أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0327-1
الصفحات: ٣٩٨

الأول : أن اسم إبليس لم يكن عبد الحارث ؛ بل كان اسمه حارث فلم يكن التشريك فى اسمه واقعا.

الثانى : وإن كان ذلك تشريكا لإبليس فى اسمه ، غير أن إبليس غير مذكور فى الآية ، والرب ـ تعالى ـ مذكور فيها ، ولا يخفى أن عود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى غير المذكور.

قولهم : فى التأويل الثالث : إن الضمير فى قوله (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) عائد إلى الولد لا إلى الله ـ تعالى ـ على ما ذكروه ؛ فهو ممتنع لوجهين : ـ

الأول : أن طلب أمثال الولد الصالح ، لا يكون جعلا لشرك الولد ، فإن طلب الشيء ، غير جعل الشيء.

الثانى : أن المفهوم من قوله ـ تعالى ـ (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) : [أى جعلا الشركاء لمن آتاهما] (١) الولد الصالح فى إتيان الولد لهما ، وليس / من آتاهما الولد هو الولد ، فيمتنع عود الشرك إليه.

الحجة الثالثة :

قوله ـ تعالى ـ (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ ٤٥ قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) (٢).

ووجه الاحتجاج بالآية : أن الله ـ تعالى ـ كذّب نوحا (٣) فى قوله : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) بقوله ـ تعالى ـ (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) فدل على كونه كاذبا والكذب عند الخصوم غير جائز على الأنبياء مطلقا ، لا بطريق العمد ولا السهو ولا التأويل.

__________________

(١) ساقط من «أ».

(٢) سورة هود ١١ / ٤٥ ، ٤٦ ولمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما أورده الآمدي هاهنا انظر تفسير الكشاف للزمخشرى ٢ / ٢٧٢ ، ٢٧٣.

وتفسير الفخر الرازى ١٨ / ٣ ـ ٦ ، وتفسير القرطبى ٥ / ٣٢٧٣ ـ ٣٢٧٦.

ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٢٢١ ، وصفوة التفاسير ٢ / ١٦ ، ١٧.

وتفسير المنار ١١ / ٦٩ ـ ٧٢ ، وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١٢.

(٣) نوح عليه‌السلام : هو نوح بن لامك بن متشولخ بن إدريس ؛ فإدريس ـ عليه‌السلام ـ جده الأكبر ، وينتهى نسبه إلى شيث ـ عليه‌السلام ـ ابن آدم ـ عليه‌السلام ـ ، وبينه وبين آدم ـ عليه‌السلام ـ أكثر من ألف عام روى البخارى عن ابن عباس أنه قال : «كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام».

وقد ورد ذكر (نوح) ـ عليه‌السلام ـ فى ثلاثة وأربعين موضعا من القرآن الكريم وذكرت قصته مفصلة فى القرآن فى كثير من السور منها : الأعراف ، وهود ، والمؤمنون ، والشعراء ، والقمر كما ذكر له سورة باسمه (سورة نوح) وكلها تشير إلى بعثته ورسالته وطريق دعوته ، وإلى ما لاقاه من قومه من جحود ، وعصيان وإلى صبره الطويل على الإيذاء. ـ

١٦١

فإن قيل : إن البارى ـ تعالى ـ لم يكذبه فى دعواه أنه من أهله ، ومن نسبه ، وإنما نفى أن يكون من أهله الذين وعده الله ـ تعالى ـ بنجاتهم [على ما قاله ابن عباس] (١) لأنه ـ تعالى كان قد وعد نوحا بنجاة أهله مستثنى منهم من أراد الله تعالى ـ هلاكه بالغرق فى قوله ـ تعالى ـ (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ) (٢) ويحتمل أن يكون المراد به على ما قاله بعض أهل التفسير (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) بمعنى «إن كفره أخرجه عن أن يكون حكمه كأحكام أهلك» ولهذا قال ـ تعالى ـ على طريق التعليل (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ).

وإن سلمنا أنه لم يكن ابنه ولا من أهله على الحقيقة ؛ لكن قال بعض المفسرين أنه ولد على فراشه ، وقول نوح : (ابْنِي مِنْ أَهْلِي) (٣) إنما كان بناء على الظاهر ، وما يقتضيه الحكم الشرعى. وقوله ـ تعالى ـ (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ليس تكذيبا له فيما أخبر عنه فى ظاهر الشرع ؛ بل إخبارا له بالغيب الّذي لا يعلمه من خيانة امرأته له.

والجواب :

قولهم : لم يكذبه فى إخباره أن ابنه من أهله ، وإنما أخبره أنه ليس من أهله الذين وعده الله ـ تعالى ـ بنجاتهم.

قلنا :

قوله ـ تعالى ـ (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) إما أن يكون المفهوم منه مقابلا ومناقضا ، لما أخبر به نوح ، أو لا يكون كذلك.

__________________

وهو أول رسل الله إلى أهل الأرض ، ومن أولى العزم من الرسل عليهم‌السلام ، وهم خمسة (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام).

وقد عاش نوح عليه‌السلام طويلا ، وعمر كثيرا ، وكان أطول الأنبياء عمرا ، وأكثرهم جهادا ؛ فدعا قومه ليلا ونهارا وسرا وجهارا مدة (٩٥٠ سنة) ألف سنة إلا خمسين عاما وهو الأب الثانى للبشرية بعد آدم عليه‌السلام قال تعالى (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) سورة هود ١١ / ٤٨. فكل الخلائق ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة :

فسام هو أبو العرب ، وحام أبو الحبش ، ويافث أبو الروم يؤيده ما رواه أحمد عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «سام أبو العرب ، وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم».

أما بقية البشر ؛ فقد هلك الكافرون بالطوفان ، وأعقم الله من نجا فى السفينة مع نوح وقد توفى نوح عليه‌السلام وعمره ١٣٥٠ سنة كما رواه بعض المؤرخين الذين تأثروا بما ورد فى التوراة. وهى أطول حياة عاشها إنسان وقد دفن بقرب المسجد الحرام بمكة على الراجح من الأقوال رحمه‌الله رحمة واسعة [قصص الأنبياء لابن كثير ص ٦٤ ـ ٩٧ والنبوة والأنبياء للصابونى ص ١٣٣ ـ ١٤٤].

(١) ساقط من «أ».

(٢) سورة هود ١١ / ٤٠.

(٣) سورة هود ١١ / ٤٥.

١٦٢

فإن كان مناقضا له : فهو تكذيب له.

وإن لم يكن مناقضا له : فسؤاله نجاته ذنب وسيئة ودليله أمران :

الأول : أنه نقل أهل التفسير أن الله ـ تعالى ـ عاتب نوحا فى ابنه بقوله ـ تعالى ـ (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (١) فبكى نوح بعد عتابه على ذلك ثلاثمائة عام حتى صار تحت عينيه مثل الجدول من البكاء وقال (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ) ـ بعد النهى ـ (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) (٢).

وذلك يدل على سابقة الذنب ، والإساءة بسؤاله.

والثانى : أنه قال (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٣) وذلك أيضا يدل على سابقة الجريمة فى سؤاله ، وعلى هذا : فقد خرج الجواب عما ذكروه من التأويل الثانى ، والثالث.

__________________

(١) «سورة هود» ١١ / ٤٦.

(٢) «سورة هود» ١١ / ٤٧.

(٣) سورة هود ١١ / ٤٧.

١٦٣

الحجة الرابعة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم (١) ـ عليه الصلاة والسلام ـ :

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ...) إلى قوله (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) (٢).

ووجه الاحتجاج به : أنه لا يخلو : أنه قال ذلك معتقدا ، أو غير / / معتقد.

فإن كان الأول : فقد اعتقد إلها غير الله ـ تعالى ـ / وهو غير جائز عند الخصوم لا قبل النبوة ولا بعدها.

وإن كان الثانى : فقد كذب فى قوله (هذا رَبِّي) والكذب أيضا غير جائز عندهم على الأنبياء مطلقا.

فإن قيل : لا نسلم أنه بقوله : هذا ربى مخبرا ؛ ليكون كاذبا. وبيانه من وجهين :

الأول : أنه إنما ذكر ذلك على طريق الاستفهام. وإسقاط حرف الاستفهام جائز للاستغناء عنه.

__________________

(١) ابراهيم عليه‌السلام : هو ابراهيم بن تارح ، بن ناحور ، بن ساروغ وينتهى نسبه الى (سام بن نوح) وبينه وبين نوح عليه‌السلام أكثر من ألف عام وقد ورد فى القرآن الكريم أن اسم أبيه آزر ؛ وهذا هو الصحيح وقد ورد فى الحديث أيضا روى البخارى عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن والد ابراهيم هو (آزر) قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

«يلقى ابراهيم أباه (آزر) يوم القيامة ، وعلى وجه آزر قترة وغبرة (أى سواد وغبار) ... الخ الحديث فهذا الحديث نص على أن اسم أبيه آزر ؛ وهو الحق. قال تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) سورة الأنعام ٦ / ٧٤.

وابراهيم عليه‌السلام هو أبو الأنبياء وهو عليه‌السلام من أولى العزم من الرسل ، وقد خص الله تبارك وتعالى ابراهيم عليه‌السلام بخصائص ومزايا فريدة ؛ فجعله أبا لمن أتى بعده من الأنبياء ، وإماما للأتقياء ، وقدوة للمرسلين وهو خليل رب العالمين. ابتلى بأنواع من الابتلاء ، وامتحن بضروب من الامتحان ؛ فصبر وكان فى أيمانه مثل الجبال الرواسخ ولم يتزعزع ولم يضطرب ابتلى ؛ فصبر. وانتصر فشكر ؛ فكان عبدا طائعا ؛ ولذلك اختاره الله خليلا (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً).

وقد عاش سيدنا ابراهيم ـ عليه‌السلام ـ مائة وخمسا وسبعين سنة على أصح الروايات ودفن فى مغارة (المكفلية) وهى فى البلدة التى سميت باسمه الخليل بفلسطين. مدينة الخليل الآن. رحمه‌الله رحمة واسعة.

[قصص الأنبياء لابن كثير ص ١٣٠ ـ ١٩١ والنبوة والأنبياء للصابونى ص ١٤٥ ـ ١٦٤].

(٢) سورة الأنعام ٦ / ٧٦ ـ ٧٨. ولمزيد من البحث والدراسة انظر : تفسير الكشاف للزمخشرى ٢ / ٣٠ ـ ٣١ ، وتفسير الرازى ١٣ / ٤٩ ـ ٦١ ، وتفسير القرطبى ٤ / ٢٤٦١ ـ ٢٤٦٤ ، ومختصر تفسير ابن كثير ١ / ٥٩٢ ـ ٥٩٣ ، ودقائق التفسير الجامع لتفسير ابن تيمية ت د. محمد السيد الجليند ط مؤسسة القرآن دمشق ـ بيروت. ٣ / ١١٢ ـ ١١٦ ، وتفسير المنار ٧ / ٤٦٣ ـ ٤٧٧ ، وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٤٢ ، وشرح المقاصد للتفتازاني ٣ / ٣١٢.

/ / أول ل ٩٦ / أ.

١٦٤

قال الأخطل (١) :

كذبتك عينك أم رأيت بواسط

غلس الظلام من الرباب خبالا

وقال ابن أبى ربيعة (٢) :

ثم قالوا تحبها قلت بهرا

عدد النجم والحصى والتراب

وقال غيره

فو الله ما أدرى وإنى لحاسب

بسبع رمين الجمر أم بثمان

وقد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال فى قوله ـ تعالى ـ (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) (٣) هو «أفلا اقتحم العقبة».

الثانى : أنه ذكر ذلك على طريق الفرض ، والتقدير فى حالة نظره ، وفكره ؛ لينظر ما يؤدى إليه ذلك الفرض من صحة ، أو فساد ؛ فلا يكون بذلك مخبرا.

سلمنا أنه مخبر بقوله (هذا رَبِّي) لكنه لا يكون كاذبا فيه لوجهين :

الأول : أنه إنما أخبر بذلك على مذهب قومه ، واعتقادهم ، وتقديره هذا ربى على مذهبكم ، واعتقادكم.

__________________

(١) الأخطل : غياث بن الغوث بن الصلت بن طارقة ، من بنى تغلب ، أبو مالك شاعر فى شعره إبداع اشتهر فى عهد بنى أمية بالشام ، وأكثر من مدح ملوكهم. نشأ على المسيحية فى أطراف الحيرة بالعراق.

ولد سنة ١٩ ه‍ وتوفى سنة ٩٠ ه‍ وكانت إقامته طورا فى دمشق مقر الخلفاء وحينا فى الجزيرة حيث يقيم قومه بنو تغلب.

كانت بينه وبين جرير والفرزدق منافسة وهجا كل منهم الآخرين فتناقل الرواة أشعارهم. والبيت المذكور ورد فى ديوانه ١ / ١٠٥.

[الأغانى للأصفهانى طبعة دار الكتب ٨ / ٢٨٠ والأعلام للزركلى ٥ / ١٢٢].

(٢) عمر بن أبى ربيعة : عمر بن عبد الله بن أبى ربيعة المخزومى القرشى أبو الخطاب : أرق شعراء عصره ، من طبقة جرير والفرزدق ، ولم يكن فى قريش أشعر منه. ولد فى الليلة التى توفى بها عمر بن الخطاب فسمى باسمه.

وكان يفد على عبد الملك بن مروان ؛ فيكرمه ويقربه. ورفع إلى عمر بن عبد العزيز أنه يتعرض للنساء فى الحج ؛ ويشبب بهن فنفاه إلى (دهلك) ثم غزا فى البحر ؛ فاحترقت سفينته فمات فيها غرقا. له ديوان شعر مطبوع.

والبيت المذكور فى الديوان ص ٤٣١.

كتب عنه الكاتب الكبير عباس محمود العقاد [عمر بن أبى ربيعة شاعر الغزل]

ولد سنة ٢٣ ه‍ وتوفى سنة ٩٣ ه‍ [وفيات الأعيان لابن خلكان ١ / ٣٥٣ والأعلام للزركلى ٥ / ٥٢].

(٣) سورة البلد ٩٠ / ١١.

١٦٥

الثانى : أنه أخبر بذلك على ظن [فى حالة فكره ونظره ، ومن أخبر عن شيء فى حالة فكره ونظره] (١) ثم رجع عنه بالأدلة إلى الحق لا يوصف بكونه كاذبا ، ولا يعد ما أخبر به قبيحا.

والجواب :

قولهم : إنه ذكر ذلك بطريق الاستفهام :

قلنا : الأصل أن ما ورد على صورة الخبر أنه يكون خبرا ، فإن حمله على هذا الاستفهام يستدعى اضمارا فى الكلام لحرف الاستفهام. ولا يخفى أن الإضمار فى الكلام على خلاف الأصل ، وإنما يصار إليه لدليل ولا دليل.

ولا يمكن حمله على الاستفهام ؛ لنفى الكذب عنه ؛ لإفضائه إلى الدور من حيث أن يتوقف حمله على الاستفهام على إحالة الكذب عليه ، وإحالة الكذب عليه ، متوقفة على حمله على الاستفهام ؛ وهو محال.

وعلى هذا : فقد خرج الجواب عما ذكروه من التأويل الثانى.

قولهم : إنه أخبر بذلك على مذهب قومه ؛ فهو بزيادة إضمار فيما أخبر به ، والأصل عدمه ، إلا أن يدل الدليل عليه ، ولا دليل على ما سبق فى التأويل الأول.

قولهم : إنه أخبر بناء على ظنه.

قلنا : إذا كان ظانا أن الكواكب ربه ؛ فقد اعتقد فى حالة ظنه إلها غير الله ـ تعالى ـ وهو شرك لا محالة ، وإن لم يعد فى العرف كاذبا فى إخباره.

الحجة الخامسة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم لما قال له قومه وقد كسر الأصنام بقوله ـ تعالى ـ (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ ٦٢ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) (٢).

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ / ٥٨ ـ ٦٣. ولمزيد من البحث والدراسة انظر من كتب التفسير والعقيدة.

تفسير الكشاف للزمخشرى ٢ / ٥٧٦ ـ ٥٧٨ ، وتفسير الفخر الرازى ٢٢ / ١٨٢ ـ ١٨٦. وتفسير القرطبى ٦ / ٤٣٣٧ ـ ٤٣٤٢ ، ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٥١٢ ، ٥١٣. وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٤٣. وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١٢.

١٦٦

وعنى به أكبر أصنامهم ، وأضاف التكسير إليه ؛ فكان كاذبا فيه ، وذلك إمّا أن يكون قبل النبوة ، أو فى حالة النبوة. وعلى / كلا التقديرين فهو خلاف مذهب الخصم.

فإن قيل : لا نسلم أنه أضاف التكسير إلى الصنم ؛ بل المراد من قوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) نفسه ، لأن الإنسان أكبر من الأصنام.

وإن سلمنا أنه أضاف التكسير إلى الصنم ، لكن لا نسلم أنه أضاف إليه مطلقا ؛ بل معلقا بشرط وهو قوله (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ومعلوم أنهم لا ينطقون. ولا يخفى أنه يلزم من انتفاء الشرط ، انتفاء المشروط.

وإن سلمنا أنه أضاف التكسير إلى الصنم غير مشروط بالنطق فمعناه : أنه الحامل لإبراهيم على تكسير الأصنام لموضع غيظه منه ؛ بسبب ما رأى من تعظيم قومه له. والفعل كما يضاف إلى المباشر يضاف إلى الحامل عليه.

والجواب :

قولهم : لا نسلم أنه أضاف التكسير إلى الصنم.

قلنا : دليله قوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) الّذي على عنقه الفأس ؛ لأنه كان قد وضع الفاس الّذي كسّر به الأصنام ، على عنق الصنم وفهم القوم ذلك من إشارته. والأصل حمل اللفظ على ما هو صريح فيه ، ولا يجوز ترك ظاهر اللفظ من غير دليل.

قولهم : إنه أضاف التكسير إلى الصنم ، مشروطا بنطق الأصنام.

لا نسلم ذلك ؛ بل المشروط بنطقهم : إنما هو السؤال ، وهو قوله : (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) (١).

قولهم : إنه أضاف التكسير إليه ؛ لأنه الحامل له على التكسير لموضع غيظه منه.

ليس كذلك ؛ لأن غيظه منه يجب أن يكون حاملا له على كسره لا على كسر غيره.

كيف وأن هذه التأويلات على / / خلاف ما روى الحسن عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال :

__________________

(١) سورة الأنبياء ٢١ / ٦٣.

/ / أول ل ٩٦ / ب.

١٦٧

«لم يكذب إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ غير ثلاث مرات وكلهن جادل بهنّ عن دينه وهى قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) (١) وقوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) وقوله لسارة : هذه أختى لجبار رام أخذها (٢).

الحجة السادسة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ :

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ٨٨ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) (٣).

ووجه الاحتجاج به : ما روى أهل التفسير أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كان من أهل بيت ينظرون فى النجوم. وكان إذا أراد أحدهم أمرا ، نظر إلى السماء فيقول : إنى أرى أنه يصيبنى كذا ، وكذا وكان ذلك معروفا من أهل بيته ، وأنه كان لقومه عيد يخرجون إليه ، ولا يخلفون بعدهم إلا مريضا ، فلما همّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بكسر أصنام قومه ، نظر إلى السماء ليلة ذلك العيد ، وقال لأصحابه : إنى أرانى أشتكي غدا ، وذلك قوله ـ تعالى ـ (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ٨٨ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) : أى مريض وأنه أصبح من الغد معصوب الرأس ، لتتميم ما فى نفسه من كسر الأصنام ، وكان كاذبا فيه ، ويدل عليه قوله ـ عليه‌السلام ـ لم يكذب إبراهيم أكثر من ثلاث مرات على ما بيناه ، وبه درء / كل تأويل يقال هاهنا ، وذلك إما أن يكون فى حالة النبوة ، أو قبلها ؛ وعلى كلا التقديرين ؛ فهو حجة على الخصوم.

__________________

(١) سورة الصافات ٣٧ / ٨٩.

(٢) أخرجه البخارى فى صحيحه (كتاب الأنبياء ـ باب : واتخذ الله إبراهيم خليلا ٦ / ٤٤٧ ح رقم (٣٣٥٧) عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «لم يكذب إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ إلا ثلاث كذبات والحديث رقم (٣٣٥٨) عن أبى هريرة رضي الله عنه قال : ولم يكذب إبراهيم عليه‌السلام ـ إلا ثلاث كذبات اثنتين منهن فى ذات الله عزوجل : قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) وقال : بينما هو ذات يوم وسارّة إذ أتى على جبار من الجبابرة ، فقيل له : إن هاهنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فسأله عنها فقال :

من هذه؟ قال : أختى ـ فأتى سارة قال : يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيرى وغيرك. وإن هذا سألنى عنك ؛ فأخبرته أنك أختى ؛ فلا تكذّبينى. فأرسل إليها.

فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ : فقال : ادعى الله لى ولا أضرك ؛ فدعت الله ؛ فأطلق ثم تناولها الثانية ؛ فأخذ مثلها ، أو أشد. فقال : ادعى الله لى ولا أضرك ؛ فدعت فأطلق. فدعا بعض حجبه فقال : إنكم لم تأتونى بإنسان ، إنما أتيتمونى بشيطان ، فأخدمها هاجر. فأتته وهو قائم يصلى ، فأومأ بيده : مهيم؟ قالت : رد الله كيد الكافر ـ أو الفاجر ـ فى نحره ، وأخدم هاجر. قال أبو هريرة : تلك أمكم يا بنى ماء السماء».

(٣) سورة الصافات ٣٧ / ٨٨ ، ٨٩. ولمزيد من البحث والدراسة انظر تفسير الكشاف للزمخشرى ٣ / ٣٤٤ ، وتفسير الفخر الرازى ٢٦ / ١٤٥ ـ ١٤٨. وتفسير القرطبى ٨ / ٥٥٣٦ ـ ٥٥٤٠ ، ومختصر تفسير ابن كثير ٣ / ١٨٤ ، ١٨٥.

وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٤٣ ـ ١٤٤. وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١٢.

١٦٨

الحجة السابعة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ :

(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (١).

ووجه الاحتجاج به : أنه لا يخلو : إما أن يكون مطمئنا بأن الله ـ تعالى ـ يقدر على إحياء الموتى ، أو لا يكون مطمئنا بذلك.

لا جائز أن يكون مطمئنا وإلا لما حسن قوله (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ؛ فإن طلب تحصيل الحاصل محال.

وإن لم يكن مطمئنا بذلك : فهو شاك متردد فى قدرة الله ـ تعالى ـ على إحياء الموتى ، والشك فى ذلك عند الخصوم غير جائز على الأنبياء مطلقا قبل النبوة ، وفى حالة النبوة.

كيف وأن ذلك إنما كان فى حالة نبوته على ما نقله الرواة.

فإن قيل : إن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لم يكن شاكا فى قدرة الله ـ تعالى ـ على إحياء الموتى ، ولا فى الآية دلالة على ذلك ؛ بل سؤاله يحتمل وجوها :

الأول : أنه سأل تكثير الدلائل ؛ ليكون أبعد عن اعتراض الشبه ، وأنقى للخواطر والوساوس.

الثانى : أنه روى جعفر (٢) الصادق أن الله ـ تعالى ـ أوحى إلى إبراهيم أننى أتخذ إنسانا خليلا ، وعلامته أنى أحيى الموتى بسبب دعائه ؛ فوقع فى نفسه أنه ذلك الخليل ؛ فسأل الله ـ تعالى ـ ذلك ؛ ليطمئن قلبه أنه الخليل.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٢٦٠ ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما يلى

تفسير الكشاف للزمخشرى ١ / ٣٩١ ، ٣٩٢ ، وتفسير الرازى ٨ / ٤٠ ـ ٤٦.

وتفسير القرطبى ٢ / ١١٠٥ ـ ١١١٠ ، ومختصر تفسير ابن كثير ١ / ٢٣٦.

وقصص الأنبياء لابن كثير ص ١٤٤ ـ ١٤٧.

وقارن بما ورد فى شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ١٤٢ ، ١٤٣.

(٢) راجع عنه ما سبق فى هامش ل ١٤٨ / ب.

١٦٩

الثالث : أنه لما قال النمرود (١) بن كنعان لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أنت تزعم أن ربك يحيى الموتى ، وأنه قد أرسلك إلى تدعونى إلى عبادته ؛ فاسأله أن يحيى لنا ميتا إن كان قادرا على ذلك. وإن لم يفعل قتلتك.

فيحتمل أن يكون قد سأل الله إحياء الموتى ؛ ليطمئن قلبه ويأمن من القتل. لا ليطمئن قلبه بقدرة الله ـ تعالى ـ على إحياء الموتى ، ولا أنه كان شاكا فى ذلك.

الرابع : أنه يحتمل أن يكون قد سأل ذلك لأجل قومه ؛ لدفع الشك والشبه عنهم ، ويكون معنى قوله : «ليطمئن قلبى من جهة قومى».

والجواب :

قولهم : إنما سأل تكثير الدلائل ؛ لقصد دفع الشبه.

قلنا : إما أن يكون عالما متيقنا بقدرة الرب على إحياء الموتى ، أو لا يكون متيقنا لذلك.

فإن كان الأول : فعروض الشبه ، والتشكيكات ممتنع. وإن كان الثانى : فهو المطلوب.

وما ذكروه عن جعفر الصادق ؛ فلا نسلم صحة نقله.

وما ذكروه من التأويل الثالث : فهو بعيد ؛ لأنه لو كان المقصود ما ذكروه ، لقال إبراهيم كيف تحيى الموتى ، ولم يقل أرنى إذ لا يلزم من رؤيته لذلك رؤيتهم. ولا يكون محذور القتل عنه مندفعا.

وما ذكروه من التأويل الرابع : فبعيد أيضا ، وإلا لقال إبراهيم [أرهم] (٢) ولم يقل أرنى.

__________________

(١) النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح. وقد ذكر ابن كثير قصته مع سيدنا إبراهيم عليه‌السلام. قال مجاهد وغيره : وكان أحد ملوك الدنيا. وبقى النمرود فى ملكه أربعمائة سنة. ومناظرته مع سيدنا إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ذكرت فى القرآن الكريم بالتفصيل. وقد ذكر السدى أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم وبين النمرود يوم خرج من النار ، ولم يكن اجتمع به يومئذ ؛ فكانت بينهما هذه المناظرة.

[قصص الأنبياء لابن كثير ص ١٤٤ ـ ١٤٧].

(٢) ساقط من «أ».

١٧٠

كيف وأن ما ذكروه من هذه التأويلات فعلى خلاف ما روى أهل التفسير. فإنهم رووا. أن سبب سؤال إبراهيم / لذلك أنه مرّ بحوت ميت ، نصفه فى البحر ، ونصفه فى البر. ودواب البر والبحر تأكل منه ؛ فأخبر الشيطان باله استبعاد رجوع ذلك حيا مؤلفا مع تفرق أجزائه ، وانقسام أعضائه فى بطون حيوانات البر والبحر ؛ فسأل الله ـ تعالى ـ ما تضمنته الآية الكريمة.

الحجة الثامنة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ :

(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (١).

أثبت أن له خطيئة : وصرح بها ، وهو إما أن يكون قد اقترفها فى حال النبوة ، أو قبلها ، وعلى كلا التقديرين ؛ فهو / / حجة على الخصوم.

الحجة التاسعة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) (٢).

ووجه الاحتجاج به : أنه لا يخلو : إما أن تكون عبادة الأصنام عليه جائزة عقلا ، أو غير جائزة.

فإن كان ذلك غير جائز : فلا معنى لطلب دفع ما هو ممتنع الوقوع عقلا.

وإن كان جائزا : فهو خلاف مذهبهم فى امتناع وقوع الكفر من الأنبياء عقلا. وسواء كان فى حال النبوة أو قبلها.

__________________

(١) سورة الشعراء ٢٦ / ٨٢. ولمزيد من البحث والدراسة راجع من كتب التفسير ما يلى : تفسير الكشاف للزمخشرى ٣ / ١١٨.

وتفسير الرازى ٢٤ / ١٤٣ ـ ١٤٦ ، وتفسير الطبرى ٧ / ٤٨٢٦ ـ ٤٨٢٨.

ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٦٥٠.

/ / أول ل ٩٧ / أ.

(٢) سورة إبراهيم ١٤ / ٣٥. ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما يلى : تفسير الكشاف للزمخشرى ٢ / ٣٧٩ ، وتفسير الرازى ٢٠ / ١٣٣ ـ ١٣٧. وتفسير القرطبى ٥ / ٣٥٩٧ ، ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٣٠١.

١٧١

الحجة العاشرة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) (١).

ووجه الاحتجاج من هذه الآية : كوجه الاحتجاج من التى قبلها.

الحجة الحادية عشر :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن يوسف (٢) ـ عليه‌السلام ـ وامرأة العزيز :

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) (٣).

ووجه الاحتجاج بهذه الآية : أنه وصفه بالهم بها ، والهم بالشيء فى اللغة : هو العزم عليه. ومنه قوله ـ تعالى ـ (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) (٤).

__________________

(١) سورة إبراهيم ١٤ / ٤٠. ولمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما ورد هاهنا.

انظر : تفسير الكشاف للزمخشرى ٢ / ٣٨١ ، ٣٨٢ ، وتفسير الرازى ٢٠ / ١٣٨ ـ ١٤٣.

وتفسير القرطبى ٥ / ٣٦٠٤. ، ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٣٠٢.

(٢) يوسف عليه‌السلام : هو (يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم) عليهم‌السلام وهو من الرسل الكرام الذين يجب الإيمان بهم تفصيلا فهو رسول ابن رسول وجده رسول وجد أبيه رسول وصفه الحق تبارك ـ وتعالى ـ بقوله :

(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) سورة يوسف ١٢ / ٢٤. كما أثنى عليه سيدنا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله :

(إنّ الكريم بن الكريم بن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) رواه البخارى.

وقد ورد ذكره فى القرآن الكريم فى ٢٦ آية ، منها ٢٤ فى سورة يوسف ، وآية فى الأنعام وآية فى سورة (غافر). وقد وصفه الله ـ تعالى ـ بالصديقية ولهذا يسمى (يوسف الصديق) وقصته مع اخوته وما حدث له بعدها فى مصر حتى وصوله إلى حكم مصر مشهورة تحدث عنها القرآن الكريم بالتفصيل فى سورة سميت باسمه عليه‌السلام وقد تحدث المفسرون وعلماء التوحيد عن يوسف عليه‌السلام وما جرى له وما أثير حوله من الإسرائيليات وردوا على هذا الشبه بالتفصيل.

قال المؤرخون : ولما اجتمع يوسف بأبيه بعد الفراق كان عمر يعقوب ١٣٠ سنة ، ثم توفى يعقوب بعد أن مكث فى مصر سبعة عشر عاما ودفن فى مقبرة جده إبراهيم عليه‌السلام وقد عاش سيدنا يوسف ١١٠ من السنين (مائة وعشرا) ومات فى مصر وهو فى الحكم ودفن بها. وقد طلب من ربه جل وعلا حين دنا أجله (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) سورة يوسف ١٢ / ١٠١ وقد استجاب الله دعاءه وسجله فى كتابه الكريم. رحمه‌الله رحمة واسعة.

[قصص الأنبياء لابن كثير ص ٢٢٨ ـ ٢٦٧ ، والنبوة والأنبياء للصابونى ص ٢٤٩ ـ ٢٥٩].

(٣) سورة يوسف ١٢ / ٢٤ ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما يلى : تفسير الكشاف للزمخشرى ٢ / ٣١١ ، ٣١٢ وتفسير الرازى ١٨ / ١١٧ ـ ١٢٣. وتفسير القرطبى ٥ / ٣٣٩١ ـ ٣٣٩٩ ، ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٢٤٦.

ودقائق التفسير لابن تيمية ٣ / ٢٧٢ ، ٢٧٣. وتفسير المنار للشيخ محمد عبده ١٢ / ٢٢٧ ـ ٢٣٦ مسألة المراودة والهم والمطاردة. وقصص الأنبياء لابن كثير ص ٢٣٨ ـ ٢٤٠.

(٤) سورة المائدة ٥ / ١١.

١٧٢

قال أهل التفسير : أراد بذلك أنهم عزموا عليه وأرادوه.

ومنه قول الشاعر :

هممت ولم أفعل وكدت وليتنى

تركت على عثمان تبكى حلائله (١)

والمراد به : عزمت.

وقال حاتم الطائى (٢) :

ولله صعلوك تساور همه

ويمضى على الأيام والدهر مقبلا

وأراد به تساور عزمه.

ولأن المتبادر إلى الفهم من قول القائل «هم فلان بكذا» أنه عزم عليه.

وعلى هذا : فيكون معنى قوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَ) (٣) العزم على الفاحشة ، والعزم على الفاحشة حرام ومعصية ، وذلك إما أن يكون قد وقع فيه قبل النبوة ، أو فى حالة النبوة. وعلى كل حال ؛ فهو خلاف مذهب الخصوم.

فإن قيل : وإن سلمنا أن الهم قد يطلق بمعنى العزم ، غير أنه قد يطلق أيضا على حضور الشيء بالبال ، من غير عزم عليه ، ويدل عليه قوله ـ تعالى ـ (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) (٤) ولم يرد به العزم على الفشل ؛ لأنه معصية وقد قال ـ تعالى ـ (وَاللهُ وَلِيُّهُما) والله ـ تعالى ـ لا يكون ولىّ العاصى. ومن عزم على الفرار / من نصرة نبيه ـ عليه‌السلام ـ ويدل على ذلك أيضا قول كعب بن زهير :

__________________

(١) القائل هو عمير بن ضابئ البرجمى التميمى ، شاعر من سكان الكوفة ، كان أبوه قد مات فى سجن عثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ؛ لقتله صبيا بدابته ، ولهجائه قوما من الأنصار ـ وكان عميرا هذا ممن دخل على عثمان ـ رضى الله عنه ـ يوم مقتله ، ووطئه برجله. وعلم الحجاج الثقفى بعد ذلك بما حدث منه ـ وهو فى الكوفة ـ فأمر به فضربت رقبته سنة ٧٥ ه‍ وانهب ماله [تاريخ الطبرى ٦ / ٢٠٧ والكامل لابن الأثير ٣ / ١٤٦ والأعلام للزركلى ٥ / ٨٩].

(٢) انظر عنه ما سبق فى هامش ل ١٦٤ / أ.

(٣) سورة يوسف ١٢ / ٢٤.

(٤) سورة آل عمران ٣ / ١٢٢.

١٧٣

فكم فيهم من سيّد متوسّع

ومن فاعل الخيرات إن همّ أو عزم (١)

فرّق بين الهم والعزم ؛ وهو دليل الافتراق فى المعنى.

وقد يطلق الهمّ بمعنى المقاربة ، ومنه يقال همّ فلان بكذا وكذا : أى قارب أن يفعله ، فقد قال ذو الرمة :

أقول لمسعود بجرعاء مالك

وقد همّ دمعى أن تلجّ أوائله (٢)

وصف الدّمع بالهم ، وأراد به أنه قارب أن يخرج ، لاستحالة العزم على الدّمع.

وقد يطلق الهمّ بمعنى الشهوة ، وميل الطبع ، ولهذا يصح أن يقول القائل : «هذا الشيء من همّى : أى مشتهى لى» وهذا ليس من همّى ، أو هو غير مشتهى لى».

وعلى هذا فليس القول بحمل الهمّ (٣) فى الآية على العزم أولى من غيره من الاحتمالات ، وليس فى باقى الاحتمالات غير العزم معصية.

سلمنا أن الهمّ فى الآية بمعنى العزم ، غير أن ما به الهمّ فى الآية ليس هو نفس ذاتها ؛ لأن الذّوات حالة بقائها لا تتعلق الإرادة بها ؛ بل بفعل فى ذاتها ، وهو غير معين ، ولا مذكور.

وعند ذلك : فليس حمل الهمّ على الفاحشة ، أولى من حملة على غيرها من ضرب امرأة (٤) العزيز ، ودفعها عن نفسه ، أو غير ذلك من ضروب الأفعال التى ليست معصية.

__________________

(١) ديوان كعب بن زهير ص ٧١. وهو كعب بن زهير بن أبى سلمى المازنى ، شاعر من أهل نجد اشتهر فى الجاهلية. ولما ظهر الإسلام هجا النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأقام يشبب بنساء المسلمين ؛ فهدر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ دمه ؛ فجاءه كعب مستأمنا وقد أسلم ، وأنشده لاميته المشهورة التى مطلعها بانت سعاد فعفا عنه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وخلع عليه بردته. توفى سنة ٢٦ ه‍. [الأعلام للزركلى ٥ / ٢٢٦ ، معجم المؤلفين ٨ / ١٤٤].

(٢) ديوان ذى الرمة ٢ / ١٢٤٥ واسمه : غيلان بن عقبة بن نهيس بن مسعود بن حارثة المضرى ويلقب بذى الرمة ، كان شديد القصر دميما ، وكان مقيما بالبادية توفى بأصبهان سنة ١١٧ ه‍ [تاريخ الاسلام للذهبى ٣ / ٢٤٧ ، ٢٤٨ ، معجم المؤلفين ٨ / ٤٤].

(٣) ورد فى المعجم الوسيط (باب) الهاء. (همّ) بالأمر ـ همّا : عزم على القيام به ولم يفعله و ـ لنفسه : طلب واحتال.

و ـ الأمر فلانا : أقلقه وأحزنه.

(٤) امرأة العزيز : واسمها : (راعيل) بنت رمايل ، وقيل : كان اسمها : (زليخا) والظاهر أنه لقبها ، وقيل : (فكا) بنت ينوس. وكانت بنت أخت الملك الريان بن الوليد صاحب مصر ، وقيل : إن يوسف عليه‌السلام تزوجها بعد موت زوجها ؛ فوجدها عذراء ؛ لأن زوجها كان لا يأتى النساء فولدت له رجلين هما : أفرايم ومنسا. [قصص الأنبياء لابن كثير ص ٢٣٧ ـ ٢٥١].

١٧٤

سلمنا أن الهمّ كان بالمعصية ، والزنا ، غير أن الكلام فيه تقديم ، وتأخير وتقديره «ولقد همت به لو لا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ، وليس فى ذلك ما يدل على وقوع العزم على الزنا.

وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على العزم على الزنا غير أن معنا ما يدل على عدمه ، ودليله قوله ـ تعالى ـ (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) (١) وأيضا قوله ـ تعالى ـ حكاية عن يوسف ـ عليه‌السلام ـ (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) (٢) يعنى العزيز ، ولو كان قد عزم على المعصية ؛ لكان خائنا له.

وأيضا قوله ـ تعالى ـ حكاية عن امرأة العزيز (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) (٣).

وأيضا : قول العزيز (٤) لما رأى القميص قد قد من دبر (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ) (٥) أضاف الكيد إليها.

وأيضا قوله (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ٣٣ فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) (٦) وذلك يؤذن ببراءته من كل معصية.

وأيضا قوله ـ تعالى ـ (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) (٧).

والجواب :

قولهم : إن الهمّ قد يطلق بمعنى خطور الشيء بالبال من غير عزم عليه.

__________________

(١) سورة يوسف ١٢ / ٢٤.

(٢) سورة يوسف ١٢ / ٥٢.

(٣) سورة يوسف ١٢ / ٣٢.

(٤) العزيز : هو اطفير بن روحيب قال ابن إسحاق : وكان ملك مصر يومئذ الريان بن الوليد ، رجل من العماليق.

وقال ابن إسحاق عن أبى عبيدة عن ابن مسعود قال : أفرس الناس ثلاثة : عزيز مصر حين قال لامرأته : (أَكْرِمِي مَثْواهُ) وكان رجلا عاقلا قال ليوسف بعد ما حدث من امرأته (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) وطالب امرأته بالاستغفار من ذنبها ـ وبعد موت اطفير تولى يوسف عليه‌السلام وظيفته وتزوج امرأته.

[قصص الأنبياء لابن كثير ص ٢٣٧ ـ ٢٥١].

(٥) سورة يوسف ١٢ / ٢٨.

(٦) سورة يوسف ١٢ / ٣٣ ، ٣٤

(٧) سورة يوسف ١٢ / ٥١.

١٧٥

قلنا : قد بيّنا أن الهمّ عبارة عن العزم بما ذكرناه.

وأما الآية فلا نسلم أن المراد بالهمّ فيها على الفشل غير العزم ؛ إذ هو غير ممتنع عليهم بالإجماع.

وقوله ـ تعالى ـ (وَاللهُ وَلِيُّهُما) (١) غير مناف للمعصية من الطائفتين ، وإلا كانوا معصومين عن الذنوب ؛ وهو خلاف الإجماع منا ، ومن الخصوم.

وقولهم : إنه قرن / الشاعر بين الهم ، والعزم

قلنا : لفظا ، أو معنى ـ الأول : مسلم ، والثانى : ممنوع.

فلئن قالوا : فيلزم / / مما ذكرتموه الترادف فى الألفاظ ، والأصل عند اختلاف الألفاظ ؛ اختلاف معانيها.

قلنا : ويلزم من اختلاف المعنى ، أن يكون لفظ الهمّ مشتركا فى مدلولاته ، أو مجازا فى بعضها. حيث قبل إطلاقه بإزاء العزم وخطور الشيء بالبال. وكل واحد من الأمرين على خلاف الأصل أيضا. وعند التعارض ، يسلم لنا ما ذكرناه من دليل إطلاق الهمّ بإزاء العزم.

وإن سلمنا صحة إطلاق الهمّ : بمعنى خطور الشيء بالبال ، غير أنه حقيقة فيما ذكرناه ، بدليل تبادره إلى الفهم من إطلاق اللّفظ على ما سبق. ويلزم أن يكون مجازا فيما عداه ، وإلا كان لفظ الهم مشتركا ، وكل واحد منهما وإن كان على خلاف الأصل ؛ لكونه مخلا بالتفاهم المقصود من وضع الألفاظ من جهة توقف فهم المدلول منها على القرائن المضطربة ، غير أن محذور ذلك فى الاشتراك ، أعظم منه فى التجوز ؛ للزوم ذلك فى اللّفظ المشترك دائما وفى جميع محامله ، بخلاف المجاز ؛ حيث أنه لا يفتقر إلى القرينة فى جميع محامله ، ولا دائما ، ولذلك كان استعمال أهل اللغة للألفاظ المجازية أكثر من استعمالهم للألفاظ المشتركة. ولو لا أنها أو فى بتحصيل مقصودهم ؛ لما كان كذلك.

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ / ١٢٢.

/ / أول ل ٩٧ / ب.

١٧٦

ووجه التجوّز : أنه لمّا كان خطور الشيء بالبال قد يفضى إلى العزم عليه فى الأكثر سمّى باسم ما يؤول إليه : كما فى قوله ـ تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١) ونحوه ، وإذا ثبت أنه حقيقة فى العزم ، مجاز فى غيره ؛ فيمتنع ترك الحقيقة من غير دليل.

وعلى هذا يكون الجواب عما ذكروه من الاحتمال الثانى والثالث.

قولهم : سلمنا أن الهمّ عبارة عن العزم ، غير أنّ المعزوم عليه غير معين ، فأمكن حمله على دفعها ، أو ضربها ؛ فهو ممتنع لوجوه أربعة :

الأول : أنه لو أراد به العزم على غير المعصية مما يكون دافعا للمعصية لم يكن فى قوله ـ تعالى ـ (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) (٢) فائدة. إذ البرهان لا يكون صارفا عنه ، وكل ما يقال فى ذلك من الاحتمالات ؛ فبعيدة عن مذاق العقول ؛ فلا يمكن الحمل عليه.

الثانى : هو أن الكلام فى قوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) خرج مخرجا واحدا ، وذلك مشعر باتحاد المفهوم منها نظرا إلى سياق الكلام.

والهمّ فى حقهما محمول على العزم على الزنا ؛ فكذلك فى حقه. ولا يصار إلى خلاف ما يظهر من اللفظ إلا لدليل ؛ ولا دليل.

الثالث : هو أن لفظ الهمّ بالمرأة ظاهر يعرف الاستعمال فى الوطء ، لا فى غيره من الأفعال ، ولهذا فإنه لو قال القائل : همّ فلان بفلانة ؛ فإنه لا يتبادر إلى / الفهم منه غير الاهتمام بوطئها.

الرابع : قال ابن عباس (٣) فى معنى قوله (وَهَمَّ بِها) أنه حلّ هميان سراويله وجلس منها مجلس الخائن ، وقال مجاهد (٤) «أما همّها به أنها استلقت له. وأمّا همّه بها : أنه قعد بين رجليها ، ونزع ثيابه.

__________________

(١) سورة الزمر ٣٩ / ٣٠.

(٢) سورة يوسف ١٢ / ٢٤.

(٣) سبقت ترجمته فى هامش ل ١٤٩ / ب.

(٤) مجاهد بن جبر : أبو الحجاج المكى ، مولى بنى مخزوم. مفسر ، تابعى من أهل مكة قال عنه الذهبى : شيخ القراء والمفسرين. أخذ التفسير عن ابن عباس ، قرأه عليه ثلاث مرات ، يقف عند كل آية يسأله : فيم نزلت وكيف كانت؟ ولد سنة ٢١ ه‍ وتوفى سنة ١٠٤ ه‍ [صفة الصفوة لابن الجوزى ١ / ٣٩٣ ـ ٣٩٥ وميزان الاعتدال ٣ / ٩].

١٧٧

قولهم : فى الكلام تقديم ، وتأخير على ما ذكروه ؛ فهو ممتنع لوجهين :

الأول : أنه يلزم مما ذكروه تقديم جواب لو لا عليها ، وهو غير جائز. ولهذا فإنه لا يحسن أن يقال : قام زيد لو لا عمرو ، وقصدتك لو لا بكر.

الثانى : هو أن جواب لو لا يكون إلا باللام ، كما فى قوله ـ تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ١٤٣ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١) كيف وأن ما ذكروه يوجب دفع همه بها ، وهو خلاف ما نقله أرباب التفاسير.

فإن قيل : لو لم يكن قوله وهمّ بها جوابا لقوله (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) لكان جواب لو لا محذوفا ، وليس القول بامتناع تقديم جواب لو لا عليها ، أولى من امتناع حذف جوابها.

قلنا : ليس كذلك ؛ فإن حذف الجواب جائز فى اللغة ، وقد ورد به القرآن ، وشعر العرب.

أما القرآن : فقوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢) معناه : ولو لا فضل الله عليكم لهلكتم ، أو غير ذلك.

وأما الشعر : فقول امرئ القيس :

فلو أنها نفس تموت جميعة

ولكنها نفس تساقط أنفسا (٣)

وأراد فلو أنها نفس تموت لعيب غير أنه حذف الجواب اعتمادا على اقتضاء الكلام له. ولم يصح ورود تقديم جواب لو لا عليها ؛ فكان ممتنعا.

وعلى هذا : فجواب (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) (٤) المحذوف : لزنا بها.

قولهم : معنا ما يدل على عدم ذلك ممنوع ، وقوله ـ تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) (٥) فالمراد به ما سوى الهمّ بها وإلا كان جواب لو لا متقدما عليها ، ومن غير لام ؛ وهو ممتنع كما سبق.

__________________

(١) سورة الصافات ٣٧ / ١٤٣ ، ١٤٤.

(٢) سورة النور ٢٤ / ٢٠.

(٣) ديوان امرئ القيس ص ١٠٧. سبقت ترجمته.

(٤) سورة يوسف ١٢ / ٢٤.

(٥) سورة يوسف ١٢ / ٢٤.

١٧٨

كيف وأن ما ذكرناه يدل على الهمّ بها بخصوصه ، وما ذكروه يدل على / / نفيه بعمومه.

ولا يخفى أن دلالة الخاص ، مقدمة على دلالة العام من حيث أنه يلزم من العمل بعموم العام ، إبطال دلالة الخاص ، ولا يلزم من العمل بالخاص ، إبطال دلالة العام بالكلية. والجمع بين الأدلة أولى من تعطيل الواحد منها ، والعمل بعموم الآخر.

وقوله : (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) (١) ليس هو كلام يوسف ؛ بل هو كلام امرأة العزيز.

ولهذا وقع مسبوقا على كلامها. حيث قال (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ٥١ ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ / بِالْغَيْبِ) (٢) والضمير فى أخنه عائد إلى يوسف دون زوجها ؛ لأن زوجها قد خانته فى الحقيقة بالغيب. وقول امرأة العزيز (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) يعنى فى ادعائه عدم مراودته لها ، وليس فى ذلك ما يدل على عدم همّه بها.

وقوله (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ) يعنى بذلك المراودة ، ولا شك أنها لم توجد من يوسف عليه‌السلام.

وقوله (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) يعنى الزنا. فإنه هو الّذي دعى إليه.

وقوله (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) يعنى الوقوع فى الزنا.

وقوله (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) : يعنى الوقوع فى الزنا. وليس فى ذلك ما يدل على عدم همه بها.

وقول نساء المدينة (حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) (٣) ليس فيه ما يدل على عدم الهم بها ، والعزم عليها فى نفس الأمر.

__________________

/ / أول ل ٩٨ / أ.

(١) سورة يوسف ١٢ / ٥٢.

(٢) سورة يوسف ١٢ / ٥١ ، ٥٢.

(٣) سورة يوسف ١٢ / ٥١.

١٧٩

الحجة الثانية عشرة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن يوسف ، وأبويه ، وأخوته :

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) (١).

ووجه الاحتجاج به : أن يعقوب (٢) سجد ليوسف ، ويوسف رضى بسجود أبويه وإخوته له ، والسّجود لغير الله معصية ؛ ففعله معصية ؛ فيكون يوسف عاصيا ، وكان نبيا. والرضى به معصية ؛ لأن الرضى بالمعصية معصية ؛ فيكون يوسف عاصيا. وكان نبيا.

فإن قيل : يحتمل أن يكون المراد من ذلك : أنهم سجدوا لله شكرا من أجله ؛ حيث رأوه على أكمل حالة من الرفعة فى الدنيا ، والأخرى ، وجمع الله ـ تعالى ـ شمله بأبويه ، وأخوته ومن فعل فعلا لأجل غيره ، يصح أن يقال فعل له ، كما يقال : «إنما صمت لشفائى من مرضى وصليت لقدوم أخى».

ويحتمل أنهم سجدوا لله شكرا وكان يوسف قبلة لسجودهم. وسجودهم إلى جهته ، كما يقال صلّى فلان للقبلة ، وسجد لها : أى إلى جهتها ، وإن كان السجود ليس إلا لله ـ تعالى.

قلنا : ما ذكروه ممتنع لوجوه ثلاثة :

الأول : أنه على خلاف الظاهر من اللفظ ؛ فلا يجوز المصير إليه إلا بدليل ، وسنقدح فى كل ما يحيلوه دليلا.

__________________

(١) سورة يوسف ١٢ / ١٠٠ ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما يلى : تفسير الكشاف للزمخشرى ٢ / ٣٤٤ ، وتفسير الرازى ١٨ / ٢١٤ ـ ٢١٩ وتفسير القرطبى ٥ / ٣٤٩٣ ـ ٣٤٩٧ ، ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٢٦٢. وقصص الأنبياء لابن كثير ص ٢٦٣ ، ٢٦٤.

(٢) يعقوب عليه‌السلام : هو يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام وأمه (رفقة) بنت بتوئيل بن ناحور بن آزر الّذي يسميه المؤرخون (تارح) وناحور هو أخو إبراهيم عليه‌السلام.

ويعقوب عليه‌السلام هو أبو الأسباط الاثنى عشر ، وإليه ينسب شعب بنى إسرائيل. ويسمى يعقوب (إسرائيل).

وقد ولد عليه‌السلام فى (فلسطين) وشب فى كنف أبيه إسحاق عليه‌السلام ورحل إلى مصر ومكث بها سبعة عشر عاما وتوفى عليه‌السلام وعمره ١٤٧ سنة وقد أوصى ابنه يوسف عليه‌السلام أن يدفنه مع أبيه إسحاق ففعل وسار به إلى فلسطين ودفنه مع أبيه فى مدينة الخليل صلوات الله عليهم أجمعين.

[قصص الأنبياء لابن كثير ص ٢٢٢ ـ ٢٦٧ ، والنبوة والأنبياء للصابونى ص ٢٤٦ ـ ٢٤٨].

١٨٠