أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0327-1
الصفحات: ٣٩٨

تعالى : ـ (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) (١) وقال فى وصف ما أنزل عليه (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) وقال (وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (٢) وإنما يكون كذلك أن لو عم حكمه للجميع. وقد ورد عنه ـ عليه‌السلام ـ أخبارا فى ذلك تنزل منزلة التواتر وإن كانت آحادها آحادا ، فمن ذلك قوله عليه‌السلام «بعثت إلى الأحمر والأسود» (٣) وقوله «بعثت إلى الناس كافة» (٤) وقوله «لو كان اخى موسى حيا لما وسعه إلا اتباعى» (٥) إلى غير ذلك من الأخبار / الكثيرة. ويدل عليه ما اشتهر عنه وتواتر من دعائه طوائف الجبابرة ، وغيرهم من الأكاسرة ، وسعيه إلى أقاصي البلاد ، وملوك العباد إلى الدخول فى ملته ، وإجابة دعوته ، وقتال من جحد بنبوته من أهل الكتاب ، وغيرهم ممن هو خارج عن قبائل العرب (٦).

ثم كذلك على سنة الصدر الأول من المسلمين مع علمنا بأن ذلك الجمع الكثير ، والجم الغفير ممن لا يتصور على مثلهم التواطؤ على الباطل عادة ، ولا سيما مع ما كانوا عليه من شدة اليقين ، ومراعاة الدين ، فلو لم يعلموا منه ضرورة أنه مبعوث إلى الناس كافة ، والأمم عامة وإلا لما فعلوا ذلك رعاية للدين ، ثم إنه ترك للدين ، وكذلك أيضا من جاء من بعدهم على سنتهم ، وهلم جرا إلى زمننا هذا ، ولو لم يكن رسولا على العموم ؛ لزم أن يكون قد كذب فى دعواه ، وأبطل فيما أتاه ؛ وذلك محال فى حق من ثبتت عصمته عن الكذب فى الرسالة بالمعجزة القاطعة ، ولو جاز ذلك عليه مع ظهور المعجزة على يده ؛ لكان ذلك جائزا فى حق موسى عليه‌السلام ؛ وهو محال. وإذا ثبت صدقه بالمعجزات والآيات الواضحات ، فقد قال ـ عليه‌السلام «لا نبى بعدى» ونزل الكتاب العزيز مصدقا له فى ذلك بقوله ـ تعالى ـ (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (٧) واشتهر ذلك فيما بين

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ٢٨.

(٢) سورة آل عمران ٣ / ١٣٨.

(٣) جزء من حديث شريف عن أبى موسى قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أعطيت خمسا : بعثت إلى الأحمر والأسود ... الخ (تهذيب الخصائص النبوية الكبرى رقم ٥٦٩ ص ٣٩٢).

(٤) رواه البخارى ومسلم فى صحيحيهما. البخارى ١ / ٣٦٩ ـ ٣٧١ ومسلم حديث رقم (٥٢١).

(٥) أخرجه الإمام أحمد فى مسنده ٣ / ٣٨٣ ، وأورده الألبانى فى إرواء الغليل ٦ / ٣٤ حديث رقم ١٥٨٩ وعزاه إلى أحمد وقال حديث حسن ط : المكتب الإسلامى.

(٦) فقد أرسل كتبه ورسله إلى كسرى وقيصر والمقوقس وغيرهم من ملوك الأطراف يدعوهم إلى الإسلام. عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشى وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى.

(تهذيب الخصائص النبوية الكبرى للسيوطى رقم ٢٤٨ ص ٢٢١).

(٧) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٤٠.

١٤١

أهل عصره من قوله وكتابه ولم يزل تتناقله الأمم فى جميع الأعصار ، والأمصار نقلا موجبا للعلم به ؛ وذلك يدلّ على امتناع نبى آخر بعده سمعا ، وإن كان غير ممتنع عقلا ، ومن نظر فيما رتّبناه وحقّق ما حققناه وكان ناظرا زمانا ، مطلعا على المطوّلات من كتب المتكلمين ، عارفا بمباحثهم ؛ علم بما انتهينا إليه هاهنا من أمر النّبوّة أنّا قد بلغنا ـ فى حسن التّرتيب ، والتّحرير ، وجمع المعانى الغريبة الشّاردة المتبدّدة فى كتبهم مع زيادات نافعة شذت عنهم ، مضافا إلى الإيجاز المعجز ـ مبلغا لم يبلغه أحد من المتكلّمين.

١٤٢

الأصل الخامس

فى عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (١)

أما قبل النبوة : فقد قال القاضى أبو بكر : لا يمتنع عقلا ولا سمعا ، أن يصدر من النبي قبل نبوته معصية وسواء / / كانت صغيرة ، أو كبيرة إذ لا دلالة للمعجزة على عصمته فيما قبل ظهورها على يده ؛ بل ولا يمتنع عقلا إرسال من أسلم بعد كفره ، ووافقه عليه أكثر أصحابنا ، وكثير من المعتزلة.

وقالت الروافض وأكثر المعتزلة (٢) : لا يجوز أن يبعث الله تعالى من صدر منه كبيرة وإن تاب منها ؛ لأن ذلك مما يوجب فى النفوس بغضه ، واحتقاره ، والنفرة عن اتباعه ؛ وهو خلاف ما تقتضيه الحكمة من رعاية الصلاح ، والأصلح.

وزادت الروافض حيث قضوا بوجوب عصمته / عن الصغائر أيضا.

والأصح ما ذكره القاضى ، لأن السمع لا دلالة له على العصمة قبل البعثة. ودلالة العقل فمبنية على الحسن ، والقبح ، ووجوب رعاية المصلحة ؛ وقد سبق إبطاله (٣).

__________________

(١) قارن بما ورد فى الإرشاد للجوينى ص ٣٥٦ وما بعدها.

وأصول الدين للبغدادى ص ١٦٧ وما بعدها.

وشرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ٥٧٣ وما بعدها.

والمغنى فى أبواب التوحيد والعدل له أيضا ١٥ / ٢٨١ وما بعدها.

وعصمة الأنبياء للإمام الرازى كتاب مستقل. والنبوات له أيضا.

ومن المتأخرين عن الآمدي :

شرح المواقف للجرجاني ـ الموقف السادس ـ تحقيق الدكتور أحمد المهدى ص ١٢٩ وما بعدها.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٤٢ وما بعدها.

وشرح مطالع الأنظار على متن طوالع الأنوار للأصفهانى ص ٢٠٩ وما بعدها.

ومن الكتب الحديثة : عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم.

للدكتور محمد أبو النور الحديدى ـ مطبعة الأمانة سنة ١٩٧٩ م.

/ / أول ل ٩٢ / ب.

(٢) وقد وضح القاضى عبد الجبار فى الجزء الخامس عشر من كتاب المغنى ص ٢٨١ ـ ٣١٨ هذا الموضوع وشرحه شرحا مفصلا. فى ثلاثة فصول.

الفصل الأول : فى امتناع جواز الكذب والكتمان على الأنبياء وما يتصل بذلك ١٥ / ٢٨١ ـ ٣٠٠.

الفصل الثانى : فى أن الكبائر لا تجوز على الأنبياء عليهم‌السلام فى حال النبوة ١٥ / ٣٠٠ ـ ٣٠٣.

الفصل الثالث : فى أن الكبائر وما يجرى مجراها فى التنفير ، لا تجوز عليهم قبل البعثة. ١٥ / ٣٠٤ ـ ٣١٦.

(٣) انظر الجزء الأول من أبكار الأفكار ـ القاعدة الرابعة ـ النوع السادس ـ الأصل الأول ـ المسألة الأولى : فى التحسين والتقبيح : ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

والمسألة الثالثة : فى أنه لا يجب رعاية الغرض ل ١٨٦ / أو ما بعدها.

١٤٣

وأما بعد النبوة : فقد اتفق أهل الملل ، وأرباب الشرائع على وجوب عصمة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ عن الكذب عمدا فيما دلت المعجزة القاطعة على صدقهم فيه. وذلك فى دعوى الرسالة ، وما ينهونه من الله ـ تعالى ـ إلى الأمة بطريق التبليغ عنه ، وإلا فلو جاز عليهم التقول والتخرص فى ذلك عقلا ؛ لأفضى إلى إبطال دلالة المعجزة ؛ وهو محال.

وهل يجوز عليهم الغلط فى ذلك على سبيل الذهول ، والنسيان ، فقد اختلف فيه.

فذهب الأستاذ أبو إسحاق ، وكثير من الأئمة إلى امتناعه : نظرا إلى أنّ المعجزة دالة على الصدق ، وملازمة الحق فى التبليغ. فلو تصور الخلف فى ذلك كان ذلك نقضا لدلالة المعجزة ؛ وهو ممتنع.

وذهب القاضى أبو بكر : إلى جواز ذلك مصيرا منه إلى أن المعجزة إنما تدل على صدق الرسول فيما هو متذكر فيه عامد له.

وأما ما كان من النسيان ، وفلتات اللسان فلا تدخل تحت التصديق المقصود بالمعجزة. ولا المعجزة دالة على نفيه.

وعلى هذا فلا تكون صورة النسيان ناقضة لدلالة المعجزة.

وأما ما يتعلق بأفعالهم ، وأقوالهم : فلا دلالة للمعجزة على صدقهم فيه ، فإما أن يكون كفرا ، أو لا يكون كفرا.

فإن كان كفرا : فلا يعرف خلاف بين الأئمة فى وجوب عصمة الأنبياء عنه ، إلا ما نقل عن الأزارقة من الخوارج (١) : فإنهم قالوا بجواز بعثة نبى علم الله ـ تعالى ـ أنه يكفر بعد نبوته ، وكل من قال بجواز صدور الذنوب عن الأنبياء ، وحكم بالكفر على كل ذنب ، فيلزمه أيضا جواز الكفر على الأنبياء.

وأما ما ليس بكفر : فإما أن يكون من الكبائر ، أو لا يكون منها ، فإن كان من الكبائر : فقد اتفق المحققون والأئمة على وجوب عصمتهم عن تعمده من غير نسيان ،

__________________

(١) عن الأزارقة من الخوارج وقولهم بجواز بعثة نبى علم الله ـ تعالى ـ أنه يكفر. انظر ما سيأتى فى القاعدة السابعة ـ الفصل الرابع : فى أن مخالف الحق من أهل القبلة هل هو كافر أم لا؟ ل ٢٥٢ / ب وما بعدها.

١٤٤

ولا تأويل ، ولم يخالف فى ذلك غير الحشوية ، ومن جوز الكفر عليهم فإنه إذا جوز عليهم الكفر فما دون الكفر أولى بالتجويز.

ثم اختلف القائلون فى وجوب العصمة عن الكبائر. هل ذلك مستفاد من العقل ، أو السمع.

فذهب القاضى أبو بكر ، والمحققون من أصحابنا : إلى أن العصمة فيما وراء التبليغ غير واجبة عقلا ؛ لعدم دلالة المعجزة عليه (١) وإنما هو مستفاد من السمع ، وإجماع الأمة قبل ظهور المخالفين على ذلك.

وذهبت المعتزلة : إلى امتناع ذلك منهم عقلا / مصيرا منهم إلى أن صدور الكبائر من الأنبياء. مما يوجب سقوط هيبتهم ، وانحطاط رتبتهم فى أعين الناس. وذلك مما يوجب النفرة عنهم ، وعدم الانقياد لهم. ويلزم منه إفساد الخلائق ، وترك استصلاحهم ؛ وهو خلاف مقتضى الحكمة ، والعقل. وما ذكروه فمبنى على فاسد أصولهم فى التحسين ، والتقبيح ، ووجوب رعاية الصلاح ، والأصلح ؛ وقد أبطلناه (٢).

ثم لو قيل بوجوب عصمة الأنبياء عن الكبائر عقلا حتى لا يفضى ذلك إلى انحطاط رتبهم فى النفوس ، والنفرة عن الانقياد لهم ، أوجب أن يكون النبي أبدا مؤيدا منصورا. وأن يكون مناوئه مخذولا محقورا. وإلا فلو كان الأمر بالعكس للزم من ذلك احتقارهم فى الأعين ، والنفرة عنهم كما ذكروه ؛ وليس ذلك واجبا إجماعا.

فإن قيل : بأنه يكتفى بظهور المعجزة على يده عن جميع ما ذكرتموه.

قلنا : فلنكتفى به عما ذكروه أيضا.

وأما إن كان فعل الكبيرة على سبيل النسيان ، أو التأويل خطأ ؛ فقد اتفق على جوازه ، خلافا للروافض.

وأما ما ليس بكبيرة : فإما أن يكون من قبيل ما يلحق فاعله بالأراذل ، والسفل ، والحكم عليه بالخسة / / ودناءة الهمة ، وسقوط المروءة كسرقة حبة ، أو كسرة ، ونحوه فالحكم فيه حكم الكبيرة.

__________________

(١) فى ب (على ذلك).

(٢) انظر ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ النوع السادس ـ الأصل الأول ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

/ / أول ل ٩٣ / أ.

١٤٥

وأما ما لا يكون من هذا القبيل : كنظرة ، أو كلمة سفه نادرة فى خصام ، ونحو ذلك ؛ فهذا مما اتفق أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة على جوازه عمدا أو سهوا ، خلافا للشيعة.

وذهب الجبائى : إلى أن ذلك لا يجوز إلا بطريق السهو ، أو الخطأ فى التأويل.

وذهب النظام ، وجعفر بن مبشر : إلى أن ذلك لا يجوز منهم إلا على طريق الغفلة ، والسهو. غير أنهم يؤاخذون بذلك وإن لم تؤاخذ أممهم به ؛ لعلو رتبتهم ، وقوة معرفتهم بالله ـ تعالى.

وهل يجوز أن يخلع الله ـ تعالى ـ نبيا من نبوته. فقد اتفق أصحابنا على جوازه عقلا ، غير أن المسلمين اتفقوا على أن ذلك لم يقع. وما يروى أن بلعام بن باعور (١) كان نبيا وخلع من نبوته ، فلم يثبت ولم يصح.

__________________

(١) بلعام بن باعور : وقيل (بلعم) وقد وردت فى شأنه روايات مختلفة تصل إلى درجة التناقض. فيقول ابن حزم (الفصل فى الملل والأهواء والنحل ١ / ١٧٩) «كما كان أيوب نبيا فى (بنى عيص). وكما كان (بلعام) نبيا فى (بنى موآب) بإقرار من جميع فرق اليهود».

كما أشار الطبرى فى تفسيره الجزء التاسع ص ٧٦ وما بعدها ، إلى أنه كان يدعى (بلعم) بفتح الباء أو بضمها من بنى إسرائيل. وقد ذكره القرطبى فى تفسيره للآيات الكريمة من سورة الأعراف من أول قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) إلى قوله تعالى : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) سورة الأعراف ٧ / ١٧٥ ـ ١٧٧ ـ [تفسير القرطبى ٤ / ٢٧٥٥ ـ ٢٧٦٠].

«ذكر أهل الكتاب قصة عرفوها فى التوراة. واختلف فى تعيين الّذي أوتى الآيات فقال ابن مسعود وابن عباس : هو بلعام بن باعوراء ، ويقال ناعم من بنى إسرائيل فى زمن موسى ـ عليه‌السلام ـ وكان بحيث إذا نظر رأى العرش وهو المعنى بقوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) ولم يقل آية وكان فى مجلسه اثنتا عشرة ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه. ثم صار بحيث كان أول من صنف كتابا «أن ليس للعالم صانع».

قال مالك بن دينار : بعث بلعام بن باعوراء إلى ملك مدين ؛ ليدعوه إلى الإيمان فأعطاه وأقطعه ؛ فاتبع دينه ، وترك دين موسى ، ففيه نزلت هذه الآيات.

المعتمر بن سليمان عن أبيه قال : كان بلعام قد أوتى النبوة ؛ وكان مجاب الدعوة.

وقال عكرمة : كان بلعام نبيا وأوتى كتابا ، وقال مجاهد أنه أوتى النبوة ؛ فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على ما هم عليه. قال الماوردى : وهذا غير صحيح ؛ لأن الله تعالى لا يصطفى لنبوته إلا من علم أنه لا يخرج عن طاعته إلى معصيته.

أما الفخر الرازى فى تفسيره (١٥ / ٥٧ ـ ٦١) فيستبعد ما نقل عن بلعام بعد نقله ويقول : «هذا بعيد لأنه تعالى قال (الله أعلم حيث يجعل رسالته) وذلك يدل على أنه ـ تعالى ـ لا يشرّف عبدا من عبيده بالرسالة إلا إذا علم امتيازه عن سائر العبيد بمزيد الشرف ، والدرجات العالية ، والمناقب العظيمة ؛ فمن كان هذا حاله ، فكيف يليق به الكفر؟».

وأما عبد القاهر البغدادى فينفى عنه النبوة ويثبت له الكرامة فى كتابيه أصول الدين ، والفرق بين الفرق. ففى أصول الدين ص ١٧٤ ، ١٧٥ «وصاحب الكرامة لا يؤمن تبدل حاله فإن بلعم بن باعورا أوتى من هذا الباب ما لم يؤت غيره ثم ختم له بالشقاء». وفى الفرق بين الفرق ص ٣٤٤ «وصاحب الكرامة لا يأمن تغير عاقبته كما تغيرت عاقبة بلعم بن باعورا بعد ظهور كراماته».

وهذا يوافق ما قاله الآمدي : «وما يروى أن بلعام بن باعور كان نبيا وخلع من نبوته ؛ فلم يثبت ولم يصح».

١٤٦

وبالجملة : فالكلام فيما ليس بكبيرة. ولا هو نازل منزلة الكبيرة نفيا وإثباتا غير بالغ مبلغ القطع ؛ بل هو من باب الظنون ، والاجتهادات. والاعتماد فيه إنما هو على ما يساعد من الأدلة الظنية. والكلام فى طرفين : الأول فى جواز ذلك بطريق النسيان ، والثانى فى بيان جوازه بطريق العمد.

الطرف الأول : فى بيان جواز النسيان على الأنبياء ـ عليهم‌السلام.

أما من جهة العقل : فلأنا لو فرضنا وقوعه منهم. لم يلزم عنه المحال لذاته. وأنه لا فرق بين النبي وغيره ، إلا فى قيام المعجزة الدالة على صدقه فى دعواه الرسالة ، وما فرض الكلام فيه ؛ فلا دلالة للمعجز على عصمته ؛ فكان صدوره عنه كصدوره عن غيره.

وأما من جهة السمع : فما اشتهر عنه ـ عليه‌السلام ـ من نسيانه فى الصلاة ، وتحلله عن ركعتين فى الرباعية / فى قصة ذى اليدين وقول ذى اليدين له أسهوت يا رسول الله أم قصرت الصلاة؟ فقال النبي ـ عليه‌السلام ـ أحقا ما يقول ذو اليدين ، قالوا : نعم يا رسول الله (١).

وأيضا ما اشتهر عنه ـ عليه‌السلام ـ وهو يقرأ فى الصلاة (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (٢) أنه قال : «إنهن عند الله من الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى» ولم يكن ذلك إلا عن غفلة ونسيان ، لاستحالة كلمة الكفر فى حقه.

ويدل عليه من الكتاب قوله ـ تعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) (٣) وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكرونى» (٤).

__________________

(١) ورد فى موطأ الإمام مالك : ما يفعل من سلم من ركعتين ساهيا :

عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين : أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أصدق ذو اليدين؟ فقال الناس نعم ؛ فقام رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فصلى ركعتين أخريين ، ثم سلم ، ثم كبر ؛ فسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع ، ثم كبر فسجد مثل سجوده ، أو أطول ، ثم رفع.

[موطأ الإمام مالك ١ / ٨٧ ، ٨٨].

(٢) سورة النجم ٥٣ / ١.

(٣) سورة الكهف ١٨ / ٢٤.

(٤) أخرجه الإمام البخارى فى صحيحه. كتاب الصلاة ـ باب التوجه نحو القبلة حيث كان ١ / ٦٠٠ حديث رقم ٤٠١ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه [فتح البارى بشرح صحيح البخارى ط دار الريان بمصر].

كما أخرجه الإمام مسلم فى صحيحه : كتاب المساجد ـ باب السهو فى الصلاة والسجود له ١ / ٤٠٠ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ط. عيسى الحلبى. ت : محمد فؤاد عبد الباقى.

وأخرجه الزبيدى فى إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين ـ الركن الثالث فى دوام التوبة ٨ / ٥٩٢ وعزاه إلى مالك فى الموطأ بلاغا دون سند. ط : دار إحياء التراث العربى ـ بيروت. لبنان.

١٤٧

فإن قيل : لو جوزنا تطرق النسيان إلى الأنبياء فى أقوالهم ، وأفعالهم ؛ لأفضى ذلك إلى اللبس فى مواقع الشرع ، وتعيين الأحكام وهو مخل بمقصود البعثة وذلك محال عقلا.

وإن سلمنا الجواز العقلى : غير أن ذلك ممتنع سمعا ويدل عليه قوله ـ عليه‌السلام ـ «أما أنى لا أنسى ولكنى أنسّى لأشرّع». وعلى هذا فيجب حمل النسيان فى قصة ذى اليدين على التشبيه بالناسى ليشرع.

وأما القصة الأخرى فلا نسلم أن المسموع كان صوت النبي ـ عليه‌السلام ـ بل المسموع كان صوت الشيطان مشبها بصوته إذ الإجماع منعقد على امتناع صدور كلمة الشرك من النبي ـ عليه‌السلام ـ ويدل على ذلك قوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (١) ومعناه إذا تلى ألقى الشيطان فى تلاوته. وإن سلمنا أن المسموع كان صوت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لكن يجب حمله على التشبه بالناسى للتشريع.

وما ذكرتموه من النصوص فيجب أيضا حملها على التشبه بالناسى لما ذكرناه من الخبر.

وإن سلم دلالتها على حقيقة النسيان. فلا نسلّم عمومها بالنسبة إلى النسيان فى المعاصى ؛ بل هى مطلقة فى النسيان ، وكما أمكن حملها على نسيان المعاصى ، أمكن الحمل على النسيان فى المباحات ، وليس أحد الأمرين أولى من الآخر ، بل الحمل على النسيان فى المباحات أولى ؛ إذ لا محذور فيه.

قلنا : لا نسلم أنّ القول بتطرق النسيان إلى الأنبياء فيما يتعلق بالرسالة يفضى إلى اللّبس فى مواقع الشرع ، فإنه وإن تصور منه فعل ما لا يجوز ، أو ترك ما يجب ناسيا ، فذلك مما يمكن استدراكه ، ومعرفة وقوعه سهوا ؛ إذ هو غير واجب الدوام. وقرائن الأحوال مع صريح المقال مميزة بين البابين. وما ذكروه من الحديث ؛ فغير صحيح فى متنه وإلا كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ متعمدا ترك ما يجب وفعل ما يحرم تشبها بالناسى لقصد التشريع.

__________________

(١) سورة الحج ٢٢ / ٥٢.

١٤٨

ولا يخفى أن نسبة النسيان إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مع أنه لا تبعة على الناسى أولى من نسبة ترك الواجب ، أو فعل المحرّم إليه ، مع لزوم التبعة فيه / / كيف وأنه إذا قيل بجواز ارتكاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ / المعصية عمدا ، فالقول بامتناع ذلك عليه ناسيا خروج عن المعقول ، وقول بما لم يقل به قائل ؛ بل الصحيح المنقول فيه أنه قال : «أمّا أنا أنسى وأنسّى لأشرع». وذلك ظاهر فى سبب النسيان حقيقة ؛ فلا يجوز ترك الظاهر من غير دليل.

قولهم : المسموع من قوله تلك «الغرانيق العلى». إنما كان صوت الشيطان.

قلنا : إحالة ذلك على سماع صوت الشيطان مع أن القراءة لم تسمع فى اعتقاد كل من كان حاضرا إلا من النبي مما يوجب انخراق العادة وذلك لا يجوز إلا بدليل مقاوم للأمر العادى ، أو أرجح منه. وسيأتى له مزيد تقرير فيما بعد.

قولهم : الإجماع منعقد على امتناع صدور كلمة الشرك من الأنبياء.

قلنا : فى العمد ، أو النسيان ، الأول : مسلم. والثانى : ممنوع.

وأما قوله ـ تعالى ـ (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (١) فالمراد منه وسوس فى قلبه ، وخيّل إليه ، وأشغله حتى نسى.

قولهم : يجب حمله على التشبيه بالناسى.

قلنا : هذا هو الكفر الصراح ؛ إذ فيه تشبه تعمد النطق بالشرك أو بتلاوة ما ليس من القرآن فى الصلاة ؛ لقصد التشريع ؛ وهو محال.

قولهم : يجب حمل النسيان فى النصوص على التشبه بالناسى.

قلنا : هذا ترك لحقيقة النسيان من غير دليل ؛ فلا يقبل.

قولهم : لفظ النسيان مسلّم. غير أن تقييد المطلق أيضا من غير دليل ممتنع ، كما أن تخصيص العموم من غير دليل ممتنع.

الطرف الثانى : فى بيان ما قيل فى عصمة الأنبياء عن تعمد الصغائر التى لا يلحق فاعلها بالأخسّاء الأراذل ، كما سبق تحقيقه.

__________________

/ / أول ل ٩٣ / ب.

(١) سورة الحج ٢٢ / ٥٢.

١٤٩

وقد احتج أصحابنا بحجج كثيرة غير أنا نقتصر من ذلك على ما هو الأقرب ، والأشبه وهو عشرون حجة متفاوتة فى القوة ، والرتب.

الحجة الأولى : هى أن آدم (١) ـ عليه‌السلام ـ عصى ، وارتكب الذنب ، وذلك لا يخلو : إما أنه كان فى حالة النبوة ، أو قبلها.

فإن كان فى حالة النبوة ، فقد ثبت أن النبي غير معصوم.

وإن كان ذلك قبل النبوة. وهو الأظهر لقوله ـ تعالى ـ (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) مترتبا على قوله (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (٢) فدل على أن الاجتباء إنما كان بعد المعصية ؛ لكنه حجة على الروافض حيث قضوا بوجوب عصمة النبي قبل نبوته.

__________________

(١) آدم عليه‌السلام : هو أبو البشر عليه‌السلام وقصته البشرية بأسرها وحياته هى حياة هذا الوجود بأكمله.

وقد حدثنا القرآن الكريم عن خلق آدم عليه‌السلام ، وأنه أول مخلوق من البشر ظهر على وجه الأرض ؛ فهو أبو الخلائق وإليه ينتمى جميع سكان الأرض ، فهو خليفة الله فى الأرض قال ـ تعالى ـ (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) سورة البقرة ٢ / ٣٠ وقد كرّمه الله وكرم ذريته (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) الإسراء ١٧ / ٧٠. وقد خص الله آدم بأربعة أمور هى آية الفضل وعنوان الشرف الرفيع.

فقد خلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه الأسماء كلها. وقد جاء فى الحديث الشريف ما يؤيد هذه الأمور فى قصة موسى مع آدم عليهما‌السلام ، فقد قال موسى لآدم (يا آدم أنت أبو البشر ، الّذي خلقك بيده ، ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء ، ما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة ...)

وكان عليه‌السلام نبيا رسولا على أرجح الآراء قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) سورة آل عمران ٣ / ٣٣.

وقد أهبطه الله إلى الأرض ليؤدى المهمة التى خلق من أجلها (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) بعد أن اجتباه وتاب عليه وهداه (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) فالعالم بدأ بتوبة آدم واجتباء الله له وهدايته. ولم يبدأ بالمعصية كما يقول بعض الكافرين. وقد عاش آدم عليه‌السلام فى الأرض ألف عام ثم مات ودفن بجبل أبى قبيس بمكة على بعض الآراء رحم الله أبانا آدم وجمعنا به فى جنة الخلد آمين [قصص الأنبياء لابن كثير ص ٩ ـ ٦٢ ، والنبوة والأنبياء ص ١٠٩ ـ ١٣١].

(٢) سورة طه ٢٠ / ١٢١ ، ١٢٢. ولمزيد من البحث والدراسة فيما ورد فى كتب التفسير والعقيدة عن معنى عصيان آدم وارتكابه للذنب : انظر الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل للزمخشرى ٢ / ٥٥٧ ط دار المعرفة ـ بيروت ـ لبنان.

وتفسير الفخر الرازى المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب ـ طبع دار الفكر بلبنان سنة ١٩٨١ م ٢٢ / ١٢٧ ـ ١٢٩.

وتفسير القرطبى الجامع لأحكام القرآن ط دار الريان للتراث بمصر ٦ / ٤٢٩٥ ـ ٤٢٩٧.

ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٤٩٦ ط : دار القرآن ببيروت ـ لبنان.

وقصص الأنبياء لابن كثير ص ٢٤ ـ ٣١ ففيه نقول مهمة وتوضيحات مفيدة.

وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٣٨ ـ ١٤٠.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١١.

١٥٠

وبيان أنه عصى وأذنب من خمسة أوجه :

الأول : قوله ـ تعالى ـ (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) صرح بمعصيته وأكد ذلك بقوله (فَغَوى).

الثانى : أنه نهى عن الشجرة بقوله (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) (١) وبقوله ـ تعالى ـ (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) (٢) فخالفا النهى وأكلا منها بدليل قوله ـ تعالى ـ (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) (٣) ومخالفة النهى معصية.

الثالث : أنه سمى نفسه ظالما حيث قالا / (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) (٤) وسماه الرب ـ تعالى ـ ظالما حيث قال تعالى (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (٥) وقد قرباها ، وأكلا منها ؛ فكانا من الظالمين. والأصل فى الإطلاق الحقيقة ، والظلم معصية لا محالة.

الرابع : قوله ـ تعالى ـ حكاية عن آدم (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٦) وذلك من غير ذنب محال.

الخامس : أنه تاب لقوله ـ تعالى ـ (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) (٧). وقوله ـ تعالى ـ (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (٨) والتوبة تستدعى الذنب ؛ إذ هى حقيقة فى الندم على الذنب.

فإن قيل : المعصية عبارة عن مخالفة الأمر ، أو النهى. ولا يخفى أن الأمر ينقسم إلى أمر إيجاب يستحق فى مخالفته اللّوم والتوبيخ. وإلى أمر ندب لا يستحق مخالفه اللّوم ، والتوبيخ. وكذلك النهى ينقسم إلى نهى تحريم يستحق مخالفه اللّوم والتوبيخ. وإلى نهى كراهة وتنزيه لا يستحق مخالفه اللوم والتوبيخ.

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ / ١٩.

(٢) سورة الاعراف ٧ / ٢٢.

(٣) سورة طه ٢٠ / ١٢١.

(٤) سورة الأعراف ٧ / ٢٣.

(٥) سورة الأعراف ٧ / ١٩.

(٦) سورة الأعراف ٧ / ٢٣.

(٧) سورة البقرة ٢ / ٣٧.

(٨) سورة طه ٢٠ / ١٢٢.

١٥١

وإطلاق اسم العصيان صحيح بمخالفة كل واحد من الأمرين سواء كان المخالف مستحقا للّوم ، أو لم يكن.

ومنه يقال أمرت فلانا بكذا فعصانى. [وإن لم يكن ما أمره به واجبا ، ونهيته عن كذا فعصانى] (١). وإن لم يكن ما نهاه عنه محرما.

وعند ذلك فيحتمل أنه سماه عاصيا ؛ لأنه خالف أمر الندب ، أو نهى التنزيه ، ويجب حمله عليه ؛ إذ هو المتيقن وما زاد عليه من استحقاق العتاب ، واللوم بالمخالفة ؛ فأمر متردد فيه.

وقوله تعالى (فَغَوى) معناه خاب ولم يحصل على ما كان يستحقه من الثواب على موافقة الأمر ، أو النهى ومنه قول الشاعر :

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغى لائما (٢)

أى يجب. وقيل : معنى غوى : لم يصب. وقيل معناه : فسد عليه عيشه.

ومنه يقال / / الغواء لسوء الرضاع (٣) والغذاء ، وعلى كل تقدير من هذه التقادير لا يقال إنه ارتكب ذنبا يستحق به عتابا ولا لوما. وعلى هذا فقد خرج الجواب عن مخالفة النهى أيضا.

وأما قولهما : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) (٤) معناه أنا بخسناها حقها ، وحرمناها ما كانت تحصل عليه من الثواب بموافقة الأمر أو النهى. ولهذا فإنه يصح أن يقال لمن فوّت على نفسه منافعها بترك تعاطى الأسباب الموجبة لها إذا كان متمكنا منها وإن لم تكن مستحقة له ، أنه ظالم لنفسه ، وهو المراد من قوله ـ تعالى ـ (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (٥) وقوله تعالى (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٦) معناه : إن لم تصلحنا. فإن المغفرة قد تطلب بمعنى الاصلاح.

__________________

(١) ساقط من «أ».

(٢) القائل هو المرقش الأصغر. والبيت فى المفضليات ٢٤٧ فى المفضلية رقم ٥٦.

/ / أول ل ٩٤ / أ.

(٣) ورد فى المعجم الوسيط (باب الغين). (غوى الرضيع) أكثر من الرضاع حتى اتخم وفسد جوفه.

(٤) سورة الأعراف ٧ / ٢٣.

(٥) سورة الأعراف ٧ / ١٩.

(٦) سورة الأعراف ٧ / ٢٣.

١٥٢

ومنه يقول العرب اغفروا هذا الأمر : أى أصلحوه بما ينبغى أن يصلح ، وليس فى ذلك ما يدل على ارتكاب الجريمة.

وقوله ـ تعالى ـ (فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (١). قلنا : التوبة فى اللغة بمعنى الرجوع ومنه / يقال : تاب فلان إذا رجع ، فمعنى توبة آدم أنه رجع إلى الله ـ تعالى ـ وإلى الانقطاع إليه. ومعنى توبة الرب ـ تعالى ـ عليه ، والعود عليه بالتفضل ، والإنعام ، وليس فى ذلك ما يدل على ارتكاب الجريمة والذنب.

قلنا : أما قولهم : إن المعصية عبارة عن مخالفة الأمر أو النهى ، مسلم.

قولهم : إن الأمر منقسم : إلى أمر إيجاب ، وندب. والنهى ينقسم إلى : نهى تحريم ، وكراهة تنزيه.

قلنا : إذا سلمتم أنه يلزم من اطلاق اسم العصيان عليه مخالفة الأمر ، أو النهى ، فنحن وإن سلمنا انقسام صيغة افعل ، ولا تفعل إلى ما ذكروه من الأقسام ؛ فلا نسلّم انقسام الأمر إلى أمر إيجاب (٢) [وندب ؛ بل الأمر على الإطلاق لا يكون إلا للإيجاب] على ما ذهب إليه كثير من أصحابنا. وأن الندب غير مأمور به ، ودليله العرف ، والنص.

أما العرف : فهو أن السيد إذا أمر عبده بأمر فخالفه ؛ فإنه يحسن فى العرف لومه ، وعتابه. ويقضى كل عاقل عقل. العرف وأهله بذلك. وليس ذلك مبنيا على قرائن الأحوال ؛ فإنه قد يحكم بذلك من كان غائبا عن مجلس الأمر ، وإن لم يشاهد قرينته أصلا.

وأما النص : فقوله ـ تعالى ـ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٣). حذر عن مخالفة أمره ، وذلك لا يكون فى الأمر إذا لم يكن للوجوب ، وقوله (عَنْ أَمْرِهِ) يعم كل أمر له. ولهذا فإنه لو قال السيد لعبده من خالف أمر ولدى فإنه معاقب ؛ فإنه يحسن أن يعاقب على مخالفة أى أمر كان له عرفا. وإذا كان أمر النبي محمولا على الإيجاب مطلقا ؛ فأمر الله ـ تعالى ـ أولى.

__________________

(١) سورة طه ٢٠ / ١٢٢.

(٢) ساقط من «أ».

(٣) سورة النور ٢٤ / ٦٣.

١٥٣

وأيضا قوله ـ عليه‌السلام ـ : «لو لا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» (١) دل على أن السواك غير مأمور به. وإن كان مندوبا بالإجماع ، وكذلك النهى ، فإنه لا يكون عندنا لغير التحريم.

ولهذا فإن الأمة لم تزل فى كل عصر ترجع فى إيجاب العبادات ، وتحريم المحرمات إلى الأوامر ، والنواهى. ويقضون بالإيجاب ، والتحريم بالأمر ، والنهى ويحتجون على المخالفين بذلك لا بالقرائن ؛ فدل على أن الأمر والنهى ، لا يكون لغير الإيجاب والتحريم.

وعند ذلك فيلزم من كون آدم مخالفا للأمر أو النهى أن يكون مذنبا مستحقا للوم ، والعقاب.

وإن سلمنا انقسام الأمر ، أو النهى إلى ما ذكروه. غير أن إخراجه من الجنة ، وسلبه لباسه كان عقوبة له.

وإنما قلنا : إن ذلك عقوبة لأنه مضر به ، وكل إضرار فهو عقوبة عرفا.

وإنما قلنا : إنه مضر به لأن كل عاقل يتضرر بسلب ما كان فيه من النعم كما يتضرر بحلول الآلام ، والأوجاع به. وربما كان ذلك عند المترفهين ، وأرباب المروات أعظم من الإضرار بالآلام.

ولهذا فإن كثيرا من العقلاء قد يتمنى الهلاك / عند زوال نعمته.

وإذا كان ذلك عقوبة له دل على صدور الإساءة ، والذنب عنه نظرا إلى أن العقوبة إنما تحسن عرفا فى حق المذنب دون من ليس بمذنب. كيف وأن العقوبة من غير سابقة ذنب عند الخصوم ظلم ، وقد قال تعالى (لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) (٢) ثم إن إطلاق لفظ المعصية عندهم على ما ليس بإساءة ولا ذنب من باب المجاز ، والحقيقة فى الإساءة ، ولا يخفى أن ترك الحقيقة ، والعدول إلى المجاز من غير دليل ممتنع.

__________________

(١) الحديث متفق على صحته أخرجه البخارى ومسلم فى صحيحيهما : أولا صحيح البخارى ٢ / ٤٣٥ ح رقم ٨٨٧.

(كتاب الجمعة ـ باب السواك يوم الجمعة). وأخرجه مسلم فى صحيحه كتاب الطهارة ـ باب السواك ١ / ٢٢٠ ح ٢٥٢.

(٢) سورة النساء ٤ / ٤٠.

١٥٤

قولهم : إن حمل الأمر على الندب ، والنهى على الكراهة متيقن بخلاف الإيجاب ، والحظر ؛ ليس كذلك.

فإن الواجب والمندوب / / وإن اشتركا فى أصل الأمر ؛ فليس الواجب مندوبا وزيادة حتى يكون الحمل على الندب متيقنا ؛ بل كل واحد منهما مختص بخاصية لا تحقق لها فى الآخر ، والمتيقن إنما هو القدر المشترك وهو الأمر.

وعند ذلك : فليس القول بوقوع الشك فى خاصية الواجب ، أولى من وقوعه فى خاصية الندب. وعلى هذا يكون الكلام فى النهى المشترك بين التحريم ، والكراهية ويدل على ما ذكرناه أنه أكد المعصية بالغى بقوله ـ تعالى ـ (فَغَوى).

قولهم : الغوى هو الخيبة ليس كذلك ؛ بل هو الجهل على ما قاله صاحب المجمل ، وقد قال مقاتل : الغوى هو الضلال عن طاعة الله ـ تعالى ـ وكل ذلك من أسماء الذم ؛ ولا ذم على ما لا يكون إساءة.

وعلى هذا فقد خرج الجواب عما ذكروه على الوجه الثانى من مخالفة النهى ويدل على ما ذكرناه تسميته ظالما.

قولهم : المراد منه أنه حرم نفسه ما كان بصدد تحصيله من الثواب بتقدير الطاعة.

قلنا : فيلزم منه أن يكون جميع الأنبياء ظلمة ؛ لأنه ما من نبى إلا ويجوز عليه ترك بعض المندوبات ويكون بذلك قد حرم نفسه الثواب الحاصل من فعله ؛ ولا يخفى ما فيه من البعد.

وإن سلمنا صحة إطلاق الظلم بهذا المعنى غير أنه مجاز فيه ، وحقيقة فى المعصية وفعل المحرم.

ولهذا فإنه لا يتبادر إلى الأفهام من إطلاق لفظ الظلم غير الإساءة والمعصية.

فلئن قالوا : إطلاق اسم الظلم على فعل المحرم يبطل بمن فسق ، وارتكب فعلا محرما ؛ فإنه لا يسمى ظالما ؛ فقد سبق جوابه فى الفصل العشرين من خلق الأعمال (١).

__________________

/ / أول ل ٩٤ / ب.

(١) انظر ل ٢٥٤ / أوما بعدها الجزء الأول ل ٢٥٤ / أوما بعدها.

١٥٥

ويدل على ما ذكرناه قوله ـ تعالى ـ (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا) (١).

قولهم : المغفرة قد تطلق بمعنى الاصلاح مسلم ، غير أن المشهور من اللغة أن المغفرة مأخوذة من الغفر ، والغفر قال صاحب المجمل وغيره هو الستر. ومن المعلوم أنه لم يرد به ستر الطاعة وتغطيتها ، وإلا لما حسن قوله (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١) فلم يبق إلا أن يكون المراد بع ستر الذنب وتغطيته ، ويدل على ما ذكرناه إطلاق / اسم التوبة عليه.

قولهم : التوبة بمعنى الرجوع.

قلنا : وإن كان كذلك إلا أن المتبادر من إطلاق لفظ التوبة إنما هو الندم على الذنب ومنه قوله ـ عليه‌السلام ـ «الندم توبة» (٢). فيكون لفظ التوبة ظاهرا فيه ، ولا يجوز العدول عن الظاهر إلى غيره من غير دليل.

الحجة الثانية :

قوله ـ تعالى ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ١٨٩ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣).

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ / ٢٣.

(٢) أخرجه ابن ماجة فى سننه. كتاب الزهد ـ باب ذكر التوبة ٢ / ٤٢٠ ح ٤٢٥٢ بنصه. «الندم توبة» وأخرجه الإمام أحمد فى مسنده. مسند عبد الله بن مسعود ١ / ٣٧٦. وأخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب التوبة والإنابة ـ باب الندم توبة ٤ / ٢٤٣ وصححه الحاكم ووافقه الذهبى. وأخرجه الحميدى فى مسنده ـ مسند عبد الله بن مسعود ١ / ٥٨ ، ٥٩ ح ١٠٥.

(٣) سورة الأعراف ٧ / ١٨٩ ، ١٩٠.

ولمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما ورد هاهنا :

انظر تفسير الكشاف للزمخشرى ٢ / ١٣٦ ، ١٣٧.

وتفسير الفخر الرازى ١٥ / ٨٩ ـ ٩٤ ، وتفسير القرطبى ٤ / ٢٧٧٣ ـ ٢٧٧٧

ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٧٣ ، ٧٤ وصفوة التفاسير للصابونى ١ / ٤٨٦ و ٤٨٧ ط دار القرآن بيروت سنة ١٩٨١ م.

وتفسير المنار للإمام محمد عبده ـ محمد رشيد رضا ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ٩ / ٤٣١ ـ ٤٣٨.

وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٤٠ ـ ١٤٢.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١٢.

١٥٦

ووجه الاحتجاج بالآية : أن المراد من قوله ـ تعالى (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) آدم ـ عليه‌السلام ـ ومن قوله ـ تعالى ـ (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) حواء ، والضمير فى قوله (جَعَلا) عائد إلى آدم وحواء ، لأنه لم يسبق ما يعود إليه ضمير التثنية غيرهما ، وقوله (لَهُ شُرَكاءَ) عائد إلى الله ـ تعالى ـ وذلك يدلّ على وقوع المعصية من آدم ، وهو إما أن يكون فى حالة النبوة أو قبلها. وعلى كل تقدير ؛ فهو خلاف مذهب الشيعة.

فإن قيل : أنتم وإن جوزتم الشرك على الأنبياء عقلا. فالإجماع منعقد منا ومنكم على امتناع ذلك فى حقهم سمعا.

وعند ذلك : فلا بد من التأويل ولنا فيه وجوه : ـ

الوجه الأول فى التأويل :

أن الضمير فى قوله ـ تعالى ـ (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) غير عائد إلى آدم وحواء ؛ بل إلى الذكور والإناث من الكفار من ذريتهما. ويكون تقدير الكلام «فلما أتى الله آدم وحواء الوالد الصالح الّذي طلباه من الله عزوجل فى دعائهما ؛ جعل كفار أولادهما ذلك مضافا إلى غير الله تعالى». ويدل على صحة هذا التأويل قوله ـ تعالى ـ (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) فإنه يشعر بأن المراد بالتثنية فى قوله ـ تعالى ـ (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) إنما هو الجمع من الجنسين ، من أولاد آدم وحواء.

فلئن قلتم : إذا كان الضمير فى قوله ـ تعالى ـ (فَلَمَّا تَغَشَّاها) وفى قوله ـ تعالى ـ (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ). وفى قوله ـ تعالى ـ (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) عائد إلى آدم وحواء ، وجب أن يكون الضمير فى قوله ـ تعالى ـ : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) عائد إلى آدم وحواء ؛ حتى لا يكون الكلام مضطربا مختلفا.

وإن سلمنا : جواز الاختلاف فى عود الضمير فى الكلام ، غير أن شرط الضمير أن يعود إلى مذكور ، والمذكور إنما هو / / آدم وحواء دون أولادهما.

قلنا : أما الأول : فهو غير ممتنع ؛ لأن الفصيح المصقع قد ينتقل من خطاب إلى غيره ، ومن كتابة إلى خلافها ، ومنه قوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ٨ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) (١) ثم قال ـ تعالى ـ (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) يعنى الرسول ـ عليه‌السلام ـ ثم

__________________

/ / أول ل ٩٥ / أمن النسخة ب.

(١) سورة الفتح ٤٨ / ٨ ، ٩.

١٥٧

قال ـ تعالى ـ (وَتُسَبِّحُوهُ) يعنى مرسل الرسول / ـ عليه‌السلام ـ فالكنايات مختلفة وإن كان الكلام جملة واحدة ، ومنه قول الشاعر :

فدى لك ناقتى وجميع أهلى

وما لى إنه منه أتانى (١)

ولم يقل منك أتانى.

وأما الثانى : فلا نسلم عدم ذكر أولاد آدم وحواء ؛ بل إنهم مذكورون فى قوله ـ تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) (٢) إذ المراد به جميع أولاد آدم ، وإذا تقدم مذكوران ، وعقبا بضمير لا يليق بأحدهما وجب إضافته إلى من يليق به ، والشرك غير لائق بآدم ؛ فوجب عوده إلى الكفار من أولاده.

وإن سلمنا عدم ذكر الأولاد ، غير أن عود الضمير فى الكلام إلى ما ليس مذكورا غير ممتنع. ودل عليه قوله ـ تعالى ـ (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) (٣) يعنى الشمس ولم يسبق للشمس فى الكلام ذكر ، ومنه قول الشاعر :

لعمرك ما يغنى الثراء عن امرئ

إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدر (٤)

والضمير فى حشرجت عائد إلى النفس وهى غير مذكورة.

الوجه الثانى فى التأويل :

أن الضمير فى قوله (جَعَلا لَهُ) غير عائد إلى الله ـ تعالى ـ بل هو عائد إلى إبليس.

وتحقيق ذلك أنه قد روى «أن حواء لمّا أثقل بها الحمل عند دنو ولادتها عرض لها إبليس فى غير صورته ، وقال لها يا حواء لعل ما فى بطنك بهيمة؟ فقالت : ما أدرى ، ثم انصرف عنها ، فلما ازداد ثقل الولد فى بطنها ، رجع إليها إبليس فقال لها : كيف تجدينك. فقالت : إنى أخاف أن يكون الّذي خوفتنى به ، فإنى لا أستطيع القيام إذا قعدت.

__________________

(١) والبيت جاء بدون نسبة فى الكامل ٢ / ٥٧.

(٢) سورة الأعراف ٧ / ١٨٩.

(٣) سورة ص ٣٨ / ٣٢.

(٤) القائل حاتم الطائى وهو فى ديوانه ص ١٩٩.

١٥٨

فقال لها : أرأيت إن دعوت الله أن يجعله إنسانا مثلك ، ومثل آدم أتسمينه باسمى ، وكان اسمه الحارث ـ قالت نعم ، ثم انصرف عنها.

فقالت لآدم : لقد أتانى آت يزعم أن الّذي فى بطنى بهيمة وإنى لأجد له ثقلا. وقد خفت أن يكون كما قال ، فجعلا يدعوان الله ـ تعالى ـ لئن آتيتنا صالحا : أى ولدا سويا فى الخلق لنكونن من الشاكرين.

فولدت ولدا سويا ، فجاءها إبليس وقال لها : لم لم تسميه باسمى كما وعدتنى؟

قالت : وما اسمك فقال : عبد الحارث ، فسمته عبد الحارث ، ورضى بذلك آدم ـ عليه‌السلام (١) ـ فمعنى قوله ـ تعالى ـ (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) (٢) أى لإبليس فى اسمه ، حيث سموا ولدهم عبد الحارث ، ثم انقطع الكلام وقال (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) يعنى كفار مكة المذكورين فى أول الآية ، ولا يمتنع الانتقال من خطاب شخص إلى خطاب غيره ، كما ذكرناه من قوله ـ تعالى ـ (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) (٣).

الوجه الثالث فى التأويل :

أن الضمير فى قوله (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) عائد إلى الولد ، لا إلى الله ـ تعالى ـ ولا إلى إبليس ، ومعناه : أنهما طلبا من الله ـ تعالى ـ أمثالا للولد الصالح / الّذي آتاهما. وعلى هذا : فلا يمتنع أن يكون الضمير من أول الكلام إلى آخره عائدا إلى آدم وحواء.

وقوله (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) غير عائد إلى هذا الإشراك المذكور ، فإنه غير ممتنع أن يطلب منه ولدا صالحا بعد آخر ، وإنما المراد به الإشراك به ـ تعالى ـ ويكون الكلام منقطعا عن الأول كما سبق تحقيقه.

والجواب :

قولهم : الإجماع منا ومنكم منعقد على امتناع الشرك بالله ـ تعالى ـ على الأنبياء.

قلنا : فى حالة النبوة ، أو قبل النبوة.

__________________

(١) قارن بما ورد فى شرح المواقف ص ١٤٠ ـ ١٤٢.

(٢) سورة الأعراف ٧ / ١٩٠.

(٣) سورة الأحزاب ٣٣ / ٤٥.

١٥٩

الأول : مسلّم. والثانى ممنوع.

فإنا ذكرنا أن مذهب القاضى أبى بكر أن ذلك غير ممتنع عقلا ولا سمعا ، ولم يثبت أنه حالة إضافة الإشراك إليه كان نبيا. وإن سلمنا امتناع الشرك بالله ـ تعالى ـ على الأنبياء مطلقا.

غير أنه لم يرد بقوله (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) فى الإلهية ؛ بل أراد به شركاء فى الطاعة له ، أى أنهما أطاعا إبليس فى تسمية ولدهما عبد الحارث على ما سبق تحقيقه فى التأويل الثانى.

وطاعة إبليس وإن لم تكن فى الشرك بالله ـ تعالى ـ فهى ذنب ، ومعصية ؛ فإنه لا يأمر بغير الشر والباطل.

قولهم : الضمير فى جعلا له شركاء عائد إلى الذكور والإناث من أولادهما الكفار.

قلنا : أولادهما وإن كانوا مذكورين ، غير أن التثنية غير مذكورة والأصل فى ضمير التثنية ، أن يعود إلى المذكور ، لا إلى غير المذكور ؛ إذ هو أبعد عن اللّبس والخلل.

وإن سلّمنا أن ضمير التثنية مذكور غير أن الأصل عود الضمير إلى أقرب مذكور.

/ / ولا يخفى أن آدم وحواء أقرب مذكور إلى الضمير من أولادهما ، فكان عوده إليهما أولى ، ولأن الضمير فى قوله ـ تعالى ـ (فَلَمَّا تَغَشَّاها) وفى قوله (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) وفى قوله (آتَيْتَنا صالِحاً) وفى قوله (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) وفى قوله (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) عائد إلى آدم وحواء. فكان عود الضمير فى قوله (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) إلى آدم وحواء أولى ؛ إذ هو أقرب إلى ضبط الكلام ، وحفظه عن الخبط ، والتخليط وإن كان عوده إلى غيرهما جائز كما ذكروه. وقوله : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) عائد إلى كفار مكة المذكورين فى أول الآية.

قولهم : فى التأويل الثانى : الضمير عائد إلى إبليس ، ومعناه : أنهما جعلا لإبليس شركاء فى اسمه ، حيث سميا ولدهما باسمه ؛ فهو ممتنع لوجهين :

__________________

/ / أول ل ٩٥ / ب.

١٦٠