أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0326-3
الصفحات: ٤٧٠

ثم وإن سلم صحة القدح فى الأجسم جدلا ؛ فلا نزاع فى صحة قولهم فلان جسيم ؛ والمراد به المبالغة فى التأليف ، وكثرة الأجزاء.

وأما السؤال الثانى : فمندفع أيضا. فإنا لا ندعى أن لفظة أفعل للمبالغة مطلقا ؛ بل إذا وردت مقترنة بمن ، وما ذكرناه كذلك بخلاف ما ذكروه من صور الاستشهاد ، [وبتقدير أن لا تكون للمبالغة ؛ فلا تخرج عن كونها دالة على أصل التأليف] (١).

وأما السؤال الثالث : فإنما يلزم أن لو وجب طرد أصول الاشتقاقات ؛ وليس كذلك. ولهذا فإن اسم القارورة : مشتق للزجاجة المخصوصة من قرار المائعات فيها ؛ وما لزم طرد ذلك فى الشربة ، والجرة ، وغير ذلك مما تقر فيه المائعات.

ثم وإن كان ذلك واجبا فى الأصل ؛ غير أنه قد يتخصص اللفظ بعرف الاستعمال ببعض مسمياته لغة : كما فى إطلاق اسم الدابة ؛ فإنه فى اللغة لكل ما يدب ، وإن كان مخصوصا بعرف الاستعمال ، بذوات الأربع ؛ دون غيرها.

وأما السؤال الرابع : فإنما يلزم أن لو كان المطلق لتلك معتقدا أن تأليف الخشبة أقل ، وليس كذلك ؛ بل إطلاق ذلك إنما يصح نظرا إلى اعتقاد أن تأليف الخشبة أكثر ؛ وهذا صحيح بالنظر الى مقصود اللغة ، وإن كان المطلق مخطئا فى ظنه.

كيف وأنه إذا قيل بأن الثقل راجع إلى غرض من الأغراض ؛ فلا يبعد أن يكون تأليف الخشبة وأجزاؤها أكثر ؛ وإن كانت أخف مما قيل إنه أجسم منه.

وإذا عرف موضوع / لفظ الجسم لغة ؛ فقد اختلف الناس فى تحديد الجسم ، ومعناه.

فقال الصالحى من المعتزلة (٢) : الجسم هو القائم بنفسه ؛ وهو منتقض بالجوهر الفرد وبالله ـ تعالى ؛ فإنه قائم بنفسه ، وليس بجسم ، مع أنه مخالف لوضع اللغة ؛ لما تحقق من أن مدلول الجسم ، هو التأليف ؛ ولا تأليف فى الجوهر الفرد ، ولا فى الله ـ تعالى.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) الصالحى من المعتزلة : من مرجئة القدرية. راجع عنه ما مر فى الجزء الأول هامش ل ٨٩ / أوأما عن رأيه : فانظر مقالات الإسلاميين ٢ / ٤ وما بعدها.

٨١

وإن قال بإطلاق اسم الجسم على الله ـ تعالى ـ لفظا مع موافقته على انتفاء المعنى ؛ فهو ممتنع ، لما سبق فى إبطال (١١) / / التشبيه (١).

وقال بعض الكرامية (٢) الجسم هو الموجود ؛ ويبطل بالجوهر الفرد أيضا وبالعرض ؛ فإنه موجود ؛ وليس بجسم.

وقال هشام (٣) : الجسم هو الشيء ، وينتقد أيضا بالجوهر الفرد ، وبالعرض ، فإنه شيء ، وليس بجسم.

ويدل على أن العرض شيء قوله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) (٤) وأراد به تحريفهم ، وتبديلهم ، والتحريف ، والتبديل من أفعال العباد ، وأفعال العباد أعراض. وينتقض أيضا بالله ـ تعالى ـ ؛ فإنه شيء بالاتفاق ، وليس جسما بالمعنى اللغوى. وإن اطلق عليه اسم الجسم لفظا لا معنى ؛ فهو باطل لما سبق (٥) واتفقت الفلاسفة على أن الجسم هو الّذي يمكن فيه فرض أبعاد ثلاثة متقاطعة ، على حد واحد ، تقاطعا قائما. والمراد من التقاطع القائم ، أن يحدث من تقاطع كل بعدين منهما زاوية قائمة.

والزاوية القائمة : هى التى تحدث من قيام بعد على بعد ؛ ليس ميله إلى إحدى الجهتين أكثر من الأخرى (٦).

قالوا : إذا كان معنى الجسم هذا ؛ فهو لا محالة قابل للانقسام والانفصال.

فالقابل للانفصال منه : إما أن يكون هو نفس البعد المفروض فيه ، أو شيء آخر. لا جائز أن يكون هو نفس البعد المفروض : إذ هو مع انفصاله لا يكون بعدا ، من حيث أن البعد اسم للمتصل ، والجسم مع فرض الانفصال يكون مفارقا للبعد المفروض فيه ، ولا يخرج عن كونه جسما ؛ لما تقرر فى حدّ الجسم.

__________________

(١١)/ / أول ل ١٢ / أ.

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ل ١٤٣ / ب وما بعدها.

(٢) انظر الشامل لإمام الحرمين الجوينى ص ٤٠١. فقد ذكر رأى الكرامية بالتفصيل. وانظر ما سيأتى فى القاعدة السابعة ل وما بعدها.

(٣) هو هشام بن الحكم راجع ترجمته فيما مر فى الجزء الأول فى هامش ل ٧٢ / ب أما عن رأيه فانظر مقالات الإسلاميين ٢ / ٦ والملل والنحل ١ / ١٨٤ ، ١٨٥.

(٤) سورة القمر ٥٤ / ٥٢.

(٥) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الرابع ـ المسألة الثانية : فى أن البارى ـ تعالى ـ ليس بجسم ل ١٤٣ / ب وما بعدها.

(٦) قارن بما ورد فى (المبين فى شرح معنى ألفاظ الحكماء والمتكلمين) ص ١١١ لسيف الدين الآمدي.

٨٢

وإن كان الانفصال للبعد مع اتصاله ، فمحال أن يكون المتصل من حيث هو متصل منفصلا ، فإذا لا بد وأن يكون قبول الجسم للاتصال والانفصال ، إنما هو خارج عن نفس البعد المفروض.

قالوا : وذلك القابل هو المادة ، وذلك البعد الّذي لا يفارق الجسم / ولا تختلف به الأجسام فيما بينها ؛ هو الصورة الجسمية ؛ فالجسم مركب من المادة والصورة الجسمية ؛ وليس هو نفس البعد كما ذهب إليه ديمقريطس (١) لما حققناه.

قالوا : وليس يتصور تجرد مادة الجسم عن صورته ، ولا الصورة عن المادة فى الوجود ؛ فاستدلوا عليه بأمرين :

الأول : أنه لو تصور تجرد إحداهما عن الأخرى ، فما فرض منهما موجودا مجردا عن الآخر ، كانت المادة ، أو الصورة.

فإما أن يكون مع فرضه كذلك متحدا ، أو متكثرا ، وأى الأمرين قدّر ؛ فهو له لذاته ؛ ضرورة فرضه مجردا عن كل شيء ؛ فلا يتصور عليه غيره ، والوحدة والتكثر عليهما ممكن ؛ فلا تجرد.

الثانى : أنه لو تصور خلو كل واحدة عن الأخرى ، لم يخل : إما أن تكون متحيّزة ، أو غير متحيّزة.

فإن كانت متحيّزة ؛ فإن كانت المادة : فيلزم أن يكون لها بعد ضرورة مطابقتها لبعد الحيّز ، وقد قيل : إن المادة لا بعد لها ؛ بل هى مجردة عن البعد ؛ وهو خلف.

وان كانت هى الصورة ؛ فيلزم قبولها للانفصال ؛ ضرورة مطابقتها للحيّز المنفصل ؛ وهو محال لما سبق.

__________________

(١) ديمقريطيس : وقيل (ديموكريت) ولد فى (أبدير) إحدى المدن الإغريقية حوالى سنة ٤٦٠ ق. م. ولما ترعرع قام بأسفار كثيرة ، ومن أشهر رحلاته رحلته إلى مصر التى استغرقت خمسة أعوام.

أما عن حياته ، ومؤلفاته ، ومذهبه فارجع إلى (الفلسفة الإغريقية للدكتور محمد غلاب ص ١٠٨ ـ ١١٧ ، والملل والنحل للشهرستانى ٢ / ١٠٠ ، ١٠١).

٨٣

وإن كانت غير متحيزة : فعند اتصال إحداهما بالأخرى ، فالمركب منهما لا فى حيز ؛ ضرورة كونه فى حيث مبدأيه ، وحيث هما لا فى حيّز ؛ فالجسم لا فى حيز ، وهو محال ؛ فلا تجرد لإحداهما عن الأخرى.

قالوا : وليس حلول الصورة فى المادة ، حلول العرض فى الموضوع ؛ إذ الموضوع هو المتقوم ذاته ، المقوم لما يحل فيه ؛ وهو مستغن عما يحل فيه ؛ وما فيه غير مستغن عنه ؛ ولا كذلك المادة بالنسبة إلى الصورة.

فإن المادة غير مستغنية عن الصورة ، ولا متقومة فى الوجود دونها ؛ لما تحقق قبل ، وربما زعم بعض حذاقهم مع هذا أن الصورة علة لوجود المادة ؛ محتجا على ذلك بقوله : إنه إذا ثبت التلازم بين المادة والصورة فى الوجود ؛ فإما أن يكون ذلك لتضايف بينهما ، أو لا يكون كذلك.

لا جائز أن يقال بالأول : إذ هما غير متضايفين ؛ إذ المتضايفان ما لا يعقل كل واحد منهما فى معناه ، إلا مع تعقل الآخر : كالأبوّة ، والبنوة ، والمادة ، والصورة ليس كذلك.

وإن كان الثانى : فذلك التعلق ، والتلازم. إما أن يكون هو ما بين العلة والمعلول ، أو ما بين الشيئين المتكافئين فى الوجود من غير أن يكون أحدهما علة للآخر / ولا معلولا له.

فإن كان من القسم الثانى فلا يخلو : إما أن يكون ارتفاعهما مستندا إلى ثالث ، أو أن رفع أحدهما يوجب رفع ثالث ؛ فوجب برفعه رفع الثانى منهما ، أو لا يكون شيئا من ذلك ؛ فهو محال. وإن كان ذلك برفع ثالث ، فكل ما يوجب رفعه رفع غيره ؛ فهو علة له فى وجوده.

وعند ذلك : فإما أن يكون كل واحد (١١) / / من هذين المتكافئين علة متوسطة بين الثانى والثالث فيهما ؛ وهو محال.

وإما أن تكون الواسطة أحدهما بعينه ؛ وهو داخل فى قسم العلة والمعلول. وكذلك إن قدّر أن رفع أحدهما ، أوجب رفع ثالث موجب لرفع الثانى منهما ؛ إذ علة العلة ؛ علة.

وإن كان أحد الأمرين علة للآخر ، والآخر معلولا ؛ وهو القسم الأول : فإما أن تكون المادة هى علة للصورة ، أو الصورة علة للمادة.

__________________

(١١)/ / أول ل ١٢ / ب.

٨٤

لا جائز أن تكون المادة هى علة للصورة ؛ إذ هى المستعدة لقبول الصورة ؛ والقابل غير الفاعل (١).

وأيضا : فإنها لو كانت علة لوجود الصورة : فإما أن تكون علة لها حالة كونها موجودة بالقوة ، أو بالفعل.

الأول : محال ، وإلّا كان العدم علة للوجود ؛ وهو ممتنع.

وإن كان الثانى : فهو دور ممتنع ؛ لأنها على ما تقدم لا وجود لها بالفعل دون الصورة.

وأيضا فإن المادة غير مختلفة [والصورة مختلفة (٢)] والعلة القريبة من المختلف ؛ لا بدّ وأن تكون مختلفة ؛ فلم يبق إلّا أن تكون الصورة هى علة للمادة.

قالوا : وإذا تحقق معنى الجسم ، وما منه تركبه ؛ فهو منقسم إلى ذى نفس ، وإلى ما ليس له نفس.

وما ليس له نفس : كالجمادات من العناصر ، والمعدنيات ، ونحوه.

وأما ذو النفس : فمنقسم إلى نام ، وغير نام.

وغير النامى : كالأفلاك.

والنامى : فإما حساس ، أو غير حساس.

وغير الحساس : كالنبات.

والحساس : فهو الحيوان. والحيوان منقسم إلى ناطق كالإنسان.

وإلى غير ناطق : كالفرس ، والحمار ، ونحوه.

وما تحت كل واحد من هذه الأنواع :

فإما كليات : هى أصناف : كالشّاب ، والشيخ.

__________________

(١) الفاعل : ما أسند إليه الفعل ، أو ما يشبهه على وجهة قيامه به : أى على جهة قيام الفعل بالفاعل ؛ ليخرج عنه مفعول ما لم يسم فاعله.

والفاعل المختار هو الّذي يصح أن يصدر عنه الفعل مع قصد وإرادة.

[التعريفات للجرجانى ص ١٨٧].

(٢) ساقط من أ.

٨٥

أو شخصيات لا نهاية لها لإمكانها : كهذا الرجل ، وهذا الفرس ؛ وكل ما يقع فى امتداد الإشارة إليه.

هذا ما قالوه فى أمر الجسم ، ومبدئه ؛ وهو باطل.

أما قولهم : الجسم هو الّذي يمكن فيه فرض أبعاد ثلاثة الى آخره ، فهو منتقض على أصولهم بالجسم التعليمى (١) ؛ فإنه / بحال يمكن فيه فرض امتدادات متقاطعة على ما ذكروه ؛ وليس بجسم طبيعى ؛ بل هو عرض من مقولة الكم (٢).

ثم إنه يوجب أن لا يكون الخط مع كونه مؤلفا جسم ؛ لعدم تقاطع الأبعاد الثلاثة عليه ؛ وهو خلاف وضع اللغة على ما تقدم.

وإن سلمنا صحة ما ذكروه من الحدّ ، وأن الجسم قابل للانقسام والانفصال ولكن قولهم القابل للانفصال : إما نفس البعد المفروض فيه ، أو غيره.

قلنا : ما المانع أن يكون القابل لذلك هو نفس البعد المفروض فيه.

قولهم : لأن البعد مع انفصاله يخرج عن كونه بعدا ؛ مسلم.

قولهم : والجسم مع الانفصال لا يكون مفارقا للبعد ؛ لا نسلم.

فإنه لا معنى للبعد عندنا غير اتصال الجواهر الفردة. وعند الانفصال يبطل البعد ، ويخرج الجسم عن كونه جسما ، على ما حققناه ؛ من أن الجسم هو المؤلف (٣) لا غير.

وإذا بطل التأليف ؛ فقد بطل الجسم.

وعلى هذا : فقد بطل ما ذكروه من المادة ، والصورة.

__________________

(١) الجسم التعليمى : هو الّذي يقبل الانقسام. طولا وعرضا ، وعمقا ونهايته السطح ، وهو نهاية الجسم الطبيعى ، ويسمى جسما تعليميا إذ يبحث عنه فى العلوم التعليمية أى الرياضية الباحثة عن أحوال الكمّ المتصل ، والمنفصل ، منسوبة إلى التعليم ، والرياضة ؛ فإنهم كانوا يبتدئون بها فى تعاليمهم ، ورياضتهم لنفوس الصبيان ؛ لأنها أسهل إدراكا.

(التعريفات للجرجانى ص ٨٦ ، ٨٧).

(٢) المقولات التى تقع فيها الحركة أربع : الأولى : الكمّ. ووقوع الحركة فيه على أربعة أوجه : الأول : التخلخل ، والثانى : التّكاثف ، والثالث : النّموّ والرابع : الذّبول. (التعريفات للجرجانى ص ٢٥٦).

(٣) انظر المبين للآمدى ص ١١٠ فقد عرف الجسم فقال : «وأما الجسم : فعبارة عن المؤتلف عن جوهرين فردين فصاعدا).

٨٦

وإن سلمنا جدلا تركب الجسم من المادة ، والصورة كما ذكروه.

ولكن لا نسلم امتناع تجرد كل واحدة من المادة ، والصورة عن الأخرى فى الوجود. قولهم : فى الدّلالة الأولى : لو قدر تجرّد إحداهما عن الأخرى.

إمّا أن تكون متحدة ، أو متكثّرة ؛ مسلّم ؛ ولكن ما المانع من القول بإحداهما. قولهم : ويلزم أن يكون ذلك ثابتا لذاتها ؛ ممنوع.

وما المانع أن يكون ذلك لها بفعل الفاعل المختار ؛ كما قررناه. وإن سلم أنه ليس بفعل الفاعل المختار ؛ ولكن ما المانع أن يكون ذلك لها باعتبار أمر خارج عن ذاتها ؛ ولا سبيل إلى نفيه إلّا بالبحث ، والسبر ؛ وهو غير يقينى (١).

وإن سلم أن ذلك لها لذاتها ؛ ولكن ما المانع من أن يكون ذلك من مقتضيات ذاتها مشروطا بالانفراد ، والتجرد. ومع الاجتماع فقد فات الشّرط ؛ ويلزم من عدم الشرط ، عدم المشروط.

وقولهم : فى الدلالة الثانية : لو تجرد كل واحد من الأمرين عن الآخر فى الوجود : فإما أن يكون متحيزا ، أو غير متحيّز.

قلنا : فى حالة الانضمام ، والاجتماع : إما أن يكون كل واحد منهما متحيّزا ، أو غير متحيز.

فإن كان متحيزا : فالمحال اللازم عن تحيزّ مما حاله تجرد كل واحد من الآخر لازم حالة الانضمام.

وإن كان غير متحيّز : فالمركّب منهما أيضا يلزم أن لا يكون متحيزا ؛ لما ذكروه.

وما هو الجواب عما ذكروه / حالة الاجتماع ؛ هو بعينه جواب حالة الانفراد.

كيف وأنه لا يلزم من كون كل واحد منهما بتقدير تجرده عن الآخر غير متحيز ، امتناع التحيّز على الهيئة الاجتماعية منهما ؛ فإن الحكم على الأفراد ؛ لا يلزم أن يكون حكما على الجملة. وكذلك بالعكس ؛ لما عرف مرارا.

__________________

(١) راجع ما مر عن البحث والسبر فى القاعدة الثالثة ـ الباب الثانى ـ الفصل السابع ـ الدليل الثالث ل ٣٩ / ب.

٨٧

وإن سلمنا امتناع تجرد كلّ واحد من الأمرين على الآخر فى الوجود ؛ ولكن لم قالوا بأن حلول الصور فى المادة ؛ ليس كحلول العرض فى موضوعه. وما ذكروه إنما يصح أن لو كان الجوهر مستغنيا فى وجوده عن حلول الأعراض به ؛ وهو غير مسلم على ما سبق بيانه (١).

وعند ذلك : فلا فرق بين الصورة فى حلولها بالمادّة ، وبين حلول الأعراض فى الجواهر. / /

وإن سلمنا : أن حلول الصورة فى المادة ؛ ليس كحلول الأعراض فى الجواهر ؛ ولكن لا نسلم أن الصورة علة لوجود المادة.

وما ذكروه فى التقرير ؛ فهو باطل ؛ إذ لا مانع أن يكونا من قبيل المتكافئين فى الوجود ؛ وأن وجودهما ، وارتفاعهما ليس إلّا بأمر خارج.

ولا يلزم أن يكون أحدهما علة للآخر ؛ لا بجهة القرب ، ولا بجهة البعد ، ولا مانع من وجود معلولين عن علة واحدة ، فاعلة بالاختيار ؛ كما قررناه فيما تقدم (٢).

وإن سلمنا : امتناع كون الموجب لذلك موجبا بالاختيار ؛ ولكن لا نسلم امتناع كونه موجبا بالذات.

وإن سلمنا : أنه لا بد وأن يكون أحدهما علة للآخر ؛ ولكن لا نسلم إمكان كون الصورة علة للمادة ؛ إذ الصورة مفتقرة فى وجودها إلى المادة ؛ لكونها صفة لها ، والصفة المفتقرة إلي الموصوف ؛ فلو كانت الصورة علة للمادة ؛ لكانت المادة مفتقرة فى وجودها إلى الصورة ؛ ويلزم منه توقف كل واحد من الأمرين على الآخر فى وجوده ؛ وهو دور ممتنع.

وإن سلمنا : إمكان كون الصورة علة للمادة ؛ فما المانع من كون المادة علة للصورة؟.

قوله : لأن المادة قابلة ، والقابل لا يكون فاعلا ؛ فقد أبطلناه فيما تقدم (٣).

__________________

(١) راجع ما سبق فى النوع الأول ـ الفصل السابع : فى امتناع تعرى الجوهر عن الأعراض ، وتعليل قبوله لها ل ٨ / ب وما بعدها.

(١١)/ / أول ل ١٣ / أمن النسخة ب.

(٢) راجع ما تقدم فى الجزء الأول ـ الأصل الثانى ل ٢١١ / ب وما بعدها.

(٣) راجع ما تقدم ل ١٩ / أ.

٨٨

قوله : إما أن يكون علة لوجود الصورة حالة كونها بالقوة ، أو الفعل فهو أيضا لازم عليه فى كون الصورة علة للمادة ؛ وما هو الجواب ثم ؛ هو الجواب هاهنا.

قوله : المادة غير مختلفة. والصورة مختلفة ؛ لا نسلم أن الصّور الجسمية مختلفة. وإن اختلفت صور أنواع الجسم.

وإن سلمنا اختلاف الصّور ؛ ولكن لا نسلم أن / العلة القريبة من المعلولات المختلفة يجب أن تكون مختلفة ؛ وبيانه ما سبق فى مراتب العلل والمعلولات.

وما ذكروه من كون الأفلاك والنباتات ذوات أنفس ؛ فسيأتى إبطاله فى موضعه (١). وأما المعتزلة فإنهم قالوا : الجسم هو الطويل ، العريض ، العميق (٢).

ثم اختلفوا فى أقل ما يتركب [منه الجسم.

فذهب النظام (٣) : إلى أنه ما من جسم إلا وهو مركب (٤)] من جواهر فردة لا نهاية لها بالفعل.

وذهب الجبائى (٥) ، وأتباعه : إلى أن أقل ما يتركب منه الجسم ثمانية أجزاء أربعة على أربعة ، وأن هذا أقل ما يتكون عنه الطول ، والعرض ، والعمق.

وذهب أبو الهذيل العلاف (٦) : إلى أن أقل ما يتركب منه الجسم الطويل العريض العميق ستة أجزاء ثلاثة عل ثلاثة.

وما ذكروه غير سديد.

أما ما ذكروه من الحدّ : فيوجب أن لا يكون ما لم يجتمع فيه الطول والعرض والعمق جسما مع كونه مؤلفا ؛ وهو خلاف الموضع كما سبق تحقيقه (٧).

__________________

(١) انظر ما سيأتى فى النوع الثالث ـ الفصل السابع : فى إبطال قول الفلاسفة أن الأفلاك ذوات أنفس ، وأنها متحركة بالإرادة النفسية ل ٣٢ / أوما بعدها.

(٢) هذا القول نسبه الإمام الأشعرى إلى النّظّام فقال : «وقال النّظّام : الجسم هو الطويل ، العريض ، العميق ، وليس لأجزائه عدد يوقف عليه ، وإنه لا نصف إلا وله نصف ، ولا جزء إلا وله جزء» [مقالات الإسلاميين ٢ / ٦].

(٣) انظر المصدر السابق.

(٤) ساقط من أ.

(٥) انظر مقالات الإسلاميين ٢ / ٥.

(٦) راجع مقالات الإسلاميين ٢ / ٥.

(٧) راجع ما سبق ل ١٧ / أ.

٨٩

وإن قالوا : نحن لا نطلق اسم الجسم على غير ما ذكرناه ؛ مع تسليمهم وجود الجسم لغة فيما ليس كذلك ؛ فلا نزاع معهم فى غير التسمية.

وإن سلمنا صحة ما ذكروه فى الحد جدلا ؛ غير أن ما ذكره النظام ممتنع ؛ وبيانه من وجهين :

الأول : هو أن النظام وإن قال بأنه ما من جسم إلّا وفيه جواهر فردة لا نهاية لها بالفعل ؛ فهو معترف بأن فيها المتناهى : كالعشرة والمائة ، ونحوها من مراتب الأعداد.

وعند ذلك : فأى عدد متناه اقتطعناه من تلك الأجزاء المتناهية وألفناها كان منها جسم لا محالة ؛ وأجزاؤه متناهية العدد ؛ وفيه إبطال ما ذكر.

ثم يلزم من تناهى أجزاء هذا الجسم تناهى أجزاء ما أخذ منه.

وبيان الملازمة : أن لكل واحد منهما حجما متناهيا. والحجم ما أخذ لا محالة نسبة إلى حجم ما أخذ منه ؛ ويلزم من ذلك أن تكون نسبة أجزاء الأصغر إلى أجزاء الأكبر كنسبة ما بين الحجمين ؛ لأن زيادة الحجم إنما هى على حسب زيادة الأجزاء ؛ والنسبة بين الحجمين نسبة متناه إلى متناه.

الثانى : أن الزيادة بين الأحجام. إنما هى على حسب زيادة أجزائها ؛ ولهذا فإنا لو فرضنا ذا حجم مخصوص ، واقتطعنا منه قطعة صغيرة ؛ فإن حجمه بعد قطعه يكون أصغر منه قبل قطعه ؛ وليس ذلك إلا لنقص أجزائه.

وكذلك فإنا لو زدنا عليه شيئا ؛ فإن حجمه بعد الزيادة يكون أكبر منه قبل الزيادة ؛ وليست / الزيادة والنقصان فيه ؛ إلا بسبب زيادة الأجزاء ونقصها.

وإذا كانت زيادة الحجم على حسب زيادة الأجزاء ؛ فلو كانت الأجزاء لا نهاية لها بالفعل ؛ لكان بعد كل جسم لا نهاية له بالفعل ؛ ويلزم من ذلك أن كل متحرك ابتدأ بحركة لقطع مسافة أى جسم كان من مبدئه أن لا يصل إلى منتهاه ؛ لأن ما بين يديه من الأجزاء التى يروم قطعها لا نهاية لأعدادها فعلا ؛ وقطع ما لا نهاية له بالفعل بالحركة غير متصور ؛ وذلك كله محال.

٩٠

ولعسر هذه الإشكالات ، ارتكب النظام ما هو أقبح من مقاله الأول ، وأظهر فى مجاحدة العقل ؛ وذلك أنه قال : المتحرك لا يقطع جميع المسافة ؛ بل يقطع البعض ، ويطفر من جزء إلى جزء فى حال حركته من غير أن يقابل ما بين الجزءين ؛ واحتج على ذلك بما ذكرناه فى تحرك الجسم بالقوة من مسلك المتحرك فى السفينة ، ومسلك البئر ، وقال : لا شك (١١) / / بأن المتحرك فى السفينة تحرك خمسين ذراعا بمقدار طول السفينة ؛ وقد قطع مائة ذراع ، وليس ذلك إلا بسبب الطفرة (١).

وكذلك المانح للدلو ، قد منح خمسين ذراعا ؛ وهو طول الحبل المرسل من أعلى البئر ؛ والدلو قد قطع مائة ذراع فى طول البئر ؛ وليس ذلك إلا بسبب الطفرة.

وطريق الرد عليه أن يقال : إنه حالة الطفرة : إما أن يكون قد حاذى المطفور عنه ، أو لم يحاذه. لا جائز أن يقال بعدم المحاذاة والمقابلة ؛ فإنه لو فرض القاطع للمسافة وبيده خشبة وهى تخط على المسافة خطا على ممره ؛ فإن الخط يكون متصلا غير منقطع ؛ ولو لم يكن قد قابله وحاذاه ؛ لما كان الخط متصلا ؛ فلم يبق إلا المحاذاة ؛ وهو المطلوب.

وأما المتحرك فى السفينة ؛ فحركته مائة ذراع ؛ لكن منها خمسين بالذات ؛ وهى حركته من أول السفينة إلى آخرها ، وخمسين بالعرض ؛ وهى حركته بحركة السفينة. ولهذا فإنه لو قدر واقفا ، فى مؤخر السفينة مع حركة السفينة ؛ فإن السفينة إذا انتهت إلى مقرها ؛ كانت قد قطعت خمسين ذراعا والواقف فيها خمسين ذراعا ؛ فلذلك كان قاطعا للمائة الذراع ، ومحاذيا لها.

وأما حركة الدلو [إنما كانت مائة ذراع] (٢) وحركة المانح خمسين ذراعا بسبب سرعة حركة الدلو بالنسبة إلى حركة المانح كما فى حركة الجزء من دائرة طوق الرحا بالنسبة إلى حركة الجزء من دائرة القطب منها.

__________________

(١١)/ / أول ل ١٣ / ب من النسخة ب.

(١) الطفرة : القول بالطفرة من مبتدعات النظام قال الشهرستانى : «وأحدث القول بالطفرة لما ألزم مشى نملة على صخرة من طرف إلى طرف. أنها قطعت ما لا يتناهى فكيف يقطع ما يتناهى ما لا يتناهى؟ قال : تقطع بعضها بالمشي ، وبعضها بالطفرة ، وشبه ذلك بحبل شد على خشبة معترضة وسط البئر ، طوله خمسون ذرعا وعليه دلو معلق ، وحبل طوله خمسون ذراعا علق عليه معلاق ، فيجرّ به الحبل المتوسط ، فإنّ الدّلو يصل إلى رأس البئر ، وقد قطع مائة ذراع. بحبل طوله خمسون ذراعا فى زمان واحد. وليس ذلك إلا أنّ بعض القطع بالطفرة» وقد ردّ عليه الشهرستانى فقال : «ولم يعلم أنّ الطفرة قطع مسافة أيضا موازية لمسافة ؛ فالالزام لا يندفع عنه. وإنما الفرق بين المشى والطفرة يرجع إلى سرعة الزّمان وبطئه».

[راجع الملل والنحل للشهرستانى ١ / ٥٥ ، ٥٦ وانظر مقالات الإسلاميين ٢ / ١٩].

(٢) ساقط من أ.

٩١

فإن جزء دائرة الطوق فى حركته يخطف البصر بخلاف الجزء من دائرة القطب / وإن كان السبب المحرك لهما واحدا.

وأما قول الجبائى : إن أقل ما يتركب منه الجسم ثمانية أجزاء تفريعا على القول بأن الجسم هو الطويل ، العريض ، العميق ؛ فمردود بقول أبى الهذيل.

وقول أبى الهذيل أيضا مردود بإمكان وجود الطويل ، العريض ، العميق من أربعة أجزاء ثلاثة وواحد على ملتقاها ؛ وهذا هو المسمى بالمكعب.

وأما أصحابنا فإنهم قالوا : جريا على ما حققناه من الوضع اللغوى فى اطلاق [اسم الجسم] (١). الجسم هو المؤلف ، ثم اختلفوا : [فمنهم من قال أصل الأجسام ما تألف من جوهرين] (٢).

ومنهم من قال (٣) : إذا تألّف جوهران فهما جسمان ؛ لأنّ كلّ واحد منهما قام به تأليف مع الآخر ، غير تأليف الآخر معه ؛ إذ التأليف عرض ، والعرض الواحد لا يقوم بمحلين ؛ فيكون كل واحد منهما مؤلّفا ؛ إذ المؤلف ما قام به التأليف.

وإذا كان مؤلفا كان كل واحد منهما جسما ، نظرا إلى أن الجسم هو المؤتلف كما تحقق قبل.

وهذا هو اختيار القاضى وجماعة المحققين من أصحابنا ؛ وهو الحق نظرا إلى الأصل الممهد من قبل.

وبالجملة : فالنزاع فى إطلاق اسم الجسم على المعانى السابق ذكرها والاختلاف فيها ؛ راجع إلى النزاع فى التسمية. والأولى منها ما كان موافقا للوضع اللغوى.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) ساقط من أ.

(٣) القائل هو : القاضى الباقلانى انظر التمهيد ص ٤١.

٩٢

الفصل الثانى

فى أن أبعاد الأجسام متناهية (١)

وإذ بينا وجوب النهاية فى أجزاء الأجسام ؛ وجب أن نبين وجوب النهاية فى أبعادها.

وقبل الخوض فى الحجاج نفيا ، وإثباتا ؛ لا بد من بيان مفهوم النهاية ولا نهاية واختلاف اعتباراته ؛ وتحقيق محل النزاع من ذلك ؛ ليكون التوارد بالنفى والإثبات على محزّ واحد فنقول :

أما النهاية : فإنها قد تقال على حد الشيء وطرفه. وهو ما لو فرض الفارض الوقوف عنده ، لم يجد بعده شيئا آخر ؛ من ذى الطرف : كالنقطة للخط والخط للسطح ؛ والسطح للجسم (٢).

وأما لا نهاية : فقد يقال على ما له النهاية ، بالمعنى الّذي أوضحناه باعتبار تعذر الوصول إليه بالحركة ، والانتقال.

إما لعدم القدرة على ذلك الامتداد الكائن بين السماء والأرض.

وإما لما يلحق المتحرك فى ذلك من العسر ، والمشقة : كالمسافات المتباعدة بين البلدان التى لا تنال إلا بشق الأنفس ، ولا نهاية بهذا الاعتبار فمجازى ، وليس بحقيقى.

وقد يقال لا نهاية ، على / ما لم يكن له الطبيعة القابلة للنهاية كما يقال : لا نهاية لذات الله تعالى.

وقد يقال لا نهاية ، على ما طبيعته قابلة للنهاية ، ولا نهاية له اعتبار أمر خارج ؛ لكن منه ما يمكن وقوع النهاية فيه : كالفعل بفرض الفارض ، ومنه ما ليس كذلك.

فالأول : كالسطح المحيط بالكرة ، والخط المحيط بالدائرة ؛ فإنه إن قيل لا نهاية لهما ؛ فليس إلا باعتبار أنّه ليس فيهما مقطع بالفعل. وإلا فما من نقطة تفرض فى الخط

__________________

(١) انظر المواقف للإيجي ص ٢٥٣ المقصد السابع. وشرح المواقف للجرجانى ٧ / ٢٤٣ ـ ٢٥٠. المقصد السابع : الأبعاد متناهية سواء كانت فى ملاء أو خلاء.

(٢) عرف الآمدي الخط والسطح فقال : «فأما الخط : فعبارة عن بعد قابل للتجزئة فى جهة واحدة فقط».

وأما السطح : فعبارة عن بعد قابل للتجزئة فى جهتين متقاطعتين فقط» [المبين للآمدى ص ١١٠ ، ١١١].

٩٣

المحيط بالدائرة ، أو فى السطح المحيط بالكرة إلا وهو صالح أن يجعل بداية ونهاية ، على حسب اعتبار المعتبر ، وفرض الفارض. وقبل فرض الفارض هو بالقوة لا بالفعل.

وأما الثانى : فكما يقال لا نهاية على كل ما فرض الوقوف عند حدّ منه بفرض ، أو حسّ كان بعده شيء خارج عنه هو منه ، والمبحوث عنه هاهنا إنما هو النهاية (١) ، ولا نهاية بهذا الاعتبار الأخير.

وإذ تلخص محل / / النزاع ؛ فقد أختلف الناس فى تناهى أبعاد الأجسام [والّذي عليه اتفاق أهل الشرائع ، وأكثر العقلاء القول بتناهى أبعاد الأجسام] (٢) خلافا لبعض الأوائل (٣).

وقد اعتمد أهل الحق على مسالك.

المسلك الأول : أنهم قالوا : لو فرض بعد لا نهاية له : إما من جميع جهاته ، أو من بعضها. فلنا أن نفرض حدا : كنقطة من خط ؛ ولنفرض خروج بعدين منه ذاهبين إلى غير النهاية.

وعند ذلك فلنا أن نقطع بالتوهم من أحد البعدين المفروضين جزء من جهة الحد المفروض ثم ، ولنطبق بين الطرفين المتناهيين ، وهما طرفا البعد الناقص والبعد الزائد.

وعند ذلك : فإما أن يذهب إلى غير النهاية ، أو يقصر [الناقص عن الزائد فى الطرف الغير متناهى.

فإن كان الأول : لزم أن يكون (٤)] الناقص مساويا للزائد ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى : فقد تناهى ، ويلزم أن تكون له طرف ، ويلزم منه تناهى البعد الأطول ؛ إذ هو زائد عليه بقدر متناه. وكل شيء زاد على المتناهى بمقدار (٥) متناه ، فهو متناهى.

__________________

(١) وقد عرف الآمدي النهاية فقال : «وأما النهاية : فعبارة عما لو فرض الفارض الوقوف عنده ؛ لم يجد بعده شيئا آخر من ذى الطرف : كالنقطة للخط والخط للسطح ، والآن للزمان. فإن وجد ذلك ؛ فلا يخفى أنه معنى لا نهاية» [المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين ص ٩٨].

/ / أول ل ١٤ / أمن النسخة ب.

(٢) ساقط من أ.

(٣) المقصود بهم الفلاسفة الهنود قال صاحب المواقف : «المقصد السابع : الأبعاد متناهية سواء كانت فى ملاء أو خلاء إن جاز خلافا للهند لوجوه :»

[المواقف للإيجي ص ٢٥٣].

(٤) ساقط من أ.

(٥) (بمقدار) ساقط من ب.

٩٤

وربما قرروا ذلك من جهة أخرى مع قطع النظر عن تطابق الطرفين المتناهيين بأن قيل ما فرض اقتطاع الجزء منه : إما أن يكون مساويا للبعد الآخر ، أو أنقص منه.

الأول : محال وإلا كان الناقص مساويا للزائد. وإن كان أنقص منه : فالآخر زائد عليه بأمر متناه وهو مقدار الجزء الّذي فرض قطعه ، ولا بد وأن تكون لتلك الزيادة نسبة إلى كل واحد من البعدين بجهة من جهات النسب ، ويلزم من ذلك أن يكون كل واحد منهما معدودا بأمثال تلك الزيادة عدّا متناهيا / وكل ما عدّ بأمثال المتناهى عدّا متناهيا ؛ فهو متناه ؛ وفيه نظر.

إذ لقائل أن يقول : ما ذكرتموه إنما يصح أن لو أمكن فرض الانطباق بين الطرفين (١) المتناهيين بتقدير اقتطاع الجزء من أحدهما ، وهو غير مسلم ؛ لأن الانطباق بين الطرفين إما أن يكون بتحريك الأقصر لحمله بالحركة الانتقالية حتى يطابق طرفه المتناهى للطرف المتناهى من الأطول ، وإما بحركة النمو (٢) والتخلخل ، وإما بأن يوجد بالتوهم من الناقص مقدارا معلوما ، ومثله من الزائد ثم كذلك إلى غير النهاية ، وإما بمعنى آخر.

فإن كان الأول : فقد خلا مكان الطرف الّذي لا نهاية له منه بجر الطرف المتناهى ، ولزم أن يكون له طرف ونهاية من الجهة التى قيل هو غير متناه فيها ؛ وهو مستحيل فى ما لا نهاية له.

وإن كان الثانى : فهو غير مفيد ؛ لتماثلهما وعدم النقصان فى أحدهما.

وإن كان الثالث : فإنما تلزم المساواة بينهما فى التعدية من جهة عدم النهاية أن لو لزم من المساواة بينهما فى أن لا نهاية لأعداد المقادير المفروضة المساواة فى عددها ؛ وهو غير مسلم.

ولهذا فإن أعداد عقود العشرات مساوية لأعداد عقود المئات [فى أن لا نهاية لها إمكانا ، وإن كانت أعداد العشرات أكثر من أعداد المئات] (٣) وكذلك على رأى المتكلم ، فإن أعداد معلومات الله تعالى مساوية ، لمقدوراته فى لا نهاية.

__________________

(١) عرف الآمدي الطرف فقال : «وأما الطرف : فعبارة عما يقع انتهاء الاستحالة فيه ، أو فى ما قام به عليه» [المبين للآمدى ص ٩٨].

(٢) النمو : عرف الآمدي النّمو فقال : «وأما النمو : فعبارة عن زيادة أقطار الجسم بما يرد عليه من الغذاء ويستحيل شبيها» [المبين للآمدى ١٠١].

(٣) ساقط من أ.

٩٥

وإن كانت أعداد المعلومات أكثر من أعداد المقدورات إذ العلم متعلق بكل ممكن ومستحيل (١) ؛ والقدرة غير متعلقة بغير الممكن (٢).

وإن كان الرابع : فلا بد من تصويره وإقامة الدليل عليه.

وما قيل : من أنه لا بد وأن يكون للزيادة نسبة إلى كل واحد من البعدين لجهة من جهات النسب ، فغير ضرورى ، والنظرى لا بد من بيانه ، وذلك لأن الخصم قد لا يسلم أنه لا بد ، وأن يكون بين ما ليسا متناهيين النسبة الواقعة بين المتناهيين ؛ لأن النسبة إذا كانت على ما قيل : أن يكون الشيء معدودا بأمثال المتناهى عدا متناهيا ؛ وذلك فيما ليس له نهاية محال.

المسلك الثانى : أنه لو كانت أبعاد الجسم لا نهاية لها ، فلنا أن نفرض خطا ممتدا فى جانب العالم لا نهاية له ؛ بحيث لو خرج من نقطة مفروضة خط آخر غير متناه إلى غير جهة الخط المفروض أولا ثم فرض دائرا إلى مسامتته ؛ فلا بد وأن يسامته ويحاذيه بنقطة ، وينفصل عنه بأخرى ؛ وما من / نقطة تفرض المحاذاة عندها ، إلا ولا بد وأن تحاذيه قبلها عند نقطة أخرى ، إلى غير النهاية. وما لا يمكن محاذاته ، ومسامته إلا بعد فرض محاذات ما لا يتناهى ؛ فمحاذاته محال ؛ فلا محاذاة ، ولا انفصال ؛ وهو خلاف الفرض الممكن.

وهذا المحال لم يلزم من فرض البعدين ، وفرض حركة أحدهما دورا لإمكانه ، فلم يبق إلا أن يكون لازما من فرض أبعاد غير متناهية ، فيكون محالا.

وهو أيضا ضعيف : إذ لقائل أن يقول : المحال إنما لزم من بعض المقدمات المذكورة ، وهو فرض دوران ما لا يتناهى ، وانتقاله بالحركة ؛ وذلك هو المحال ، وإنما كان محالا ؛ لأن البعد المتناهى من أحد طرفيه إذا قدر قرار طرفه المتناهى ، ودوران الطرف الّذي لا نهاية له ؛ فلا بد وأن ينتقل من مكانه إلى مكان غيره ، بحيث يكون ما انتقل منه ، وإليه بعدان خارجان من النقطة المفروضة / / كساقى مثلث.

__________________

(١) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ٧٢ / ب وما بعدها. المسألة الرابعة : فى إثبات صفة العلم لله تعالى.

(٢) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ٥٨ / ب وما بعدها. المسألة الثانية : فى إثبات صفة القدرة لله تعالى.

/ / أول ل ١٤ / ب من النسخة ب.

٩٦

وإذا كانا بالفرض غير متناهيين ؛ فلا بد وأن يكون بينهما ـ على ما يأتى ـ انفراج غير متناهى ؛ فلو قدّر حركة أحدهما إلى الآخر [أو حركة من أحدهما (١) إلى الآخر] للزم أن يقطع بالحركة ما لا نهاية له ، فى زمن متناه ؛ وذلك محال.

المسلك الثالث : أنه لو قدر بعد غير متناهى ؛ لأمكن تشطيره إلى أشطار كل واحد منها غير متناهى ، ويلزم منه تضعيف ما لا نهاية له ؛ وهو محال ؛ وهو فاسد أيضا.

فإنه إنما يلزم تضعيف ما لا يتناهى ، بتشطير ما لا يتناهى أن لو كان كل واحد من شطريه غير متناه من كلا طرفيه. وإذا كان متناهيا منه جهة تشطيره غير متناهى من الجهة الأخرى ؛ فالإحالة فيه غير مسلمة.

المسلك الرابع : وهو مناسب لأصول الفلاسفة وهو أنهم قالوا : لو قدر جسم لا نهاية له فما من جزء يفرض منه إلا ويجب أن يكون ساكنا فى كل مكان ، ومتحركا إلى كل مكان.

إذ كل مكان يقدّر ؛ فهو طبيعى (٢) له ؛ ومحال أن يكون الشيء ساكنا ، ومتحركا معا ؛ وهو غير سديد أيضا. إذ هو مبنى على أن كل جسم ؛ فلا بد له من مكان طبيعى ، وسيأتى إبطاله (٣) ، وبتقدير التسليم ، فما ذكروه لازم عليهم فى الجسم المتناهى.

فإنه إذا كان فى مكانه الطبيعى لكله. فإنه ما من جزء يفرض منه إلا ونسبته إلى جميع أجزاء مكان كله نسبة واحدة ؛ وهو طبيعى له.

فكان يجب أن يكون كل واحد من أجزائه ، ساكنا فى كل أجزاء مكان كله ، ومتحركا إلى كل واحد منها ؛ وهو أيضا محال.

ولو كان ذلك حقا ؛ لما وجد / جسم لا متناهيا ولا غير متناهى إلا وأجزاؤه ساكنة فى كل جزء من أجزاء مكانه ومتحركا إليها ، وهو محال.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) عرف الآمدي الطبع والطبيعة فقال : «وأما الطبع والطبيعة : فعبارة عما يوجد فى الأجسام من القوى التى هى مبادي حركاتها من غير إرادة : سواء كان ما يصدر عنها من الفعل على نهج واحد : كالقوة المحركة للحجر فى هبوطه. أو مختلفا : كالقوة المحركة للنبات فى تكوينه ونشوء فروعه.

وربما قيلت الطبيعة : على ما كان من الصفات الأولية لكل شيء : كالحرارة بالنسبة إلى النار. وعلى أغلب الكيفيات المتضادة فى الأشياء الممتزجة».

[المبين للآمدى ص ٩٤].

(٣) انظر ما سيأتى فى الفصل الخامس ل ٣٠ / أوما بعدها.

٩٧

فما هو الاعتذار عنه فى الأجسام المتناهية يكون الاعتذار عن الجسم الّذي لا نهاية له.

المسلك الخامس : فيما ذكره الفلاسفة أيضا أنهم قالوا : لو كان الجسم لا نهاية لبعده ؛ لما تصوّر عليه ولا على جزئه حركة طبيعية ؛ واللازم ممتنع.

أما أنه لا يتصور عليه الحركة ؛ فلأن الحركة : إما مكانية ، أو وضعية. لا جائز أن تكون مكانية ؛ بحيث تستبدل بحركته مكانا بمكان.

أما إذا كان غير متناه من جميع الجهات ؛ فلأنه لا يخلو منه مكان. وأما إذا كان متناهيا من جهة دون جهة ؛ فانتقاله لا بد وأن يكون من الجهة التى هو غير متناه فيها إلى الجهة التى هو متناه بالنسبة إليها ؛ فإنه لا حركة له إلى جهة هو فيها.

وعند ذلك : فإما أن يخلو منه مكانه ، أو لا يخلو منه مكانه.

لا جائز أن يقال بالأول : وإلا فقد صارت الجهة الغير متناهية متناهية.

وإن كان الثانى : فليست الحركة مكانية ؛ بل إما أن يتخلخل أو ينمو ، وليس الكلام فيه.

وأما الوضعية : فهى الحركة الدورية على حركة نفسه ، فلأنه لا يخلو إذا تحرك : إما أن تتم الدورة ، أو لا تتم. فإن تمت الدورة ؛ لزم ما قيل من تلاقى الخطين. وهما المفروض غير متناه خاليا من العالم ، والخطّ الدائر عليه.

وإن لم تتم الدورة ؛ فلا يخلو. إما أن يكون تتميمها مستحيلا ، أو ممكنا. فإن كان مستحيلا : كان الجزء منه أن يتحرك قوسا ولا يكون له أن يتحرك قوسا أخرى ؛ وذلك مع اتحاد حقيقة المتحرك ، وتشابه الأقواس والأحوال كلها مستحيل.

وإن كان ممكنا أمكن فرضه ؛ ويلزم منه المحال المتقدم. وأما أنه لا حركة لأجزائه طبعا ، فلأنه لا يخلو ذلك الجسم من أن يكون غير متناه من جميع الجهات أو من جهة دون جهة.

فإن كان الأول : فليس لأجزائه موضع مطلوب بالحركة (١) ، هو مخالف لمبدإ الحركة.

__________________

(١) الحركة : عرف الآمدي الحركة فقال : «وأما الحركة فعبارة عن كمال بالفعل لما هو بالقوة من جهة ما هو بالقوة ؛ لا من كل وجه ؛ وذلك كما فى الانتقال من مكان إلى مكان ، والاستحالة من كيفية إلى كيفية» [المبين للآمدى ص ٩٥].

٩٨

وإن كان الثانى : فلا بد وأن يكون لحركته مكان يطلبه بالطبع وما يطلبه للجزء ، ويجب أن يكون هو ما يطلبه الكل ، والكلّ لا يطلب مكانا ؛ أو لا مكان له بالطبع ، لا مجانسا لأى سطح شبيه بسطحه فى (١) طبيعته (١) ، ولا غير مجانس ، أى أن يكون سطحا غير شبيه بسطحه فى طبيعته.

وأيضا / فإنّ ذلك الجزء لا يطلب مكانا غير مكان الكل وحيز الكل متشابه ؛ فيكون سكونه فى أى موضع اتفق منه ولا حيزا خارجا عن حيز الكل.

اللهم إلا أن يجعل الكل متناهيا من جهة ؛ فيجب أن يكون حيّز الكل هو مطلوب الجزء ؛ أو نفس الكل لتصل به.

فإن كان الأول : فلا حيّز للكل ؛ إذ الحيّز إما بعد أو محيط البعد وهو محال كما سبق (٢). والمحيط محال ، فإن ما لا يتناهى لا محيط له.

وإن كان الثانى : فيجب أن تكون حركات الأجزاء كلها إلى جهة واحدة ، لطلب الاتصال بالكل ، والحال فى الأجسام الطبيعية ، غير هذا على ما يشهد به الحسّ.

وإذا لم تتصور الحركة الطبيعية لا على الكل ولا على الجزء فى جسم لا يتناهى. فنحن نعلم أن الأجسام فى عالمنا هذا قد تتحرك بالطّبع إلى جهات مختلفة ؛ وهو مشاهد بالحسّ فلا هى ولا ما هى جزء منه غير متناه ؛ وهو أيضا مع تطويله مدخول.

إذ لقائل أن يقول : ما ذكرتموه فمبنى على أن الجسم لا بد له من حيّز طبيعى (٣) [وهو باطل بما سيأتى] (٤)

وإن سلمنا أن الجسم لا بد له من حيز طبيعى]. ونسلم أنه ممتنع على ما لا تتناهى / / الحركة الانتقالية ، والحركة الوضعية ؛ ولكن لا نسلم امتناع ذلك على أجزائه اللهم إلا أن يفرض ذلك الجسم المتصل الّذي لا نهاية له متشابها ، وعلى طبيعة واحدة ، وإلا فمع فرض اختلاف طبائع الأجزاء المتصلة التى يكون من مجموعها بعد لا يتناهى ، فغير ممتنع أن يكون المكان الطبيعى لكل واحد منها ، غير مكان الآخر على ما نشاهده من ترتيب الأجسام العنصرية فى عالمنا هذا المحسّ لنا.

__________________

(١) (فى طبيعته) ساقط من ب.

(٢) راجع ما سبق ل ٢ / ب وما بعدها.

(٣) ساقط من أ.

(٤) انظر ما سيأتى ل ٣٠ / أ.

/ / أول ل ١٥ / أمن النسخة ب.

٩٩

وعند ذلك : فلا تمتنع الحركات المختلفة عليها عند كون كل واحد منها مما يلى غير الملائم له طلبا للملائم ، ولا سيما إذا فرض الجسم متناهيا من بعض الجهات دون البعض.

الأقرب مما قيل فى هذا الباب ، وإن كان قد ضعفه قوم من الأفاضل فهو أن يقال : لو كانت الأبعاد غير متناهية ؛ فلنا أن نفرض خطين خارجين من نقطة ما مفروضة كما فى مثلث ، إلى غير النهاية.

وعند ذلك : فلا بدّ وأن تكون زيادة الانفراج بينهما على حسب زيادة طوليهما.

ولهذا فإنا نجد ما قرب من نقطة الزاوية المفروضة من الأبعاد الانفراجية الواقعة بين الضلعين الخارجين من النقطة المفروضة أقصر مما بعد عنها ، وليس ذلك إلا لأن زيادة الانفراج على حسب (١) زيادة طول الأبعاد (٢) نحو زيادة طول الأضلاع المفروضة. فإذا فرضت الأضلاع لا نهاية لها ؛ فيجب أن يتوهم بينها انفراج لا يتناهى فى الجملة ؛ / ضرورة أن زيادة الانفراج على حسب زيادة طول الأبعاد.

فإن قال من ضعف هذا المسلك : إنه ما من حد يفرض من الضلعين إلا وهما متناهيان بالنسبة إليه. وكذلك إلى غير النهاية.

وكذلك ما يتوهم من كل انفراج يقدر بينهما.

قلنا : فيلزم امتناع توهم كون كل واحد من الضلعين غير متناه فى الجملة ؛ بضرورة ما قيل ، وقد قيل بأنهما غير متناهيين.

فإذا لم يمتنع توهم كون البعدين ، غير متناهيين فى الجملة مع ما قيل (٣) بأنهما غير متناهيين (٣). بأن ما من حد يفرض فيهما إلا وهما متناهيان بالنسبة إليه. وكذلك يجب أن يتوهم من غير امتناع وجوب انفراج بين الضلعين لا نهاية له فى الجملة ؛ لضرورة أنهما غير متناهيين.

وأن زيادة الانفراج على حسب زيادة طول البعدين ؛ وهو فلا يخرج عما بين الضلعين المفروضين. وما لا يتناهى ؛ فلا ينحصر بين حاصرين. وإذا كان اللازم ممتنعا ؛ فالملزوم مثله.

__________________

(١) فى ب (نحو).

(٢) فى (الأضلاع).

(٣) (بأنهما غير متناهيين) ساقط من ب.

١٠٠