض. فما هو جوابه من غير التأليف : فهو جواب لنا فى التأليف.

وإن سلمنا أن خصوص تعيينه تأليفه الخاص به ؛ لكن عين ذلك التأليف ، أو أمثاله. الأول : ممنوع ، والثانى : مسلم ؛ وذلك لأنّا قد بينا أن الأعراض غير باقية (٢) ، والتأليف عرض ؛ فيكون غير باق.

ومع ذلك فإن عين كل شخص فى زمان ، لا يقال إنها غيره فى الزمان المتقدم ، وإن كان التأليف متجددا ، وما ورد به السمع من حشر الناس على هيئاتهم ، ليس فيه ما يدل على إعادة عين ما انقضى من التأليف.

ولا مانع أن تكون الإعادة بمثل ذلك التأليف لا بعينه.

وهل يجوز أن يخلق الله فى الأجسام المعادة جواهر أخر زائدة عليها؟.

فذلك مما أنكره المعتزلة ، وهو مبنى على فاسد أصولهم من وجوب رعاية الحكمة وإيجاب الثواب على / الطاعة ، والعقاب على المعصية ، وامتناع عقاب من لم يعص وثواب من لم يطع ؛ وهو باطل بما أسلفناه فى التعديل والتجويز (٣). والّذي عليه أهل الحق

__________________

(١) راجع ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل ١١ / ب. أما مذهبه : فانظر عنه ما سيأتى ل ٢٤٦ / ب.

(٢) راجع ما سبق فى الأصل الثانى : فى الأعراض وأحكامها. الفصل الرابع : فى تجدد الأعراض ، واستحالة بقائها ل ٤٤ / ب.

(٣) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الأول ـ المسألة الثالثة ل ١٨٦ / أوما بعدها.

٢٦٨

من الأشاعرة : أن ذلك جائز عقلا ، وواقع سمعا. بدليل قوله عليه‌السلام «إن سن الكافر تصير فى النار مثل أحد (١). وقوله عليه‌السلام «يصير جلد الكافر فى النار أربعين ذراعا بذراع الجبار (٢). هو ضرب من الدرعان. وما ورد فى ذلك مما صحت الروايات به عند أهل النقل فكثير غير قليل.

فإن قيل : ما ذكرتموه من السمعيات وإن كانت ظاهرة فى الدلالة على حشر الأجساد ونشرها ، غير أنه يتعذر العمل بها فيما هى ظاهرة فيه لوجوه ثمانية :

الأول : أنه لو اغتذى إنسان بلحم إنسان بحيث استحال ، وصار لحم الأول ، أو بعضه جزءا من أجزاء المغتذى. فعند إعادتهما يستحيل أن تعود تلك الأجزاء إلى كل واحد منهما بحيث يكون جزء ، من هذا ، وجزءا من هذا ، فلم يبقى إلا أن تعود إلى أحدهما ، أو لا تعود إلى واحد منهما.

فإن كان الأول : فالشخص الآخر غير معاد بجملة أجزائه ، وليس أحدهما أولى من الآخر.

وإن كان الثانى : فكل واحد منهما غير معاد ؛ بل بعضه ، وليس إعادة بعض الأجزاء دون البعض أولى من العكس.

الثانى : أنه لا يخلو : إما أن تعاد جميع أجزاء البدن التى حصلت فى حالة الحياة وتحللت. أو الأجزاء التى كانت حاصلة له حالة الموت.

فإن كان الأول : فهو ممتنع لوجهين : ـ

الأول : أنه من المحتمل أن تكون تلك الأجزاء المنفصلة عنه فى حالة الحياة قد صارت جزءا من جسم غذائى اغتذى به إنسان آخر ، وصارت جزء منه.

وعند ذلك : فإما أن يقال بإعادتها فى كل واحد من الشخصين ، أو فى أحدهما ، أو لا فى واحد منهما ، ويلزم المحالات السابق ذكرها.

__________________

(١) رواه مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد ، وغلظ جلده مسيرة ثلاث» (صحيح مسلم : كتاب الجنة وصفة نعيمها ـ باب النار يدخلها الجبارون ، والجنة يدخلها الضعفاء ٤ / ٢١٨٩).

(٢) رواه الترمذي عن أبى هريرة رضى الله عنه بلفظ : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا وان ضرسه مثل أحد ، وأن مجلسه من جهنم كما بين مكة ، والمدينة» وقال هذا حديث حسن صحيح غريب ـ الترمذي ـ كتاب صفة جهنم ، باب فى عظم أهل النار ٤ / ٧٠٣.

٢٦٩

وعلى هذا أيضا : يلزم المحالات بتقدير أن يكون ذلك الشخص بعينه قد اغتذى بها ، وصارت جزء من / / عضو آخر منه (١).

الثانى : يلزم من إعادة جميع الأجزاء إليه ، أن تعاقب الأجزاء التى انفصلت عنه حالة الإيمان ، بتقدير كفره بعد ذلك ، أو أن تثاب الأجزاء التى انفصلت عنه حالة الكفر ، بتقدير توبته وعوده إلى الإيمان بعد ذلك ، وثواب العاصى ، وعقاب المطيع ممتنع على ما سبق (٢).

وإن كان الثانى : وهو ألا تعاد جميع الأجزاء ؛ فهو ممتنع لثلاثة أوجه :

الأول : أنه يلزم منه أن من مات متقطع الأطراف أن يعاد على هيئته ، ولم يقولوا به.

الثانى : أنه يلزم منه أن لا تثاب تلك الأجزاء المنفصلة حالة الطاعة ، ولا تعاقب بتقدير انفصالها حالة الكفر ـ وهو ممتنع كما تقدم.

الثالث : أنه ليس إعادة البعض أولى من / البعض (٣).

الوجه الثالث : هو أن ما مضى من الأبدان غير متناهية العدد ؛ لما سبق فى تحقيق قدم العالم.

فلو أعيدت للزم وجود أجسام لا نهاية لأعدادها معا ؛ وهو محال ؛ لما تقدم أيضا.

الرابع : هو أن إعادة الأجسام : إما أن تكون بإيجاد ما عدم من أجزائها ، أو بتأليف ما تفرق منها.

الأول محال ؛ لما سبق فى امتناع إعادة ما عدم (٤).

والثانى ممتنع ؛ لأنه إما أن يعاد ذلك التأليف بعينه ، أو غيره. فإن كان عينه ؛ فهو ممتنع لوجهين :

__________________

/ / أول ل ١١٢ / أ. من النسخة ب.

(١) قارن ما أورده الآمدي هنا بما أورده ابن سينا : فى رسالة أضحوية فى أمر المعاد ص ٥٦ وما بعدها. وبما ذكره الإمام الغزالى فى تهافت الفلاسفة ص ٢٩٦ وما بعدها.

(٢) راجع ما سبق ل ١٦٥ / ب وما بعدها.

(٣) قارن بما ورد فى رسالة أضحوية فى أمر المعاد لابن سينا ص ٥٦ ، ٥٧ ، وبما ورد فى تهافت الفلاسفة للغزالى ص ٢٩٧ ، ٢٩٨ ، وبما ورد فى شرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٥٧.

(٤) راجع ما سبق فى الأبكار ١٩٥ / ب وما بعدها.

٢٧٠

الأول : لما فيه من إعادة المعدوم ، والثانى : أن التأليف عرض ، والعرض ممتنع الإعادة ؛ لما سبق (١).

وإن كان المعاد غيره فهو أيضا ممتنع ؛ لما سبق.

الخامس : أنه لو أعيدت أبدان الناس لم يخل : إما أن يقال بأنها تبقى دائمة من غير فناء ، أو أنها تفنى.

فإن كان الأول : فهو ممتنع ؛ لأنها مركبة من أجزاء متقابلة بالحرارة ، والبرودة ، والرطوبة ، واليبوسة ، ولا بد بينها من فعل وانفعال بحيث يحصل منه كيفية مزاجية يتميز بها بدن الإنسان عمن سواه ، وذلك الفعل والانفعال ، بين تلك الأجزاء مما يفضى إلى تنقيص الرطوبة بفعل الحرارة فيها إلى حد الفناء ، وكذلك بالعكس ، والموت من لوازم ذلك لا محالة.

وإن كان الثانى : فلم يقولوا به.

السادس : هو أن إعادة أبدان الحيوانات مما يفضى إلى جواز وجودها من غير توالد ، وهو مخالف للعقل ، والعادة.

السابع : هو أنه لو أعيدت الأجسام : فإما أن يقال بأنها تغتذى ، أو لا تغتذى.

فإن كان الأول : فإما أن يلازم اغتذاها الأعراض الملازمة له فى الدنيا : كالجوع ، والاحتقان ، والاستفراغ ، والمرض ، وغير ذلك ، أو لا يلزمه.

الأول : لم يقولوا به ، والثانى : غير معقول.

وإن قيل إنها غير مغتذية : فلم يقولوا به ، ثم إن بقائها مع عدم اغتذائها بها أيضا غير معقول (٢).

الثامن : أن إعادة الأجسام عند القائل بها : إما إلى جنة ، أو نار. والجنة عنده فوق السموات ، والنار تحت الأرض ، والأرض تحت كل شيء ، ولا تحت لها ، والسماء فوق كل شيء ولا فوق لها ، كما هو مبين فى الحكميات.

__________________

(١) راجع ما سبق ل ٤٤ / ب وما بعدها.

(٢) راجع تهافت الفلاسفة للإمام الغزالى ص ٢٩٧ وما بعدها.

٢٧١

فكيف تكون النار تحت ما لا تحت له ، والجنة فوق ما لا فوق له. ثم يلزم من كون الجنة فوق السموات ، ومن دخول الأبدان الإنسانية إليها محالان :

الأول : انخراق السموات ؛ لصعود أبدان الناس إلى الجنة.

الثانى : أن تكون الأجسام الكائنة ، الفاسدة ، فى حيز الأجسام الأبداعية ، أو فوق حيزها ؛ وهو محال لما سبق (١).

وعلى هذا : فيجب تأويل كل ما / ورد من السمعيات فى ذلك على المعاد النفسانى جمعا بين أدلة العقل ، ومخاطبة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ للعوام بما يفهمونه ، وما لا تنفر طباعهم عن قبوله ، مع دعو الحاجة إلى ترغيبهم بالنعيم ، وترهيبهم بالعذاب المقيم فيما يقصد منهم فعله وتركه ؛ ولهذا قال عليه‌السلام ـ «أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم (٢)»

والجواب :

قولهم : يتعذر العمل بظواهر ما ذكرتموه من السمعيات.

قلنا : قد بينا إمكان إعادة الأجسام عقلا (٣) ؛ فيمتنع مخالفة الظاهر الدّال على وقوعها ، من غير دليل.

وما ذكروه فى الوجه الأول : فإنما يلزم أن لو كان ما لكل واحد من أشخاص الناس من الأجزاء ما يتصور عليها التبدل ، والتغيير ، وأن تصير جزء من شخص تارة ، وجزء من آخر تارة ؛ وهو ممنوع.

بل كل شخص يشتمل على أجزاء أصلية بها قوامه ، ولا يتصور عليها التبدّل والتغيير فيه. وأجزاء / / فاضلة وهى ما يتصور عليها التبدل والتغير فيه ، وما يكون فيه من الأجزاء الأصلية هى المثابة ، والمعاقبة ، وهى فلا يتصور أن تصير أجزاء أصلية من غيره ؛ بل إن صارت جزءا من الغير ؛ فلا تكون فيه إلا فاضلة ، وكذلك بالعكس (٤).

__________________

(١) راجع رأى الفلاسفة فى رسالة اضحوية لابن سينا ص ٥٦ ، ٥٧ والرد عليه فى تهافت الفلاسفة للإمام الغزالى ص ٢٩٦ ـ ٣٠٠. وقارن بما ورد فى شرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٥٧. وما سبق فى ل ٣١ / أو ما بعدها.

(٢) رواه الديلمى عن ابن عباس مرفوعا ، فى سنده ضعف.

(٣) راجع أدلة الأشاعرة القائلين بامكان إعادة المعدوم عقلا فيما مر ل ١٩٥ / أ.

/ / أول ل ١١٢ / ب من النسخة ب.

(٤) قارن هذا النقد بما ورد فى تهافت الفلاسفة للغزالى ص ٣٠٠ ـ ٣٠٣ وبما ورد فى شرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٥٧.

٢٧٢

وبهذا يندفع ما ذكروه من الشبهة الثانية أيضا.

قولهم : إن ما مضى من الأبدان لا نهاية لأعدادها ، باطل ؛ بما سبق فى مسألة حدوث العالم (١). وما ذكروه فى الوجه الرابع ؛ فقد سبق جوابه أيضا.

قولهم : لو أعيدت الأجسام فإما أن تبقى ، أو لا تبقى.

قلنا : كل واحد من الأمرين ممكن ، والسمع قد دل على الدوام.

وما ذكروه فى امتناع دوامها ؛ فمبنى على القول بالمزاج ، وتأثير الطبيعة ، وقد أبطلناه فيما تقدم (٢) ؛ بل الكائنات كلها إنّما هى مستندة إلى فعل فاعل مختار تام القدرة ؛ فلا يكون الدوام ممتنعا.

قولهم : إن القول بإعادة الأبدان من غير توالد محال.

ليس كذلك ؛ إذ يلزم من القول بأنه لا إنسان إلا عن إنسان تسلسل الحوادث إلى غير النهاية ؛ وقد أبطلناه أيضا فيما تقدم.

قولهم : لو أعيدت الأجسام إما أن تغتذى ، أو لا تغتذى.

قلنا : كل واحد من الأمرين عندنا ممكن ؛ غير أن السمع قد دل على التغذية فى الدار الآخرة ، ولا يلزم عليه من الأعراض ما كانت لازمة له فى الدنيا ؛ إذ كل واحد من الأمرين مستند إلى فعل فاعل مختار ، لا إلى مقتضى الطبيعة كما سبق تقريره (٣).

والسمع قد ورد بامتناع تلك الأعراض فى الدار الآخرة ؛ فوجب اتباعه.

وما ذكروه من الشبهة الأخيرة ؛ فمبنى / على فاسد أصولهم من امتناع ملأ فوق السماوات ، وتحت الأرض ، وامتناع انخراق أجسام السماوات ؛ وهو غير مسلم (٤).

__________________

(١) انظر ما مر ل ٨٢ / ب : الأصل الرابع : فى حدوث العالم.

(٢) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الفرع الثالث : فى الرد على الطبيعيين ل ٢٢٠ / ب.

(٣) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الثانى ـ الفرع الثالث : فى الرد على الطبيعيين ل ٢٢٠ / ب وما بعدها.

(٤) قارن بما ورد عند الإمام الغزالى فى تهافت الفلاسفة ص ٣٠٠ وما بعدها وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ١٩٢ وما بعدها ، وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٥٧.

٢٧٣

الفصل الثالث

فى المعاد النفسانى

والنظر فى تحقيقه يتوقف على تحقيق النفس الإنسانية ، ومعناها. وقد اختلف الناس فى معنى النفس الإنسانية.

فمنهم من قال إنها عرض ، ومنهم من قال : إنها جوهر.

ومن قال إنها عرض ـ اختلفوا ـ فمنهم من قال إنها عرض خاص من الأعراض ولم يعينه ، وهذا هو مذهب جماعة من المتكلمين (١) وقد نصره الإمام الهراسى (٢) من أصحابنا وغيره ، وزعم أن كل مخلوق لا يخلو عن أن يكون جسما ، أو عرضا ، والنفس الإنسانية ليست جسما ؛ وإلا كان كل جسم نفسا ؛ ضرورة تماثل الأجسام كما سبق ، فلم يبق إلا أن يكون عرضا.

ومن قدماء الفلاسفة (٣) من قال : إنها المزاج الخاص بأبدان نوع الإنسان ، وهى كيفية حادثة من تفاعل الكيفيات الملموسة فيها ، وهى الحرارة ، والبرودة ، والرطوبة ، واليبوسة ، ولهذا تفوت النفس باختلاف ذلك المزاج.

ومنهم من قال : إنها من جملة القوى الفعّالة فى الأجسام وهى ما يصح إسناد الأفعال الاختيارية من الذهاب ، والإياب إليها ، وحفظ النوع ، وبقائه فى تولده حتى لا يكون من الإنسان ، إلا إنسان إلى غير ذلك من الأفعال ، وليس ذلك مستندا إلى كيفية المزاج ؛ بل ما يستند إلى المزاج ، ليس غير الاستعداد لهذه الأمور ، فكانت هذه القوى هى النفس ، ولهذا تفوت النفس بفواتها (٤).

ومنهم من قال : النفس صفة الحياة ، وهى ما لا تتم هذه الأفعال إلا بها ، ولذلك تفوت النفس بفواتها (٥).

__________________

(١) راجع مقالات الإسلاميين للإمام الأشعرى ٢ / ٢٥ ـ ٢٨ قولهم : فى الإنسان ما هو؟ ٢ / ٢٨ ـ ٣٠ قولهم : فى الروح والنفس والحياة. وانظر الدراسات النفسية عند المسلمين ص ١٠٨ وما بعدها.

(٢) على الكيا الهرّاسى (٤٥٠ ـ ٥٠٤ ه‍) (١٠٥٨ ـ ١١١٠ م) عماد الدين أبو الحسن : على بن محمد بن على الكياالهراسي ، الطبرستانى ، الشافعى فقيه ، أصولى ، متكلم. ولد سنة ٤٥٠ ه‍. قدم بغداد ، وتفقه على إمام الحرمين ، وتوفى ببغداد سنة ٥٠٤ ه‍ من مصنفاته : أحكام القرآن والتعليق فى أصول الفقه. [شذرات الذهب لابن العماد ٤ / ٨ ، معجم المؤلفين ٧ / ٢٢٠].

(٣) كجالينوس : راجع الفصل لابن حزم ٥ / ٤٧. وانظر ترجمة جالينوس فيما مر فى الجزء الأول فى هامش ل ١٠٤ / أ.

(٤) راجع الفصل لابن حزم ٥ / ٧٤ وشرح الطحاوية ص ٤٦٤ وما بعدها.

(٥) المصدر السابق.

٢٧٤

ومنهم من قال ـ إنها عبارة عن الشكل الخاص ، والتخطيط.

وأما من قال إنها جوهر : فمنهم من قال : إنها جوهر مركب ؛ فيكون جسما.

ومنهم من قال : إنها جوهر بسيط ، لا تركيب فيه.

فأما من قال : إنها جسم فقد اختلفوا : ـ

فمنهم من قال : إنها عبارة عن هذه الجثة الخاصة المركبة من الجواهر ، والأعراض القائمة بها ، وهى ما يشير كل أحد إليها بقوله نفس ، ولا إشارة إلى غير الجثة الخاصة ، وهذا هو مذهب جماعة من المتكلمين (١).

وأما قدماء الفلاسفة : فمنهم من قال : إنها جسم فى داخل هذه الجثة. ثم اختلف هؤلاء.

فمنهم من قال : إنها جسم مركب من العناصر ، مصيرا منه إلى أن النفس مدركة للمركبات ، وإنما يدرك الشيء بشيء يشبهه (٢).

ومنهم من قال : إنها عبارة عن مجموع الأخلاط الأربعة مع تناسب مخصوص بينها فى كمياتها ، وكيفياتها ؛ ولذلك فإنه لا بقاء للنفس / مع اختلال هذه الأمور ، أو بعضها.

ومنهم من قال : إنّها الدم ؛ اذ هو أشرف أخلاط البدن // ؛ ولأن الإنسان يموت عند خروجه ، ولا يوجد منه شيء فى أبدان الأموات (٣).

ومنهم من قال : إنها عنصر من العناصر (٤) ، مصيرا منه إلى أن من يدرك غيره فإنما يدركه ؛ لأنه من جوهره ، والنفس مدركة للأشياء العنصرية ؛ فيجب أن تكون من جوهرها. ثم اختلف هؤلاء.

فقال «فلوطرخس (٥)» إنها النار السارية فى هذا الهيكل ؛ لأن خاصية النار الحركة والإشراق ؛ وذلك متحقق فى النفس.

__________________

(١) انظر المغنى للقاضى عبد الجبار ١٢ / ٣١١ فقد نصر هذا الرأى.

(٢) انظر : فى الفلسفة الإسلامية للدكتور مدكور ١ / ١٥٥ فقد نسب هذا القول لأنبياذوقليس صاحب العناصر الأربعة.

/ / أول ل ١١٣ / أ.

(٣) يعرف هذا الرأى للفيلسوف كرتيساس انظر كتاب النفس لأرسطو ص ١٥ وتاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم.

(٤) كأنكمانس وتاليس وغيرهم : انظر الفلسفة الاغريقية د. محمد غلاب ١ / ٣٣ وما بعدها ، ص ٤٧ وما بعدها.

(٥) انظر عنه كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطى ص ٢٥٧ فقد قال عنه إنه فيلسوف مذكور فى عصره له تصانيف مهمة منها كتاب الآراء الطبيعية وكتاب النفس وغيرهما.

٢٧٥

وقال ديوناس : إنها الهواء المستنشق المتردد فى مخارق البدن ؛ ولذلك تزول الحياة بزواله.

وقال تاليس (١) : إنها الماء ؛ إذ هو سبب النشوء ، والنمو ، والنفس كذلك ؛ فكانت هى الماء.

وذهب الأطباء : إلى أن النفس هى الروح ، وهى جسم لطيف بخارى ، ناشئ من التجويف الأيسر من القلب ، مثبت فى جميع البدن ؛ هو منبع الحياة ، والنفس والنبض.

وقد أشار القاضى (٢) إلى ما هو قريب من هذا القول ، وهو أن قال : النفس عبارة عن أجسام لطيفة ، ومشتبكة بالأجسام الكثيفة أجرى الله العادة بالحياة مع بقائها.

ومنهم من قال : إنّ النفس عبارة عن الروح الكائنة فى الدماغ (٣) الحاملة للقوى الحساسة الباطنة ، وهى الحس المشترك ، والصورة ، والمخيلة ، والوهمية والحافظة.

ومن المتكلمين من قال : النفس هى الأجسام الأصلية فى كل بدن من الأبدان دون الأجزاء الفاضلة. كما حققنا فى الفصل الّذي قبله (٤).

وأما من قال : إنها جوهر بسيط فقد اختلفوا :

فمنهم من قال : إنها جوهر فرد متحيز ، وهذا هو مذهب طائفة من الشيعة ، ومعمر من المعتزلة (٥) ، والإمام الغزالى من أصحابنا (٦).

ومنهم من قال : إنها جوهر بسيط معقول غير متحيز مجرد عن المادة دون علائقها ، وهذا مذهب الفحول من الفلاسفة اليونانيين (٧) ومن تابعهم من فلاسفة الإسلاميين (٨) ، وأرباب التناسخ.

__________________

(١) تاليس : انظر ترجمته فيما مر فى هامش ل ٨٥ / أ.

(٢) هو القاضى أبو بكر الباقلانى ، راجع ترجمته فى هامش ل ٢ / ب من الجزء الأول.

(٣) كجالينوس الطبيب انظر الأربعين فى أصول الدين للإمام الرازى ٢٦٩.

(٤) راجع ما مر فى الفصل الثانى ل ١٩٨ / أوما بعدها.

(٥) راجع ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل ١٨٢ / ب. وراجع مذهبه فيما سيأتى فى القاعدة السابعة ل ٢٤٥ / ب وما بعدها. وانظر المغنى ١١ / ٣١١ لتوضيح رأيه.

(٦) راجع ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل ١٢٢ / أ. وراجع رأيه فى كتابه معارج القدس ص ٧١.

(٧) كأفلاطون وأرسطو. انظر النفس لأرسطو الكتاب الثانى ص ٣٤.

(٨) كابن مسكويه وابن سينا وابن رشد. انظر فى الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيقه ١ / ١٢٩.

٢٧٦

وقد احتجوا على ذلك بحجج.

الأولى : أنّهم قالوا : إنه من البيّن الّذي لا شكّ فيه على ما يجده كل عاقل من نفسه أن فيه ، وفى ذاته شيئا به إدراك المعقولات البسيطة التى لا تركيب فيها كالإله : تعالى ، ومبادى المركبات.

قالوا : يجب ألا يكون المدرك لها جسما ، ولا قائما بالجسم قيام الأعراض بموضوعاتها والصور الجوهرية بموادها ، وإلا كان متجزئ ، لأن كل جسم متجزئ على ما سبق ، وما قام بالمتجزئ يكون متجزئا ، ولو كان متجزئا لما كان محلا / لانطباع المعقولات التى لا تجزئ لها فيه ، وإلا فانطباعه فى جزء واحد منه دون باقى أجزائه [أو فى كل واحد من أجزائه] (١).

لا جائز أن يكون الانطباع فى جزء واحد منه فإن فرض جزء من الجسم ، أو ما قام به غير متجزئ ، محال ؛ لما سبق (٢).

والتقسيم بعينه يكون لازما إلى ما لا يتناهى ، ولا جائز أن يكون الانطباع فى كل واحد من الأجزاء ، وإلا فالمنطبع فى كل واحد من الأجزاء إما أن يكون هو نفس المنطبع فى الجزء الآخر ، أو غيره.

فإن كان الأول : فيكون الشيء الواحد فى حالة واحدة ، معلومات كرات غير متناهية ؛ وهو محال.

كيف وإن ما من جزء يفرض إلا هو متجزئ إلى غير النهاية ، والتقسيم بعينه وارد لا محالة.

وإن كان الثانى : فيلزم أن يكون المعقول المفروض متجزئا. وقد فرض غير متجزئ ؛ وهو محال.

فإذن ما هو محل انطباع المعقولات الغير المتجزئة متجزئ ، وإلا كان ما لا يتجزأ منطبعا فى ما هو متجزئ ، وهو محال ، ويلزم أن لا يكون جرما ، ولا قائما بالجرم ؛ وذلك هو المطلوب.

__________________

(١) ساقط من أ

(٢) راجع ما مر فى الفصل الثالث فى تجانس الأجسام ل ٢٥ / ب وما بعدها.

٢٧٧

الثانية : أنا قد نتعقل صورا مجردة عن الأوضاع والمقادير : كصورة الإنسان الكلى ونحوه.

وعند ذلك فلا يخلوا : إما أن يكون تجردها عن ذلك لذاتها ، أو لما أخذت عنه ، أو لنفس الآخذ ، وهو المحل القابل لها.

لا جائز أن يقال بالأول : وإلا لما عقلت إلا وهى مجردة عنه ، وليس كذلك كما فى الأشخاص.

ولا الثانى : إذ ليس كل صورة معقولة مجردة عن الوضع مأخوذة عن شيء ، وذلك كالذى يتصوره الإنسان من الصور التى لا وجود لها فى الخارج ؛ ولأن ما أخذت عنه قد لا يكون مجردا عن الوضع : كأشخاص الإنسان ، وإن كان الثالث : فما به التعقل ليس جسما ، ولا جسمانيا ، وإلا لما خلا عن ذلك.

الثالثة : أنه لو كانت النفس مدركة بآلة جرمانيّة : لما أدركت نفسها كما فى الحواس الخمس ؛ إذ ليس بينها ، وبين نفسها ، ولا بين آلتها آلة. وإلا فإدراكه لآلتها : إما بآلة ، أو لا بآلة.

فإن كان الأول : فإما أن يكون إدراكها بآلتها بعين تلك الآلة ، أو بغيرها.

فإن كان بعين تلك الآلة : فإما أن يكون ذلك لوجود / / صورة آلتها تلك فى آلتها ، أو لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها.

فإن كان الأول : فيلزم أن تكون عاقلة لآلتها دائما ؛ إذا كانت تعقل بوجود صورة المعقول فى الآلة ، وصورة آلتها فى آلتها دائمة الوجود ؛ وهو محال خلاف المعقول.

وإن كان الثانى : فباطل أيضا ، فإن الصورة إذا دخلت الجوهر العاقل إنما تجعله عاقلا ؛ لما تلك الصورة صورته ، لا لصورة غيره ، إلا أن يكون مضايفا له ، وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك.

وإن كان أدركها لآلتها بغير تلك الآلة : / فالكلام فى تلك الآلة كالكلام فى الأولى ؛ ويلزم من ذلك التسلسل ، أو الدور الممتنع.

__________________

/ / أول ل ١١٣ / ب.

٢٧٨

وإن كان إدراكها لآلتها لا بآلة : فليكن مثله فى غيرها ؛ إذا القول بالفرق تحكم غير معقول.

الرابعة : أنها لو كانت مدركة بآلة جرمانيّة ؛ للزم كلالها عند المواظبة على الإدراك كالحواس ، فإن من واظب على إبصار شيء ، أو سماع صوت كلت آلته ، والتالى باطل فإن إدراك النفس يقوى بكثرة ما تدركه من المعقولات ، ويستمر عليه (١).

الخامسة : أنها لو كانت مدركة بآلة جرمانيّة : لما أدركت الأخفى بعد إدراك ، الأظهر ؛ أو لقلّ إدراكها له كما فى الحواس ، فإن من أدرك الأصوات الهائلة : كأصوات البوقات ، ونقر الطبول ؛ فإنه قد لا يدرك الهمس من الأصوات كإدراكه له قبل ذلك ، وكذلك من أدرك ضوء الشمس قد لا يدرك بعده الأشياء الصغيرة كالذرة ، ونحوها. وكمن أدرك الحرارة أو البرودة الشديدة فإنه لا يدرك ما هو أضعف منها بخلاف إدراك النفس.

السادسة : أنها لو كانت داركه بآلة جرمانيّة ؛ لوقفت ، وعجزت عند بلوغ الأربعين ؛ إذ هى كحال النشوء كسائر أجزاء البدن بالحواس الظاهرة ، وليس كذلك.

السابعة : أنها لو كانت داركة بآلة جرمانيّة ؛ لضعفت بضعف البدن واستضرت بضرر موضوعها بالآلام ، والأمراض ، وليس كذلك ، فإن النظر ، والفكر مؤلم للدماغ ، ومضر به ، ومكمل للنفس.

الثامنة : أنّها لو كانت دراكة بآلة جرمانيّة ؛ لأمكن أن يكون البعض من تلك الآلة مدركا للشيء ، والبعض غير مدرك له ؛ فيكون الشخص الواحد عالما بالشيء الواحد وجاهلا به فى حالة واحدة ؛ وأنه محال.

التاسعة : أنه لو كانت دراكة بآلة جرمانيّة ؛ لما كانت مدركة للمتضادات معا ؛ لتوقف إدراكها على انطباع صورة الشيء المدرك فى آلتها ، وانطباع صورتى المتضادين معا فى جزء واحد محال ، كما فى الحواس الظاهرة والباطنة ؛ ولهذا فإنا لا نجد فى حواسنا إمكان إدراك كون الشيء الواحد أسود ، أبيض ، حارا ، باردا معا ، ولا كذلك عند كونها مدركة للمتضادات بغير آلة جرمانيّة ؛ لأنّ إدراكها لا يكون على سبيل صورتى المتضادين

__________________

(١) قارن ما ورد هنا بما أورده الإمام الغزالى فى تهافت الفلاسفة الدليل السابع على تجرد النفس الناطقة ص ٢٢٦.

٢٧٩

فى آلتها ؛ بل على سبيل التصور لحقيقتيهما ؛ ولا يلزم من استحالة انطباع الصورتين المتضادتين فى الجسم الواحد ، استحالة تصور الحقيقتين لا التصديق بالجمع بينهما.

العاشرة : أنّ النفس الإنسانية تقوى على إدراك ما لا يتناهى / من الصّور المعقولة ، فقوتها غير متناهية ، فلو كانت مدركة بآلة جرمانيّة ؛ لكانت متناهية قابلة للتنصيف ؛ ضرورة تناهى محالها ، وقبوله للتنصيف.

الحادية عشرة : أنّ الأجسام وقواها تعقل بما يتصور فيها من الصّور العقلية : فهى فاعلة منفعلة ، والنفس الإنسانية تفعل ذلك ، حيث تستخرج النتائج من المقدمات ، وتعقل حكم التصديق بها من ذاتها. فهى بذلك فاعلة لا منفعلة ، فالنفس ليست جسما ، ولا قوة فى جسم.

الثانية عشرة : أن الأجسام وقواها إنّما تتخلص ممّا يؤذيها بالحركة المكانيّة هربا عنه ، وليست القوة العاقلة فى هربها عما يؤذيها لذلك ؛ بل بالرأى ، والرؤية ، فالنّفس ليست جرما ، ولا قوة فى جرم.

الثالثة عشرة : إنّ بدن الإنسان مؤلّف من أضداد ، تأليفا لا يقع به ممانعة بين أجزائه فى أفعالها الصّادرة عنها من الحركات إلى الجهات.

والنفس العاقلة إنّما تقوى على أفعالها بمغالبة ما يمانعها من القوى : كالغضب والشّهوة ، ونحو ذلك ؛ فالنّفس ليست جسما.

الرابعة عشرة : أنّ كل واحد يعلم من نفسه علما ضروريّا أنّه الّذي كان / / من حين ولادته ، ويعلم أنّ ما كان من أجزائه الجسمانية قد تبدلت ، وتغيرت بالتحليل ، والتبدّل بالحرارة الغريزية المحللة ، والقوة الغاذية الموردة بدل ما يتحلل ، وذلك الباقى المستمر وهو الّذي لا يتغير ، ولا يتبدل هو النفس ؛ فلا يكون هو الجسم ، ولا ما هو حال فيه.

الخامسة عشرة : أن القوى التى هى مصدر الأفعال المختلفة : كالغضب والشهوة وغيرهما لا ينفصل بعضها عن بعض ، ولا يشغل بعضها بعضا ؛ لعدم الاشتراك بينها فى الآلة ، وهى غير متحركة ، بذاتها ، ولا معطلة بذواتها ، وقد يشاهد مع ذلك البعض معطلا ، والبعض غير معطل.

__________________

/ / أول ل ١١٤ / أمن النسخة ب.

٢٨٠