أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0326-3
الصفحات: ٤٧٠

الفصل السادس

فى امتناع وجود جوهرين فى مكان واحد (١)

وامتناع وجود جوهر واحد فى مكانين.

اما امتناع وجود جوهرين فى حيز ، ومكان واحد من غير تداخل ؛ فظاهر لا خلاف فيه بين / / العقلاء ؛ لكن اختلفوا هل امتناع ذلك معللا ، أم لا؟ فذهب بعضهم : إلى أنه غير معلل ؛ بل امتناع اجتماع الجوهرين فى الحيز الواحد لذاتيهما ؛ غير معلل بتضاد عرضين آخرين ، كما أن امتناع الجمع : بين السواد ، والبياض لذاتيهما ، [لا لاتصال غيرهما] (٢) وإليه ميل القاضى أبى بكر والأستاذ أبى إسحاق (٣) فى قول لهما ، غير أن القاضى امتنع من إطلاق اسم التضاد على الجواهر ، باعتبار امتناع اجتماعهما فى الحيز الواحد لذواتيهما ، ولعله راعى فى التضاد تعاقب المتضادين على المحل المقوم ، كما فى تضاد الأعراض ، وذلك غير متصور فى الجواهر.

وأما الأستاذ ؛ فإنه لم يمتنع من إطلاق اسم التضاد على الجواهر بهذا الاعتبار.

وذهب آخرون إلى أن امتناع الجمع بين الجواهر فى الحيز الواحد لا لذواتهما ؛ بل هو معلل ؛ لكن اختلف هؤلاء. فذهب بعضهم إلى أن ذلك معلل بتضاد أكوان المكان ؛ إذ المكان له كون باعتبار وجود أحد الجوهرين فيه ، مضاد لكونه باعتبار وجود الجوهر الآخر فيه. وقد قال / به الأستاذ أبو إسحاق فى قول ، وربما ظن امتناع ذلك بسبب التضاد فى أكوان غير متصور فى أكوان الجوهرين بسبب كونهما فى المكان الواحد ؛ وهو فاسد من جهة أن تضاد الأكوان ، غير متصور بالنسبة إلى محلين مختلفين.

فذهب القاضى أبو بكر (٤) فى قول آخر إلى أن امتناع اجتماع الجوهرين فى المكان الواحد باعتبار أن شرط وجود كل واحد من الجوهرين فيه عدم وجود الآخر فيه وعند الاجتماع ، فقد فقد هذا الاشتراط.

__________________

(١) انظر الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص ٤٤٨ وما بعدها والمواقف للإيجي ـ الموقف الرابع ـ المرصد الثانى ـ المقصد الخامس ص ٢٥١ ، ٢٥٢. وشرح المواقف للجرجانى ٧ / ٢٤٠.

/ / أول ل ٦ / ب.

(٢) بياض فى أ.

(٣) قارن رأى القاضى والأستاذ بما ورد فى الشامل ص ٤٤٨ وما بعدها.

(٤) انظر الشامل للجوينى ص ٤٤٩.

٤١

والأشبه من هذه الأقوال ؛ إنما هو القول الأول ؛ فإنه قد يعلم استحالة جمع الجوهرين فى المكان الواحد الغافل عن تضاد ما قيل من الأكوان ، واعتبار ما قيل من الشرط.

وأما امتناع وجود الجوهر الواحد فى مكانين معا فى حالة واحدة ؛ فمما لا خلاف أيضا فيه بين العقلاء.

[لكن] (١) منهم من علل ذلك بتضاد كونه بالنسبة إلى المكانين. ومنهم من علل باتحاد الجوهر ، واستحالة انقسامه بتقدير كونه فى المكانين معا.

لكن هذا القائل معترف بجواز كون الجوهر مع اتحاده ملاقيا لستة جواهر. وكما أن كونه فى مكانين مما يفضى إلى انقسامه مع اتحاده ؛ فكذلك القول بملاقاته لستة جواهر ؛ ضرورة أن ما به ملاقاة كل واحد منه غير ما به ملاقاة الباقى ؛ وإلا لزم التداخل.

وعند ذلك : فيجب تعميم الحكم : إما المنع مطلقا ، أو الجواز مطلقا ؛ ضرورة امتناع الفرق ، ويمكن انقداح القول بأن امتناع ذلك لذات الجواهر ، أو لأن شرط كونه فى أحد المكانين أنه لا يكون فى المكان الآخر ، كما قيل فى امتناع كون الجوهرين فى المكان الواحد.

__________________

(١) ساقط من أ.

٤٢

الفصل السابع

فى امتناع تعرى الجوهر عن الأعراض ، وتعليل قبوله لها (١)

مذهب أهل الحق : أن الجوهر المتحيز لا يخلو عن شيء من الأعراض ، أو عن ضده. وذهب بعض الدهرية (٢) : إلى أن الجواهر كانت خالية عن جميع أجناس الأعراض أزلا دون لا يزال.

وذهب الصالحى من المعتزلة : إلى جواز تعرّى الجواهر عن جميع الأعراض فيما لا يزال (٣).

وذهب البصريون من المعتزلة : إلى امتناع تعريها عن الأكوان دون غيرها من الأعراض (٤).

وذهب البغداديون : منهم إلى امتناع تعريها عن الألوان دون غيرها.

وقد اعتمد أهل الحق فى ذلك على مسالك لا تقوى. /

المسلك الأول : أنهم قالوا : من قال بجواز خلو الجواهر عن الأعراض موافق على امتناع خلوها عنها ، أو عن أضدادها ، بعد قيامها بها. ويلزم من ذلك امتناع خلوها عنها فى أول حال وجودها ؛ وذلك لان امتناع خلو الجوهر عن العرض ، أو عن ضده بعد قيامه به : إما أن يكون لأن العرض بعد وجوده لا يعدم الا بطرو ضده ، وكذلك الكلام فى الضدّ على ما هو مذهبهم وإما لكون الجوهر قابلا للعرض ، وإما لذات الجوهر.

لا جائز أن يقال بالأول : فإن الضدّ المعدم لا يتصور وجوده إلا بعد عدم الضّد السابق.

__________________

(١) انظر مقالات الإسلاميين للإمام الأشعرى ٢ / ١٠ ـ ١٣. والشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص ٢٠٩ وما بعدها. والمواقف للإيجي ـ الموقف الرابع ـ المرصد الثانى ـ المقصد السادس ص ٢٥٢ ، ٢٥٣. وشرح المواقف للجرجانى ٦ / ٢٤٠ ـ ٢٤٣.

(٢) الدهرية : قال شارح المواقف فى شرح رأيهم «قالوا : إن الجواهر كانت خالية فى الأزل عن جميع أجناس الأعراض ، ولم يجوزوا خلوها عنها فيما لا يزال. وهم بعض القائلين بأن الأجسام قديمة بذواتها محدثة بصفاتها».

(٣) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص ٢١٢.

(٤) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص ٢١٠.

٤٣

وعند ذلك : فلا يكون مؤثرا فى عدم الضّد السابق ؛ فلم يبق إلا القسم الثانى ، والثالث. ويلزم من ذلك امتناع عرو الجوهر عن الأعراض فى أول حال وجودها ؛ ضرورة تحقق القبول وذات الجوهر فيه.

ولقائل أن يقول : مبنى هذه الطريقة على تسليم الخصم امتناع تعرى الجواهر عن الأعراض بعد قيامها بها ؛ فلا يكون حجة مطلقة بالنسبة إلى غير المسلم لذلك.

ولا على المسلم أيضا بتقدير أن يعرف خطابه فى القول بامتناع عرو الجواهر عن الأعراض بعد قيامها بها ، وبتقدير أن يكون حجة عليه فقد لا نسلم الحصر فيما ذكر من (١١) / / الأقسام الثلاثة ؛ ولا دليل عليه غير البحث والسبر ؛ وهو غير يقينى كما سبق تعريفه (١).

وبتقدير تسليم الحصر ، فما المانع أن يكون ذلك ، لكون العرض لا يعدم الا بطرو ضده

قولكم : إن الضّد لا يوجد إلا بعد عدم الضّد الآخر ؛ ممنوع.

وما المانع أن يكون وجود الطارئ ، وعدم السابق معا. وبتقدير امتناع ذلك فما المانع أن يكون عدم العرض بعد وجوده مشروطا بتعقب ضده له فى المحل ، أو بما لازمه ؛ لا أن يكون الضّد هو العدم ؛ ليلزم ما قيل.

وإن سلم أن عليه امتناع التعرى لذات الجوهر ؛ أو كونه قابلا للعرض ؛ فما المانع أن يكون ذلك مشروطا بسابقة قيام الأعراض بالجوهر ؛ أو بما لازمه.

وإذا كان كذلك ؛ فالواجب أن يورد ذلك فى معرض المطالبة للخصم بجهة الفرق بين ما بعد قيام الأعراض ، وما قبل ذلك ؛ فإنه لا يجد إلى الفرق سبيلا ، ولا نذكر ذلك فى معرض الاستدلال لما ذكرناه.

ويمكن تقرير هذا المسلك بوجه آخر. وهو أن يقال : امتناع عروّ الجوهر عن الأعراض بعد قيامها به : إما أن يكون لذاته ، أو لا لذاته.

__________________

(١١)/ / أول ل ٧ / أمن النسخة ب.

(١) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الثالثة ـ الباب الثانى ـ الفصل السابع ـ الدليل الثالث ل ٣٩ / أ.

٤٤

فإن كان لذاته : لزم امتناع عروه / عن الأعراض ؛ لما سبق فى المسلك الّذي قبله. وإن كان لا لذاته : فإما أن يكون ذلك لمعنى ، أو لا لمعنى.

لا جائز أن يكون ذلك لا لمعنى ، ولا لذاته ؛ وإلا لما كان امتناع العرو أولى من عدمه.

وإن كان ذلك لمعنى : فذلك المعنى : إما لازم لذات الجوهر ، أو للازم ذاته.

وعلى كل تقدير ؛ فيلزم امتناع عرو الجوهر عن الأعراض فى أول حال حدوثه ؛ ضرورة تحقق الذات ، وأنه يلزم من تحققها تحقق لازمها ، ولازم لازمها.

وهذا وإن كان أقرب من الأول : إلا أنه يتجه عليه ما اتجه على الأول من كونه إلزاما على الخصم ، وأنه لا يمتنع أن يكون ذلك لذاته ، أو للازم ذاته مشروطا بقيام العرض به كما تقدم (١).

المسلك الثانى : ويخص القائلين باستحالة تعرى الجواهر عن بعض الأعراض دون البعض : كالبصريين ، والبغداديين (٢).

قولهم : إذا سلم امتناع خلو الجواهر عن الأكوان ، أو الألوان فلا يخلو : إما أن يكون ذلك لنفس الجوهر ، أو لكونه قابلا له. وأى الأمرين قدّر ؛ فيلزم مثله فى باقى الأعراض ؛ ضرورة أن نسبة ذات الجوهر وقبوله إلى جميع الأعراض نسبة واحدة ؛ وهو ضعيف أيضا نظرا إلى امتناع الحصر فيما ذكر من الأقسام على ما تقدم (٣).

وبتقدير الحصر فلا يمتنع أن يكون الجوهر لذاته ، أو للازم ذاته موجبا لامتناع عروه عن بعض الأعراض ، ولا يلزم التّعميم ، ضرورة اختلاف الأعراض ، وأن ما اقتضى شيئا غيره لازم أن يكون مقتضيا لمخالفه.

__________________

(١) راجع ما مر فى ل ٧ / ب وما بعدها.

(٢) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص ٢١٣ فصل : مشتمل على ذكر شبه المخالفين.

(٣) راجع ما مر فى ل ٧ / ب وما بعدها.

٤٥

المسلك الثالث : ما ذكره الأستاذ أبو إسحاق (١) ، وأبو بكر ابن فورك (٢) وهو أنهما قالا : إذا أدرك المدرك جوهرا ثم قام به سواد فادركه مع السواد ؛ فإنه يجد من نفسه تفرقة ضرورية بين حال الجوهر قبل اتصافه بالسواد ، وبعده.

وهذه التفرقة إنما تعود إلى شيئين ، وليس ذلك هو الجوهر والسواد ؛ إذ الجوهر مستمر فى الحالين مع التفرقة ؛ فلم يبق الا أن التفرقة راجعة إلى السواد ، ولون آخر قبله.

وهو ضعيف أيضا : إذ أمكن أن يقال بعود التفرقة إلى إدراك الجسم أولا دون غيره ؛ وإدراكه ثانيا مع غيره ، ولا يخفى أن رؤية شيء واحد متميز عن رؤية شيئين.

والمعتمد فى المسألة أن نقول : إذا افترضنا جوهرين متحيّزين فلا يخلوا : إما أن يكونا مجتمعين ، أو مفترقين ، أو مجتمعين ، ومفترقين معا أو لا مجتمعين ، ولا مفترقين.

لا جائز أن يقال بالثالث : إذ هو معلوم / البطلان بالضرورة.

ولا جائز أن يقال بالرابع : فإن من ضرورة كون الجوهرين متحيزين أن يكون حيّز أحدهما ملاصقا لحيز الآخر ، أو لا يكون ملاصقا له.

والأول : هو الاجتماع ، والثانى : هو الافتراق.

ولا يتصور أن يكون لا ملاصقا له ، ولا غير ملاصق. فلم يبق إلا أن يكونا مجتمعين ، أو مفترقين. والاجتماع والافتراق كونان ، والأكوان أعراض على ما يأتى (٣) :

[ولأن الاجتماع عبارة عن اختصاص الجوهرين كل واحد بحيز لا يفصلهما ثالث ؛ والافتراق مقابل له.

واختصاص الجوهر بالحيز صفة وجودية ، لأن نقيضه صفة للعدم ، والصفة الوجودية عرض] (٤) وفى ذلك تصريح بامتناع خلو الجواهر عن الأعراض مطلقا ، وهو دليل على

__________________

(١) سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل ٥ / أ.

(٢) سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل ٣ / أ.

(٣) انظر ما سيأتى فى الأصل الثانى ـ الفرع الخامس : فى الأكوان وما يتعلق بها ل ٤٨ / أوما بعدها.

(٤) ساقط من أ.

٤٦

الدهرية (١) فى قولهم : بجواز خلوّ الجواهر عن الأعراض فى الأزل ، وعلى الصالحى (٢) فى لا يزال ، وعلى البغداديين (٣) فى قولهم بجواز خلو الجواهر عن الأكوان دون غيرها.

فإن قيل : إذا كان معنى الافتراق بين الجوهرين ، أن حيز أحدهما غير ملاصق لحيّز الآخر ؛ فهو سلب للتلاصق ، وعدم صرف ؛ والعدم لا يكون عرضا. وعلى هذا فبتقدير الافتراق أن يكون الجوهر خاليا (١١) / / عن الكون.

ثم وإن سلمنا أن مفهوم الافتراق أمر عرضى ؛ ولكن ما ذكرتموه يلزم منه أن يكون الرّب ـ تعالى ـ لا يخلو عن الحوادث ، أحد الكونين ، وأن يكون محلا للأعراض ؛ وهو محال (٤).

وذلك لأن الرب ـ تعالى ـ والعالم : إما أن يكونا مجتمعين ، أو مفترقين إلى آخر القسمة ، والثالث ، والرابع محالان ؛ لما ذكرتموه.

فلم يبق إلا الأول ، والثانى. وما لزم عنه المحال ؛ فهو باطل.

وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على امتناع خلو الجواهر عن الأعراض ؛ لكنه معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من ثلاثة أوجه :

الأول : هو أن الجوهر ، والعرض موجودان حادثان بفعل فاعل مختار ؛ وهو الله ـ تعالى ـ ؛ فلو لزم من وجود الجوهر وجود العرض وامتنع خلوه عنه ؛ لكان الرب ـ تعالى ـ مضطرا إلى إحداثه عند إحداث الجوهر ؛ وخرج عن كونه فاعلا بالاختيار ؛ وهو ممتنع (٥).

__________________

(١) راجع ما مر ل ٧ / ب.

(٢) راجع ما مر ل ٧ / ب.

(٣) راجع ما مر ل ٧ / ب.

(١١)/ / أول ٧ / ب من النسخة ب.

(٤) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الرابع ـ المسألة الثالثة : فى أنه تعالى ليس بعرض ل ١٤٥ / ب.

والمسألة الرابعة : فى بيان امتناع حلول الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ ل ١٤٦ / أ.

(٥) راجع ما مر فى الجزء الأول ل ٢٨١ / ب وما بعدها.

٤٧

الثانى : هو أنه ما من معلوم ، إلا ويجوز أن يخلق الله ـ تعالى ـ للعبد العلم به. والمعلومات غير متناهية.

فاذا علم العبد بعض المعلومات دون البعض : فإما أن يقولوا بأنه تقوم بذاته بدل علم لم يخلقه الله ـ تعالى ـ له ضدا ؛ فإنه تعرى ذاته عن تلك العلوم ، وأضدادها.

فإن كان الأول ؛ لزم أن تقوم بذاته أضداد لا نهاية لها ؛ ضرورة أن ما لم تعلمه غيره متناه.

وإن كان الثانى : فقد جوزتم عرو المحل عن العرض المقابل له وعرو ضده ، / وأبطلتم أصلكم ؛ وهو المطلوب.

الثالث : أن الماء ، والهواء ؛ لا لون لها ، وكذلك الحجارة ، والخشب ، وقشر الجوز ، واللوز ؛ لا طعم لها.

والجواب : أما السؤال الأول : فمندفع. ثم جهة أن معنى الافتراق ليس هو سلب الاجتماع ، وإنما هو اختصاص كل واحد من الجوهرين بحيز ملاصق لحيز الآخر ؛ وهو معنى وجودى لا سلبى.

وفرق بين سلب الاجتماع ، وبين الاختصاص الموصوف بعدم الاجتماع.

وأما الإلزام : فهو أيضا مندفع ؛ إذ الاجتماع والافتراق [بالتفسير المذكور] (١) إنما يعقل فى ذوى الأحياز والرب ـ تعالى ـ غير متحيز (٢) ؛ فلا يقال إنه مفارق للعالم ، ولا مجامع له ؛ حيث أنه لا يختص بحيّز ، لا فى قرب ، ولا فى بعد. وما ذكرتم فى الوجه الأول فى المعارضة ؛ فهو لازم عليهم فى امتناع وجود العرض دون الجوهر (٣).

وامتناع وجود العلم ، دون الحياة ، ولزوم علم من حلت به الآفات عند امتناع الافات المانعة من العلم ؛ فما هو العذر فى صور الإلزام لهم ؛ هو عذرنا فى محل النزاع.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الجزء الأول ـ القسم الأول ـ النوع الرابع : فى إبطال التشبيه وما لا يجوز على الله تعالى ل ١٤٢ / أوما بعدها.

(٣) راجع ما سيأتى فى الأصل الثانى ـ الفرع الثانى : فى استحالة قيام العرض بنفسه ل ٤١ / ب.

٤٨

وهو أيضا ألزم على القائلين بامتناع خلو الجوهر عن الأكوان دون غيرها.

وأما الوجه الثانى : فقد قال الأستاذ أبو إسحاق فى جوابه : إن من قام به علم ببعض المعلومات ؛ فعلمه القائم به ضد لما لم يقم به من العلوم. وما يقوم به من العلوم ؛ لا يكون إلا متناهيا.

وبناه على أصله فى أن العلوم وإن كانت مختلفة ، فلا تجتمع فى محل واحد. وأن ما تجده من العلوم المجتمعة لنا ، فليست قائمة بمحل واحد ؛ بل كل علم قائم بجزء من القلب ؛ غير ما قام به العلم الآخر.

قال : وإن لم يقم به علم أصلا ؛ فلا بد وأن يتصف باقيه بكون مع اتحادها مانعه لجميع العلوم التى لا نهاية لها ، ومضادة لها : كما فى الموت ، وعلى كلا التقديرين ، فلا يلزم أن يقوم به أضداد لا نهاية لها.

غير أن ما ذكروه مبنى على أن العلوم المختلفة متضادة ؛ وقد سبق ما فى ذلك فى أحكام المعلوم (١).

وقال الأستاذ أبو بكر : المعلومات وإن كانت فى نفسها غير متناهية إمكانا ؛ فلا نسلم قبول الإنسان لعلوم غير متناهية ؛ لامتناع وجود ما لا تتناهى.

وإذا لم يكن قابلا لما لا يتناهى من العلوم ؛ فلا يلزم أن يقوم به بتقدير خلوه من العلوم التى لا نهاية لها ، أضداد لا نهاية لها ؛ فإن قيام الضد إنما يكون بدل ما المحل قابل له ، والمحل غير قابل لما لا يتناهى ؛ وهو أسد من الأول.

وقال القاضى أبو بكر (٢) ـ من قام به علم ببعض المعلومات / دون باقى المعلومات.

فانتفاء باقى العلوم إنما هو بآفة مضادة لها دون ما قام به من العلم.

وعلى هذا : فلا يفتقر إلى قيام أضداد لا نهاية لها ، وهو متبين أيضا.

__________________

(١) راجع ما مر فى القاعدة الأولى ـ القسم الرابع ـ الفصل التاسع : فى أضداد العلم الحادث وأحكامها ل ١٢ / ب وما بعدها.

(٢) انظر التمهيد فى الرد على الملحدة المعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة ص ٤٠.

٤٩

وعلى هذا : فلا يلزم أن ما كان من الافات مانعا من العلم ببعض الجواهر أن يكون مانعا من العلم بجوهر آخر. فإن العلوم المتعلقة بالمعلومات المتعددة المتماثلة تكون مختلفة على ما تقرر فى أحكام العلوم (١).

ولا يلزم أن من كان مضادا لأحد العلمين المختلفين ، أن يكون مضادا للعلم الآخر. ولا يلزم أيضا على هذا أنه إذا تجدد له علم لم يكن انتفاء ضد باقى العلوم ، التى لم تكن ؛ لاحتمال أن يكون كل جنس من أجناس العلوم ، ضده غير ضد الجنس الآخر.

ولا يلزم من انتفاء بعض الأجناس ، انتفاء ضد الباقى.

وعلى سياق / / هذا التحقيق.

فإن قلنا بالبقاء ، والاعتمادات ، وأنه لا ضد للبقاء ، ولا للاعتمادات ، فلا يتصور خلو الجوهر الموجود عنها وإن لم نقل بالبقاء والاعتمادات ؛ فلا إشكال.

وأما الماء : فلا نسلم أنه لا لون له ؛ بل هو متلون بلون البياض.

وأما الهواء : فإن قلنا إنه غير مدرك فى وقتنا هذا ؛ فلا يلزم من عدم إدراكه عدم لونه فى نفسه.

وإن قلنا : إنه مدرك فى وقتنا هذا ؛ فهو متلون بلون السواد ليلا ، والبياض نهارا.

وأما الخشب والحجارة وما ذكروه من الصور : فلا نسلم أنه لا طعم لها ، ومن يطعم ذلك ، ولا سيما مع السحق ، علم أنهم فيما ادعوه مكابرون ، ومجاحدون.

كيف وأن من أنكر امتناع خلو الجواهر عن الأعراض ، مع تسليمه امتناع خلوها عنها بعد قيامها بها ، لو سئل عن الفرق ؛ لم يجد إليه سبيلا.

وأما ما يقال فى طرف الإلزام عليهم أن إنكار امتناع تعرّي الجواهر عن الأعراض ؛ مما يسد باب إثبات حدوث الجواهر ، وإثبات امتناع حلول الحوادث بذات الله ـ تعالى ـ (٢) ؛

__________________

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الأولى ـ القسم الرابع : فى أحكام العلم ل ٥ / ب وما بعدها.

/ / أول ل ٨ / أمن النسخة ب.

(٢) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الرابع ـ المسألة الرابعة : فى بيان امتناع حلول الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ ل ١٤٦ / أ.

٥٠

لتوقف الأمرين على أن ما يقبل الحادث لا يخلو عنه ، أو عن ضده ؛ فهو بعيد ، لجواز قول الخصم بطريق آخر ، ومنع التوقف على ما قيل.

هذا وأما قبول الجوهر للأعراض.

فمنهم من علله بالتحيز ، لدورانه معه.

ومنهم من منع من تعليله بالتحيز ؛ لأن كل واحد منهما من الصفات الواجبة للجوهر.

وليس جعل أحدهما علة للآخر ، أولى من العكس ، وكما دار قبوله للأعراض مع التحيز ؛ فقد دار التحيز مع قبوله للأعراض ؛ فلا أولوية لأحدهما أن تكون علة للآخر.

والحق أن خلو كل واحد من المذهبين ممكن مع القطع / بأن لا قطع فى واحد منهما.

٥١
٥٢

النوع الثانى : فى الجوهر الفرد ، وأحكامه

ويشتمل على فصلين :

الفصل الأول : فى إثبات الجوهر الفرد.

الفصل الثانى : فى أن الجوهر الفرد لا شكل له.

٥٣
٥٤

الفصل الأول : فى إثبات الجوهر الفرد (١)

وقبل الخوض فى الحجاج نفيا ، وإثباتا لا بد من تصوير الجوهر الفرد بحده ؛ ليكون التوارد بالنفى ، والإثبات على [محز] (٢) واحد فنقول :

المعنى بالجوهر الفرد : الجوهر المتحيز الّذي لا يقبل القسمة بالفعل ، ولا فى التعقل ؛ وهذا مما اختلف فيه.

فالذى عليه إجماع أهل الحق من المسلمين قاطبة ؛ إثبات الجوهر الفرد (٣).

وذهبت الفلاسفة (٤) : إلى أن الجوهر المتحيز وإن انتهى إلى حد لا يقبل القسمة [بالفعل] (٥) فلا بد وأن يكون قابلا للقسمة فى الوهم ، والتعقل (٦).

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة ارجع إلى مقالات الإسلاميين للأشعرى ٢ / ٨ وما بعدها. والشامل للجوينى ص ١٤٢ ـ ١٤٨. وأصول الدين للبغدادى ص ٣٥ وما بعدها ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٥٠٥ وما بعدها «مسألة : فى إثبات الجوهر الفرد». فقد خصص الشهرستانى لهذه المسألة مبحثا مستقلا فى نهاية كتابه [الذيل] «مسألة فى إثبات الجوهر الفرد» من ص ٥٠٥ ـ ٥١١.

ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي : المواقف للإيجي ص ١٨٢ وشرحها للجرجانى ٦ / ٢٨٥ وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٢٣٣ وما بعدها.

ومطالع الأنظار على طوالع الأنوار للأصفهانى ص ١٠٩ وما بعدها.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) راجع الشامل للجوينى ص ١٤٣.

(٤) الشامل ص ١٤٣ ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٥٠٥.

(٥) ساقط من (أ).

(٦) الفلاسفة ينكرون الجوهر الفرد ـ كما صوره المتكلمون بأنه الجوهر المتحيز الّذي لا يقبل القسمة بالفعل ، ولا فى التعقل ـ ويرون بأن الجوهر المتحيز لا بد وأن يكون قابلا للقسمة إن لم يكن بالفعل ؛ فلا بد وأن يكون قابلا لها فى الوهم ، والتعقل.

وقد احتج الفلاسفة على نفى الجوهر الفرد (الجزء الّذي لا يتجزأ) بوجوه لخصها البيضاوى فى كتابه (طوالع الأنوار) وشرحها الأصفهانى فى مطالع الأنظار ص ١٢٢ ـ ١٢٤. وأرى من المفيد نقل متن البيضاوى خاصة ، ورأى الفلاسفة ـ المخالف لرأى المتكلمين ـ صحيح يؤيده العلم الحديث والواقع ؛ فقد انشطرت الذرة ، وانقسمت ، وتحولت إلى طاقة استفاد العالم منها فى العلاج الطبى ، والطاقة وغيرها ؛ بينما تضرر البعض بالقنابل الذرية.

قال البيضاوى «احتج الحكماء على نفى الجوهر الفرد بوجوه.

الأول : أن كل متحيز فيمينه غير يساره ، والوجه المضيء فيه غير المظلم ؛ لا يقال ذلك لتغاير وجهيه ؛ لأنهما إن كانا جوهرين ثبت المدعى ؛ وإلا لزم تغاير محليهما.

الثانى : أنا لو فرضنا خطا من أجزاء شفع فوق أحد طرفيه جزء ، وتحت الآخر جزء آخر ، وتحركا على تساو ؛ تحاذيا لا محالة على ملتقى الجزءين ؛ فيلزم الانقسام.

الثالث : كلما قطع السريع بحركته جزأ ؛ قطع البطيء أقل منه ، وإلا لزم أن يساويه فى جزء ، ويقف فى آخر ؛ وقد بان فساده. ـ

٥٥

وقد احتج أهل الحق بمسالك :

المسلك الأول :

أنهم قالوا : لو كان الجوهر (١) غير متناهى الأجزاء فى العقل ؛ لما تفاوتت الأجسام فى أحجامها ؛ ولزم أن يكون حجم الخردلة كالجبل ، وأن يكون حجم كل الجسم كحجم بعضه ؛ واللازم ممتنع.

وبيان الملازمة : هو أن زيادة حجم أحد الجسمين على الآخر ؛ إنما هو بسبب تفاوتهما فى الأجزاء.

__________________

ـ الرابع : الجسم الّذي أجزاؤه وتر ، وكان ظله مثليه ؛ كان مثله من الظل ظل نصفه ؛ فيكون له نصف ؛ فينتصف الجزء المتوسط.

وقد برهن اقليدس على أن كل خط يصح تنصيفه ، وهو يقتضي ذلك.

الخامس : إذا فرض خط من ثلاثة أجزاء على أحد طرفيه جزء ، يتحرك الخط إلى أيمن والجزء إلى أيسر ؛ فإن انتقل إلى ما فوق الجزء الثانى ؛ فهو محال ؛ لأن الجزء الثانى انتقل إلى حيز الجزء الأول.

وإن انتقل إلى ما فوق الثالث ؛ فهو قطع جزءين حينما قطع ما تحته جزء واحدا ؛ فينقسم الزمان والحركة والمسافة.

السادس : الجزء متشكل. فإن كان كرة : فإذا انضم بأجزاء أخر ؛ وقعت بينهما فرج لا تسع أجزاء مثلها ؛ فيلزم الانقسام. وإن كان غيرها ؛ كانت فيه زوايا ؛ فينقسم.

السابع : إذا دارت رحى. فمهما قطع الطوق العظيم جزأ. فالصغير : إما أن يقطع أقل من جزء ؛ فينقسم الجزء ، أو جزأ تاما ؛ فيتساوى الصغير والعظيم ، أو يقطع تارة جزأ ، ويسكن أخرى ؛ فتتفكك أجزاء الرحى ، وكذلك الفرجار ذو الشعب الثلاث». [مطالع الأنظار للأصفهانى شرح طوالع الأنوار للبيضاوى ص ١٢٢ ـ ١٢٤ وقارن بما ورد فى شرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٢٦١ وما بعدها].

(١) اهتم الآمدي بشرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين فى كتابه المبين ووضح معنى الجوهر وما يتعلق به عند الحكماء والمتكلمين فقال :

«وأما الجوهر : فعلى أصول الحكماء ـ ما وجوده لا فى موضوع. والمراد بالموضوع : المحل المتقوم بذاته ، المقوم لما يحل فيه.

وينقسم إلى بسيط ومركب : أما البسيط : فهو العقل والنفس والمادة ، والصورة. فأما العقل الجوهرى ، والنفس الجوهرية فقد سبق تعريفهما.

وأما المادة : فعبارة عن أحد جزئى الجسم ، وهى محل الجزء الآخر منه.

وأما الصورة : فعبارة عن أحد جزئى الجسم ، وهى حال فى الجزء الآخر منه.

وأما المركب : فهو الجسم. وهو عبارة عن جوهر قابل للتجزئة فى ثلاث جهات متقاطعة تقاطعا قائما

وأما على أصول المتكلمين : فالجوهر عبارة عن المتحيز. وهو ينقسم إلى : بسيط ويعبر عنه بالجوهر الفرد ، وإلى مركب وهو الجسم.

فأما الجوهر الفرد : فعبارة عن جوهر لا يقبل التجزي لا بالفعل ولا بالقوة.

وأما الجسم : فعبارة عن المؤتلف عن جوهرين فردين ، فصاعدا [المبين للآمدى ص ١٠٩ ، ١١٠].

٥٦

ولهذا : فإنا لو فرضنا جسمين متساويين فى الحجم ، وزدنا على أحدهما جزءا ، أو اقتطعنا منه جزءا ؛ فإنه يزيد المزيد عليه فى الحجم ، وينقص بتقدير التنقيص ؛ وليس ذلك إلا بسبب زيادة الأجزاء ، ونقصها ؛ بل ولو فرضنا جسما ذا حجم ، ثم فرضنا الزيادة عليه ؛ فإن حجمه يعظم عن حجمه أولا. ولو نقصنا منه جزءاً ؛ فإن حجمه يصغر عن حجمه أولا ؛ وليس ذلك إلا بسبب زيادة الأجزاء ، ونقصها.

وإذا ثبت ذلك. فلو فرضنا أن أجزاء كل جسم لا نهاية لها ؛ لاستوت أجزاء جميع الأجسام فى عدم النهاية.

ومع الاستواء فى ذلك : فلا تفاوت فى الأجزاء ، ولا زيادة ، ولا نقص. ومع امتناع الزيادة ، والنقص فى الأجزاء. فالتفاوت فى أبعاد الأجسام وأحجامها يكون ممتنعا.

وإذا ثبتت الملازمة : فلا يخفى امتناع اللازم : فإن الأجسام متفاوتة فى أحجامها حسا.

وهذا المسلك ضعيف ؛ إذ لقائل أن يقول : لا نسلم الملازمة ، وما ذكرتموه بين لزوم المساواة ، والتفاوت بين أحجام الأجسام بسبب المساواة فى الأجزاء ، والتفاوت فيها مسلم.

ولكن لا نسلم أنه يلزم من كون الأجزاء الوهمية لا نهاية لعددها فى كل جسم ؛ امتناع التفاوت فيها.

ولهذا فإن أعداد عقود الحساب لا نهاية لها إمكانا. ومع ذلك فإنا نقطع / بأن أعداد عقود العشرات أكثر من أعداد عقود المئات ، وكذلك كل رتبة بالنسبة إلى ما يليها.

ثم وإن سلمنا التساوى فى العدد ؛ ولكن إنما يلزم التساوى فى الحجم أن لو تساوت الأجزاء فى الصغر ، والكبر ؛ وهو غير مسلم ؛ فإن أجزاء الخردلة وإن كانت متساوية فى الكمية المنفصلة لأجزاء الجبل وبعض الجسم لكله ؛ فغير مساوية لها فى الكمية المتصلة.

ولهذا فإنا لو فرضنا بطريق التوهم زيادة على الجبل بأمثاله إلى غير النهاية وزيادة على الخردلة بأمثالها إلى غير النهاية ؛ فإنه لا يلزم منه أن يكون ما يحصل من مجموع

٥٧

أحد الأمرين مساويا فى الحجم لحجم ما يحصل فى الثانى ؛ للتساوى فى / / التضعيف لما كانت الأضعاف المضعفة على الخردلة كل واحد منهما أصغر من آحاد كل واحد من الأضعاف المضاعفة على الجبل.

وإذا كان ذلك مما لا يتوهم فى طرف الزيادة ، والتضعيف ؛ فكذلك فى طرف الانقسام ، والتنقيص.

__________________

(١١)/ / أول ل ٨ / ب من النسخة ب.

٥٨

المسلك الثانى :

قالوا : قد ثبت أن زيادة بعد الجسم على حسب زيادة أجزائه.

فلو كانت أجزاء كل جسم لا نهاية لها فى التعقل ؛ لكان بعد كل جسم لا نهاية له فى التعقل أيضا ، ويلزم أن لا يقطعه متحرك بالحركة من جهة أن قطع ما لا يتناهى بالحركة محال ؛ وذلك لأن قطع المتحرك لما لا نهاية لأجزائه إنما يكون بقطع جميع الأجزاء.

وما من جزء يقدّر قطعه ؛ إلا ولا بد وأن يكون قد قطع قبله أجزاء لا نهاية لها ؛ وهو محال.

وكل ذلك خلاف المحسوس ؛ وفيه نظر ؛ إذ لقائل أن يقول :

الأجزاء منقسمة إلى أجزاء متداخلة : ومعناه أن يكون الشيء المفروض له جزء ، ولجزئه جزء إلى غير النهاية.

وإلى أجزاء غير متداخلة : وهى الأجزاء المتماثلة الداخلة فى الشيء المركب.

وعلى هذا فله أن يقول : الأجزاء التى باعتبارها زيادة بعد الجسم : هى الأجزاء المتداخلة ، أو غير المتداخلة :

الأول : ممنوع ، والثانى : مسلم.

ولكن لا يلزم منه عدم النهاية فى بعد الجسم ؛ إذ الأجزاء المتماثلة فى كل جسم متناهية ؛ فلا توجب غير المتناهى ، وما لا يتناهى هى الأجزاء المتداخلة ؛ فلا توجب بعدا غير متناهى.

وعلى هذا : فلا يمتنع قطعه بالحركة. كيف وأنه ما من حركة يمكن فرضها إلا وهى أيضا متجزئة إلى ما لا يتناهى على نحو تجزئ الأجسام عند الخصم وقطع ما لا يتناهى من أجزاء الجسم ، بما لا يتناهى فى زمان لا يتناهى ؛ غير ممتنع.

المسلك الثالث :

قالوا : لو كانت أجزاء / كل جسم لا نهاية لها عقلا ؛ فهى مجتمعة. وكل جزءين مجتمعين أمكن تقدير افتراقهما ، وهلم جرا إلى غير النهاية ؛ ولهذا فإنا : لو فرضنا جملة متركبة ؛ فإنها بالتنصيف تفترق. وسبيل التفريق فى البعض ؛ كسبيل التفريق فى الكل.

٥٩

وإذا جاز التفريق فى البعض ؛ وجب القول بجواز التفريق فى الكل وبتقدير تفريق الأجزاء [لم يبق] (١) منها ما له جزء مجامع له ؛ وهو المطلوب.

وهذه الطريقة فى غاية الحسن والصنعة إلا أن لقائل أن يقول : إذا كانت الأجزاء المفروضة غير متناهية ؛ فالقول بجواز الافتراق على كل واحد واحد من الأجزاء المجتمعة من أجزاء الجملة ؛ لا يلزم أن يكون حكما على الجملة ؛ لما عرف مرارا فيما تقدم (٢).

المسلك الرابع :

قالوا : إذا فرضنا خطا ؛ فطرف الخط لا ينقسم. فإذا فرضناه قائما على سطح جسم من الأجسام ؛ فلا بد وأن يكون ما يلقاه من ذلك الجسم أيضا غير منقسم. وإلا كان ما لا ينقسم [ملاقيا] (٣) ومطابقا لما ينقسم ؛ وهو محال ؛ وذلك هو المطلوب.

وأيضا : فإنا لو فرضنا الخط القائم متحركا على الجسم من موضع مقره عليه إلى آخره من الجانب الاخر مما يلقاه من أول حركته إلى آخرها ، لا يكون إلا غير متحرك ؛ وهو ما أردناه ؛ وهو ضعيف أيضا ؛ إذ لقائل أن يقول : طرف الخط الملاقى للجسم ؛ إما أن يكون عدما ، أو وجودا.

فإن كان عدما : فلا نسلم تصور ملاقاته للجسم.

وإن كان وجودا : فإما جوهرا ، أو عرضا. فإن كان جوهرا ؛ فلا نسلم أنه غير منقسم ؛ وعلى هذا فما يلقاه يكون منقسما أيضا.

وما هو طرف له ؛ لا يكون خطا. وإن كان خطا ؛ فليس إلا بمعنى أنه لا يقبل القسمة بالفعل فى غير الطول ، وطرفه.

وإن لم يكن قابلا للقسمة بالفعل : فلا يمتنع أن يكون قابلا لها بالقوة.

وإن كان عرضا : فلا بد وأن يكون قائما بالجوهر ، ويكون تابعا فى تجزئته لتجزؤ ذلك الجوهر.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) راجع ما تقدم ل ١٠ / ب.

(٣) بياض فى أ.

٦٠