أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0327-1
الصفحات: ٣٩٨

الثانى : أنه على خلاف ما ذكره أرباب التفاسير من أن سجودهم كان تعظيما له ، لا بطريق العبادة له ، كما كانت عادة. الناس فى ذلك الزمان من تعظيم ملوكهم بالسجود لهم عند دخولهم عليهم ، وكذلك فى زمننا هذا.

الثالث : أنه على خلاف ما فسر به يوسف رؤياه فى قوله (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (١). من أن الكواكب إخوته فإنهم كانوا أحد عشر ، والشمس أمه ، والقمر أبوه ، وذلك / قوله : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) (٢).

الحجة الثالثة عشرة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن موسى (٣) ـ عليه‌السلام ـ :

__________________

(١) سورة يوسف ١٢ / ٤.

(٢) سورة يوسف ١٢ / ١٠٠.

(٣) موسى عليه‌السلام : هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث ، وينتهى نسبه إلى يعقوب عليه‌السلام ، وأخوه هو هارون عليه‌السلام الّذي بعثه الله استجابة لدعوة أخيه موسى عليهما‌السلام (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي) وقد ذكرت قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون فى كثير من سور القرآن الكريم بوجوه عديدة وأساليب متنوعة ، كما ذكرت قصة بنى إسرائيل مع موسى وهارون عليهما‌السلام موضحة مفصلة وخاصة فى سورتى (الأعراف والقصص).

وقد وضح القرآن الكريم قصة ميلاد موسى ، ونجاته من فرعون ، ثم تربيته فى بيت فرعون على يد أمه ، ثم ما حدث له مع القبطى وهروبه إلى أرض مدين ثم زواجه ، ووفائه بالعهد ، ثم عودته إلى مصر ، وإرساله إلى بنى إسرائيل ، وما حدث له مع فرعون ، ثم السحرة وأخيرا خروجه من مصر وما حدث من غرق فرعون وجنوده ثم ما حدث لبنى إسرائيل فى سيناء.

وقد وضح المصنف موقف سيدنا موسى من قتل القبطى وأن ما حدث لا يتنافى مع عصمته عليه‌السلام ، كما أحلت على كثير من كتب التفسير والعقيدة لتوضيح براءة سيدنا موسى عليه‌السلام مما قيل فى الحجة الثالثة عشرة.

كما وضح المصنف ما حدث من سيدنا موسى مع أخيه هارون عليهما‌السلام ووضح أن ما حدث من كل منهما لا يتنافى مع العصمة. وقد أحلت على كتب التفسير والعقيدة التى وضحت هذا الأمر.

وقد أفاض القرآن فى الحديث عن (بنى إسرائيل) وما حدث منهم مع كل من موسى وهارون عليهما‌السلام.

وبعد جهاد عظيم توفى كليم الله موسى عليه‌السلام بعد أخيه هارون عليه‌السلام فى أرض سيناء.

ويهمنى هنا المقارنة بين ما ورد عن موسى وهارون عليهما‌السلام فى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، وما ورد عنهم فى كتب اليهود المحرفة ـ ففى القرآن الكريم والسنة فيض من الثناء على موسى وهارون عليهما‌السلام ووصف لموسى بأن مناضل فى الحق لا يخاف فى الله لومة لائم ؛ فإذا أخطأ غفر الله خطيئته ، وحماه من عواقبها.

بينما تصفه كتب اليهود المحرفة بما لا يليق ورمى بالتهم الخلقية والخلقية واتهم بقتل أخيه وبالتحريض على سرقة حلى المصريين [سفر الخروج ٣ / ٢١ ـ ٢٢ ، ١٢ / ٣٥ ـ ٣٦] كما اتهم هارون بصنع العجل وعبادته [سفر الخروج ٣٢ / ١ ـ ٦]. [قصص الأنبياء لابن كثير ص ٢٩٦ ـ ٤٦٤ ، والنبوة والأنبياء ص ١٦٥ ـ ١٨٥ ، واليهودية ص ١٤٣ ، ١٤٤ ، ١٧٠ ، ١٧١].

١٨١

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) (١).

ووجه الاحتجاج به : أنّ فعله : إمّا أن يكون معصية ، أو لا يكون معصية. فإن لم يكن معصية ؛ فلا معنى لندمه وقوله : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (٢) ، وقوله : (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) (٣).

وإن كان معصية : فهو المطلوب. وسواء كان ذلك حالة النبوة ، أو قبل النبوة ؛ إذ هو خلاف مذهب الخصوم.

فإن قيل : الكلام على هذا من وجهين : إجمالا ، وتفصيلا.

أما الإجمال : فهو أنه لا يخلو : إما أن يكون قتله عمدا ، أو خطأ. فإن كان عمدا :

فإما أن يكون بحقّ ، أو بغير حقّ.

فإن كان الأول : فليس بمعصية لا صغيرة ، ولا كبيرة.

وإن كان الثانى : فهو ممتنع ؛ لأن القتل العمد من غير حق كبيرة ، وذلك غير واقع من الأنبياء.

وإن كان خطأ : فليس بمعصية أصلا وسواء كان بحق ، أو بغير حق.

وأما التفصيل : فهو أنه لم يقصد قتله ، وإنما قصد التخلّص ودفع الظلم ، وذلك جائز عن الغير. كما هو جائز عن النفس واتفاق الوكزة والقتل كان خطأ ، والخطأ ليس بمعصية.

__________________

(١) سورة القصص ٢٨ / ١٥ ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما يلى :

تفسير الكشاف للزمخشرى ٣ / ١٦٨ ، ١٦٩ ، وتفسير فخر الدين الرازى ٢٤ / ٢٣١ ـ ٢٣٥ ، وتفسير القرطبى ٧ / ٤٩٧٥ ـ ٤٩٨١ ، ومختصر تفسير ابن كثير ٣ / ٨ ، وقصص الأنبياء لابن كثير ص ٣٠٣ ، ٣٠٤.

قارن بما ورد فى شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ١٤٤. وشرح المقاصد ٣ / ٣١٣.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ١٥.

(٣) سورة القصص : ٢٨ / ١٦.

١٨٢

وإن سلمنا أنه قصد قتله : غير أنه / / من الجائز أن الله ـ تعالى ـ كان قد عرّف موسى استحقاق ذلك القبطى للقتل بكفره ، وندبه إلى تأخيره إلى حالة التمكن ، فلمّا رأى موسى ـ عليه‌السلام ـ منه الإقدام على رجل من شيعته تعمّد قتله وترك المندوب وتعمد قتل من يجوز له قتله ليس بمعصية. وترك المندوب ليس بمعصية.

وعلى هذا فندمه كان على ترك ما ندب إليه ، وهو المراد من قوله : (ظَلَمْتُ نَفْسِي) (١). وقوله : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (٢). وقوله : (فَاغْفِرْ لِي) (٣). فالمراد منه قبول الاستغفار ، وهو الثواب عليه.

والجواب عن الإجمال :

ما المانع أن يكون القتل الصادر منه عمدا من غير استحقاق.

قولهم : إنّه كبيرة.

قلنا : نحن وإن وافقناكم على امتناع صدور الكبيرة من النّبيّ حال نبوته ؛ فلا نسلم امتناع صدورها من قبل نبوته ، وموسى حالة قتل القبطى لم يكن نبيا ، بدليل قوله ـ تعالى ـ حكاية عن قول فرعون لموسى لما أرسل إليه : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) ـ يعنى قتل القبطى ـ (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) ـ أى الجاحدين لنعمتى ـ فقال / موسى (فَعَلْتُها) ـ يعنى قتل القبطى (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) ـ أى الجاهلين ـ ، والنبي لا يكون جاهلا ، ثم قال : (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٤). فدل على أنه لم يكن حالة قتل القبطى نبيا.

وإن سلمنا امتناع صدور الكبيرة من الأنبياء مطلقا ، وأن القتل الصادر منه كان خطأ ؛ فلا يلزم من ذلك امتناع صدور الصغيرة منه حالة قتله إما نفس الوكزة ، أو ما لازمها ، ويدل عليه ما ذكرناه من ندمه ، وقوله : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (٥). وقوله : (ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) (٦). وعلى هذا : فقد اندفع ما ذكروه من الوجه الأول فى التفصيل.

__________________

/ / أول ل ٩٨ / ب.

(١) جزء من الآية رقم ١٦ من سورة القصص.

(٢) جزء من الآية رقم ١٥ من سورة القصص.

(٣) جزء من الآية رقم ١٦ من سورة القصص.

(٤) سورة الشعراء ٢٦ / ١٨ ـ ٢١.

(٥) سورة القصص ٢٨ / ١٥.

(٦) سورة القصص ٢٨ / ١٦.

١٨٣

قولهم : فى الوجه الثانى من التفصيل : أنه من المحتمل أنّ الله تعالى كان قد عرّف موسى استحقاق القبطى القتل. باطل بما بيناه من أن موسى فى ذلك الوقت لم يكن قد أوحى إليه بعد ، ولا كان رسولا ، وعلى هذا ؛ فقد بطل ما فرعوه من تخريج الإلزامات على ترك المندوب من تأخير قتل القبطى.

الحجة الرابعة عشرة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن موسى ـ عليه‌السلام ـ :

(وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) (١).

ووجه الاحتجاج به : أنه لا يخلو :

إمّا أن يكون قد صدر من هارون ذنب يستحق به إيقاع ذلك الفعل به ، أو أنه لم يصدر منه ذلك.

فإن كان الأول : فقد أذنب هارون.

وإن كان الثانى : فموسى يكون مذنبا بإيذائه لهارون ، وأيهما قدر فهو نبىّ.

فإن قيل : إنما يلزم ما ذكرتموه أن لو كان أخذ موسى برأس هارون على طريق الغضب ، والضرب له. وليس كذلك ؛ بل إنما كان أخذه برأس أخيه ، وجره إليه ؛ لأنه رآه على جزع عظيم ، لما رأى من قومه من عبادة العجل على سبيل التوجع له ، والتسكين لقلقه : كما يفعل الواحد منا عند ما يريد إصلاح غضبان. وتسكين من أصابته مصيبه.

ويحتمل أن موسى لما غلب عليه من الحزن ، واستيلاء الفكر لما أحدثه قومه من بعده ، أنه أخذ برأس أخيه يجره إليه. لا على طريق الإيذاء له ؛ بل كما يفعل الإنسان بنفسه عند حدوث مصيبه من عض يده ، وشفته ، وقبضه على لحيته ؛ وأجرى موسى لهارون فى ذلك مجرى نفسه ؛ لأنه كان أخاه ، وشريكه فيما يناله من خير وشرّ ، وبتقدير

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ / ١٥٠ ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما يلى :

تفسير الكشاف للزمخشرى ٢ / ١١٩ ، وتفسير الرازى ١٥ / ١٣ ، ١٤ ، وتفسير القرطبى ٤ / ٢٧٢٤ ـ ٢٧٢٦ ، ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٥٢.

وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٤٥.

١٨٤

هذه الاحتمالات ؛ فلا يلزم شيء مما ذكرتموه. ويحتمل أنه أخذ برأسه إليه ؛ ليخبره سر ما حدد الله ـ تعالى ـ له من الأمور كما جرت العادة.

قلنا : لا يخفى على كل عاقل بعد هذه التأويلات ، وخروجها عن مذاق العقل مع بعدها ؛ فيمتنع القول بها.

أما ما ذكروه من التأويل : فهو ممتنع لثلاثة أوجه :

الأول : أنه أخذ بلحيته ، وبرأسه لقوله ـ تعالى ـ حكاية عن هارون (لا تَأْخُذْ / بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) (١). والعادة غير جارية بجر لحية الإنسان عند قصد تسكين غضبه ، وحزنه.

الثانى : قوله (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) وهذا العذر غير لائق من طلب كف موسى عن الأخذ برأسه ، على سبيل الإشفاق ، وإزالة الغيظ عنه.

الثالث : / / قوله (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) (٢). والأخذ بالرأس ، واللحية على جهة الاشفاق ، وتسكين الحزن والغيظ ، لا يتحقق به شماتة الأعداء ؛ فدل على أن ذلك إنما كان على طريق الغيظ وقصد الإيذاء.

وبهذه الوجوه الثلاثة يبطل ما ذكروه من الاحتمال الثانى أيضا. ويخصه وجه آخر وهو أن ما ذكروه على خلاف العادة ؛ إذ العادة عند استيلاء الفكر ، والحزن على الإنسان أن يفعل ما ذكروه بنفسه ، لا بغيره ولا سيما جذب رأس الغير ، ولحيته.

وبما ذكرناه أيضا يبطل ما ذكروه من الاحتمال الثالث.

__________________

(١) سورة طه ٢٠ / ٥٤.

/ / أول ل ٩٩ / أ.

(٢) سورة الأعراف ٧ / ١٥٠.

١٨٥

الحجة الخامسة عشرة :

قوله ـ تعالى ـ فى قصة داود (١) ـ عليه‌السلام ـ :

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) إلى قوله (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) (٢).

ووجه الاحتجاج من ذلك : أن المفسرين بأجمعهم رووا أن داود كان يوما فى محرابه ؛ فرأى قرينيه ، فراعه ذلك ، فقال : من أنتما ، فقالا له : نحن قريناك اللذان يحفظانك من أن تعصى ، أو تخطىء ، فقال لهما فخليانى : وجربا ؛ ففعلا.

فقال أما اليوم فلا يدخل على أحد ، ولا أخرج إلى أحد ، ولا أبرح أصلي ، وأقرأ إلى الليل. فبينما هو كذلك إذ نظر إلى كوة ؛ فرأى طائرا أحسن شيء يكون بعضه ذهبا ، وبعضه من ياقوت ؛ فأعجبه ، ثم أعرض عنه ؛ فوقع الطائر فى البيت. فقال داود فى

__________________

(١) داود عليه‌السلام : هو نبى الله (داود بن ايشا بن عويد ... من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام ، وقد ذكر نسبه فى التوراة والإنجيل مفصلا. وهو عليه‌السلام ـ أحد الرسل الذين نزلت عليهم الكتب السماوية بعد موسى عليه‌السلام ، وأعطاه الله الزبور كما قال تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً).

وقد ورد اسم داود عليه‌السلام ـ فى القرآن الكريم فى ستة عشر موضعا فى [البقرة ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والإسراء ، والأنبياء ، والنمل ، وسبأ ، وسورة ص] وقد جمع الله ـ تعالى ـ له بين النبوة والملك ؛ فكان نبيا ملكا كما كان ولده سليمان عليه‌السلام.

وخصه بمزايا منها تسخير الجبال للتسبيح (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ)

ومنها : إلانة الحديد له : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) ومنها : صناعة الدروع لدرء خطر الحرب (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ). ومنها : تقوية ملكه (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ).

ومنها : آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ).

ومع كل هذا المزايا الفريدة والصفات الجليلة نرى اليهود فى كتبهم المصنوعة المحرفة يصورونه عليه‌السلام بصورة غير لائقة بالبشر العادى فضلا عن الرسول الكريم فهو يأخذ امرأة أوريا لنفسه من غير حياء ويرسل زوجها إلى الصف الأول فى ميدان القتال ليتخلص منه. أحداث موغلة فى القسوة وبعيدة عن العفة (انظر الكتاب المقدس صموئيل الثانى : الاصحاح الحادى عشر ، والاصحاح الثالث عشر).

بينما يصور القرآن الكريم هذه المسألة بصورة تبعد الأنبياء عن الكبائر ، ولم يرها إلا هفوة استحقت نوعا من العتاب والتعليم من الله لنبيه ومصطفاه. كما ورد فى الآية التالية من سورة (ص).

ومن الغريب أن بعض علماء المسلمين وقعوا فى خطأ عظيم بذكر هذه الإسرائيليات فى مصنفاتهم على أنها من قصص القرآن الكريم.

وقد عاش داود عليه‌السلام سبعا وسبعين سنة ثم توفاه الله وأوصى بالملك من بعده لابنه سليمان عليه‌السلام.

[قصص الأنبياء لابن كثير ص ٤٨٠ ـ ٤٩٤. والنبوة والأنبياء للصابونى ص ٢٧٣ ـ ٢٨١. واليهودية للدكتور أحمد شلبى ص ١٤٥ ، ١٤٦ ، ص ١٧٢ ـ ١٧٥].

(٢) سورة ص ٣٨ / ٢١ ـ ٢٤. ولمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما أورده الآمدي. انظر : تفسير الكشاف للزمخشرى ٣ / ٣٦٥ ـ ٣٧١.

وتفسير الرازى ٢٦ / ١٨٨ ـ ١٩٨. وتفسير القرطبى ٨ / ٥٦٠٨ ـ ٥٦٣١.

ومختصر تفسير ابن كثير ٣ / ٢٠٠ ، ٢٠١.

وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٤٦ ـ ١٤٨.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١٣ ، ٣١٤.

١٨٦

نفسه ، لو قمت وأخذت هذا الطائر ، فأريته للناس كان آية ، فقام إليه ؛ فجعل يطير إلى أن وقع فى الكوة ؛ فأهوى إليه فى الكوة. فإذا بامرأة تغتسل ؛ فلما رآها نسى صلاته ، وقراءته. وجعل يطيل النظر إليها. فلما رأته تورات منه بشعرها ؛ فزاده ذلك إعجابا بها. ونظره إليها مع الإطالة معصية لا محالة.

ثم إنه عرض لها فى نفسه. فقالت له : زوجى غائب ، وأنت الملك ، والنبي ، وما أدرى ما أقول لك. وكانت امرأة أوريا (١) بن حنان فاستدعاه من غيبته. ثم إنه قدمه على بعض الجيوش ؛ لمنازلة بعض الحصون ؛ بقصد قتله ، فرمى من الحصن بحجر ؛ فقتله فتزوج بامرأته. ولا يخفى أن قصده لذلك معصية. فأرسل الله ـ تعالى له ملكين فى صورة خصمين ؛ ليبكتاه على خطيئته ، وذلك قوله ـ تعالى ـ :

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) إلى قوله لقد (ظَلَمَكَ بِسُؤالِ / نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ).

وقد قيل : إنه أخطأ أيضا فى المبادرة إلى قوله (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) ، قبل سماع كلام الخصم الآخر.

ثم إنه لما قضى بينهما ، نظر أحدهما إلى الآخر وضحك ، ثم صعدا إلى السماء ، وهو يراهما ؛ فعلم داود ذنبه ، وما صنع ؛ فخر ساجدا يبكى ، ويتضرع إلى أن نبت الشجر حول رأسه من دموعه ، ولم يرفع رأسه حتى جاءه ملك ، فأمره برفع رأسه ، وقال له : إن الله ـ تعالى ـ قد غفر لك ذنبك ، وذلك قوله ـ تعالى ـ (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٢).

__________________

(١) امرأة أوريا بن حنان اسمها سابغ ، وسنرى فيما يلى أن بنى إسرائيل يصورون اتصال داود عليه‌السلام ـ بسابغ فى صورة الزنا. ولكن الإسلام الّذي يسمو بالأنبياء صور المسألة فى صورة تبعدها عن الكبائر ، ولم يرها إلا هفوة استحقت العتاب من الله لنبيه ومصطفاه ، وبعد الاستغفار والركوع غفر الله له وقال سبحانه وتعالى : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ).

أما ما ورد فى كتاب اليهود المقدس فيصورها فى صورة موغلة فى القسوة ، وبعيدة عن العفة (انظر : صموئيل الثانى : الاصحاح الحادى عشر ص ٤٩٨ ، ٤٩٩. الكتاب المقدس ج ١ ـ دار الكتاب المقدس فى الشرق الأوسط ـ وانظر شرح المواقف السادس د. أحمد المهدى ص ١٤٦ ـ ١٤٨. ففيه رد على ما قاله اليهود ومن تأثر بآرائهم من المفسرين.

(٢) سورة ص ٣٨ / ٢٤ ، ٢٥.

١٨٧

وروى أن الله ـ تعالى ـ لما غفر له ، أوحى إليه «أما الذنب فقد غفرته لك ، ولكن ذهبت المودة التى كانت بينى وبينك».

وروى أنه لما أصاب داود الخطيئة نفرت الوحوش من حوله فقال : «إلهى رد على الوحوش لآنس بها» فردها عليه ؛ فرفع صوته يقرأ ، فأصغين باستماعهن إليه ، ثم نادينه «هيهات يا داود ذهبت الخطيئة بحلاوة صوتك».

فإن قيل : ما ذكرتموه عن امرأة أوريا بن حتان من قصد النظر إليها ، وقصد قتل أوريا ؛ [لم يثبت ولم يصح] (١).

وقوله ـ تعالى ـ (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) (٢). فقد قيل فى تأويله : إن المتسور على داود ، إنما كانوا من البشر ، وأن لفظ النعاج محمول على حقيقته ، لا على الكناية عن النساء. وفزعه منهم : إنما كان لأنهم دخلوا عليه فى غير وقت الدخول ، [بغير إذنه] (٣) ، وذلك لا يدل على معصية ، والحمل على هذا التأويل ، أولى من تقدير صدور المعصية من النبي ، وتقدير تبكيته من الله ـ بالملائكة ، وبقولهم (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) إلى قوله (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) (٤). حيث أنه يلزم منه كذب الملائكة فى قولهم (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) ولم يكن كذلك أو للاضمار فى كلامهم ، وتقديره : أرأيت لو كنا كذلك ، وكل واحد من الأمرين بعيد ، ويلزم منه أيضا الكذب فى قولهم (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها) (٥) ، إن حمل على إطلاقه حيث لم يكن له نعجة ، ولا لأخيه نعاج ، ولا قال له ذلك ، وأن يقدر فى الكلام ما ذكرناه. ولا يخفى امتناع الكذب على الملائكة وبعد الإضمار والتقدير فى الكلام.

وإن سلمنا أن / / المتسور عليه كانوا ملائكة ، لقصد عتابه ؛ فليس فى ذلك ما يدل على كونه مذنبا ، فإنه روى أن أوريا بن حنان خطب امرأة وكان من عادة أهل ذلك

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) سورة ص ٣٨ / ٢١.

(٣) ساقط من (أ).

(٤) سورة ص ٣٨ / ٢٢.

(٥) سورة ص ٣٨ / ٢٣.

/ / أول ل ٩٩ / ب.

١٨٨

الزمان ، أنه إذا خطب واحد امرأة لا تزوج من الخاطب الثانى ، إلا بعد تزويجها من الخاطب الأول ، فخطبها داود بعد أوريا ؛ فزوجها أهلها منه ؛ لميلهم إليه.

وروى أيضا أنه وقعت عينه على امرأة أوريا ؛ فأعجبته ؛ فسأله أن ينزل / عنها ؛ ليتزوجها ؛ لأن ذلك كان معتادا لهم ؛ فنزل الملكان لعتابه على ذلك مع كثرة نسائه ، ومزاحمته لأوريا ، وإن كان ذلك مباحا ، وليس بمعصية.

وقولكم : إنه أخطأ بالمبادرة إلى الجواب ، قبل سماع كلام الآخر ليس كذلك ؛ فإنه إنما حكم بذلك بتقدير أن يكون الأمر على ما ذكر.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) فلم يكن عن سابقة ذنب صدر منه ؛ بل إنما كان كذلك على سبيل الانقطاع إلى الله ـ تعالى ـ والخضوع له والتذلل بين يديه ؛ تعظيما له وشكرا.

وقوله ـ تعالى ـ (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) معناه : أنا قبلنا منه ذلك وكتبنا له ثوابه ؛ لأنه لما كان المقصود من الاستغفار : إنما هو الثواب قيل فى جوابه غفرنا : أى فعلنا ما هو المقصود من الاستغفار.

والّذي يدل على صحة جميع ما ذكرناه ، وأن داود ـ عليه‌السلام ـ لم يذنب ، قوله ـ تعالى ـ مرتبا على القصة المذكورة وهى قوله (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) ، (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (١). وقوله ـ تعالى ـ (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٢) ، ولو كان فى القصة المذكورة عاصيا مذنبا ؛ لما كان ترتيب الإكرام والتعظيم له ملائما للقصة ؛ بل كان من قبيل الترتيب على العلة من ضد ما تقتضيه.

والجواب :

أما إنكار صحة ما ذكرناه من [القصة] (٣) ؛ فهو خلاف المشهور بين جماعة المفسرين بمجرد التشهى ، وإتباع الهوى من غير دليل ؛ فلا يقبل.

__________________

(١) سورة ص ٣٨ / ٢٦.

(٢) سورة ص ٣٨ / ٢٥.

(٣) ساقط من (أ).

١٨٩

قولهم : إن المتسورين عليه كانوا من البشر ؛ فهو أيضا من مخرجات الخصوم ، واحتمالاتهم البعيدة ؛ وهو على خلاف اتفاق الرواة المشهورين الثقات العارفين من المفسرين.

وما ذكروه : من الترجيح بين ما ذكرناه من القصة ، وبين ما ذكروه من الاحتمال ؛ فهو فرع كون ما ذكروه منقولا ، وليس كذلك ؛ بل ما ذكروه إنما هو مجرد احتمال ، والمنقول ما ذكرناه ؛ فلا ترجيح لغير المنقول على المنقول.

قولهم : سلمنا أن الداخلين عليه كانوا ملائكة ، ولكن ليس فى ذلك ما يدل على كونه مذنبا.

قلنا : دليله ما أسلفناه بالروايات عن الثقات من كثرة بكائه وتضرّعه ، وتفرّق الوحوش من حوله ، وقوله ـ تعالى ـ (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ).

وقد بينا فيما تقدم أن المغفرة تستدعى سابقة الذنب.

وعلى هذا فما ذكروه من الروايات. إما أن تكون مشتملة على الذنب : أو غير مشتملة عليه.

فإن كان الأول : فهو المطلوب.

وإن كان الثانى : كان الترجيح لما ذكرناه من الرواية ؛ لما فيها من موافقة الظواهر الدالة على كونه مذنبا.

قولهم : إنه رتب على القصة / ما يلائمها بتقدير كونه مذنبا.

قلنا : ما ذكروه إنما كان مرتبا على استغفاره ، وسجوده ، وخضوعه وبكائه ، وندمه على ذنبه لا على نفس الذنب ؛ فيكون ملائما ؛ والله ـ تعالى ـ أعلم وأحكم.

الحجة السادسة عشرة :

قوله ـ تعالى ـ :

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ* إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ* فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ* رُدُّوها عَلَيَ

١٩٠

فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) (١).

ووجه الاحتجاج بالآتية : ما روى المفسرون أن سليمان (٢) ـ عليه‌السلام ـ صلى الأولى ، ثم جلس على كرسيه ، ليعرض عليه خيلا كان قد ورثها من أبيه ، ولم يزل على ذلك حتى غابت الشمس ، وفاتته صلاة العصر وذلك قوله : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِ) : أى بعد زوال الشمس (الصَّافِناتُ الْجِيادُ) الخيل ، وقوله : (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) فمعنى قوله : أحببت : أى أنى قعدت مأخوذا من إحباب البعير : إذا برك ولصق بالأرض ومنه يقال أحب البعير وأحببت الناقة إذا بركت ، وكل من ترك شيئا يجب أن يفعله فلم يفعله يقال قعد عنه ، ومعنى قوله : (حُبَّ الْخَيْرِ) : أى من أجل

__________________

(١) سورة ص ٣٨ / ٣٠ ـ ٣٣ ولمزيد من البحث والدراسة انظر المراجع التالية تفسير الكشاف للزمخشرى ٣ / ٣٧٢ ـ ٣٧٤ ، وتفسير الفخر الرازى ٢٦ / ٢٠٣ ـ ٢٠٧.

وتفسير القرطبى ٨ / ٥٦٣٦ ـ ٥٦٤٢ ، ومختصر تفسير ابن كثير ٣ / ٢٠٢ ، ٢٠٣.

وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٤٨ ـ ١٥٠.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١٤.

(٢) سليمان عليه‌السلام : هو سليمان بن داود بن ايشا بن عويد ... من سبط (يهوذا بن يعقوب) وينتهى نسبه إلى إبراهيم الخليل عليه‌السلام.

وقد ذكر فى القرآن الكريم فى ست عشرة آية فى (البقرة ، والنساء ، والأنعام ، والأنبياء ، والنمل ، وفى سورة (ص).

وقد رزقه الله النبوة والملك وجمع له بينهما ؛ كما جمعها لوالده داود عليهما‌السلام وقد استجاب الله دعاءه وأعطاه ملكا عظيما لم يعط لأحد بعده قال تعالى : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ* فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ* وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ* وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ* هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ* وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) سورة ص.

أما الآيات الكريمة التى أوردها المصنف فى الحجة السادسة عشرة فبالإضافة إلى ما أورده المصنف ، وما أحلت عليه من كتب المفسرين فى الهامش السابق يتضح لنا أن سليمان عليه‌السلام لم يعص كما قال من استشهد بهذه الآيات فقد بدأت بمدح سليمان عليه‌السلام (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ). ولا يحسن عرفا الثناء على شخص ، ثم ذمه باضافة فعل المعصية والقبيح إليه.

وقد تحدث القرآن الكريم عن سليمان عليه‌السلام ووصفه بأكرم الصفات وأعظم السجايا بينما صورته كتب اليهود المحرفة بأقبح الصفات. وبين أيدينا مجموعة كبيرة من المعلومات عن هذا العصر وردت فى الكتاب المقدس وفى كتابات المؤرخين. يذكرون :

أنه لما آل الملك إلى سليمان قتل جميع منافسيه ، ويذكر سفر الملوك أنه قتل أخاه أدونيا وقائد جيشه يؤاب كما قتل شمعى أحد كبار الرجال فى مملكة أبيه داود.

ويصفه غوستاف لوبون بقوله : وقد عاش سليمان حاكما شرقيا حقيقيا بكثرة آلهته وبدائرة حريمه المشتملة على مئات النساء وبثيابه الزاهية وبقصوره وحرسه الأجنبى.

كما ينسب الكتاب المقدس انحرافات دينية لسليمان (انظر الاصحاح الحادى عشر من سفر الملوك الأول) وقد عاش سليمان عليه‌السلام ٥٢ سنة. ثم توفى عليه‌السلام وكان أمر وفاته حديثا غريبا لم تعلم به الإنس ولا الجبن قال تعالى : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ).

[قصص الأنبياء لابن كثير ص ٤٩٤ ـ ٥١٦ والنبوة والأنبياء ص ٢٨٢ ـ ٢٩٦ واليهودية ص ١٤٧ ، ١٤٨ ، ١٧٥ ـ ١٧٩].

١٩١

حب الخير ، ولذلك نصب حب والمراد من «الخير» «الخيل» ، وقرأ ابن مسعود حب الخيل ، والمراد من قوله : (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) : أى «الصلاة» وتقديره : أى قعدت عن الصلاة حبا للخيل ، وقوله (حَتَّى تَوارَتْ) / / بِالْحِجابِ أى الشمس على ما قاله المفسرون ، ولا يخفى أن ترك الصلاة معصية.

فإن قيل : لا نسلم إمكان عود الضمير فى قوله : (تَوارَتْ بِالْحِجابِ) إلى الشمس ؛ إذ هى غير مذكورة ؛ بل هو عائد إلى الخيل على ما قاله أبو مسلم (١) محمد بن بحر.

وإن سلمنا إمكان عوده إلى الشمس غير أن عوده إلى الخيل أولى. إذ هى مصرح بذكرها ، والشمس غير مصرح بذكرها ، وعود الضمير إلى المصرح به أولى ، ولأنها أقرب مذكور إلى الضمير من الشمس ، وعلى هذا لم يصح ما ذكرتموه.

سلمنا عود الضمير إلى الشمس ، ولكن لا يمتنع أن يكون قوله : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) غاية لعرض الخيل ، لا لفوات الصلاة.

وإن سلمنا أنه عائد لفوات الصلاة ، غير أنه قد ذكر أبو على الجبائى ، وغيره أن ذلك كان غاية لفوات عبادة نافلة كان قد تعبد بها سليمان بالعشى ، فنسيها ؛ لاشتغاله بالخيل ؛ فقال ما قال على سبيل الاغتمام بما فاته من الطاعة ، ولا يخفى أن ترك النافلة ليس بمعصية.

والّذي يدل على أنه لم يعص أمران : ـ

الأول : هو أن الله ـ تعالى ـ ابتدأ الآية بمدح سليمان ، والثناء عليه بقوله ـ تعالى ـ (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) : أى راجع بالطاعة إلى الله تعالى ، ولا يحسن عرفا الثناء على شخص ، ثم يعقبه من غير فاصلة بإضافة / فعل المعصية ، والقبيح إليه.

__________________

/ / أول ل ١٠٠ / أ.

(١) أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهانى ، من أهل أصفهان ، كان من الولاة ، معتزلى من كبار الكتاب كان عالما بالتفسير وله كتاب (جامع التأويل فى التفسير ، أربعة عشر مجلدا ؛ جمع سعيد الأنصارى الهندى نصوصا منه وردت فى (مفاتيح الغيب) المعروف بتفسير الفخر الرازى وسماها «ملتقط جامع التأويل لمحكم التنزيل» ط فى مجلد صغير. ومن كتبه (الناسخ والمنسوخ).

ولد سنة ٢٥٤ وولى أصفهان وبلاد فارس للمقتدر العباسى ، واستمر إلى أن دخل ابن بويه أصفهان سنة ٣٢١ ه‍ فعزل ثم توفى سنة ٣٢٢ ه‍. [إرشاد الأريب لياقوت الحموى ٦ / ٤٢٠ الأعلام للزركلى ٦ / ٥٠].

١٩٢

الثانى : أن قوله : (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ). إما أن يحمل المسح على أنه مسح أعرافها ، وأطرافها بيده محبة لها كما ذهب إليه مجاهد ، وإما أن يحمل على أنه عرفها ومسح أعناقها ، وسوقها بالسيف كما قاله قوم آخرون.

فإن كان الأول : دل على أن عرضها لم يكن سببا لمعصية أصلا ، وإلا كان مسحه لها ورأفته بها وأمره بعودها لذلك غير ملائم ؛ لكونها سببا للمعصية.

وإن كان الثانى : فهو ممتنع لوجهين :

الأول : ما قاله أبو مسلم من أنه لم يجر للسيف ذكر حتى يمكن إضافة المسح إليه ولأن العرب لا تسمى الضرب بالسيف مسحا.

الثانى : أنه يمتنع على نبى من أنبياء الله ـ تعالى ـ أن يعاقب الخيل ؛ لأنها شغلته عن الطاعة.

والجواب :

قولهم : لا نسلم إمكان عود الضمير فى قوله ـ تعالى ـ (تَوارَتْ بِالْحِجابِ) إلى الشمس ؛ إذ هى غير مذكورة.

قلنا : وإن لم يكن مصرحا بذكرها ، ففى الكلام ما يدل عليها ، وهو قوله (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِ) : أى بعد زوال الشمس ، والضمير كما يمكن عوده إلى المذكور ؛ فيمكن عوده إلى ما فى الكلام دلالة عليه ، كيف وإن ما ذكرناه مما اتفق عليه جميع الرواة الثقات من أهل التفسير ؛ فلا يكون معارضا بقول واحد لا يؤبه له.

قولهم : عود الضمير إلى الخيل أولى ؛ لما ذكروه من الوجهين.

قلنا : الترجيح بما يعود إلى الدلالات اللفظية ، لا يقع فى مقابلة النقل.

ولهذا فإنه لو كان اللفظ حقيقة فى معنى ، ومجازا فى معنى ، ونقل الناقل عن المتكلم بذلك اللفظ إرادة جهة المجاز ، فإنه يقدم على ما يقتضيه اللفظ من الحقيقة.

وقد بينا أن نقل الرواة المعتبرين من المفسرين مساعدا لما ذكرناه ، دون ما تفرد به أبو مسلم ؛ فكان أولى.

١٩٣

قولهم : سلمنا عود الضمير فى قوله (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) إلى الشمس ، ولكن لا يمتنع أن يكون غاية لعرض الخيل.

قلنا : ولا منافاة بين كونه غاية لعرض الخيل ، وبين كون العرض إلى غروب الشمس سببا لفوات الصلاة على ما ذكرناه. وما ذكره الجبائى.

فقول مبتدع غير موثوق به ؛ فلا يقع فى مقابلة رواته الثقات المعتبرين من المفسرين.

قولهم : إنه ـ تعالى ـ ابتدأ الآية بمدح سليمان ، والثناء عليه.

لا نسلم ذلك : فإنه قد قال ثعلب وهو زعيم أهل الأدب أن قوله (نِعْمَ الْعَبْدُ) يحتمل أن يكون لسليمان ، ويحتمل أن يكون لداود.

وعند ذلك فلا يخلو : إما أن يتعذر / الجمع بين هذا الثناء ، وما نسب إليه من ترك الصلاة ، أو لا يتعذر.

فإن تعذر : وجب صرفه إلى داود ؛ ضرورة صحة ما ذكرناه من النقل.

وإن لم يتعذر : فقد بطل ما ذكروه.

قولهم : إما أن يحمل رده لها ، ومسحه لها بالسوق ، والأعناق : على المسح باليد ، أو العرفية بالسيف.

قلنا : وما المانع من حمله على العرفية.

قولهم : لم يجر للسيف ذكر.

قلنا : أكثر أهل التفسير ، وهم أرباب اللغة ، ذهبوا إلى أن المسح هاهنا بمعنى القطع / / وسواء كان ذلك بالسيف ، أو بغيره ، ولهذا يقول العرب مسحته بالسيف ، إذا قطعته.

قولهم : العرب لا تسمى الضرب بالسيف مسحا.

لا نسلم ذلك : فإن العرب تقول مسح علاوته بالسيف إذا ضربها.

قولهم : يمتنع على النبي أن يعاقب الخيل ؛ لكونها شغلته عن العبادة.

__________________

/ / أول ل ١٠٠ / ب من النسخة ب.

١٩٤

قلنا : ليس ذلك بطريق العقوبة لها ؛ بل ليتصدق بلحمها على الفقراء ، والمساكين ؛ لتكون كفارة عن تفريطه ، ويكون تخصيصه لها بذلك ؛ لكونها سبب شغله عن العبادة ، ولكونها كانت أحب ما له إليه مبالغة فى القربة إلى الله ـ تعالى ـ على ما قال ـ تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (١).

الحجة السابعة عشرة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن يونس (٢) ـ عليه‌السلام ـ :

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٣).

ووجه الاحتجاج به : أنه وصف نفسه بأنه كان من الظالمين ، فلا يخلو : إما أن يكون صادقا فيه ، أو كاذبا.

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ / ٩٢.

(٢) يونس عليه‌السلام : يونس بن متى ويسمى عند أهل الكتاب (يونان بن أمتاى) وهو عليه‌السلام من بنى إسرائيل ويتصل نسبه ببنيامين أحد أولاد يعقوب عليه‌السلام وهو شقيق يوسف عليه‌السلام.

أرسله الله تعالى ـ إلى أهل (نينوى) بالعراق ، وكانوا يعبدون الأصنام ولهم صنم يسمونه (عشتار) فتراك الشام وذهب إليهم فى نينوى يدعوهم إلى عبادة الله وحده ؛ فكذبوه واستمروا على غيهم فلما يئس منهم خرج من بينهم قال تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) الآية فخرج من بينهم قبل أن يأمره الله ـ تعالى بالخروج ـ وهذا الخروج معصية تتنافى مع العصمة ، فهو بخروجه واستعجاله قد فعل ما يستحق عليه اللوم والتأديب الربانى. قال تعالى : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ* فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ* فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ* وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ* وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ* فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ). سورة الصافات ٣٧ / ١٣٩ ـ ١٤٨.

وقد ذكر يونس عليه‌السلام فى القرآن أربع مرات باسمه فى سورة يونس ـ التى سميت باسمه ـ وسورة النساء ، والأنعام ، والصافات.

وذكر بالوصف فى موضعين حيث لقبه الله (بذى النون) : أى الحوت فى سورة الأنبياء فى قوله ـ تعالى ـ : (وَذَا النُّونِ). وبلفظ صاحب الحوت فى سورة القلم فى قوله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ).

وكان عدد من آمن بيونس مائة وعشرون ألفا على رواية ابن عباس رضى الله عنه.

[قصص الأنبياء لابن كثير ص ٢٨٦ ـ ٢٩٦ ، والنبوة والأنبياء ص ٣٠٢ ـ ٣٠٥].

(٣) سورة الأنبياء ٢١ / ٨٧ ولمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما أورده الآمدي هاهنا : انظر تفسير الكشاف للزمخشرى ٢ / ٥٨١ ، ٥٨٢. وتفسير الرازى ٢٢ / ٢١٢ ـ ٢١٧ ، وتفسير القرطبى ٦ / ٤٣٦٩ ـ ٤٣٧٥.

ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٥١٨ ، ٥١٩.

وشرح المواقف للجرجانى ص ١٥٢ ، وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١٥.

١٩٥

فإن كان صادقا : فالظلم ذنب ، ولهذا قال ـ تعالى ـ (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) (١). رتب العقاب على الظلم ؛ فدل على كونه معصية.

وإن كان كاذبا : فالكذب أيضا ذنب ، ومعصية بالإجماع ، وعلى كل تقدير ؛ فيكون مذنبا.

فإن قيل : لا يلزم من صدقه فى ذلك أن يكون مذنبا. وذلك لأنه يحتمل أنه أراد به إنى كنت من الجنس الّذي يقع منهم الظلم وهو جنس البشر. ويكون القصد من ذلك الخضوع لله ـ تعالى ـ ونفى ، التكبر والتجبر عنه باضافة نفسه إلى جنس يتصور منهم الظلم ؛ لكونه بين يدى الله ـ تعالى ـ فى مقام السؤال ، والطلب ، والانكسار كما هو الجارى من عادة السؤال بين أيدى الملوك ، وذلك لا يدل على صدور الذنب منه.

وبتقدير أن يكون قد أضاف الظلم إلى نفسه ؛ فلا يبعد تسميته ظالما لتركه بعض المندوبات ، وتفويت نفسه ثوابه كما سبق تحقيقه فى الحجة الأولى من قصة آدم عليه‌السلام ، وترك المندوب ليس بمعصية كما سبق تحقيقه (٢).

/ والجواب :

أن ما ذكروه من الاحتمال الأول ، وإن كان محتملا ، إلا أنه على خلاف الظاهر ، وما يتبادر إلى الفهم من قول القائل لغيره «إنك من الظالمين» فإنه لا يفهم منه أنه من جنس يقع منهم الظلم ؛ بل الّذي يفهم منه «أنك متصف بصفات الظالمين». ونحن إنما نتمسك فى هذا الباب بالظاهر ؛ إذ المسألة غير قطعية على ما حققناه ، ولا يجوز ترك الظاهر من غير دليل. وما ذكروه من الاحتمال الثانى : فقد سبق جوابه فى الحجة الأولى (٣).

__________________

(١) سورة النحل ١٦ / ٦١.

(٢) انظر ما سبق ل ١٧١ / أوما بعدها.

(٣) انظر ما سبق ل ١٧١ / أوما بعدها.

١٩٦

الحجة الثامنة عشرة :

ما روى الثقات من أهل التفسير كابن (١) عباس ، والحسن (٢) ، وغيرهما أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يصلى يوما بمكة بقوله ـ تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٣). فتمنى فى نفسه شيئا كما يتمنى الناس ؛ فألقى الشيطان على لسانه «فإنهن عند الله من الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترتجى» وإن قريشا لما سمعت بذلك سرت به.

__________________

(١) راجع ترجمته فى هامش ل ١٤٩ / ب.

(٢) الحسن : هو الإمام الحسن بن يسار البصرى أبو سعيد : تابعى كان إمام أهل البصرة ، وحبر الأمة فى زمنه. وهو أحد العلماء الفقهاء الفصحاء الشجعان النساك. ولد بالمدينة المنورة سنة ٢١ ه‍ وشب فى كنف الإمام على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ ثم سكن البصرة وعظمت هيبته فى القلوب ؛ فكان يدخل على الولاة ؛ فيأمرهم وينهاهم.

وكان أبوه من أهل ميسان ، مولى لبعض الأنصار ولما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إليه : إنى قد ابتليت بهذا الأمر فانظر لى أعوانا يعينوننى عليه. فأجابه الحسن : أما أبناء الدنيا فلا تريدهم وأما أبناء الآخرة فلا يريدونك ، فاستعن بالله. توفى ـ رحمه‌الله ـ بالبصرة سنة ١١٠ ه‍. [ميزان الاعتدال للذهبى ١ / ٢٥٤ وحلية الأولياء لأبى نعيم ٢ / ١٣١ والأعلام للزركلى ٢ / ٢٢٦].

(٣) ورد فى تفسير ابن عباس (رضي الله عنه) الّذي جمعه من كتب السنة الدكتور عبد العزيز الحميدى ـ نشر مركز البحث العلمى وإحياء التراث الإسلامى ـ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة ٢ / ٨٤٢ وما بعدها ـ ٢ ـ ما جاء فى قوله تعالى ـ : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) نقلا عن صحيح الإمام البخارى ٨ / ٤٧٨ كتاب التفسير ـ باب (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى).

(اللَّاتَ وَالْعُزَّى) : كان اللات رجلا يلت سويق الحاج. وعن مجاهد قال : كانت اللات رجلا فى الجاهلية على صخرة بالطائف ، وكان له غنم ؛ فكان يأخذ من لبنها ويأخذ من زبيب الطائف والأقط ؛ فيجعل منه حبا ويطعم من يمر من الناس. فلما مات [صنعوا لها تمثالا] وعبدوه. وقالوا : هو اللات ـ وكان يقرأ (اللات) مشددة. وهذا التفسير ظاهر على قراءة تشديد التاء ، وهى قراءة ابن عباس.

أما على قراءة تخفيف التاء. وهى قراءة الجمهور فقال بعض المفسرين إن هذا الاسم مأخوذ من اسم الله ـ تعالى ـ كما أن (العزى) من اسم الله (العزيز).

وقد أرسل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ المغيرة بن شعبه وأبا سفيان بن حرب بعد ما أسلم أهل الطائف ؛ فهدمها المغيرة بن شعبة (سيرة ابن هشام ٤ / ٢٤٤).

أما العزّى : فإنها بيت مبنى على ثلاث شجرات من السمر فى وادى نخلة وكانت قريش تعبدها ويفتخرون بها.

كما جاء فى قول أبى سفيان يوم أحد : لنا العزى ولا عزى لكم (.

وقد أرسل إليها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خالد بن الوليد عام الفتح فهدمها كما أخرج النسائى وابن مردويه عن ابن الطفيل قال : لما فتح رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكان بها العزى فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات فقطع السمرات وهدم البيت الّذي كان عليها. ثم أتى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأخبره ؛ فقال ارجع فإنك لم تصنع شيئا ؛ فرجع خالد ؛ فلما أبصرته السدنة وهم حجبتها أمعنوا فى الجبل وهم يقولون : يا عزى يا عزى ؛ فأتاها خالد ؛ فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها ؛ فعممها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره فقال : تلك العزى [الدر المنثور ٦ / ١٢٦].

أما مناة : فهو صنم فى (قديد) موضع قرب مكة (معجم البلدان ـ مادة قدد).

أخرج الطبرانى وابن مردويه عن ابن عباس رضى الله عنهما : «أن العزى كانت ببطن نخلة وأن اللات كانت بالطائف وأن مناة كانت بقديد» [مجمع الزوائد ٧ / ١١٥].

١٩٧

وقالوا : إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير ، فنزل جبريل عليه‌السلام معاتبا له وقال : «تلوت على الناس ما لم آتك به» فحزن لذلك حزنا شديدا فنزل قوله ـ تعالى ـ مسليا له بقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) (١).

ولا يخفى أن الإخبار عن اللات والعزى بأنهن من الغرانيق العلى أى الملائكة ، وأن شفاعتهن لترتجى كذب ، والكذب عند الخصوم غير جائز على الأنبياء عمدا ، وسهوا.

فإن قيل : التمنى قد يطلق ويراد به التلاوة قال الله ـ تعالى ـ : (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) (٢) : أى لا يعرفونه إلا تلاوة ، وقال حسان بن ثابت :

تمنّى كتاب الله أول ليلة

وآخرها لاقى حمام المقادر (٣).

«أراد تلى كتاب الله أول ليلة» ، وقد يطلق على التفكر بلغة قريش ، فإن كان المراد منه التلاوة ؛ فلا نسلم أن ذلك مما جرى على لسانه ؛ لأنه إما أن يكون عمدا ، أو سهوا.

لا جائز أن يكون عمدا : لأن الثناء على الأصنام ، والإخبار عنها بعلو الرتبة ، وعظم الشأن عند من يكون متألها لها مما يزيده / / بها إغراء ، واعتقادا ؛ وهو من الكبائر. والأنبياء منزهون عن الكبائر بالإجماع منا ومنكم ، وإن اختلفنا فى الصغائر ، ولا جائز أن يكون ساهيا : لقوله ـ تعالى ـ (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (٤) ولأن العادة تحيل أن تقع من الساهى مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة ، وما تقدم من معناها.

__________________

(١) سورة الحج ٢٢ / ٥٢ ـ لمزيد من البحث والدراسة عن هذه الشبهة بالإضافة إلى ما ذكره الآمدي مفصلا موضحا انظر :

تفسير الكشاف للزمخشرى ٣ / ١٨ ، ١٩ ، وتفسير فخر الدين الرازى ٢٤ / ٤٩ ـ ٥٧.

وتفسير القرطبى ٧ / ٤٤٧١ ـ ٤٤٧٩ ، ومختصر تفسير بن كثير ٢ / ٥٥٠ ، ٥٥١.

وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٥٣ ، ١٥٤.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١٦.

(٢) سورة البقرة ٢ / ٧٨.

(٣) قاله حسان بن ثابت رضي الله عنه ـ فى رثاء عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه. وهو حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجى الأنصارى ، أبو الوليد. الصحابى ، شاعر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأحد المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام قال أبو عبيدة : فضل حسان الشعراء بثلاثة : كان شاعر الأنصار فى الجاهلية وشاعر النبي فى النبوة وشاعر اليمانيين فى الإسلام ، توفى سنة ٥٤ ه‍.

[تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلانى ٢ / ٢٤٧ وخزانة الأدب للبغدادى ١ / ١١١ الأعلام للزركلى ٢ / ١٧٦].

/ / أول ١٠١ / أ.

(٤) سورة الأعلى ٨٧ / ٦.

١٩٨

كما أنه يمتنع على أحد ممن ينشد قصيدة أن يجرى على لسانه فى أثنائها بيت مطابق لوزن القصيدة ، ولمعنى ما تقدم منها وهو ساه فيه.

وعند ذلك : فيحتمل أن يكون النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قد قرأ تلك السورة وإن كان فى الصلاة / والمشركون حوله من قريش فلما انتهى إلى قوله ـ تعالى ـ (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (١) وعلم من قرب منه منهم أنه سيورد بعد ذلك ما يسؤهم فى آلهتهم ، فقال كالمعارض له «فإنهن عند الله من الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى» وظن السامعون لذلك ، أنه جرى على لسان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنهم كانوا يلغطون عند قراءته ـ عليه الصلاة والسلام ـ طلبا لتغليطه ، وهو المراد من قوله ـ تعالى ـ (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (٢) أى ألقى فى قلوب الناس التخويف لتلاوته ، وإضافة ما ليس منها إليها.

وإن سلمنا أن ذلك مما جرى على لسانه ، إلا أن المراد من قوله : «تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى : الملائكة. وقد كان ذلك قرآنا ، غير أنه لما توهم المشركون أن المراد به آلهتهم ؛ نسخت تلاوته.

وإن سلمنا أن المراد به اللات والعزى ، وأنه لم يكن قرآنا غير أنه قد قيل أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان إذا قرأ القرآن على قريش توقف فى فصول الآيات وآتى بكلام آخر على سبيل الاحتجاج عليهم ، فلما تلى (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) قال عليه الصلاة والسلام ـ «تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى» مستفهما على سبيل الإنكار عليهم مع حذف الاستفهام ؛ فإنه جائز على ما سبق ، ولا يمتنع أن يكون ذلك فى الصلاة ؛ لأن الكلام ، فى الصلاة كان جائزا ، ونسخ بعد ذلك. هذا كله إن كان المراد من قوله تمنى التلاوة.

وإن كان المراد به الفكرة ، وتمنى القلب ، كان معنى قوله (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) : أنه يوسوس إليه عند تمنيه بالباطل ويحدثه بالمعاصي ، وقوله ـ تعالى ـ (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أى أنه يبطل ذلك ، ويذهبه عن قلبه بما يرشده إليه من مخالفة الشيطان ، وذلك لا يدل على تحقق المعصية من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) سورة النجم ٥٣ / ٢٠.

(٢) سورة الحج ٢٢ / ٥٢.

١٩٩

والجواب : أن المراد بالتمنى هاهنا التلاوة لثلاثة أوجه :

الأول : ما وردت عليه الآية من السبب ، وهو ما سمع من قوله «تلك عند الله من الغرانيق العلى» وذلك إنما وقع فى التلاوة ، لا فى تمنى القلب.

الثانى : قوله ـ تعالى ـ : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) ولفظ النسخ فى الشرع معهود فى نسخ التلاوة ، أو حكمها دون ما عداهما ؛ فكان حمله عليه متعينا.

الثالث : قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) ، قال ابن عباس معناه بإخراج ما ليس منها. والمراد بالآيات : آيات القرآن وهى نفس التلاوة ، لا تمنى القلب.

قولهم : لا نسلم أن ذلك جرى على لسانه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قلنا : هذا خلاف المنقول على لسان الرواة الثقات / ، ونزول جبريل معاتبا للنبى بقوله : «تلوت على الناس ما لم آتك به».

قولهم : إما أن يكون عمدا ، أو سهوا.

قلنا : ما المانع أن يكون سهوا ، وقوله ـ تعالى ـ : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (١). فهو مشروط بعدم المشيئة على ما قال ـ تعالى ـ : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) (٢). فلم قلتم إنه لم يشأ ذلك.

قولهم : إن العادة تحيل النسيان فى مثل ذلك.

قلنا : إن أردتم بذلك أنه محال عادة : كاستحالة انقلاب الجبال ، ذهبا ، والبحار دما فى وقتنا هذا ؛ فغير مسلم.

وإن أردتم به أنه مما يندر السهو فى مثل ذلك ؛ فهو مسلم. ولا جرم قلما وقع ذلك أو يقع.

قولهم : يحتمل أن يكون ذلك من كلام من قرب من المشركين منه ، وقت قراءته.

قلنا : هذا مجرد احتمال ؛ فلا يقع فى مقابلة المنقول الظاهر بأى طريق كان.

__________________

(١) سورة الأعلى ٨٧ / ٦.

(٢) سورة الأعلى ٨٧ / ٧.

٢٠٠