أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٤

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0327-1
الصفحات: ٣٩٨

١
٢

٣
٤

القاعدة الخامسة

فى النّبوات

وتشتمل على ستّة أصول :

الأول : فى بيان معنى النبوة والنّبي.

الثانى : فى تحقيق معنى المعجزة ، وشرائطها ، ووجه دلالتها على صدق النّبي.

الثالث : فى جواز البعثة عقلا.

الرابع : فى تحقيق وقوعها بالفعل.

الخامس : فى عصمة الأنبياء.

السادس : فى عصمة الملائكة ، وما قيل فى التفضيل بينهم ، وبين الأنبياء عليهم‌السلام.

٥
٦

الأصل الأول

فى معنى النّبوة ، والنّبي (١)

فنقول :

أما فى وضع اللغة : فالنّبىّ مأخوذ من النبوة : وهى الارتفاع ، ومنه

يقال : تنبّأ فلان : إذا ارتفع وعلا.

وقيل : النّبي هو الطريق. ومنه يقال للرّسل عن الله ـ تعالى ـ أنبياء ؛ لكونهم طرق الهداية إليه (٢)

وقيل : إنه مأخوذ من الإنباء : وهو الإخبار ؛ ولذلك يقال لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نبيا ؛ لإنبائه عن الله عزوجل.

وأما فى اصطلاح النّظّار : فقد اختلف فيه :

فقالت الفلاسفة (٣) : النّبي هو من كان مختصا بخواص ثلاثة :

الأولى : أن يكون مطلعا على الغائبات ؛ لصفاء جوهر نفسه ، وشدّة اتصالها بالمبادئ الأول من غير تعليم وتعلم ؛ ولا بعد فى ذلك ؛ فإنّ التفاوت / / بين الناس فيما

__________________

(١) لتحقيق معنى النبي ، وبيان حقيقة النبوة بالإضافة إلى ما ورد هاهنا يراجع ما يلى : التمهيد للباقلانى ص ٩٦ وما بعدها والإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به له أيضا ص ٦١. وأصول الدين للبغدادى ص ١٥٣ وما بعدها. والإرشاد لإمام الحرمين الجوينى ص ٣٥٥ وما بعدها ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٤١٧ وما بعدها.

وغاية المرام للآمدى ص ٣١٧ وما بعدها. والمغنى فى أبواب التوحيد والعدل ١٥ / ١٤ وما بعدها. للقاضى عبد الجبار وشرح الأصول الخمسة له أيضا ص ٥٦٣ وما بعدها. وتثبيت دلائل النبوة للقاضى عبد الجبار. والنبوات للإمام الرازى ومناهج الأدلة لابن رشد ص ٢٠٨ وما بعدها. والنبوات لابن تيمية وشرح الطحاوية لابن أبى العز الحنفى ص ١٢١ وما بعدها. وشرح المواقف للجرجانى الموقف السادس ص ٥١ وما بعدها تحقيق : د. أحمد المهدى. وشرح المقاصد للتفتازاني ٢ / ١٢٨ وما بعدها. وشرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص ١٩٨ وما بعدها.

(٢) ورد فى المعجم الوسيط (باب النون) ـ (نبأ) ما يلى : (نبأ) الشيء ـ نبئا ونبوءا : ارتفع ، وظهر. (أنبأه) الخبر وبالخبر : أخبره. (تنبأ) : ادعى النبوة. (النبوءة) سفارة بين الله عزوجل ؛ وبين ذوى العقول لإزاحة عللها.

[وتبدل الهمزة واوا وتدغم فيقال : النبوة]. (النبيء) المخبر عن الله عزوجل [وتبدل الهمزة ياء وتدغم فيقال : النبي] (ج) أنبياء.

(٣) لتوضيح رأى الفلاسفة بالإضافة إلى ما ورد هاهنا : انظر من كتبهم : الإشارات والتنبيهات لابن سينا والنجاة فى الحكمة المنطقية والطبيعية له أيضا.

/ / أول ل ٦٩ / أ.

٧

يرجع إلى إدراك المعقولات ظاهر. حتى إن بعضهم قد يكون إدراكه لمعنى فى زمن أقل من زمن إدراك الأخر له. ولا حدّ لذلك ؛ بل هو فى درجة / الزيادة ، والنقصان ذاهب إلى من له قوة حدس الأشياء كلها فى أقرب زمان ، وإلى من لا حدس له البتة.

وما مثل هذه القوة التى بها إدراك المعقولات من غير تعليم ، وتعلّم هى المسمّاة عندهم بالعقل القدسى (١).

قالوا : وقد يمكن أن يوجد مثل ذلك أيضا فى حقّ من قلت شواغله البدنية لنفسه بالرّياضات ، وأنواع المجاهدات. وإما بسبب نوم أو مرض ، أو صرع ، أو غير ذلك على ما هو مشاهد من بعض الناس.

الخاصة الثانية :

أن يكون [بحيث تطيعه] (٢) الهيولى القابلة للصّور الكائنة الفاسدة وهذا أيضا ممكن ؛ فإن النفوس الإنسانية مؤثرة فى المواد كالذى نشاهده من تأثيرات الأنفس فى المادة بالاحمرار ، والاصفرار والتسخين عند الخجل ، والوجل ، والغضب ، والسّقوط من الأماكن العالية عند توهم النفس ذلك. فغير بعيد ممن كانت [نفسه] (٣) نبويّة متصلة بالعوالم العقلية أن تتأثر المادة بسبب تعلقها بها بحيث يحدث فى العالم عجائب ، وغرائب من ريح شديدة ، وخسف وزلازل ، وإحراق ، وغرق ، إلى غير ذلك.

قالوا : وقد يتأتّى مثل ذلك لبعض أهل الخلوص ، والصّفاء على ما هو معلوم فى كل عصر من آحاد الصلحاء.

الخاصة الثالثة :

أن يكون ممّن يرى ملائكة الله ـ تعالى ـ على صور متخيلة ، ويسمع كلام ربه (٤)

__________________

(١) العقل القدسى : وهو عبارة عن القوة النظرية التى من شأنها تحصيل المدركات من غير تعليم وتعلم ؛ كحال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. انظر (المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدى ص ١٠٨)

(٢) فى النسخة (أ) (يطيع). وفى النسخة (ب). (بحيث تطيعه نوم أو مرض)

(٣) ساقط من (أ)

(٤) فى ب (الله)

٨

بالوحى وذلك أيضا ممكن بطريقة أن القوّتين وهما الخيالية (١) ، والحس المشترك (٢) قد تنفعل كل واحدة منهما عن الأخرى ولهذا فإنه قد ينطبع فى الخيالية ما كان قد انطبع فى الحسّ المشترك متأديا إليها من الحواس الظاهرة من الصور المحسوسة.

وعلى هذا : فغير بعيد أن يحصل فى الخيال صور ، وأصوات لا وجود لها فى الحسّ الظاهر ، ويتأتى ذلك الانطباع إلى الحس المشترك وبواسطته إلى الحواس الظاهرة كما كان بالعلتين ؛ فإن القوى الحاسة كالمرايا المتقابلة فى انطباع ما فى بعضها فى بعض.

وعند ذلك : فقد يسمع من الأصوات ويرى من الصّور حسب ما وقع فى الخيال وإن كان لا يراه ، ولا يسمعه أحد من الحاضرين.

قالوا : وقد يحصل أيضا نوع من هذا لبعض من قلّت شواغله البدنية وإن كان مستيقظا لأمر غلب على مزاجه كبعض المجانين والمتكهنين ، والمرضى ، غير أن هذه حالة نقص. والأولى حالة كمال.

قالوا : ولا شك أن المادة القابلة لهذا الشخص ممكن أن تقبل مثله فى كل وقت.

وقال آخرون : ـ

النّبيّ من يعلم كونه نبيّا ، والنّبوّة علمه بنبوّته (٣).

وقال آخرون : ـ /

النّبيّ هو العالم بربه ، والنّبوّة علمه بربه (٤).

وقال آخرون : ـ

النّبوّة سفارة العبد بين الله ـ تعالى ـ وبين الخلق (٥).

__________________

(١) قال عنها الآمدي فى المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين ص ١٠٥ : «وأما المتخيلة وتسمى ـ إذا نسبت إلى الإنسان ـ مفكرة : فعبارة عن قوة مرتبة فى مقدم التجويف الثانى من الدماغ ، من شأنها الحكم على ما فى الخيال بالافتراق والاتفاق والتركيب والتحليل»

(٢) قال عنه الآمدي فى المبين ص ١٠٥ «وأما الحس المشترك ، ويسمى فنطاسيا : فعبارة عن قوة مرتبة فى مقدم التجويف الأول من الدماغ ، من شأنها إدراك ما يتأدى إليها من الصور المنطبعة فى الحواس الظاهرة»

(٣) وقد ردّ الآمدي على هذا المذهب فى ل ١٢٩ / ب. وحكم عليه بأنه فى غاية الخبط والتخليط.

(٤) وقد ردّ الآمدي على هذا المذهب الثالث فى ل ١٢٩ / ب. وحكم عليه بالفساد.

(٥) وقد رد الآمدي على المذهب الرابع : وأما المذهب الرابع ففاسد أيضا ... الخ. ثم ذكر الحق فى ذلك فقال : [والحق : ما ذهب إليه أهل الحق من الأشاعرة وغيرهم ... الخ] (ل ١٢٩ / ب ، ل ١٣٠ / أ).

٩

وهذه المذاهب فاسدة.

أما مذهب الفلاسفة : وقولهم فى الخاصة الأولى أن النّبي هو الّذي يكون مطلعا على الغائبات من غير تعليم وتعلم ؛ فهو فاسد من ثلاثة أوجه :

الأول : أنهم إما أن يريدوا بذلك الاطلاع على جميع الغائبات أو على (١) بعضها.

فإن كان الأول : فليس بشرط فى كون النبي نبيا بالاتفاق منا ، ومنهم ، ولهذا فإنّا نعلم علما ضروريا أن من وجد من الأنبياء ودلّت المعجزة القاطعة على نبوّته ـ كما يأتى تحقيقه ـ لم يكن عالما بجميع المغيّبات ولا مطّلعا عليها ، ولهذا قال أفضل المرسلين (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) (٢).

وإن كان الثانى : فما من أحد عندهم الا ويجوز أن يكون مطلعا على بعض المغيّبات من غير تعليم ، وتعلم وإن لم يكن نبيا ؛ فلا يكون ذلك خاصة للنّبىّ.

الوجه الثانى :

قولهم : وأن يكون ذلك لصفاء جوهر نفسه.

فنقول : النفس الإنسانية عندهم جوهر بسيط مجرد عن المادة دون علائقها ، والنفوس الإنسانية كلها من نوع واحد ولا تفاوت فيها حتى تختلف نفسها بالصفاء والكدر.

وعند ذلك : فما ثبت للبعض لنفسه ولذات نفسه ؛ وجب أن يكون ثابتا لكل النّاس ؛ ضرورة الاتحاد فى نوع النفس الإنسانية ، ويخرج ما ذكروه من الاطلاع على المغيّبات عن أن يكون خاصة نفس النّبي دون غيره ، أو أن تكون الأنفس مختلفة متنوعة ؛ ولم يقولوا به.

الثالث :

قولهم : وقد يوجد (٣) فى حقّ من قلت الشواغل / / البدنيّة لنفسه بسبب نوم ، أو

__________________

(١) (على) ساقط من ب.

(٢) سورة الأعراف ٧ / ١٨٨.

(٣) فى ب (وقد يوجد ذلك أيضا)

/ / أول ل ٦٩ / ب.

١٠

صرع ، أو مرض ؛ فهو اعتراف منهم بوجود ذلك فى غير النبي [وبه يخرج عن كونه خاصة للنبى] (١).

هذا كله إن أرادوا بعلم الغيب خلق الله ـ تعالى ـ له العلم الاضطرارى بالمغيب وإن أرادوا غيره ؛ فهو غير مسلم.

وقولهم : فى [الخاصة الثانية] (٢) فمبنى على كون النفس مؤثرة فى تغيير الأجسام ، ونقلها من حال إلى حال ؛ فهو باطل بما أسلفناه فى بيان أنه لا مؤثر ولا فاعل غير الله تعالى (٣).

كيف وأن نفس النبي مماثلة لنفس غيره ممن ليس بنبىّ ، فلو كان ذلك من توابع نفسه ؛ لكان من توابع نفس غيره ضرورة الاتّحاد فى النّوعيّة بين الأنفس الإنسانية عندهم.

ثم قولهم : وقد يتأتى مثل ذلك أيضا لمن ليس بنبي من أهل الخلوص والصّفاء. اعتراف بكونه غير خاصة للنّبىّ.

وقولهم : فى الخاصة الثالثة : أن يكون ممن يرى ملائكة الله ويسمع وحيه. وإن كان / إطلاقه صحيحا ، غير أن ذلك تلبيس منهم وتستر بإطلاق عبارة لا يقولون بمعناها ، ومقتضاها.

فإن مقتضى ذلك : أن يكون لله ـ تعالى ـ كلام ، وأن يكون لله ـ تعالى ـ ملائكة تتعلق بهم الرؤية ، وليس عندهم لله كلام ، ولا له ملائكة غير المبادئ الأول وهى العقول المجردة عن المواد وعلائقها ، ونفوس الأفلاك. وتلك لا يتصور عندهم أن تكون مرئية ؛ لأن شرط الرؤية عندهم أن يكون المرئى فى جهة مقابلة الناظر ، وأن يكون نيرا ، أو مستنيرا ، وتوسط الهواء المشف كما سبق.

والعقول كالنفوس عندهم. جواهر معقولة غير محسوسة ؛ فلا يتصور فيها ذلك ؛ فلا تكون مرئية ، ومع ذلك فهى غير قابلة للكلام عندهم حتى يكون ما يسمعه منها وحيا ؛

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) فى (أ) (الخاصة الأولى)

(٣) راجع ما مر في الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الثانى : فى أنه لا خالق الا الله ـ تعالى ـ ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه. ل ٢١١ / ب وما بعدها.

١١

بل حاصل ذلك عندهم يرجع إلى تخيل صور ، وأصوات لا وجود لها فى أنفسها كما يتخيله النائم والمجنون كما ذكروه آخرا ؛ ويلزم من ذلك عود التّكاليف والشّرائع وبعثة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ إلى خيالات فاسدة لا أصل لها. ولو كان الواحد منا مشرعا ، وآمرا ، وناهيا من قبل نفسه وإن كان موافقا للمصالح العقليّة لما كان نبيا ، ولا متبعا بموافقة منهم ، فما ظنك بما هو عائد إلى خيال لا أصل له مع كونه غير معقول ، ولا موافق للمصالح العقليّة.

أما المذهب الثانى : القائل بأن النّبوة علم الإنسان بنبوته ، والنّبي هو العالم بنبوّته ؛ ففى غاية الخبط والتخليط ؛ لأنه إما أن يكون العلم بالنّبوّة هو النّبوّة ، أو غيرها.

فإن كان الأول : فهو فاسد ؛ إذ العلم بالشيء غير الشيء المعلوم ، فالعلم بالنّبوة غير النّبوة.

وإن كان الثانى : فما ذكروه لا يكون هو النّبوة.

وأما المذهب [الثالث] (١) : القائل بأن النّبيّ هو العالم بربّه ، والنّبوة علم الانسان بربه ، والنبوة علم الانسان بربّه ، ففاسد أيضا ؛ إذ يلزم منه أنّ كل من علم وجود ربه ، وما يجوز عليه ، وما لا يجوز بالدليل أو بأن يخلق الله ـ تعالى ـ له العلم الاضطرارى بذلك ؛ أن يكون نبيا ؛ وليس كذلك بالاتّفاق. ثم ولو كان كذلك ؛ لما كان جعل البعض داعيا ، والبعض مدعوا ، أولى من العكس.

وأما المذهب الرابع : ففاسد أيضا. فإنّ صحة السّفارة مبنيّة على تحقيق النّبوة ، والمبنى على الشيء غير الشيء ، ولأنّ النّبوّة قد ثبتت عند التّحدى ودلالة المعجزة على صدق المتحدّى ، وان لم توجد السفارة بعد.

فإذن الحق : ما ذهب إليه أهل الحق من الأشاعرة ، وغيرهم / من أن النّبوّة ليست راجعة إلى ذاتىّ من ذاتيّات النّبي ، ولا إلى عرض من أعراضه المكتسبة له ؛ لما سبق.

بل هى موهبة من الله ـ تعالى ـ ونعمة منه على عبده ، وحاصلها يرجع إلى قول الله ـ عزوجل ـ لمن اصطفاه من عباده. أرسلتك ، وبعثتك فبلغ عنّى ، ولا يلزم على ما

__________________

(١) ساقط من (أ)

١٢

ذكرناه من عود النّبوة إلى قول الله تعالى ـ أن تكون النبوة قديمة ضرورة قدم الكلام الرّبانىّ ؛ لأن النّبوة ليست نفس الكلام القديم ؛ بل الكلام (١) بصفة كونه متعلقا بالمخاطب ، والتعلق ، والمتعلق متجدد غير قديم.

وبما انتهينا إليه هاهنا ؛ تم الأصل الأول.

__________________

(١) فى ب (الكلام القديم).

١٣
١٤

الأصل الثانى

فى تحقيق معنى المعجزة ، وشرائطها ، ووجه

دلالتها على صدق النبي

ويشتمل على ثلاثة فصول :

الفصل الأول (١) : فى تحقيق معنى المعجز

الفصل الثانى : فى شرائط المعجز

الفصل الثالث : فى وجه دلالة المعجزة على صدق النّبيّ.

__________________

(١) ورد فى النسخة (ب) بدلا من الفصل الأول (أ) وبدلا من الفصل الثانى (ب) وهكذا.

١٥
١٦

الفصل الأول

فى تحقيق معنى المعجزة (١)

والمعجز فى اللغة : مأخوذ من العجز ، وفى / / الحقيقة لا يطلق على غير الله ـ تعالى ـ لكونه خالق العجز ، وتسمية غيره معجزا : كفلق البحر ، وإحياء الميت ، وإبراء الاكمه ، والأبرص ، فإنما هو بطريق التّجوّز ، والتّوسّع حيث أنّه ظهر تعذّر المعارضة ، والمقابلة من المبعوث إليه عند ظهوره وإن لم يكن هو الموجب لذلك ؛ تسمية للشّيء بما يدانيه ، وما هو منه بسبب : وذلك كما فى تسمية مخلوقات الله ـ تعالى ـ دلالة عليه ؛ لظهور المعرفة بالله ـ تعالى ـ عند ظهورها ، وإن لم تكن فى الحقيقة دالّة ، إذ الدّال فى الحقيقة هو ناصب الدّليل وهو الله ـ تعالى ـ ، والمخلوقات إنّما هى أدلّة.

ثم الخارق الّذي يتعذّر الإتيان به قد يكون غير مقدور للبشر : كخلق الأجسام ، والألوان ، وإحياء الموتى ، ونحو ذلك ؛ (٢) فلا يكون ذلك فى الحقيقة معجوزا عنه بالنّسبة إليهم ؛ فإنّ ما ليس بمقدور لا يكون معجوزا عنه (٢).

وقد يكون مقدورا لهم : كما لو كان تحدّيه بأنهم لا يتحرّكون فى وقت كذا. ولو أرادوا ذلك ؛ لما وجدوا إليه سبيلا. فكيف يكون ذلك معجوزا عنه بالنسبة إليهم.

وعلى هذا فالعبارة الوافية بغرض المتكلم فى المعجزة : إنها عبارة عن كل ما قصد به إظهار صدق المدّعى للرّسالة عن الله ـ تعالى.

__________________

(١) لا خفاء أن حقيقة الإعجاز إثبات العجز. استعير لاظهاره. ثم أسند مجازا إلى ما هو سبب العجز ، وجعل اسما له. وذكر إمام الحرمين : أن هاهنا تجوزا آخر بناء على الأصح من رأى الأشعرى ، وهو أن العجز ضد القدرة. وإنما يتعلق بالموجود. حتى إن عجز الزمن عن العقود ، لا عن القيام. ووجه التّجوز على هذا أن المراد بالعجز عدم القدرة ؛ إذ لو حمل العجز على المعارضة على المعنى الوجودى ؛ لوجدت المعارضة الاضطرارية. (هامش شرح المواقف ـ الموقف السادس ـ ص ٥٩) ولمزيد من البحث قارن بما ورد فى : المعنى للقاضى عبد الجبار ١٥ / ٢٠٠ وما بعدها ، وأصول الدين للبغدادى ص ١٧١ وما بعدها ، وشرح المواقف الموقف السادس ص ٥٩ وما بعدها. وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٢١٣ وما بعدها. وشرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص ٢٠٠ وما بعدها.

/ / أول ل ٧٠ / أ.

(٢) من أول (فلا يكون ... معجوزا عنه) ساقط من ب.

١٧

الفصل الثانى

فى شرائط المعجزة (١)

وشرائط المعجزة : ـ

أن تكون من فعل الله ـ تعالى ـ وخلقه ، أو قائمة مقام فعله.

وأن تكون خارقة للعادة ، وأن يتعذّر على المبعوث إليه المعارضة /

وأن تكون ظاهرة مع دعوى النّبوّة ، وعلى وفق دعواه

وأن تكون مقارنة لدعواه غير مكذّبة له ، ولا متقدّمة عليها ، وفى تأخرها بزمان يعتد به خلاف ؛ كما يأتى.

أما أنّها لا بد وأن تكون من فعل الله ـ تعالى ـ أو قائمة مقام فعله :

لأنها إنّما تدلّ على صدقه من جهه نزولها منزلة التّصديق بالقول ، من الله ـ تعالى ـ على ما سيأتى تحقيقه ، ولو لم تكن من فعل الله تعالى ـ لما كانت متعلّقة به ؛ فلا تكون نازلة منه منزلة التّصديق له بالقول.

ومعنى قولنا : أو قائمة مقام الفعل :

أى فى قصد التّصديق للرّسول ، وذلك كما لو قال النّبي : معجزتى أن الّذي أتحدّى عليهم بالنّبوة فى وقتى هذا لو أرادوا القيام لما وجدوا إليه سبيلا ؛ وذلك عند تحققه من أعظم المعجزات ، وعدم القيام ليس من فعل الله ـ تعالى ـ ولا فعل غيره ، وكون القيام معجوزا عنه لا بمعنى أن الله ـ تعالى ـ خلق فيهم العجز ؛ فيكون المعجز خلق الله ـ تعالى ـ وهو خلق العجز ، بل بمعنى أنّه لم يخلق القدرة عليه ، هذا هو أصل شيخنا.

__________________

(١) وشرائط المعجزة سبعة :

الشرط الأول : أن تكون من فعل الله ، أو ما يقوم مقامه.

الشرط الثانى : أن تكون خارقة للعادة.

الشرط الثالث : أن تتعذر المعارضة.

الشرط الرابع : أن تكون ظاهرة مع دعوى النبوة.

الشرط الخامس : أن تكون موافقة للدعوى.

الشرط السادس : أن لا تكون مكذبة له.

الشرط السابع : أن لا تكون متقدمة على الدعوى ؛ بل مقارنة لها.

١٨

فالمعجز : عدم خلق القدرة ، والعدم ليس فعلا. ومن قال من أصحابنا إن العجز أمر وجودى : فالشرط عنده أن يكون العجز من فعل الله من غير حاجة إلى هذا التّقدير ؛ وذلك كخلق الأجسام ، والألوان وابراء الأكمه ، والأبرص ، وإحياء الموتى ، وهل يتصوّر أن تكون المعجزة مقدورة للرسول أم لا؟ وذلك كما لو كانت معجزته صعوده فى الهواء أو المشى على الماء ؛ فقد اختلفت الأئمة فى ذلك.

فذهب بعضهم : إلى أنّ نفس الحركة بالصّعود [والمشى] (١) ليست معجزة ؛ لكونها مقدورة له بخلق الله ـ تعالى ـ له القدرة عليها ، وإنما المعجزة هى نفس القدرة عليها ؛ فإن قدرته على ذلك غير مقدورة له.

ومنهم من قال : بأنّ هذه الحركات معجزة من جهة. كونها خارقة للعادة ، [ومخلوقة لله ـ تعالى ـ] (٢) وان كانت مقدورة للنّبي ؛ وهو الأصحّ.

فإن قيل : شرط المعجزة يجب أن يكون خاصا بالمعجزة غير عامّ لها ولغيرها ، فإذا كانت جميع الأفعال من فعل الله ـ تعالى ـ سواء كانت معجزة ، أو لم تكن ؛ فلا معنى لعد ذلك من شرائط المعجزة.

قلنا : عموم الوصف لا يخرجه عن أن يكون شرطا فى غيره إذا كان ذلك الغير متوقفا عليه ، وإنما يمتنع أخذ عموم الفعل شرطا فى المعجزة أن لو كان شرطا بمعنى كونه مميزا للمعجزة عن غيرها وحده وليس كذلك ؛ بل ذلك شرط بمعنى توقّف المعجزة عليه ، وتمييز / المعجزة عن غيرها بجملة ما ذكرناه من الشّروط.

وأما أن المعجز لا بد وأن يكون خارقا للعادة ؛ لأنّه منزّل من الله ـ تعالى ـ منزلة التصديق بالقول كما يأتى ، وما لا يكون خارقا للعادة بل هو معتاد الوقوع : كطلوع الشّمس كل يوم ، وكالقيام ، والقعود ؛ فلا يكون ذلك دالّا على الصدق ، كما لو قال : ودليلى فى نبوّتى أن الشّمس تطلع غدا ، أو أنّى أقعد ، أو أقوم ؛ لضرورة مساواة غيره له فيه ، حتى الكذاب مدعى النّبوة لا يشترط أن يكون ما يأتى به من الخارق معينا من جهة بالاتفاق.

__________________

(١) ساقط من (أ)

(٢) ساقط من (أ)

١٩

وأما أنّه لا بد وأن يتعذر على المبعوث إليه المعارضة ؛ لأنّه لو لم يكن كذلك ؛ لكان النّبي مساويا لمن ليس بنبىّ فى ذلك ، ويخرج المعجز عن كونه نازلا من الله ـ تعالى ـ منزلة التصديق.

وهل يشترط / / أن يكون المعارض مماثلا لما أتى به الرّسول ينظر ، فإن كان تحدّيه بخارق معيّن وأنّ أحدا لا يقدر على الإتيان بمثله ؛ فلا بدّ من المماثلة.

وإن لم يكن ما تحدى به معيّنا ؛ بل قال إنّنى آت بخارق للعادة ولا يقدر أحد على الإتيان بالخارق ، فأكثر أصحابنا اشترطوا المماثلة أيضا.

والّذي اختاره القاضى : أن المماثلة غير مشترطة ؛ وهو الحق لتبيين المخالفة فيما ادعاه.

وأما أنّها لا بدّ وأن تكون ظاهرة مع دعوى النّبي وعلى وفقها :

فلأنّ الخارق لو ظهر على يد غير مدّعى النّبوّة ، أو على يده لكن على خلاف ما ادّعاه ؛ فلا يكون نازلا منزلة التّصديق من الله ـ تعالى ـ له ولا يشترط التّصريح بالتّحدى كما ذهب إليه بعضهم ؛ بل يكفى فى ذلك قرائن الأحوال ، وذلك كما لو ادّعى النّبوة فقيل له لو كنت صادقا ؛ لظهرت الآية على صدقك ؛ فدعا الله ـ تعالى بظهورها ؛ فظهورها يكون دليلا على صدقه ، ويكون ذلك نازلا منزلة التّصريح بالتّحدى.

وأمّا أنّه يجب أن لا يكون ما ظهر على يده مكذّبا له :

وذلك كما إذا قال أنا رسول ، وآية صدقى أن ينطق الله ـ تعالى يدى فلو نطقت يده قائلة إنه كاذب فيما يدّعيه ؛ لم يكن ذلك آية على صدقه ؛ بل على كذبه ؛ لأن المكذب هو نفس الخارق ، وهذا بخلاف ما لو قال آية صدقى إحياء هذا الميّت فأحياه قائلا :

إنّ هذا المدّعى كاذب واستمرّ على الحياة والتّكذيب ؛ فإنه لا يعتدّ بتكذيبه ولا يكون مؤثرا فى دلالة الاحياء على صدقه ؛ إذ المعجز إنّما هو الإحياء وهو غير مكذّب له ، والمكذّب إنّما هو كلام الشخص الّذي خلقت فيه الحياة ، وهو غير معجز ، وهذا / مما لا

__________________

/ / أول ل ٧٠ / ب.

٢٠