أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0327-1
الصفحات: ٣٩٨

قولهم : المراد من قوله «تلك الغرانيق العلى» الملائكة وإن كان ذلك قرآنا فنسخ ليس كذلك لوجوه ثلاثة : ـ

الأول : أن الرواية ما ذكرناه وهو قوله «فإنهن من الغرانيق العلى» والضمير عائد إلى اللات ، والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، إذ ليس / / ثم ما يمكن عود الضمير إليه غير ذلك ، وذلك لا يتصور أن يكون قرآنا لكذبه.

الثانى : أنه لو كان ذلك من القرآن ؛ لكان الظاهر اشتهاره وشيوعه كسائر الآيات المنسوخة ؛ وهو غير مشتهر.

الثالث : أن الله ـ تعالى ـ وصف ذلك بأنه من إلقاء الشيطان ؛ والقرآن لا يكون كذلك.

قولهم : إن ذلك كان منه لا قرآنا ؛ بل على سبيل الاحتجاج على المشركين ليس كذلك لوجهين :

الأول : أن الرواية كما ذكرناه ، وذلك لا يتصور فيه الاحتجاج.

الثانى : وصفه بأنه من إلقاء الشيطان ، وما يكون حجة على المشركين ؛ لا يكون من إلقاء الشيطان ، وأثر وسوسته. كيف وأن المنقول أن ذلك كان فى الصلاة ، وعند ذلك فلا يخلو : إما أن يقال كان الكلام فى الصلاة فى ذلك الوقت محرما ، أو لم يكن محرما.

فإن كان الأول : فقد صدر منه الذنب ، والمعصية : إما عامدا أو ساهيا ؛ وهو خلاف أصول الخصوم.

وإن كان الثانى : فقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «المصلى يناجى ربه» والظاهر من حاله أنه لا يشتغل حالة مناجاته للرب ـ تعالى [بغيرها ، ولا يخفى أن الاحتجاج على المشركين فى حالة الصلاة ، اشتغال بغير مناجاة الرب تعالى] (١) ؛ فكان بعيدا.

__________________

/ / أول ل ١٠١ / ب.

(١) ساقط من (أ).

٢٠١

الحجة التاسعة عشرة :

قوله ـ تعالى ـ مخاطبا لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (١) ، وهو صريح فى أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ له ذنوب.

فإن قيل : المراد من ذلك ما تقدم ، وتأخر من ذنوب أمتك فى الزمان. وإنما حسنت إضافة ذنوب أمته إليه ؛ لأنه كبير أمته ، وزعيمها ، ويصح أن يقال لمن رأس على قومه ، وكان مقدما عليهم إذا جنى بعض أتباعه : أنت فعلت ذلك الفعل ، وإن لم يكن هو الفاعل له حقيقة.

ويمكن أن يقال معناه : «ليغفر لأجلك ما تقدم ، وما تأخر من ذنوب أمتك إليك» فأضيفت ذنوبهم إليه ؛ لأن الذنب مصدر والمصدر يصح إضافته إلى الفاعل كما يقال «أعجبنى ضرب زيد عمرا» ، إذا أضافوه إلى الفاعل ، ويصح إضافته إلى المفعول : كما فى قولهم : أعجبنى ضرب زيد عمرو «بالرفع ، وبتقدير الأول» «أعجبنى أن ضرب زيد عمرا» وبتقدير الثانى «أعجبنى أن ضرب عمرو زيدا».

وإن سلمنا صدور تلك الذنوب عنه ؛ لكن بمعنى ترك الأولى لا بمعنى ارتكاب ما هو فى نفسه محظورا.

ولهذا كان من فوت على نفسه ما له فيه مصلحة وإن لم يكن تركه محرما. يصح أن يقال له إنك مسىء ، ومذنب بالنظر إلى حق نفسك ، وليس ذلك من القبائح التى يمتنع على الأنبياء فعلها.

والجواب :

قولهم : المراد به ما تقدم ، وتأخر من ذنوب أمتك.

__________________

(١) سورة الفتح ٤٨ / ١ ، ٢ لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما ذكره الآمدي هاهنا انظر :

تفسير الكشاف للزمخشرى ٣ / ٥٤٠ ، ٥٤١ وتفسير الرازى ٢٨ / ٧٧ ـ ٨٠.

وتفسير القرطبى ٩ / ٦٠٨٠ ـ ٦٠٨٣. ومختصر تفسير ابن كثير ٣ / ٣٣٩ ، ٣٤٠.

وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٥٨.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١٥.

٢٠٢

قلنا : المنقول عن أكثر المفسرين : كالنقاش (١) ، وغيره. أنهم قالوا : المراد منه ما تقدم من ذنبه عليه ـ الصلاة والسلام ـ فى الجاهلية وما تأخر : أى بعد النبوة.

وما ذكروه فغير مروى عن موثوق به ؛ كيف وأنه يمتنع الحمل على ما ذكروه.

أما الاحتمال الأول الّذي ذكروه : فلأنه إنما يحسن إضافة فعل الأتباع إلى مقدمهم ، إذا كان فعلهم مرتبطا به ، وهو منه بسبب ، وذلك بأن يكون سببا فى تمكنهم من الفعل ، وإقدامهم عليه ، وعدم خوفهم من المعترض عليهم ؛ لأجل رئيسهم ، وأما إذا لم يكن كذلك فلا. ولا يخفى أن ما نحن فيه ليس كذلك.

وما ذكروه من الاحتمال الثانى : وهو إضافة الذنب إليه ؛ لكونه مصدرا ؛ فإنما يصح فيما كان من المصادر متعديا : كالضرب ونحوه. وأما ما لا يكون متعديا : كالذنب فلا نسلم صحة إضافته إلى المفعول ، ولا أن ذلك واقع فى العربية.

ثم وإن سلمنا صحة هذه الإضافة ، غير أنها على خلاف الظاهر من إضافة الذنب إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولهذا كان حمله على صدور الذنب منه متبادرا إلى الفهم ، بخلاف ما ذكروه من الاحتمالات فإنها لا تفهم من اللفظ إلا بعد تكلف ، ومشقة فى النظر ، ولا يخفى أن ترك الظاهر من غير دليل ممتنع.

قولهم : ذلك محمول على ترك الأفضل ، والأولى.

ليس كذلك : فإنه لا مناسبة بين الغفران والذنب بهذا المعنى ، / / كيف وأنه على خلاف الظاهر من اللفظ ؛ فيمتنع المصير إليه إلا بدليل.

__________________

(١) النقاش : محمد بن الحسن بن محمد بن زياد ، أبو بكر النقاش. عالم بالقرآن وتفسيره أصله من الموصل ، ومنشأه ببغداد رحل رحلات طويلة وكان فى مبدأ أمره يتعاطى نقش السقوف والحيطان فعرف بالنقاش.

ولد سنة ٢٦٦ ه‍ وتوفى سنة ٣٥١ ه‍ قال الذهبى : «وقد اعتمد الدانى فى التيسير على رواياته للقرآن ، والله أعلم ، فإن قلبى لا يسكن إليه وهو عندى متهم عفا الله عنه» وقال عنه أبو القاسم اللالكائى : «تفسير النقاش شقاء للصدور وليس بشفاء الصدور».

[ميزان الاعتدال للذهبى ٣ / ٤٥ ووفيات الأعيان ١ / ٤٨٩].

/ / أول ل ١٠٢ / أ.

٢٠٣

الحجة العشرون :

قوله ـ تعالى ـ مخاطبا لنبيه عليه ـ الصلاة والسلام ـ :

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ* الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) (١).

ووجه الاحتجاج به : أنه ـ تعالى ـ صرح بوضع الوزر عنه ، فإن قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ / وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) ، وإن كان لفظه لفظ استفهام ، إلا أنه للوجوب ، ولفظ الوزر ظاهر فى الذنب ؛ إذ هو المتبادر من لفظ الوزر إلى الفهم ، وذلك يدل على سابقة الذنب. ولهذا قال المفسرون المراد منه ما كان قبل الرسالة من الذنوب.

فإن قيل : لا نسلم أن الوزر هو الذنب ؛ بل الوزر فى اللغة هو الثقل ، فكل شيء احتمله الرجل على ظهره ؛ فأثقله ؛ فهو وزر. ومنه سمى الوزير وزيرا ؛ لأنه يتحمل أثقال صاحبه. ومنه قوله تعالى : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) (٢) : أى أثقال أهلها. والذنب إنما سمى وزرا ؛ لأنه يثقل صاحبه ، وعلى هذا فكل شيء أثقل الإنسان ، وغمه جاز أن يسمى وزرا تشبها بالوزر الّذي هو الثقل الحقيقى.

وعند ذلك : فلا يمتنع أن يكون المراد بلفظ الوزر فى الآية ما كان يثقله من الهم ، والغم بسبب شرك قومه ، وما كان عليه من كونه مقهورا مستضعفا بين المشركين. وحيث أعلى الله ـ تعالى كلمته ، ونشر أعلامه ، وأزال عنه ما كان يثقله من الهم والغم خاطبه بقوله ـ تعالى ـ : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) تذكيرا له بما أنعم به عليه ؛ ليقابله بالشكر. وليس فى ذلك ما يدل على سابقة الذنب.

والجواب :

إن الوزر وإن كان فى اللغة حقيقة فى الثقل الحقيقى ، فهو مجاز فيما عداه ، ولا يخفى أن حمل الوزر على الذنب مجاز مشهور فى العرف ؛ لتبادره إلى الفهم عند

__________________

(١) سورة الشرح ٩٤ / ١ ـ ٣. لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما أورده الآمدي هاهنا راجع ما يلى :

تفسير الكشاف للزمخشرى ٤ / ٢٦٦ ، ٢٦٧ ، وتفسير الرازى ٣٢ / ٢ ـ ٥.

وتفسير القرطبى ١٠ / ٧١٩٤ ـ ٧١٩٦ ، ومختصر تفسير ابن كثير ٣ / ٦٥٢.

وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٥٧.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١٥.

(٢) سورة محمد ٤٧ / ٤.

٢٠٤

الإطلاق ، بخلاف ما عداه ؛ فكان حمله عليه أولى ، ولا يصرف عنه إلا بدليل. كيف وأن هذه السورة مكية وأنها نزلت على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو فى غاية الضعف ، والخمول ، وشدة الخوف من الأعداء ، وقبل إعلاء كلمته ، ونشر أعلامه ؛ فامتنع الحمل على ما ذكروه من الاحتمال.

فإن قيل : فمن المحتمل أن يكون المراد من قوله ـ تعالى ـ (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ). المستقبل وإن كان ظاهرا فى الماضى ، كما فى قوله ـ تعالى ـ : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) (١). وقوله : (وَنادَوْا يا مالِكُ) (٢).

وإن سلمنا أن المراد به الماضى غير أنه ـ تعالى ـ لما بشره بأنه يعلى دينه ، ويظهر كلمته ، ويشفيه من أعدائه ، وهو واثق بصدق الله ـ تعالى ـ فيما وعده به ، كان بذلك قد وضع عنه ثقل غمه بسبب قومه.

قلنا : أما الأول : وإن كان محتملا ، إلا أنه خلاف الظاهر ؛ فلا يصار إليه إلا بدليل.

وأما الثانى : فبعيد أيضا. فإن مقتضى قوله ـ تعالى ـ : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) ، رفع الوزر مطلقا ، والوعد بما ذكروه لا يرفع الوزر مطلقا ، فإن الغم الحاصل بعناد المشركين له ، وخوفه منهم فى الحال ، حاصل وإن قل بسبب وثوقه بوعد الله ـ تعالى ـ بإزالته ؛ فكان الحمل على ما ذكرناه أولى.

وعند هذا : فلا بد من الإشارة إلى شبه الخصوم ، والتنبيه / على وجه الانفصال عنها.

الشبهة الأولى :

وهى العمدة الكبرى للخصوم. وهى أن المعجزة لما دلت على صدق الرسول فى دعوى الرسالة من حيث أن ظهورها على يده ينزل من الله ـ تعالى ـ منزلة التصديق له بالقول ؛ فقد دلت على وجوب اتباعه بواسطة دلالتها على صدقه ؛ لأن الغرض من إرساله ، وتصديقه ؛ إنما هو وجوب اتباعه فيما يخبر به ، ويؤديه إلينا. فكل ما يقدح فى القبول ووجوب الامتثال ؛ فالمعجزة تدل على امتناعه.

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ / ٥٠.

(٢) سورة الزخرف ٤٣ / ٧٧

٢٠٥

وعند هذا لا يخفى أن من يجوز عليه المعاصى ، ولا يأمن منه الإقدام عليها أن النفس لا تكون ساكنة إلى قبول قوله ، واستماعه : كسكونها إلى من لا يجوز عليه شيء من ذلك. والعادة والعرف شاهدان بذلك.

فإذن القول بصدور المعصية من النبي مما يؤثر فى تقليل قبول قول الرسول / / واتباعه فكان ممتنعا.

وعلى هذا أيضا يمتنع صدورها عنه قبل النبوة ؛ لأن السكون إلى من صدرت عنه المعصية ، وإن تاب ، وأقلع عنها ؛ يكون أقل من السكون إلى من لم يصدر عنه أصلا ، وعلى هذا يكون الكلام فى امتناع المعصية عنه على سبيل الخطأ ، والنسيان.

والجواب :

وإن سلمنا وجوب إتباع الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما يخبر به عن الله سبحانه ، ويؤديه إلينا عنه ، ولكن لا نسلم دلالة ذلك على امتناع صدور المعصية عنه.

قولهم : لأن الغرض من الإرسال إنما هو الامتثال ، والقبول ؛ فهو مبنى على فاسد أصولهم فى وجوب رعاية الحكمة فى أفعال الله تعالى ـ وأحكامه [وهو باطل على ما سبق فى التعديل ، والتجويز (١). وإن سلمنا وجوب رعاية الحكمة فى أفعال الله ـ تعالى ـ وأحكامه] (٢) ، فلا نسلم أن المقصود من وجوب الاتباع ، والامتثال ؛ بل أمكن أن تكون لحكمة أخرى : إما ظاهرة ، أو غير ظاهرة لنا.

ولهذا فإنا قد اتفقنا على وجوب العبادات ، وتحريم المحظورات ، وإن لم تكن الحكمة فيها هى الامتثال لتحقق المخالفة مع الوجوب ، والتحريم ، ولو كان المقصود من إيجاب الله ـ تعالى ـ للعبادات هو الامتثال ؛ لما تصور أن لا يحصل مقصوده منه.

وإن سلمنا أن المقصود من الوجوب إنما هو الامتثال ؛ لكن الامتثال الّذي لا نفرة معه ، أو الامتثال مع نفرة ما.

الأول : ممنوع ؛ إذ هى دعوى محل النزاع. والثانى : مسلم.

__________________

/ / أول ل ١٠٢ / ب.

(١) انظر الجزء الأول ل ١٨٦ / أ. وما بعدها.

(٢) ساقط من (أ).

٢٠٦

ولهذا فإن العقلاء ، وأهل العرف مجمعون على أن يكون الشخص ضعيفا ، خاملا ، محتقرا ، فى الأعين مهتضما فى النفوس ، قليل الأتباع ، والأنصار مما يقلل الانقياد له ، والدخول تحت حكمه ، والطاعة له. ومع ذلك فإنا أجمعنا على أنه لا يمتنع على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ؛ مع ظهور المعجزة على يده ، أن يكون متصفا بمثل هذه الصفات ؛ فكذلك فى المعاصى ، ولا سيما إن كان صدورها عنه عن سهو ، أو خطأ فى التأويل ، وأبلغ من ذلك أن تكون قد صدرت عنه قبل الرسالة.

الشبهة الثانية :

أنه يلزم من صدور المعصية عن الرسول أمر ممتنع ؛ فيمتنع. وبيان الملازمة من ستة أوجه:

الأول : أنه يلزم أن يكون استحقاقه / للعقاب ، أشد من استحقاق غيره ؛ لأن زيادة العقوبة على حسب تفاحش المعصية على ما قال ـ تعالى ـ : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (١). وقوله ـ تعالى ـ : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (٢). وقوله ـ تعالى ـ : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) (٣). ولأجل ذلك وجب الرجم على المحصن دون غيره ، وكمل الحد فى حق الحر دون العبد.

ولا يخفى أن صدور المعصية عمن عظمت نعمة الله عليه ، أفحش من صدورها عن غيره ، ولا نعمة أتم من نعمة النبوة ، فكان صدور المعصية عن النبي أفحش من غيره ، والقول بأن حال النبي ـ عليه‌السلام ـ فى استحقاق العقاب فوق حال غيره من العصاة من أمته مخالف للإجماع.

الثانى : أنه يلزم من صدور المعصية عنه أن يكون فاسقا ، ويلزم من ذلك أن لا يكون مقبول الشهادة لقوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (٤). ومن لا يكون مقبول الشهادة ، يمتنع أن يكون مقبول القول فى الأديان ؛ وذلك محال.

__________________

(١) سورة الشورى ٤٢ / ٤٠.

(٢) سورة غافر ٤٠ / ٤٠.

(٣) سورة الأحزاب ٣٣ / ٣٠.

(٤) سورة الحجرات ٤٩ / ٦.

٢٠٧

الثالث : أنه يلزم من صدور المعصية عن الرسول إيذاؤه بزجره ، والإنكار عليه ؛ لأن إنكار المنكر واجب ، وإيذاء الرسول ممتنع لقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) (١).

الرابع : أنه لو صدرت المعصية من الرسول.

فإما أن نكون مأمورين باتباعه ، أو لا نكون مأمورين باتباعه.

والأول : محال لقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) (٢).

والثانى : محال لقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٣) ، ولقوله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (٤).

الخامس : لو صدرت عنه المعصية ؛ لكان من أهل جهنم لقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) (٥). وذلك أيضا خلاف الإجماع.

السادس : أنه يلزم من صدور المعصية عن الرسول ، أن يكون ظالما لنفسه ، ويلزم من ذلك أن يكون ملعونا ؛ لقوله ـ / / تعالى ـ : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٦) ، وأن لا ينال عهد الله ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٧). قال ابن عباس : المراد بالعهد هاهنا الإمامة ، ومعناه أن الظالمين لا يأتم ، بهم ويلزم من ذلك أن لا يكون الرسول مؤتما به ؛ وهو محال.

والجواب :

لا نسلم أنه يلزم من صدور المعصية عن النبىّ أمر ممتنع.

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ / ٥٧.

(٢) سورة الأعراف ٧ / ٢٨.

(٣) سورة آل عمران ٣ / ٣١.

(٤) سورة الأحزاب ٣٣ / ٢١.

(٥) سورة الجن ٧٢ / ٢٣.

/ / أول ل ١٠٣ / أ.

(٦) سورة هود ١١ / ١٨.

(٧) سورة البقرة ٢ / ١٢٤.

٢٠٨

قولهم : إنه يلزم أن يكون استحقاقه للعقاب على معصية يزيد على استحقاق غيره.

فنقول : إن أردتم باستحقاقه للعقاب أنه يجب على الله تعالى ـ أن يعاقبه ؛ فهو باطل بما أسلفناه من امتناع ذلك على الله تعالى ـ.

وإن أردتم / به ملازمة العقاب له سمعا ؛ فهو أيضا ممنوع فلئن قلتم دليله قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (١) ، وقوله ـ تعالى ـ : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) (٢) ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) (٣) ، إلى غير ذلك من الآيات.

قلنا : أولا لا نسلم وجود صيغة العموم فى الأشخاص [فى هذه الآيات على ما عرف من أصلنا.

وإن سلمنا العموم فى الأشخاص] (٤) ؛ فلا نسلم العموم فى قوله ـ تعالى ـ : (مِثْقالَ ذَرَّةٍ) (٥) ، وكذلك فى الاساءة ؛ بل (٦) هو مطلق (٦) ، وقد عمل به فى الكفر ، والكبائر ، والمطلق إذا عمل به فى صورة ، خرج عن أن يكون حجة فى غيرها.

وإن أردتم به جواز عقابه عقلا ؛ فهو كذلك عندنا ، وإن كان ممتنعا سمعا.

وإن أردتم به غير ذلك : فبينوه.

وإن سلمنا لزوم العقاب على المعصية. ولكن لا نسلم لزوم المساواة ، ولفظ السيئة فى الآيتين مطلق ، وقد عمل به فى صورة فلا يكون حجة.

كيف وأن ما ذكروه وإن دل على امتناع صدور المعصية منه فى حالة النبوة ؛ فليس فيه ما يدل على امتناعها قبل النبوة.

وقولهم : يلزم منه أن يكون فاسقا غير مقبول الشهادة ، ممنوع ، إذ الكلام إنما هو فى جواز ارتكاب الصغيرة من غير مداومة عليها ، وذلك عندنا غير موجب للفسق ، ورد الشهادة.

__________________

(١) سورة الزلزلة ٩٩ / ٨.

(٢) سورة النجم ٥٣ / ٣١.

(٣) سورة فصلت ٤١ / ٤٦.

(٤) ساقط من (أ).

(٥) سورة الزلزلة ٩٩ / ٨.

(٦) (بل هو مطلق) ساقط من (ب).

٢٠٩

قولهم : يلزم من ذلك إيذاء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالإنكار عليه ؛ وهو غير جائز.

قلنا : الإنكار عليه بتقدير صدور المعصية منه : إما أن يكون مشروعا ، أو غير مشروع.

فإن كان الأول : فاللعن بفعل ما هو مشروع ممتنع بالإجماع.

وإن كان الثانى : فقد امتنع لزوم إيذاء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قولهم : إما أن نكون مأمورين باتباعه ، أو غير مأمورين.

قلنا : غير مأمورين باتباعه فى المعصية ، وما ذكروه من آيات الاتباع فعامة. وقوله : ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) (١). خاص ، والخاص مقدم على العام.

قولهم : يلزم أن يكون من أهل جهنم.

لا نسلم به ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) (٢). لا نسلم صيغة العموم فى كل الأشخاص.

وإن سلمنا صيغة العموم فى الأشخاص ؛ فلا نسلم أنه يلزم من العموم فى الأشخاص العموم فى الأحوال ولهذا فإنه لو قال لزوجاته : من دخلت منكن الدار ؛ فهى طالق. فإنه وإن كان عاما فى الزوجات ؛ فلا يكون عاما لكل دخول ، ولهذا فإنه لا يتكرر الطلاق بتكرار الدخول ؛ فكذلك لا يلزم من العموم فى الأشخاص فيما نحن فيه. العموم فى المعصية.

وإن سلمنا العموم فى كل معصية لكنه مخصوص بالإجماع ، وبقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٣). والعام بعد التخصيص لا نسلم أنه يبقى حجة وإن علمنا أنه حجة غير أنا قد بينا جواز صدور الصغائر عن الأنبياء ، والإجماع منعقد على نجاتهم من النار ؛ فيجب إخراجهم من العموم جمعا بين الأدلة بأقصى الإمكان.

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ / ٢٨.

(٢) سورة الجن ٧٢ / ٢٣.

(٣) سورة النساء ٤ / ٤٨.

٢١٠

قولهم : يلزم من ذلك أن يكون ظالما لنفسه ، وأن يكون ملعونا.

لا نسلم ذلك : وقوله ـ تعالى ـ : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (١) ، لا يعم كل ظالم ؛ بل هو خاص فى الظالمين (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) (٢) على ما نطقت به الآية ، وذلك / غير مقصور فى حق من اقتصر على فعل الصغيرة ؛ فلا تكون الآية متناولة له.

قولهم : ويلزم منه أن لا ينال عهد الله ، وأن العهد هو الإمامة.

قلنا : فقد قال غير ابن عباس من أهل التفسير : معناه ليس فى عهدى أن ينال الظالمون جزائى ، وثوابى يوم القيامة. وليس فى ذلك ما يدل على أنه لا يثبت ، وإن كان ليس فى عهده ، وليس أحد التفسيرين أولى / / من الآخر.

وإن سلمنا أن المراد بالعهد ما ذكروه ، غير أن العاصى كان ظالما فى نفس الأمر لنفسه.

ولكن لا نسلم العموم فى لفظ الظالمين.

وإن سلمنا صيغة العموم فيه ؛ فيجب تخصيصه بالظالمين أصحاب الكبائر ، جمعا بينه ، وبين ما ذكرناه من الأدلة ؛ فإن الجمع أولى من التعطيل.

الشبهة الثالثة :

لو وجدت المعاصى من الأنبياء ؛ لكانت الملائكة أفضل منهم ؛ لأن الملائكة معصومون على ما يأتى تحقيقه. والأنبياء غير معصومين ، فقد قال الله ـ تعالى ـ : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) (٣). وقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٤). واللازم ممتنع بالإجماع من الأشاعرة والشيعة.

__________________

(١) سورة هود ١١ / ١٨.

(٢) سورة الأعراف ٧ / ٤٥.

/ / أول ل ١٠٣ / ب.

(٣) سورة ص ٣٨ / ٢٨.

(٤) سورة الحجرات ٤٩ / ١٣.

٢١١

والجواب :

لا نسلم الملازمة.

قولهم : الملائكة معصومون. ممنوع على ما يأتى.

وإن سلمنا أن الملائكة معصومون ؛ ولكن لا نسلم أن الأنبياء أفضل على ما هو مذهب القاضى أبى بكر ، وجماعة من أصحابنا.

الشبهة الرابعة :

هو أن الله ـ تعالى ـ قد وصف بعض الأنبياء بالإخلاص. وذلك كقوله تعالى ـ فى حق إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) (١). وقوله ـ تعالى ـ فى حق يوسف ـ عليه‌السلام ـ (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (٢) وقد قال ـ تعالى ـ حكاية عن إبليس (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٣) وذلك يدل على امتناع صدور المعصية منهم. وإلا لما كان الاستثناء صحيحا.

والجواب :

أن ما ذكروه فهو حكاية عن مقال إبليس ؛ ولا حجة فيه.

وإن سلمنا أن قوله حجة غير أنه يجب حمل الإغواء على الاضلال ، والإشراك بالله ـ تعالى ـ جمعا بينه ، وبين ما ذكرناه من الأدلة. والشرك ممتنع فى حق الأنبياء. بالإجماع منا ، ومن الخصوم.

__________________

(١) سورة ص ٣٨ / ٤٦.

(٢) سورة يوسف ١٢ / ٢٤.

(٣) سورة الحجر ١٥ / ٣٩ ، ٤٠.

٢١٢

الشبهة الخامسة.

قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١).

ولا جائز أن يكون المستثنى غير الأنبياء ، وإلا كان غير النبي أفضل من النبي ؛ لما تقدم ؛ وهو خلاف الإجماع.

وإن كان المستثنى هم الأنبياء لزم امتناع صدور المعصية عنهم وإلا كانوا متبعين لإبليس ؛ وهو خلاف النص.

والجواب :

أنه يجب أن يحمل قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) فى اتباعه فى كبائر الذنوب فاتبعون فيما صدق عليه ظنه من كبائر الذنوب جمعا بينه ، وبين ما ذكرناه من الأدلة ، والكبائر ؛ فغير واقعة من الأنبياء بإجماع المسلمين قبل الأزارقة (٢).

__________________

(١) سورة سبأ ٣٤ / ٢٠.

(٢) الأزارقة : أصحاب نافع بن الأزرق. انظر عنهم وعن آرائهم بالتفصيل ما سيأتى فى القاعدة السابعة ـ الفصل الرابع : فى أن مخالف الحق من أهل القبلة هل هو كافر أم لا؟ ل ٢٥٢ / ب. وما بعدها.

٢١٣
٢١٤

الأصل السادس

فيما قيل / من عصمة الملائكة ، والتفضيل بينهم ، وبين

الأنبياء عليهم‌السلام

ويشتمل على فصلين :

الفصل الأول : فيما قيل من عصمة الملائكة عليهم‌السلام.

الفصل الثانى : فيما قيل فى التفضيل بين الملائكة ، والأنبياء عليهم‌السلام.

٢١٥
٢١٦

الفصل الأول

فيما قيل من عصمة الملائكة عليهم‌السلام

وقد اختلف المتكلمون فى ذلك نفيا ، وإثباتا محتجين فى كل واحد من الطرفين بحجج ، وها نحن نذكر الأشبه منها ، وننبه على ما فيها (١).

أما القائلون بنفى العصمة : فقد احتجوا بحجتين :

الحجة الأولى :

هى أن إبليس كان من الملائكة ، وقد عصى بمخالفة أمر الله ـ تعالى ـ له بالسجود لآدم. ودليل أنه كان من الملائكة وقد عصى بمخالفة أمر الله ـ تعالى ـ أمران :

الأول : أنه استثناه من الملائكة ، وذلك يدل على أنه من جنسهم.

الثانى : أن الأمر بالسجود لآدم إنما كان للملائكة. بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) (٢) ، ولو لم يكن إبليس من الملائكة ؛ لما كان عاصيا ، ولا مخالفا للأمر ؛ لأن أمر الملائكة لا يكون أمرا له ، ودليل عصيانه قوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ).

الحجة الثانية :

قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣). وفى الآية احتجاجات كثيرة غير أنا نقتصر على ما هو الأشبه منها وذلك من أربعة أوجه : ـ

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة انظر من الكتب المتقدمة على الأبكار.

الفصل فى الملل والأهواء والنحل لابن حزم ج ٣ / ٣٠٣ وما بعدها ، ج ٤ / ٦١. وما بعدها.

وأصول الدين للبغدادى ص ٢٩٥.

ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي :

شرح المواقف فى علم الكلام للجرجانى : الموقف السادس ص ١٦٢. وما بعدها.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٤٦. وما بعدها.

(٢) سورة البقرة ٢ / ٣٤.

(٣) سورة البقرة ٢ / ٣٠.

٢١٧

الوجه الأول :

أنهم ذكروا ذلك بطريق الاعتراض على الله ـ عزوجل ـ والإنكار لفعله ؛ وذلك من أعظم الذنوب.

الوجه الثاني :

أنهم اغتابوا بنى آدم ، ونسبوهم إلى الفساد ، وسفك الدماء ، والغيبة ذنب لقوله ـ تعالى ـ : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (١). نهى عن الغيبة ، والنهى ظاهر فى التحريم ، ثم شبه ذلك بأكل لحم الميت ، والمشبه به حرام ، فكذلك ما شبه به. ولو لا أن الغيبة معصية ؛ لما كان كذلك.

الوجه الثالث :

أنهم كذبوا فيما نسبوا بنى آدم / / إليه ، إذ ليس كان بنى آدم كذلك ، والكذب معصية أيضا.

الوجه الرابع :

أنهم نسبوا أنفسهم إلى التسبيح ، والتقديس بعد الطعن فى بنى آدم على طريق الترفع ، والتعلى ؛ وذلك عجب منهم بأنفسهم ؛ والعجب من الذنوب المهلكة.

فان قيل : لا نسلم أن إبليس كان من الملائكة ؛ بل كان من الجنّ وهو أبو الجنّ كما قاله ابن مسعود (٢) ، والزّهرى (٣) ، والحسن (٤) ، وغيرهم ، ويدل عليه قوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) (٥) والجنّ ليسوا من الملائكة لوجوه ثلاثة :

__________________

(١) سورة الحجرات ٤٩ / ١٢.

/ / أول ل ١٠٤ / أ.

(٢) انظر عنه ما سبق فى هامش ل ١٥٣ / أ.

(٣) الزّهرى : محمد بن مسلم بن شهاب الزهرى ، من بنى زهرة بن كلاب ، من قريش أول من دون الحديث ، وأحد أكابر الحفاظ والفقهاء ، تابعى من أهل المدينة. كان يحفظ ألفين ومائتى حديث نصفها مسند. نزل الشام واستقر بها ، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله : «عليكم بابن شهاب ؛ فانكم لا تجدون أحدا أعلم بالسنة الماضية منه» ولد سنة ٥٨ ه‍ وتوفى ١٢٤ ه‍ [تذكرة الحفاظ ١ / ١٠٢ ووفيات الأعيان ١ / ٤٥١ والأعلام للزركلى ٧ / ٩٧].

(٤) راجع ما سبق فى هامش ل ١٨٢ / ب.

(٥) سورة الكهف ١٨ / ٥٠.

٢١٨

الأول : قوله ـ تعالى ـ : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ* قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) (١). وذلك يدل على أن الجنّ من غير جنس الملائكة.

الثانى : هو أن إبليس له ذرّية على ما قال ـ تعالى ـ : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) (٢). والملائكة لا ذريّة لهم ، لأن الذّريّة لا تكون إلا من ذكر ، وأنثى. والملائكة لا إناث فيهم بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ / إِناثاً) (٣) بطريق الإنكار ، والتهديد لقائله ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ).

الثالث : أن إبليس مخلوق من النار ؛ لقوله ـ تعالى ـ حكاية عن قول إبليس : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٤) ، والملائكة مخلوقون من النور.

وعلى هذا فلا يمتنع استثناؤه من الملائكة وإن لم يكن من جنسهم كما فى قوله ـ تعالى ـ : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً* إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (٥) ، وقوله تعالى «لا إله إلا الله» استثناء من غير الجنس الّذي نفاه. وأما عصيانه بمخالفة الأمر ؛ فليس لدخوله فى أمر الملائكة ؛ بل لأنه كان قد أمر بالسجود على الانفراد ، بدليل قوله ـ تعالى ـ : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (٦) ؛ وذلك يدل على تخصيصه بالأمر.

وأما الآية الأخرى ؛ فلا نسلم دلالتها على عصيان الملائكة.

وقولهم فى الوجه الأول من الحجة الثانية : أنهم ذكروا ذلك على طريق الاعتراض على الله ـ تعالى ـ والإنكار عليه فى قوله ـ تعالى ـ غير مسلم ؛ بل إنما سألوا ؛ ليعلموا ذلك كما قال الأخفش (٧) ، وثعلب (٨) وقال آخرون من أهل التفسير. لم يذكروا

__________________

(١) سورة سبأ ٣٤ / ٤٠ ، ٤١.

(٢) سورة الكهف ١٨ / ٥٠.

(٣) سورة الزخرف ٤٣ / ١٩.

(٤) سورة الأعراف ٧ / ١٢.

(٥) سورة الواقعة ٥٦ / ٢٥ ، ٢٦.

(٦) سورة الأعراف ٧ / ١٢.

(٧) الأخفش : سعيد بن مسعدة المجاشعى بالولاء ، البلخى ، المعروف بالأخفش الأوسط (أبو الحسن) أخذ عن سيبويه والخليل بن أحمد من تصانيفه : معانى القرآن ، والمقاييس فى النحو توفى سنة ٢١٥ ه‍.

[وفيات الأعيان لابن خلكان ١ / ٢٦١ ، ومعجم المؤلفين لكحالة ٤ / ٢٣١].

(٨) ثعلب : أحمد بن يحيى الشيبانى مولاهم الكوفى ، المعروف بثعلب (أبو العباس) نحوى ، لغوى ولد سنة ٢٠٠ ه‍ بالكوفة ، وتوفى ببغداد سنة ٢٩١ ه‍ من كتبه : اختلاف النحويين ومعانى القرآن. [وفيات الأعيان لابن خلكان ١ / ٣٦ ، ٣٧ ، وطبقات القراء لابن الجزرى ١ / ١٤٨ ، ١٤٩].

٢١٩

ذلك على طريق الاستعلام ، والاستفهام كقوله ـ تعالى ـ : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (١) ؛ بل إنما ذكروا ذلك ـ وإن كانت صورته صورة استفهام ـ على طريق الإثبات ؛ تصديقا لله ـ تعالى ـ فيما أخبرهم به. وذلك أن الله ـ تعالى ـ أخبرهم بأنه يجعل فى الأرض من يفسد فيها ، ويسفك الدماء ، فقالوا تصديقا له ـ تعالى ـ (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) (٢) ، والمراد به تجعل ، ويجوز فى لغة العرب أن يطلق ما لفظه لفظ الاستفهام ، والمراد به الإثبات. قال جرير :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

أى أنتم خير من ركب المطايا. وقد قال بعض أهل التفسير : إنما ذكروا ذلك على طريق التعجب عند أنفسهم من ذلك. وعلى كل تقدير فلا يكون ذلك منهم بطريق الإنكار.

وعلى هذا : فقد اندفع ما ذكرتموه من الوجه الثانى ، والثالث أيضا.

وقولكم فى الوجه الرابع : إنهم ذكروا ذلك على طريق الترفع ، والتعجب ؛ ليس كذلك.

بل إنما ذكروه على طريق الإخبار بالانقياد لله ـ تعالى والطاعة ، والتعظيم لشأنه ، والتذلل بين يديه ، كما فى قول الواحد منا لغيره إذ أراد التذلل بين يديه ، أنا عبدك وخديمك وقائم بخدمتك.

وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على وقوع الذنوب من الملائكة ؛ فهو معارض بما يدل على عدمه ، وبيانه من وجهين :

الأول : قوله ـ تعالى ـ فى صفة الملائكة (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٣). ومن هذا صفته ؛ لا يتصور صدور الذنب منه ؛ لأنه فى حالة صدور الذنب منه ؛ يستدعى الفتور فى التسبيح ؛ وهو خلاف مدلول الآية.

__________________

(١) سورة الأنبياء ٢١ / ٢٧.

(٢) سورة البقرة ٢ / ٣٠.

(٣) سورة الأنبياء ٢١ / ٢٠.

٢٢٠