أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0327-1
الصفحات: ٣٩٨

/ الثانى : قوله ـ تعالى ـ فى صفتهم (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١). وقوله ـ تعالى ـ : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٢). وذلك يدل على عدم المعصية فى حقهم ؛ لأن المعصية : إما بمخالفة الأمر ، أو النهى.

لا جائز أن يقال إنها فى حقهم بمخالفة الأمر ؛ إذ هو خلاف النص.

ولا جائز أن يقال إنها بمخالفة النهى ؛ لأن النهى عن الشيء أمر بأحد أضداده ، ومخالفة النهى : إنما تكون بارتكاب المنهى عنه ، وارتكاب المنهى عنه يلزم منه أن لا يكون قد تلبس بضد من أضداد المنهى ؛ وفيه مخالفة الأمر ؛ وهو خلاف مدلول الآية.

والجواب :

قولهم : لا نسلم أن إبليس كان من الملائكة.

قلنا : / / دليله ما ذكرناه.

قولهم : إنه كان من الجن.

قلنا : ولا منافاة بين الأمرين. فإنه قد قال ابن عباس ، وهو ترجمان القرآن ، وغيره من المفسرين : أن إبليس كان من الملائكة من قبيل يقال لهم الجنة ؛ لأنهم كانوا خزان الجنان. ولا يخفى أن التوفيق بين النقلين ، وموافقة ما ذكرناه من الدلالة السمعية ؛ أولى مما ذكروه. وقوله ـ تعالى ـ : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٣). الآية عنه جوابان : ـ

الأول : لا نسلم صيغة العموم فى الملائكة.

والثانى : سلمنا العموم ، غير أنه قد ذكر أهل التفسير أن الجن ولد الجان ، وكان ساكنا فى الأرض قبل خلق الله ـ تعالى ـ لآدم ، وهم طائفة من سكان الأرض يعبر عنهم بالجن ، لاستتارهم ، وليس من قبيل الملائكة الذين هم خزان الجنان. وعلى هذا : فيجب حمل الآية على الجن الذين ليسوا من جنس الملائكة جمعا بين الأدلة.

__________________

(١) سورة النحل ١٦ / ٥٠.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ / ٢٧.

/ / أول ل ١٠٤ / ب.

(٣) سورة الأنعام ٦ / ٢٢.

٢٢١

قولهم : إن إبليس له ذرية.

قلنا : ليس فى ذلك ما ينافى كونه من الملائكة.

قولهم : إن الذرية لا تكون إلا من ذكر ، وأنثى ؛ مسلم.

قولهم : الملائكة لا إناث فيهم.

قلنا : إنما يلزم أن يكون فى الملائكة إناثا ، أن لو امتنع حصول الذرية من جنسين ، وما المانع أن تكون ذرية إبليس منه ، مع كونه من جنس الملائكة ، ومن غير جنسه.

قولهم : إن إبليس مخلوق من النار. والملائكة من النور.

قلنا : فلا منافاة أيضا بين كون إبليس من جنس الملائكة وإن كان أصل خلقه ، خلاف أصل خلق باقى الملائكة.

قولهم : إنه يجوز الاستثناء من غير الجنس كما ذكروه.

قلنا : مسلم ، غير أن الأصل : إنما هو الاستثناء من الجنس ، ولذلك كان هو الغالب ، والمتبادر إلى الفهم من الاستثناء.

قولهم : إن إبليس لم يكن داخلا فى عموم أمر الملائكة ؛ بل كان مأمورا على انفراده.

قلنا : لا نسلم ذلك ، فإنه لم يرد غير قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) (١). وقوله ـ تعالى ـ : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (٢). ليس فيه ما يدل على تخصيصه بالأمر. فإن ذلك يصح وإن كان داخلا فى عموم أمر الملائكة.

قولهم : فى الآية الأخرى.

لا نسلم دلالتها على عصيان الملائكة.

قلنا : دليله ما سبق.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٣٤.

(٢) سورة الأعراف ٧ / ١٢.

٢٢٢

قولهم : إنهم إنما سألوا ليعلموا / لا أنهم ذكروا ذلك على طريق الاعتراض.

فهو ممتنع لوجهين :

الأول : أنه أجابهم بقوله ـ تعالى ـ : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (١) ، ولو كان ذلك منهم على طريق الاستعلام ؛ لما حسن الجواب بمثل هذا الجواب ؛ بل كان الواجب أن يجاب بنعم ، أو لا.

الثانى : قال مقاتل (٢) : المراد من قوله ـ تعالى ـ : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣) : أى فى قولكم : إنى جاعل فى الأرض من يفسد فيها ؛ فدل ذلك على أن قولهم : إنما كان ذلك بطريق الإخبار ، لا أنه كان بطريق الاستعلام.

وبهذين الوجهين يبطل أيضا ما ذكروه من الوجه الثانى : أنهم ذكروا ذلك على طريق الإثبات تصديقا لله ـ تعالى ـ فيما أخبرهم به ، ويزيد وجه آخر وهو أنه لم ينقل من قوله ـ تعالى ـ غير قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (٤). الآية فتقدير كلام آخر غير منقول ، ولا دليل يدل عليه ؛ ممتنع.

وبما ذكرناه من الوجهين الأولين يندفع قولهم : إنما ذكروا ذلك على طريق التعجب عند أنفسهم.

قولهم : إنما قالوا : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (٥). على سبيل التذلل ، والخضوع.

قلنا : العادة جارية بأن من قال فلان فاسق ، ومرتكب الذنوب وأنا أعبد الله ولا أعصيه ، أنه إنما يذكر ذلك على طريق التعظيم والترفع ، ولذلك نستقبح منه ذلك فى العرف والعادة ، ولو كان كما ذكروه ؛ لما كان ذكره مستقبحا ، وإذا كان ذلك هو الظاهر من كلامهم ؛ فالعدول عن الظاهر إلى غيره من غير دليل ممتنع كما ذكروه من المعارضة فى الوجه الأول.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٣٠.

(٢) مقاتل بن سليمان : هو ابن بشير الأزدى الخراسانى ، أبو الحسن البلخى صاحب التفسير. ولد مقاتل ببلخ ومات فى خراسان سنة ١٥٠ ه‍ من أعلام المفسرين (وفيات الأعيان ٢ / ١١٢ وتاريخ بغداد ١٣ / ١٦٠).

(٣) سورة البقرة ٢ / ٣١.

(٤) سورة البقرة ٢ / ٣٠.

(٥) سورة البقرة ٢ / ٣٠.

٢٢٣

فلا نسلم صيغة العموم فى أشخاص الملائكة ، وإن سلمنا ولكن لا نسلم العموم بالنسبة إلى كان زمان.

وإن سلمنا صيغة العموم بالنسبة إلى زمان ، غير أنه مخصوص بقوله ـ تعالى ـ : حكاية عنهم (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) (١). فإن ما مثل هذا القول ، ليس تسبيحا ، وفى حالة ذكره لا يكونون مسبحين ، والتخصيص من أسباب الضعف ، والهواء. وما ذكرناه من الدلائل غير مخصصة ؛ فكانت أولى.

وإن سلمنا امتناع خلوهم من التسبيح ، ولكن ليس فى ذلك ما يدل على امتناع صدور كل معصية منهم ؛ بل إنما يدل على امتناع صدور كل معصية تكون مضادة للتسبيح ، ولا يلزم من امتناع بعض المعاصى ؛ امتناع / / كل معصية.

وما ذكروه فى الوجه الثانى من المعارضة.

لا نسلم أيضا العموم فى أشخاصهم ، ولا فى حالتهم.

وإن سلمنا ذلك ، ولكن لا نسلم أنه يلزم من امتناع المعصية بجهة مخالفة الأمر ، امتناع المعصية بجهة مخالفة النهى.

قولهم : إن النهى عن الشيء أمر بأحد أضداده.

ممنوع ، ولا مانع عندنا من النهى عن الشيء مع عدم الأمر بجميع الأضداد ؛ بل ولا مانع أن يكون الأمر بالشيء / وضده على ما حققناه فى مسألة تكليف ما لا يطاق (٢).

وبالجملة : فهذه المسألة ظنية ، سمعية ، والترجيح فيها لكل أحد على حسب ما يتفضل الله ـ تعالى ـ عليه من المنة ، وجودة القريحة كما فى غيرها من المسائل الاجتهادية.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٣٠.

/ / أول ل ١٠٥ / أ.

(٢) انظر ما مر فى الجزء الأول ل ١٩٤ / ب. وما بعدها ص ١٧٥ وما بعدها من الجزء الثانى.

٢٢٤

الفصل الثانى

فيما قيل فى التفضيل بين الملائكة والأنبياء

عليهم‌السلام (١)

مذهب أكثر أئمتنا ، والشيعة ، وأكثر الناس أن الأنبياء عليهم‌السلام أفضل من الملائكة.

وذهبت الفلاسفة ، والمعتزلة ، والقاضى أبو بكر من أصحابنا : إلى أن الملائكة أفضل من الأنبياء.

احتج أصحابنا بأن آدم أفضل من الملائكة ، وبيان كونه أفضل من الملائكة أن الملائكة أمروا بالسجود لآدم لقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ للملائكة : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٣) ، وأمرهم بالسجود له مع أن السجود من أعظم أنواع الخدمة ، والتذلل بين يدى المسجود له ؛ فدل على أن آدم ـ عليه‌السلام ـ أفضل عند الله ـ تعالى ـ من الملائكة ، على ما هو المعتاد المتعارف.

وذلك لا يخلو : إما أن يكون فى حالة كونه نبيا ، أو قبل النبوة. فإن كان الأول : فهو المطلوب.

وإن كان الثانى : فلا يخفى أنه إذا كان قبل نبوته أفضل من الملائكة ؛ فبعد نبوته ؛ أولى أن يكون أفضل.

فإن قيل : ما ذكرتموه : إنما يصح أن لو تصور السجود الحقيقى وهو وضع الجبهة على محل السجود فى حق الملائكة.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما ورد هاهنا :

انظر أصول الدين للبغدادى ص ٢٩٥ وما بعدها ، وشرح المواقف المقصد الثامن فى تفضيل الأنبياء على الملائكة ص ١٦٦ وما بعدها.

وشرح المقاصد ٢ / ١٤٧ وما بعدها ، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبى العز الحنفى ص ٣١٨ وما بعدها.

(٢) سورة البقرة ٢ / ٣٤.

(٣) سورة ص ٣٨ / ٧١ ، ٧٢.

٢٢٥

وهو غير مسلم ؛ فإن ذلك : إنما يتصور بالنسبة إلى الأجسام المتحيزة المتنقلة ، والملائكة ؛ فلا نسلم أنها أجسام ، ولا جواهر متحيزة حتى نتصور عليها الحركة ، والانتقال ؛ بل هى جواهر بسيطة معقولة مبرأة عن الحلول فى المواد ، وهى مع ذلك : إما غير متعلقة بعلائق المادة : كالعقول. وإما متعلقة بعلائق المادة : كالنفوس الفلكية.

سلمنا تصور السجود الحقيقى فى حقها ؛ ولكن ما المانع أن يكون المراد بأمرها بالسجود ، التواضع الملازم للسجود تعبرة باسم الشيء عما يلازمه ، ومن تواضع لغيره ، لا يدل ذلك على أنه أنقص مرتبة من ذلك الغير ، ودليل هذا التأويل ما سيأتى.

سلمنا أن المراد به حقيقة السجود ، ولكن لا نسلم أن السجود كان لآدم ؛ بل كان لله ـ تعالى ـ وآدم قبلة له ، وقبلة السجود لا تكون أفضل من الساجد إليها.

سلمنا أن السجود كان لآدم ، ولكن لا نسلم دلالة ذلك على كون آدم أفضل من الملائكة ، إلا أن يكون عرف الملائكة فى السجود للغير كعرفنا ؛ وهو غير مسلم.

وما المانع أن يكون عرفهم فى السجود كونه قائما مقام السلام فى عرفنا ، ورتبة المسلم ، لا يلزم أن تكون أنقص من رتبة / المسلم عليه.

سلمنا أن عرفهم فى السجود للغير كعرفنا ؛ لكن ما المانع أن يكون أمرهم بالسجود له ، لا لفضله بالنسبة إليهم ، بل بطريق الابتلاء والامتحان ؛ ليتبين المطيع من المعاصى منهم.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن آدم أفضل من الملائكة ، لكن ليس فيه ما يدل على تفضيل جملة الأنبياء على الملائكة.

سلمنا دلالته على تفضيل جملة الأنبياء على الملائكة ، غير أنه معارض بما يدل على تفضيل الملائكة على الأنبياء ، وبيانه من جهة المعقول ، والمنقول : ـ

أما من جهة المعقول :

فهو أن أشخاص الملائكة جواهر روحانية ، نورانية ، علوية فى جوار رب العالمين دائمة غير كائنة ، ولا فاسدة ، وهى مبادئ جميع الموجودات الكائنة الفاسدة ، مختصة بالهياكل العلوية الشريفة ، والكواكب السيارة المدبرة لها فى عالم الكون والفساد ، غير

٢٢٦

محجوبة عن تجلى الأنوار. القدسية لها ، ولا ممنوعة من الالتذاذ بها فى وقت من الأوقات ، ولا فى حالة من الحالات ، لنوم ولا غفلة ، ولا شهوة ، ولا غضب ، ولا غيره ؛ بل هى / / فى الالتذاذ ، والنعيم بما تشاهده ، وتطالعه من العالم القدسى ، والنور الربانى دائما أبدا سرمدا ، بخلاف أشخاص الأنبياء عليهم‌السلام ؛ فإنها أجسام كثيفة ، مظلمة كائنة فانية فاسدة ، معلولة للملائكة ، محبوبة فى أكثر الأوقات بما يستولى عليها من الغفلة ، والذهول ، والغضب ، والمرض ، والهم ، والشهوة ، والنوم ، وغير ذلك من الأسباب المانعة من هذه الكمالات ، وحصول هذه الالتذاذات ؛ فكانت أنقص رتبة من الملائكة.

وأما من جهة المنقول :

فمن خمسة عشر وجها : ـ

الأول : قوله ـ تعالى ـ فى وصف الملائكة : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) (١) ، وصفهم بأنهم «عنده» وليس المراد به الجهة ، إذ لا جهة له ؛ فيتعين أن تكون العندية بمعنى الفضيلة ، والمزية فى الرتبة ، واستدل بعدم استكبارهم عن عبادته ، على امتناع استكبار البشر عن عبادته بطريق الأولى ، وذلك دليل مزيتهم ، وعلو مرتبتهم بالنسبة إلى البشر ؛ فإنهم لو كانوا مساوين لهم ، أو أنقص منهم ؛ لما حسن هذا الاستدلال.

الثانى : أن عبادات الملائكة أشق من عبادات البشر ؛ فكان ثوابها أكثر ، ولا معنى لكونهم أفضل ، غير أن ثوابهم أكثر. وبيان أن عباداتهم أشق ؛ لأنها مستمرة ، منفصلة ، لا يلحقها انقطاع ولا فتور بغفلة ، ونوم ، وغيره لقوله ـ تعالى ـ : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٢) ، وأنها / أكثر ؛ لطول أعمار الملائكة بالنسبة إلى أعمار البشر ، وما كان كذلك ؛ فهو لا محالة أشق.

وأما أن ثوابهم أكثر : فدليله النص ، والمعنى :

__________________

/ / أول ل ١٠٥ / ب.

(١) سورة الأنبياء ٢١ / ١٩.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ / ٢٠.

٢٢٧

أما النص : فقوله عليه ـ الصلاة والسلام ـ لعائشة ـ رضى الله عنها ـ : «ثوابك على قدر نصبك» (١).

وأما المعنى : فهو أن زيادة المشقة ، لو لم تقتض زيادة الثواب ؛ لكان التكليف بها ، وتحملها خليا عن المقصود ، متجردا عن الحكمة ؛ وهو ممتنع.

الثالث : أن عبادات الملائكة أسبق لا محالة من عبادات البشر ، والسابق إلى العبادة أفضل من المسبوق لقوله ـ تعالى ـ : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (٢).

الرابع : أن اشتغال الملائكة بالعبادة دائم ، غير منقطع على ما سبق ، وذلك لا يقع معه الإقدام على المعصية ، والأنبياء وإن كانوا معصومين من الكبائر ؛ فغير معصومين من الصغائر ، كما سبق ، وقوله عليه ـ الصلاة والسلام ـ «ما منا إلا من عصى ، أو هم بالمعصية إلا يحيى بن زكريا» (٣). فكانت الملائكة لذلك أتقى والأتقى أفضل ؛ لقوله

__________________

(١) أخرجه الإمام البخارى فى صحيحه ـ كتاب العمرة ـ باب أجر العمرة على قدر النصب. فتح البارى ٣ / ٧٧٩ عن عائشة وضى الله عنها.

كما أخرجه مسلم ـ كتاب الحج ـ باب بيان وجوه الإحرام ، وأنه يجوز أفراد الحج ... الخ. ٢ / ٨٧٧ ط عيسى الحلبى ـ ت محمد فؤاد عبد الباقى.

(٢) سورة الواقعة ٥٦ / ١٠ ، ١١.

(٣) يحيى بن زكريا عليه‌السلام : هو يحيى بن زكريا بن مسلم بن صدوق ... ويصل نسبه إلى نبى الله سليمان بن داود عليهم‌السلام. وهم من سبط يهوذ بن يعقوب عليه‌السلام.

وقد ذكر اسم يحيى فى القرآن الكريم فى السور التالية (آل عمران والأنعام ومريم والأنبياء).

وقد ورد الثناء عليه فى قوله ـ تعالى ـ : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا* وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا* وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) سورة مريم ١٩ / ١٢ ـ ١٤.

وأعطى النبوة وهو ابن ثلاثين سنة (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) سورة مريم ١٩ / ١٢.

كما وصفه الله بأعظم الصفات (وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) سورة آل عمران ٣ / ٣٩.

وكان عليه‌السلام ابن خالة عيسى بن مريم عليهما‌السلام. ويسميه النصارى (يوحنا) ويلقبونه (المعمدان) وقد عمد يحيى المسيح فى نهر الأردن وقد قتله حاكم فلسطين (هيرودس) لما عارضه فى الزواج من ابنة أخيه وهو زواج محرم عندهم. كما قتل معه عددا كبيرا من العلماء الذين أنكروا قتل يحيى ، ومنهم (زكريا) عليه‌السلام والده.

وهذا الحديث الّذي ذكره المصنف أورده الإمام أحمد عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : (ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئته ليس يحيى بن زكريا ، وما ينبغى لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى). كما ورد فى فضله. قال ابن وهب : حدثنى ابن لهيعة .... عن ابن شهاب ، قال : خرج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على أصحابه يوما وهم يتذاكرون فضل الأنبياء فقال قائل : موسى كليم الله. وقال قائل : عيسى روح الله وكلمته. وقال قائل : إبراهيم خليل الله. وهم يذكرون ذلك فقال : «ابن الشهيد ابن الشهيد يلبس الوبر ويأكل الشجر مخالفة الذنب» قال ابن وهب : يريد يحيى بن زكريا عليه‌السلام ـ [قصص الأنبياء ص ٥٣٧ ـ ٥٥١ والنبوة والأنبياء ص ٣١١ ـ ٣١٦].

٢٢٨

تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (١).

الخامس : قوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ) (٢). وقوله ـ تعالى ـ : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) (٣).

ووجه الاحتجاج به : أنه إنما ذكر للتنبيه على عظمة الله تعالى ـ وجلاله ، وعلو شأنه ، ولو كان ثم من هو أفضل ؛ لكان ذكره من هذا المقام أولى.

السادس : قوله ـ تعالى ـ خطابا لجملة البشر : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ) (٤).

ووجه الاحتجاج به : أنه جعل الملائكة حفظة للبشر عن المعاصى ، والحافظ عن المعصية ، لا بد وأن يكون أبعد عنها من المحفوظ ؛ فيكون أفضل من المحفوظ. وأنه جعل كتابتهم حجة للبشر ، وعليهم. ولو كان البشر أفضل منهم ؛ لكان الأمر بالعكس.

السابع : قوله ـ تعالى ـ : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) (٥).

ووجه الاحتجاج به : أنه ابتدأ بنفسه عزوجل ، ثم بملائكته ، ثم بكتبه ، ثم برسله ، والتقديم فى الذكر دليل التقدم بالشرف ، والفضيلة عرفا ، وعادة. ولهذا وقع التنازع على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما كتب كتاب الصلح بينه وبين المشركين فى تقديم اسمه (٦) ، وقال عمر للشاعر القائل : كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا (٧).

__________________

(١) سورة الحجرات ٤٩ / ١٣.

(٢) سورة النبأ ٧٨ / ٣٨.

(٣) سورة الزمر ٣٩ / ٧٥.

(٤) سورة الانفطار ٨٢ / ١٠ ، ١١.

(٥) سورة البقرة ٢ / ٢٨٥.

(٦) وذلك فى صلح الحديبية.

/ / أول ل ١٠٦ / أ.

(٧) قائله سحيم وهو فى ديوانه ص ١٦ ، وصدر البيت

عميرة ودّع إن تجهزت غاديا

كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا

وسحيم الشاعر ، كان عبدا نوبيا ، اشتراه بنو الحسحاس (وهم بطن من بنى أسد) فنشأ فيهم ، وكان رقيق الشعر ، رآه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان يعجبه شعره ، وعاش إلى أواخر عهد عثمان وقتله بنو الحسحاس لتشبيبه بنسائهم. له (ديوان شعر ط) صغير. [الإصابة فى تمييز الصحابة الترجمة رقم ٣٦٥٩ والأعلام للزركلى ٣ / ٧٩].

٢٢٩

لو قدمت الإسلام لأعطيتك. وذلك يدل على أفضلية المتقدم ، والأصل فى العرف الشرعى / / أن يكون على وفق العرف العادى ، ولقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ «ما رآه المسلمون حسنا ؛ فهو عند الله حسن» وفى معنى هذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (١).

الثامن : أن الملائكة أعلم من الأنبياء ؛ فكانوا / أفضل منهم لقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٢) ، وبيان أن الملائكة أعلم : أما بالنسبة إلى ذات الله ـ تعالى ـ وصفاته ، ومخلوقاته العلوية ، والسفلية ؛ فلأنهم أطول أعمارا وأكثر مشاهدة لها من الأنبياء.

وأما بالنسبة إلى الأمور النقلية ، والقضايا الشرعية : فلأنهم عالمون بجملتها ، وأن ما يحصل للأنبياء من العلم بها إنما هو بواسطة الوحى ، وتبليغ الملائكة لهم ذلك.

ولهذا قال الله ـ تعالى ـ فى حق محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٣) : أى جبريل ، والمعلم لا بد وأن يكون أعلم من المتعلم.

التاسع : قوله ـ تعالى ـ فى حق جنس الإنس : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (٤). وذلك يدل بمفهومه على أنهم ليسوا أفضل من جميع المخلوقات. ومن المعلوم أنهم أفضل من جميع الجمادات ، والحيوانات العجماوات ، والجن ، والشياطين فلو كانوا أفضل من الملائكة ؛ لكانوا أفضل من جميع المخلوقات ؛ وهو خلاف مفهوم الآية.

العاشر : قوله ـ تعالى ـ : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (٥). وقوله ـ تعالى ـ : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) (٦). ووجه الاحتجاج به : أنه قضى بكون الملائكة رسلا ، وإنما يكونون رسلا إلى الأنبياء ، والنبي إنما يكون رسولا

__________________

/ / أول ل ١٠٦ / أ.

(١) سورة الحج ٢٢ / ٧٥.

(٢) سورة الزمر ٣٩ / ٩.

(٣) سورة النجم ٥٣ / ٥.

(٤) سورة الإسراء ١٧ / ٧٠.

(٥) سورة النحل ١٦ / ٢.

(٦) سورة فاطر ٣٥ / ١.

٢٣٠

إلى من ليس بنبي. ولا يخفى أن الرسول إلى أمة من الرسل ، يكون أفضل من الرسول إلى أمة ليسوا برسل ، ولا فيهم رسول.

الحادى عشر : قوله ـ تعالى ـ فى حق يوسف عليه‌السلام : (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (١). والمشبه بالشيء ، يكون دون ذلك الشيء.

الثانى عشر : قوله ـ تعالى ـ لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) (٢). ذكر ذلك فى معرض سلب التعظيم ، ونفى الترفع والنزول عن هذه الدرجات ؛ وذلك يدل على أن حال الملك أفضل وأشرف من حال النبي.

الثالث عشر : قوله ـ تعالى ـ : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) (٣). وذلك يدل على أن حال الملك أفضل من جنس البشر.

الرابع عشر : قوله ـ تعالى ـ : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (٤). ووجه الاحتجاج به ، أنه ابتدأ بالمسيح ، وثنى بالملائكة المقربين ؛ وذلك يدل على أن الملائكة أفضل من المسيح ، كما يقال إن فلانا لا يستنكف الوزير عن خدمته له ولا السلطان. ولا يقال ذلك بالعكس ؛ إذ هو مستقبح عرفا وعادة.

الخامس عشر : قوله ـ تعالى ـ فى وصف / جبريل باتفاق المفسرين : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (٥). ثم قال ـ تعالى ـ فى وصف محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعد ذلك (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) (٦) ، ولو كان محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ مساويا لجبريل فى صفات الكمال ، أو أفضل منه ؛ لكان الاقتصار فى وصفه على ذلك بعد وصف جبريل بما وصف به ؛ غضا من منصبه ، وتنقيصا من أمره ، وتحقيرا لشأنه ؛ وهو ممتنع.

__________________

(١) سورة يوسف ١٢ / ٣١.

(٢) سورة الأنعام ٦ / ٥٠.

(٣) سورة الأعراف ٧ / ٢٠.

(٤) سورة النساء ٤ / ١٧٢.

(٥) سورة التكوير ٨١ / ١٩ ـ ٢١.

(٦) سورة التكوير ٨١ / ٢٢.

٢٣١

والجواب :

قولهم : لا نسلم تصور السجود الحقيقى فى حق الملائكة.

قلنا : دليل تصوره أنه لا يلزم المحال من فرض وجوده لذاته عقلا ، ولا معنى للممكن غير هذا.

قولهم : الملائكة ليست أجساما متحيزة ، ولا قابلة للانتقال والحركة.

قلنا : دليل كونها أجساما قابلة للحركة ، والانتقال ، قوله ـ تعالى ـ : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (١) ، وصفهم بالنزول ، والنزول حقيقة فى الحركة ، والانتقال ، والأصل فى الاطلاق الحقيقة.

قولهم : ما المانع أن يكون المراد بالسجود ما هو لازم له من التواضع.

قلنا : لأنه تجوز ، والأصل إطلاق اللفظ على حقيقته ، وما يذكرونه من دليل التجوز ؛ فسيأتى إبطاله.

قولهم : لا نسلم أن السجود كان لآدم.

عنه جوابان :

الأول : هو أن إضافة السجود لآدم فى قوله ـ تعالى ـ : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) (٢) كإضافته إلى الله ـ تعالى ـ فى قوله : (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ) / / الَّذِي خَلَقَهُنَ (٣) ، ويلزم من اتحاد اللفظ الدال على اتحاد المدلول المفهوم منه نفيا للاشتراك والتجوز عن اللفظ ؛ إذ هو خلاف الأصل ، وليس المراد منه فى حق الله ـ تعالى ـ أن يكون الله ـ تعالى ـ قبلة للسجود ؛ بل المراد منه المبالغة فى الخدمة ، والتذلل ؛ فكذلك فى حق آدم.

الثانى : هو أن قول إبليس (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) (٤). يدل على أن الأمر

__________________

(١) سورة النحل ١٦ / ٢.

(٢) جزء من آيات من السور الآتية : سورة البقرة ٢ / ٣٤ ، سورة الأعراف ٧ / ١١ ، سورة الإسراء ١٧ / ٦١ ، سورة الكهف ١٨ / ٥٠ ، سورة طه ٢٠ / ١١٦.

/ / أول ل ١٠٦ / ب.

(٣) سورة فصلت ٤١ / ٣٧.

(٤) سورة الإسراء ١٧ / ٦٢.

٢٣٢

بالسجود لآدم : إنما كان بطريق التفضيل له على الملائكة ، ولو كان قبلة للسجود كما ذكروه ؛ لما كان كذلك ، وبهذا يندفع ما ذكروه من السؤالين الآخرين بعده.

قولهم : ليس فى ذلك ما يدل على تفضيل جملة الأنبياء على الملائكة.

عنه جوابان :

الأول : أن القائل قائلان : قائل يقول بتفضيل جملة الأنبياء على جملة الملائكة. وقائل يقول بتفضيل جملة الملائكة على جملة الأنبياء. والإجماع من الفريقين منعقد على امتناع التفضيل ، فمهما سلم تفضيل بعض الأنبياء على الملائكة ؛ لزم تفضيل كل نبى عليهم عملا بموافقة الدليل فى البعض ، ولضرورة امتناع خرق الإجماع فى التفضيل.

الثانى : أنه إذا ثبت فضل آدم ـ عليه‌السلام ـ على الملائكة فمن كان مساويا له من الأنبياء فى الفضيلة ، أو كان أفضل منه ؛ لزم أن يكون أفضل من الملائكة ضرورة ، وذلك كاف فى إثبات فضيلة البعض ، وإبطال قول الخصم بتفضيل الملائكة على جملة الأنبياء.

قولهم : ما ذكرتموه معارض بما يدل على فضل الملائكة على الأنبياء.

قلنا : لا نسلم وجود المعارض.

قولهم : أشخاص الملائكة جواهر روحانية.

قلنا : فضيلة أشخاص الملائكة على أشخاص الأنبياء : إما من جهة كونها جواهر ، وإما من جهة اتصافها بما ذكروه من الصفات.

فإن كان الأول : فإنما يصح أن لو اختلفت أنواع الجواهر ؛ وهو غير مسلم على ما سبق من أصلنا.

وإن كان الثانى : فلا بد من النظر فى كل واحد مما ذكروه من الصفات.

أما قولهم : إنها روحانية : إن أرادوا به أنها أرواح لغيرها ؛ فغير مسلم ؛ بل هى أجسام ذوات أرواح حية ، عالمة ، قادرة ، مريدة كغيرها من الأحياء.

وإن أرادوا بذلك اتصافها بالروح ، والراحة ؛ فمسلم ؛ ولكن لا نسلم دلالة ذلك على فضيلتها بالنسبة إلى الأنبياء ، وإلا كان من اتصف بالروح ، والراحة أكمل ، وأفضل ممن

٢٣٣

يواظب على العبادات الشاقة ، ويلزم من ذلك أن يكون بعض أمة النبي بالنظر إلى هذا المعنى ، أفضل من النبي ؛ وهو ممتنع. وإن أرادوا غير ذلك ؛ فلا بد من تصوره ، والدلالة عليه.

وقولهم : إنها نورانية :

قلنا : إما أن يريدوا بها أنها نيرة ، وذات نور ، أو غير ذلك.

فإن كان الأول : فلا يدل على كونها أفضل من الأنبياء ، وإلا كانت النار أفضل منهم ؛ وهو محال. وإن كان الثانى : فهو غير معقول ، فلا بد من تصويره.

وقولهم : إنها علوية :

قلنا : والمفهوم من ذلك غير خارج عن كونها فى حيز الملأ الأعلى ، وذلك أيضا لا يوجب فضيلتها بالنسبة إلى الأنبياء ، وإلا كانت أجرام السماوات أفضل من الأنبياء ، وهو خلاف الإجماع من المسلمين.

وقولهم : إنها دائمة غير كائنة ، ولا فاسدة.

قلنا : فهو ممنوع على ما سلف بيانه فى حدوث كل موجود سوى الله ـ تعالى.

قولهم : إنها مبادئ سائر المخلوقات.

قلنا : ممنوع على ما تقدم من بيان أنه لا خالق ، ولا موجد إلا الله تعالى.

قولهم : إنها غير محجوبة عن تجلى الأنوار القدسية لها أبدا سرمدا من غير انقطاع.

قلنا : إنما يصح أن لو امتنع فى / حقهم المعاصى ؛ وهو غير مسلم على ما سبق.

قولهم : إنه ـ تعالى ـ وصف الملائكة بأنهم «عنده» (١).

قلنا : غايته الدلالة على الفضيلة ، وليس فيه ما يدل على الأفضلية ، ثم هو

__________________

(١) سورة القمر ٥٤ / ٥٥.

٢٣٤

معارض بقوله فى حق البشر (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (١). وقوله ـ عليه‌السلام ـ حكاية عن ربه ـ تعالى ـ «أنا عند المنكسرة قلوبهم» (٢) ؛ بل أولى «حيث أنه دل على أن الرب ـ تعالى ـ عند المنكسرة قلوبهم ، وما ذكروه دليل على أن الملائكة عند الله ، ولا يخفى أن من الرب ـ تعالى ـ عنده ، يكون أفضل من الكائن عند الرب.

وما ذكروه : من الاستدلال بعدم استكبار الملائكة عن عبادة الله ـ تعالى ـ على عدم استكبار البشر عن عبادته ، فليس فى ذلك ما يدل على أن الملائكة عند الله أفضل ؛ بل وأمكن أن يكون ذلك ، لأنهم أشد ، وأقدر ، وأقوى من البشر ، ويكون معناه أنه إذا لم يكن مستكبرا عن عبادة الله تعالى. الملائكة مع شدتهم ، وقوة ممانعتهم / / فالبشر مع عجزهم وضعفهم أولى. وزيادة القوة ، أو القدرة للملائكة لا توجب لهم الفضيلة على الأنبياء ، وإلا كان الأيد القوى من أمة النبي الضعيف المدنف أفضل من ذلك النبي ؛ وهو محال.

قولهم : إن عبادات الملائكة أشق من عبادات البشر.

قلنا : لا نسلم ذلك.

قولهم : إنها مستمرة لا يلحقها انقطاع ، ولا فتور.

فقد سبق جوابه فى الفصل الّذي قبله.

قولهم : إن عبادتهم أطول مدة.

قلنا : هذا إنما يلزم أن تكون مشقتها أزيد أن لو بينوا التساوى بين عبادة الأنبياء ، والملائكة فى كيفية المشقة مع زيادة كميتها ، وإلا فلا.

ثم بيان أن عبادة البشر أشق من عبادة الملائكة : أنهم مكلفون بالعبادات ، مع استيلاء الموانع عليهم ، وذلك : كالشهوة والغضب ، والحرص ، والهوى ، ووسوسة

__________________

(١) سورة القمر ٥٤ / ٥٥.

(٢) أخرجه أبو نعيم فى حلية الأولياء فى ترجمة عمران القصير ٦ / ١٧٧ ، عن عمران القصير قال : قال موسى عليه‌السلام يا رب أين أبغيك قال أبغنى عند المنكسرة قلوبهم فإنى أدنو منهم كل يوم باعا لو لا ذلك لانعدموا» ط.

دار الفكر. وعزاه الزبيدى فى أتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين ٦ / ٢٩٠ إلى أبى نعيم فى الحلية ـ وقال الزبيدى كأنه من الإسرائيليات.

/ / أول ل ١٠٧ / أ.

٢٣٥

الشيطان ، وكثرة اعتراض الشبه لهم مع أن أكثر عبادتهم مستنبطة لهم بالاجتهاد ، والنظر لبعدهم عن مشاهدة العالم العلوى ، ومطالعة ما فى اللوح المحفوظ إلى غير ذلك من الأمور. وذلك كله مما لا تحقق له فى حق الملائكة. ولا يخفى أن التكليف بالعبادات مع هذه الأمور أشق منها مع عدمها.

قولهم : عبادات الملائكة أسبق.

قلنا : ليس فى ذلك ما يدل على كونهم أفضل ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (١) ، قال بعض أهل التفسير المراد به السابقون فى الدنيا إلى الخيرات.

وقيل : المراد به أول الناس رواحا إلى المسجد ، وأولهم خروجا فى سبيل الله.

وقيل : المراد به السابقون إلى التصديق بالأنبياء من أممهم ، وعلى كل تقدير ؛ فلا مدخل للملائكة فيه.

قولهم : إن الملائكة أتقى على ما قرروه.

فقد سبق جوابه فى الفصل / الّذي قبله. وقوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) (٣).

غايته الدلالة على عظمة الله ـ تعالى ـ بخدمة العظماء الجبابرة الشداد له ، وذلك يدل على أن الملائكة أقدر ، وأقوى ، وأجبر من البشر ، وليس فى ذلك ما يدل على كثرة ثوابهم بالنسبة للبشر ولأنهم أفضل منهم عند الله ـ تعالى ـ وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ) (٤) غايته الدلالة على أن الملائكة حفظة لأفعال العباد خيرها ، وشرها ، وأنهم كاتبون لها ، وشاهدون بها ، وليس فى ذلك ما يدل على أن حال الشاهد ، أفضل من حال المشهود عليه.

وقولهم : إنهم حافظون للبشر عن المعاصى.

__________________

(١) سورة الواقعة ٥٦ / ١٠.

(٢) سورة النبأ ٧٨ / ٣٨.

(٣) سورة الزمر ٣٩ / ٧٥.

(٤) سورة الانفطار ٨٢ / ١٠ ، ١١.

٢٣٦

ليس كذلك : بل الحافظ لهم عنها ، والمقدر لهم عليها : إنما هو الله ـ تعالى ـ وليس لأحد من المخلوقين تأثير فى إيجاد فعل ، أو عدمه كما سبق.

كيف وأن ما ذكروه مما لم يذهب إليه أحد من أهل التفسير.

وقوله ـ تعالى ـ : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) (١).

فليس فيه ما يدل على تفضيل الملائكة على الأنبياء ، والتقديم فى الذكر ؛ لم يقصد به بيان فضيلة المتقدم فى الآية على المتأخر فيها بدليل أنه ـ تعالى ـ ذكر الكتب بعد الملائكة ، وقبل الرسل ولا يخلوا : إما أن يكون المراد بالكتب : الكلام النفسانى القديم ، أو العبارات الحادثة الدالة عليه.

فإن كان الأول : فلا يخفى أن الكتب تكون أفضل من الملائكة ، وقد أخرها فى الذكر عن الملائكة.

وإن كان الثانى : فلا يخفى أن الأنبياء أفضل من العبارات الدالة على الكلام القديم ، وقد قدمها على الأنبياء فى الذكر ؛ بل أمكن أن يقال إن الآية إنما وردت فى معرض الثناء على المؤمنين بالإيمان ، ولا يخفى أن الإيمان بما هو أخفى يكون أفضل. ووجود الملائكة أخفى من وجود الرسل ؛ فكان الإيمان بهم أدل على طواعية المؤمن ، وانقياده ؛ فكان تقديم الملائكة لفضيلة الإيمان بهم ، لا لفضيلتهم. والله ـ تعالى ـ أعلم.

وقوله ـ تعالى ـ : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (٢) ، فليس فيه ما يدل على أن الملائكة أفضل ؛ بل إنما وقع الترتيب فى الذكر على وفق الترتيب فى الوقوع ، ولا يخفى أن اتخاذ الملائكة رسلا مقدم على اتخاذ البشر رسلا ؛ فكان تقديمهم فى الذكر لذلك.

وقولهم : إن الملائكة أعلم من الأنبياء.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٢٨٥.

(٢) سورة الحج ٢٢ / ٧٥.

٢٣٧

لا نسلم ذلك ، فإن آدم ـ عليه‌السلام ـ كان أعلم من الملائكة بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) والملائكة لم يكونوا عالمين بها بدليل قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (١) //.

فإن قيل : وإن كان آدم / أعلم بالأسماء. فالملائكة أعلم بالمسميات ، ولا يخفى أن العلم بالحقائق ؛ أفضل من العلم بأسمائها.

قلنا : لا نسلم أن الملائكة أعلم من آدم بالمسميات ؛ فإنه قد قال أهل التفسير إن الله ـ تعالى ـ (عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) والمسميات التى يضع الأسماء عليها ؛ لأنه لا فائدة فى الأسماء دون المسميات ، ويدل على ذلك قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ). والمراد به أصحاب الأسماء ، ولذلك قال ـ تعالى ـ : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) بالميم. ولو أراد به الأسماء لقال ـ تعالى ـ : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) بالنون ، أو ثم عرضها ، وهكذا قال ثعلب (٢) ، وهو من أكبر أئمة اللغة.

ثم وإن سلمنا أن الملائكة أعلم ، فغايته أن لهم فضيلة ، ولا يدل ذلك على أنهم أفضل.

وعلى هذا خرج الجواب عن قوله ـ تعالى ـ : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٣). وقوله ـ تعالى ـ : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (٤) غايته الدلالة بمفهومه على أن البشر ليسوا أفضل من جميع المخلوقات ، ولا نسلم كون المفهوم حجة.

وإن سلمنا كونه حجة ؛ فلا نسلم أنه لم يعمل به فى مفهومه ، بتقدير تفضيل البشر على من عداهم من المخلوقات ، فإنهم من جملة المخلوقات وليسوا أفضل من أنفسهم ؛ فليس هم أفضل من جميع المخلوقات.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٣١ ، ٣٢.

/ / أول ل ١٠٧ / ب.

(٢) ثعلب : راجع ما سبق فى ترجمته فى هامش ل ١٨٧ / ب.

(٣) سورة النجم ٥٣ / ٥.

(٤) سورة الإسراء ١٧ / ٧٠.

٢٣٨

وإن سلمنا أن العمل بمفهوم الآية يتوقف على عدم تفضيل جنس البشر على جملة المخلوقات فمن عداهم.

فلا نسلم أن ذلك يتوقف على عدم تفضيلهم على الملائكة. إذ المراد بالتفضيل فى الدار الآخرة ولا فى كثرة الثواب ؛ إذ هو المتنازع فيه ؛ بل المراد به : إنما هو التفضيل بإكرامهم فى الدنيا بأكلهم بأيديهم ، وباقى الحيوانات بأفواههم ، وحملهم فى البر على أظهر الحيوانات ، وفى البحر على السفن. ورزقهم من الطيبات : أى الحلال على ما قال ـ تعالى ـ فى أول الآية : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) : أى وفضلناهم بهذه الأمور على كثير ممن خلقنا من الحيوانات تفضيلا.

وإن سلمنا أن المراد به الفضيلة فى الأخرى ، ولكن لا يلزم من كون جملة البشر ليسوا أفضل من الملائكة ، أن لا يكون الأنبياء ، أفضل من الملائكة ؛ فإنه لا يلزم من انتفاء حكم عن الجملة انتفاؤه عن بعض آحاد الجملة.

قولهم : إن الملائكة رسل إلى الأنبياء. والأنبياء رسل إلى من ليس بنبي ؛ فتكون الملائكة أفضل.

قلنا : لا نسلم أن الأنبياء لم يكونوا رسلا إلى الأنبياء فإن إبراهيم عليه‌السلام ، كان رسولا إلى لوط (١) ، وكان نبيا ، وموسى عليه‌السلام كان رسولا إلى أنبياء بنى إسرائيل.

وإن سلمنا ما ذكروه ، ولكن إنما يلزم ما ذكروه ، أن لو كانت فضيلة الرسول مستفادة من شرف المرسل إليهم ؛ وهو غير مسلم. بل فضيلة الرسول لذاته ، ولكونه / رسول الله ـ تعالى ـ أو نقول فضيلة الرسول من لوازم كونه رسولا حاكما على المرسل إليهم ، متصرفا فى أحوالهم ، على حسب ما يشاء ، ويختار ؛ وهذا غير متحقق فى حق الملائكة بالنسبة

__________________

(١) لوط عليه‌السلام : هو لوط بن هاران بن تارح (آزر) وقد بعثه الله زمن الخليل عليه‌السلام ، ولوط عليه‌السلام هو ابن هاران شقيق سيدنا إبراهيم ، وقد آمن لوط بعمه إبراهيم ، واهتدى بهداه كما قال ـ تعالى ـ : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) ثم هاجر معه من العراق. وقد ذكره الله فى كثير من سور القرآن الكريم فى سور (الأعراف ، وهود ، والحجر ، والشعراء ، والنمل) وغيرها وذكرت قصته مع قومه وأهله مفصلة فى بعض السور ، ومجملة فى البعض الآخر والقرآن الكريم صور الأنبياء بصورة كريمة بينما صورتهم كتب وأسفار بنى إسرائيل بطريقة غير لائقة ونسبوا إليهم من الأفعال ما لا يليق بالبشر العاديين. فقد تقولوا على لوط عليه‌السلام وابنتيه بما لا يليق وهو النبي الكريم والرسول الأمين. [قصص الأنبياء لابن كثير ص ١٩٢ ـ ٢٠٥ والنبوة والأنبياء ص ٢٣٥ ـ ٢٤٠].

٢٣٩

إلى الأنبياء ؛ إذ ليس لهم غير التبليغ والإعلام ، والعادة ، والعرف جاريان بأنه لا يولى على قوم ، ليحكم عليهم ، ويتصرف فى أحوالهم ، ويكون أولى بهم من أنفسهم على ما قال ـ تعالى ـ : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (١) إلا من هو أفضل ، وذلك بخلاف الرسول المبلغ لا غير ، فإن العادة لا توجب فضيلته على من أرسل إليه ، وإلا كان آحاد العبيد عند إرساله إلى ملك من بعض الملوك ؛ لإعلامه بأمر من الأمور ، أن يكون أفضل من الملك المرسل إليه ؛ وهو ممتنع.

وقوله ـ تعالى ـ فى حق يوسف ـ عليه‌السلام ـ (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (٢).

ليس فيه أيضا ما يدل على كون الملك أفضل ؛ لأن التشبيه بالملك إنما وقع من جهة حسنه ، وجماله ، لا من جهة فضيلته ، وذلك يدل على أن الملك أجمل ، وأحسن لا أنه أفضل.

فإن قيل : إنما وقع من جهة الفضيلة ، والسيرة الجميلة ، وغض الطرف ، وكف دواعى الشهوة ، وغير ذلك من الصفات الموجبة للتفضيل لا من جهة الحسن ، والجمال ، ولذلك قالوا : (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (٢) والكريم إنما يكون كريما بحسن السيرة ، لا بجمال الصورة.

قلنا : من لوازم الملك الكريم : حسن الصورة ، والسيرة والتشبيه بالملك الكريم فى كل واحد من الأمرين ممكن ، غير أن قضية التشبيه به فى حسن الصورة أظهر ، وبيانه / / من ثلاثة وجوه :

الأول : أن سبب قول النسوة لذلك خروج عليهن وتقطيعهن أيديهن بالسكاكين لدهشتهن بحسنه ، وجماله على ما قال ـ تعالى ـ : (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ).

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ / ٦.

(٢) سورة يوسف ١٢ / ٣١.

/ / أول ل ١٠٨ / أ.

٢٤٠