أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0326-3
الصفحات: ٤٧٠

إما أن تكون مماثلة للعلة المتحدة الموجبة للحكمين ، أو غير مماثلة لها.

[لا جائز أن تكون مماثلة لها] (١) وإلا لكانت مساوية لها فى إيجاب الحكمين ؛ ضرورة المماثلة ؛ وهو خلاف الفرض ؛

إذ قد فرضت موجبة لأحد الحكمين دون الآخر

وإن لم تكن مماثلة لها : فهى مخالفة لها. ولا يخلو : إما أن تكون ضدا لهما ، أو لا تكون ضدّا لهما.

لا جائز أن تكون ضدّا لهما : فإنهما لو تضادا ؛ لتضادت أحكامهما : كما فى العلم ، والجهل ؛ فانهما كما تضادا ؛ تضادت أحكامهما

وحكم العلة الموجبة لأحد الحكمين بعينه حكم للعلة الموجبة للحكمين ؛ فلا تضاد بين حكميهما.

وإن لم تكن ضدا لهما [فلا يخلو :

إما أن يكون ضد أحدهما ضدا للأخرى ، أو لا يكون.

فإن كان الأول : فإما أن يقال باجتماعهما ، أو لا.

الأول ممتنع ، وإلا كان الحكم معللا بعلتين مختلفتين معا ؛ وهو محال كما يأتى (٢).

وإن لم يجتمعا : فإما أن لا يقال بجواز وجود إحداهما ، دون الأخرى ، أو بجوازه

فإن كان الأول : فلا وجود لواحدة منهما ، وما لا وجود له ؛ لا يكون علة للثابت ؛ لما سبق (٣).

وإن كان الثانى ؛ فامتناع اجتماعهما فى الوجود : إما أن يكون لذاتيهما ، أو لا لذاتيهما.

__________________

(١) ساقط من «أ».

(٢) انظر ما سيأتى فى الفصل السابع ل ١٢٥ / أوما بعدها.

(٣) راجع ما سبق فى الفصل الثانى ل ١١٨ / ب.

٤٤١

فإن كان الأول : فهما ضدّان ؛ وهو خلاف الفرض.

وإن كان الثانى : فلا بد وأن يكون ذلك الامتناع مستندا إلى ملازمة إحدى العلتين لما يضاد الأخرى لذاته لو كان ضد إحداهما ضدّا للأخرى ؛ لما تصور ملازمة إحداهما لضدّ الأخرى ؛ وهو خلاف الفرض.

وهذه المحالات إنما لزمت من القول بأن ضد إحداهما ضد للاخرى ؛ فكان محالا.

وإن لم يكن] (١) أحدهما مضاد للآخر كما فى السّواد مع الحلاوة ، والعلم مع الحركة ونحوه ؛ فإن ضد كل واحد منهما لا يكون ضدّا للآخر.

وعند ذلك : فبتقدير وجود ضدّ العلة الموجبة للعالمية بالسواد مثلا ؛ لا يمنع من وجود العلة الموجبة لها ، وللحكم الآخر : أى حكم كان ؛ ويلزم من ذلك أن يكون الشخص الواحد عالما بالسّواد ؛ لوجود العلة المقتضية للحكمين ، وأن يكون جاهلا به عند ما إذا كانت العلة الموجبة لأحد الحكمين : وهو العالمية بالسواد هى العلم ، والضد المفروض له هو الجهل. فلم يبق إلا أن تكون العلل الموجبة للأحكام المختلفة المفترقة ، متعددة لا متحدة ؛ وهو المطلوب.

فإن قيل : الإجماع منعقد مع دلالة البرهان على أن الله ـ تعالى ـ عالم بجميع المعلومات المختلفة ، وأن كونه عالما بأحد المعلومات المختلفة ؛ مخالف لكونه عالما بالمخالف الآخر.

ولهذا كان كونه عالما بالسّواد مثلا ؛ لا يكون قائما مقام كونه عالما بالبياض ، ولا يسده مسدّه ؛ فكان مخالفا له.

ولا يخفى أن من هذه الأحكام المختلفة غائبا وهى العالميّات بجميع المعلومات ما لا يتصور فيها الاجتماع ؛ فإن كون الرب تعالى عالما بسواد المحل المعيّن ؛ لا يجامع كونه عالما ببياضه ؛ بتقدير أن بياضه بعد السواد ، وبالعكس.

وعند ذلك فلا يخلو :

إما أن تقولوا : إن علة هذه الأحكام المختلفة ؛ علة واحدة ، وعلم واحد.

__________________

(١) ساقط من «أ».

٤٤٢

/ وإما أن تقولوا بتعدد العلّة.

فإن كان الأول : فيلزمكم محذوران.

الأول : نقض ما قررتموه.

الثانى : أنه إذا جاز تعليل الأحكام المختلفة بعلة واحدة ؛ فلا يمتنع أن تكون صفة واحدة ؛ هى علة كونه ـ تعالى قادرا ، عالما ، مريدا ، إلى غير ذلك من الصفات.

ولو جاز ذلك ؛ لبطل عليكم طريق إثبات الصفات.

وإن كان الثانى : وهو أن علة هذه العالميات المختلفة متعددة ؛ فلا يخفى أن الرب ـ تعالى ـ عالم بجميع المعلومات التى لا نهاية لها.

ويلزم من ذلك قيام صفات علمية بذاته ـ تعالى ـ لا نهاية لها ؛ ولم تقولوا به.

وأيضا : فإن كل صفة من صفات الأحياء : كالعلم ، والقدرة ، والإرادة مصححة بالحياة.

وأحكام هذه الصفات أيضا : مختلفة.

ولهذا فإن كون العلم مصححا ؛ لا يقوم مقام كون القدرة مصححة ، ولا يسد مسده.

ومع اختلافهما : فهى غير واجبة الاجتماع ، والتلازم.

وعند ذلك : فإن قلتم : إن العلة المصححة واحدة ؛ فقد نقضتم ما قررتموه.

وإن قلتم : إن العلة المصحّحة متعددة (١١) / / مع أن المصحح هو الحياة ، ولا تعدد فيها ؛ فهو محال أيضا.

قلنا : أما الإشكال الأول :

بكون الرب ـ تعالى ـ عالما بجميع المعلومات

فالذى اختاره القاضى أبو بكر ، وأكثر أصحابنا :

__________________

(١١)/ / أول ل ٦٦ / ب. من النسخة ب.

٤٤٣

أن عالميته ـ تعالى ـ بجميع المعلومات ، معللة بعلة واحدة مع الاختلاف. وزعم أن كونه ـ تعالى عالما وقادرا ، ومريدا إلى غير ذلك من الأحكام المختلفة ، ممّا لا دلالة للعقل على كون العلة الموجبة لها يجب أن تكون واحدة ، أو لا يجب. لو لا دليل السمع ؛ وهو انعقاد الإجماع على عدم الاجتزاء فيها بعلة واحدة ، وصفة واحدة.

ونقل عن الأستاذ أبى سهل الصعلوكى (١) من أصحابنا

أنه قال : لله ـ تعالى ـ علوم لا نهاية لها ؛ بمعلومات لا نهاية لها.

وعلى هذا : فلا تكون عالميّات الرب ـ تعالى ـ معلله بعلة واحدة ؛ بل بعلل غير متناهية ؛ والجوابان ضعيفان :

أما جواب القاضى : فلأنه إذا اعترف بأن كون الرب ـ تعالى ـ عالما بسواد المحل المعين ؛ مخالف ؛ لكونه عالما ببياضه ؛ مع تعذر الجمع بينهما ؛ فقد التزم نقيض ما قررناه من الدلالة العقلية ؛ ولا سبيل إليه.

وقوله : إنه لا دلالة للعقل على امتناع تعليل العالمية ، والقادرية بعلة واحدة ؛ ليس كذلك ؛ لوجهين :

الأول : أن القادرية : قد تنفك عن العالمية ؛ بأن يكون العالم عالما بشيء ؛ وهو غير قادر عليه.

أما فى حق الواحد منا : فظاهر.

وأما فى حق الله ـ تعالى ـ فإنه عالم بذاته ، وصفاته ، وعالم / بالمعدومات الممتنعة ؛ وليس قادرا عليها.

ومع الانفكاك : فيمتنع التعليل بعلة واحدة ؛ لما حققناه فى صدر الكلام عن البرهان.

__________________

(١) أبو سهل الصعلوكى : من الأشاعرة المشهورين ولد سنة ٢٩٦ ه‍ وتوفى سنة ٣٦٩ ولقب بالأستاذ كان فقيها ، وأصوليا ، وعالما ، وأديبا ، ومفسرا (طبقات الشافعية ٢ / ١٦١ ـ ١٦٤ وفيات الأعيان ٣ / ٣٤٢ ـ ٣٤٣ ، الوافى بالوفيات ٣ / ١٢٤).

٤٤٤

الثانى : أنّا نعلم علما ضروريا أن قيام صفة العلم بالذات توجب كونها عالمة ، [ولا توجب كونها قادرة ، وكذلك القدرة ؛ فإنها توجب كون الذات قادرة ؛ ولا توجب كونها عالمة] (١).

وعند ذلك : فلو جاز أن تكون العلة الموجبة للعالمية ، والقادرية ؛ غير العلم ، والقدرة : فإما أن تكون مثلا للعلم ، أو لا تكون مثلا له.

فإن كانت مثلا للعلم : فمثل العلم علم ؛ والعلم غير موجب للقادرية. وإن لم تكن مثلا للعلم ؛ فهى خلافه :

وهى إما أن تكون ضدا له ، أو لا تكون ضدا له.

فإن كان الأول : لزم من تضادهما ؛ تضاد حكميهما : كما سبق (٢) ؛ وهما غير متضادين.

وإن كان الثانى : فيلزم منه أن يكون الشخص الواحد عالما بشيء ، وجاهلا به فى حالة واحدة ؛ وهو محال ؛ وتقرير لزوم ذلك ما سبق فى صدر الكلام.

وأما جواب الأستاذ أبى سهل : فمع أنه خلاف مذهب الشيخ والأئمة ؛ مردود بما ذكرناه من الدّلالة ، على امتناع التعدد فى علم الله ـ تعالى ـ فى الصفات (٣).

والأصح فى ذلك أن نقول : الرب ـ تعالى ـ وإن كان عالما بجميع المعلومات ؛ فعالميته غير مختلفة ؛ بل واحدة. والتعدد والاختلاف إنما هو فى تعلق العلم ، أو العالمية بالمعلومات المختلفة وتعلق العلم أو العالمية وإن اختلف ؛ فلا يكون موجبا لاختلاف العالمية ؛ بل العالمية واحدة ، وعلتها واحدة ؛ وهى العلم.

وهذا بخلاف العالمية فى حقنا ؛ فإنها قد تختلف باختلاف العلوم الموجبة لها ، وعلم الرّب ـ تعالى ـ غير مختلف ولا متعدد.

وأما الحياة : فلا نسلم كونها علة للتصحيح بما ذكروه ؛ بل شرط لوجود المصحح وفرق بين الأمرين.

__________________

(١) ساقط من «أ».

(٢) راجع ما سبق فى الأصل الثالث ـ الفصل الخامس ل ٧٨ / أوما بعدها.

(٣) راجع ما سبق فى الجزء الأول القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الثانى ـ المسألة الرابعة ل ٧٢ / ب وما بعدها.

٤٤٥

وعلى ما حققناه فكون الرب ـ تعالى ـ آمرا ، ناهيا ، مخبرا ، معلل بالأمر ، والنهى ، والخبر هذا إن كانت الأحكام غير متلازمة.

وإن كانت متلازمة :

فقد قال إمام الحرمين (١) : لا نقطع فيها باتحاد العلة ، ولا بتعددها دون دلالة السمع.

والّذي نختاره : إنما هو التفصيل : وذلك أن يقال : الأحكام المتلازمة إما فى الشاهد ، وإما فى الغائب :

فإن كانت متلازمة فى الشاهد : فإما من جنس واحد : كالعالميات أو من أجناس :

كالعالمية ، والقادرية.

فإن كان الأول : فالحق أن العلة واحدة ؛ لما سبق تقريره فى مبدأ الكتاب (٢).

وإن كان الثانى : فالواجب إنما هو التعليل بعلل متعددة ؛ على ما سبق فى القسم الأول.

وأما فى الغائب : فإن كانت من أجناس : ككونه حيّا ، وعالما ؛ فالعلة / متعددة ؛ لما تحقق.

وإن كانت من جنس واحد (١١) / / ككونه عالما بنفسه ، وصفاته ؛ فقد سبق التحقيق فى أن عالميته واحدة لا متعددة ، وأن العلة لها واحدة (٣).

وإنما الاختلاف فى التعلق والمتعلق ، لا غير. وهذا الاستقصاء مع التحرير ؛ لم يقله أحد من الأصوليين.

__________________

(١) انظر الشامل فى أصول الدين ص ٦٧٤.

(٢) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الثالثة ـ الباب الثانى ـ الفصل السابع ـ الدليل الخامس : إلحاق الغائب بالشاهد ل ٤٠ / أ.

(١١)/ / أول ل ٦٧ / أمن النسخة ب.

(٣) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ٨٢ / ب وما بعدها.

٤٤٦

الفصل السابع

فى أن الحكم الواحد لا يثبت بعلتين مختلفتين ؛ ولا بعلة مركبة من

أوصاف (١)

والحكم لا يثبت بعلتين مختلفتين : لا معا ، ولا على البدل.

أما أنه لا يثبت بعلتين معا :

فلأنه : إما أن تكون كل واحدة مستقلة بإيجابه ، أو إحداهما دون الأخرى ، أو أنه لا استقلال لواحدة منهما.

لا جائز أن يقال الأول : إذ يلزم منه خروج كل واحدة عن كونها مستقلة ؛ كما تقدم تقريره غير مرة.

وإن كان الثانى ، أو الثالث ؛ فهو المطلوب.

وأيضا : فإنه إما أن تكون العلتين متماثلة ، أو غير متماثلة.

فإن كانت متماثلة : فالمتماثلان ضدان كما سبق (٢) ؛ والأضداد لا تجتمع فى محل واحد معا.

وإن لم تكن متماثلة : فهى مختلفة ، وإذا كانت مختلفة : فإما متضادة ، أو غير متضادة.

فإن كانت متضادة : فلا تجتمع فى محل واحد ؛ فلا تكون موجبة لحكم واحد.

وإن لم تكن متضادة : فالمختلفان لا بد وأن تختلف أحكامهما ؛ كما سبق (٣) ؛ ومع اتحاد الحكم ؛ فلا اختلاف فيه.

وأما أنه لا يثبت بعلتين مختلفتين : على سبيل البدل ، والإيجاز ، وإثبات حكم العالمية بالقدرة تارة ، وبالعلم تارة ؛ وهو محال.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة انظر : الشامل لإمام الحرمين ص ٦٨٠ ، ٦٨١ فقد قال : الحكم الواحد لا يثبت بعلتين لا مختلفتين ولا متماثلتين. ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي انظر : المواقف للإيجي ص ٩٤ المسألة السابعة. وشرح المواقف للجرجانى المسألة السابعة ٤ / ٢٠٢ ـ ٢٠٤.

(٢) راجع ما سبق فى الأصل الثالث ـ الفصل السادس : فى أن كل عرضين متماثلين فهما ضدان ل ٧٩ / أ.

(٣) راجع ما سبق فى الأصل الثالث ـ الفصل الثالث : فى تحقيق معنى الخلافين ل ٧٥ / أ.

٤٤٧

فإن قيل : كيف يقال بامتناع تعليل الحكم الواحد بعلتين مختلفتين على طريق البدل ، وعالمية الرب ـ تعالى ـ بالسواد كعالمية الواحد منّا به والعالميتان معللة بعلمين مختلفين عندكم : وهما العلم القديم ، والحادث.

قلنا : لا نسلم أن العلم الحادث من حيث هو علم ؛ مخالف للعلم القديم من حيث هو علم ؛ ولذلك يعمهما حدّ واحد.

وإنما الاختلاف : فى أمور خارجة من القدم ، والحدوث ، والعرضية ، والإمكان ؛ وذلك لا مدخل له فى التعليل.

فإن تعليل العالمية القديمة ، والحادثة : إنما هو بالعلم من حيث هو علم ؛ لا بخارج عنه.

وأما أن الحكم لا يعلل بعلة مركبة من أوصاف : فلوجهين (١) :

الأول : أن اقتضاء العلة للحكم ، وتأثيرها فيه لذاتها ، وصفة نفسها وجنسها ؛ لا باعتبار أمر خارج عنها.

فكل واحد من وصفى العلّية ، بتقدير انفراده : إما أن يكون مؤثرا فى المعلول ، أو لا يكون مؤثرا فيه. لا جائز أن يقال / بالتأثير : لأن التأثير ، ولا أثر ؛ محال.

وإن لم يكن مؤثرا حالة الانفراد : فلا يكون مؤثرا حالة الاجتماع ؛ لأن جنس الصفة لم يتبدل ، ولم ينقض باجتماعه مع غيره ، فما هو صفة فى نفسه ، ومقتضى ذاته ؛ لا يكون متغيرا.

وإذا لم تكن كل واحدة من الصفتين متغيرة حالة الاجتماع عن حالة الانفراد فى ذاتها ، وصفة نفسها ، ولم تكن مؤثرة حالة الانفراد ؛ فكذلك حالة الاجتماع.

الثانى (١) : أن الصفتين إن تماثلتا : فهما ضدان ؛ لما سبق (٢) ؛ والأضداد لا تجتمع.

__________________

(١) من أول : «فلوجهين ... إلى قوله : فكذلك حالة الاجتماع. الثانى :» ساقط من ب.

(٢) راجع ما سبق فى الأصل الثالث ـ الفصل السادس ل ٧٩ / أ.

٤٤٨

وإن كانتا مختلفتين متضادتان : فكذلك أيضا. وإن كانتا مختلفتين غير متضادتين : فالمختلفات لا بد وأن تكون أحكامهما مختلفة ؛ ولا اختلاف مع اتحاد الحكم. وإذا بطل كل واحد من هذه الأقسام ؛ فقد بطل التعليل بالعلل المركبة.

٤٤٩

الفصل الثامن

فيما يعلل ، وما لا يعلل (١)

وما لا يعلل كالذات ، والمعدوم ، وما يشترك فيه الموجود والمعدوم : كالمعلوم والمقدور ، والمراد ، والمذكور.

ووقوع الفعل ، وصفات الأجناس ، وكون العلة : علة ، والتماثل ؛ والاختلاف والتضاد ، والباقى ، وقبول الجوهر للأعراض.

أما الذات : فإنها لا تعلل فى كونها ذاتا.

لأن العلة : إما أن تكون ذاتا ، أو عدما ، أو صفة حالية.

الأول : يلزم منه أن تكون تلك العلة أيضا ، معللة ؛ وهو تسلسل محال.

والثانى : أيضا محال ؛ لما تقدم من أن العلة يمتنع أن تكون عدمية (٢).

والثالث : أيضا محال لوجهين :

الأول : أن الذوات عند القائلين بالأحوال ، غير مختلفة ؛ وأحوال الذوات فى حكم المختلف

ويلزم من ذلك تعليل الحكم الواحد بعلل مختلفة ؛ وهو ممتنع ؛ لما سبق (٣).

الثانى : أن الأحوال ليست أشياء ، والذوات أشياء ؛ وما ليس بشيء لا يكون علة لما هو شيء ؛ وذلك معلوم بالضرورة (٤).

وأما المعدوم : فإنه لا يعلل ؛ لأن الحكم المعلل لا بد وأن يكون قائما بمحل العلة ؛ والمعدوم ليس قائما بمحل العلة أصلا (٥).

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة في هذا الفصل انظر : الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص ٦٨٥ وما بعدها : القول فيما يعلل وما لا يعلل. ففيه معلومات مهمة نقلها عن القاضى الباقلانى.

(٢) راجع ما تقدم في الفصل الثانى : فى بيان أن العلة لا بد وأن تكون وجودية ل ١١٨ / ب.

(٣) راجع ما سبق فى الفصل السابع ل ١٢٥ / أ.

(٤) راجع ما مر ل ١١٨ / ب الفصل الثانى : فى بيان أن العلة لا بد وأن تكون وجودية.

(٥) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين للجوينى ص ٦٨٦.

٤٥٠

وأما المعلوم : فلا يعلل من حيث هو معلوم.

لأن العلة له : إما أن تكون وجودية ، أو غير وجودية.

فإن كانت وجودية : فقد بينا أنه لا بد وأن تكون قائمة بما له الحكم.

ولو كان كذلك : لما كان المعدوم معلوما ؛ لاستحالة قيام الصفة الوجودية به.

وإن كانت غير وجودية : فقد أبطلناه فيما تقدم (١).

وعلى هذا : فلا يخفى الحال فى المقدور ، والمراد ، والمذكور ، والمجهول ، وكل ما هو من هذا القبيل ؛ لتعلقه بالمعدوم ؛ كتعلق / المعلوم به.

وأما أن وقوع الفعل غير معلل ؛ فلأن (١١) / / علته

إما وجودية ، أو غير وجودية.

فإن كانت وجودية فإما قديمة ، أو حادثة.

فإن كانت قديمة : كانت متقدمة على وقوع الفعل ، وغير قائمة به وذلك باطل ، لما تقدم تقريره (٢).

وإن كانت حادثة : لزم تعليلها بعلة أخرى ؛ ضرورة كونها معللة أيضا ؛ ولزم التسلسل الممتنع.

وإن كانت غير وجودية : فهو أيضا محال ؛ لما سبق من اشتراط وجودها (٣).

وهذه الطريقة بعمومها دارئة لكل ما يتخيل من التشكيكات ؛ فلا حاجة إلى ذكر تفاصيلها عند المثبتة لها.

وأما أوصاف الأجناس : ككون السواد : سوادا ، والبياض : بياضا ؛ فهى غير معللة. لأنها لو كانت معللة : فلا بد وأن تكون معللة بصفة وجودية. قائمة بمحل الحكم كما تقدم تقريره (٤).

__________________

(١) راجع ما تقدم فى الفصل الثانى : فى بيان أن العلة لا بد وأن تكون وجودية ل ١١٨ / ب.

(١١)/ / أول ل ٦٧ / ب. من النسخة ب.

(٢) راجع ما تقدم فى الفصل الثالث ل ١١٩ / ب.

(٣) راجع ما تقدم فى الفصل الثانى ل ١١٨ / ب.

(٤) راجع ما مر فى الفصل الثانى ل ١١٨ / ب.

٤٥١

وعند ذلك : فلو قدرنا كون السواد : سوادا. معللا بعلة : فإما أن تكون تلك العلة من الصفات [الخاصة بالسواد ، أو من الصفات] (١) العامة له ، ولغيره.

فإن كان الأول : فصفته الخاصة به :

إما كونها سوادا ، أو ما هو تابع لكونه سوادا

وتعليل كونه سوادا بكونه سوادا ممتنع ؛ لما فيه من تعليل الشيء بنفسه ، وتعليل كونه سوادا بما تقدم من الصفات الخاصة بالسواد التابعة له فى كونه سوادا ؛ ممتنع أيضا ؛ لما فيه من جعل التابع متبوعا ؛ والمتبوع تابعا ، وهو دور محال.

وعلى هذا : فقد خرج الجواب عن قول القائل : ما المانع أن تكون علة كون السواد سوادا : الوجود المضاف إلى السواد بخصوصه حيث أنه تابع لكونه سوادا.

وإن كان الثانى : وهو أن يكون معللا ببعض الصفات العامة له ولغيره ككونه موجودا ، ومعلوما ، وعرضا ، ولونا إلى غير ذلك ؛ فهو أيضا محال.

لأنه إن كان المعلول ملازما لها ؛ فيلزم أن يكون كل موجود أو عرض ، أو معلوم ، أو لون ، أو غير ذلك من الصفات العامة سوادا ؛ وهو محال (٢).

لأن الأخص لا يكون مساويا للأعم

وإن لم يكن ملازما لها : فالعلة غير مطردة ؛ وهو خلاف ما حققناه فيما تقدم (٣).

وأما كون العلة علة : فغير معلل أيضا : وإلا لزم أن تكون لعلة العلة أيضا علة ؛ وهو تسلسل ممتنع.

وأما التماثل والاختلاف : فقد سبق ما فيه من الاختلاف (٤).

وأنه حال ، أم لا؟

وبتقدير كونه حالا : هل هو معلل ، أم لا؟

__________________

(١) ساقط من «أ».

(٢) راجع ما مر فى ل ١٢٢ / ب.

(٣) راجع ما تقدم فى الفصل الرابع : فى أن العلة العقلية لا بد وأن تكون مطردة منعكسة ل ١٢١ / ب.

(٤) راجع ما سبق فى الأصل الثالث ـ الفصل الرابع ل ٧٦ / ب.

٤٥٢

والحق أن التماثل والاختلاف : غير معلل. إذ لا معنى للتماثل غير الاشتراك فى الصفات النفسية.

ولا معنى للاختلاف : غير اختصاص كل واحد من الموجودين بصفة نفسية ، وصفات النفس غير معللة ؛ / على ما سبق تقريره (١).

ويخص الاختلاف وجهان :

استدلالى ، والزامى :

أما الاستدلالى : فهو أن الاختلاف من حيث هو اختلاف لو كان حكما معللا :

فإما أن يكون واحدا ، أو لا يكون واحدا.

لا جائز أن يقال : إنه غير واحد : وإلا لأمكن أن يقال : الجوهر من حيث هو جوهر ، والسواد من حيث هو سواد ، واللون من حيث هو لون ليس واحدا. [وكذلك سائر الأجناس ؛ وهو محال.

وإذا كان واحدا :] (٢) فلو علل لكان معللا بما اختص كل واحد من المختلفين ؛ وهما فى حكم المخالفة.

ويلزم من ذلك تعليل الحكم الواحد بعلل مختلفة ، وبعلة ذات أوصاف ؛ وهو ممتنع على ما سبق (٣).

فإن قيل : أخص وصف كل واحد من المختلفين ؛ وإن كان مخالفا لأخص وصف الآخر.

غير أن الوصفين قد اشتركا واجتمعا ، فى صفة الاختصاص ؛ فعلة الاختلاف ؛ ما وقع به الاشتراك ؛ ولا تعدد فيه.

قلنا : أخص وصف السواد : كونه سوادا ، وأخص وصف البياض كونه بياضا ، وكون السواد سوادا. وكون البياض بياضا : عند القائلين بالأحوال حال.

__________________

(١) راجع ما سبق فى أول الفصل.

(٢) ساقط من أ.

(٣) راجع ما سبق فى الفصل السابع : فى أن الحكم الواحد لا يثبت بعلتين مختلفتين ولا بعلة مركبة من أوصاف ل ١٢٥ / أ.

٤٥٣

فلو اشترك الوصفان فى صفة الأخصية

فإما أن تكون صفة ثبوتية ، أو عدمية.

فإن كانت صفة عدمية : فلا تكون علة ؛ لما تقدم (١).

وإن كانت صفة ثبوتية : يلزم منه قيام الحال بالحال ؛ وهو محال (٢).

وأما الإلزام :

فهو أن المعتزلة المخالفين هاهنا يمنعون من تعليل الأحكام الواجبة والرب ـ تعالى ـ يجب أن يكون مخالفا لخلقه.

فلو كانت المخالفة معللة ؛ لكانت مخالفة الرب ـ تعالى ـ لخلقه معللة ، وهو تناقض.

وأما التضاد : فهو غير معلل أيضا.

فإن حاصله يرجع إلى استحالة الاجتماع : وهو نفى محض ، والنفى غير معلل على ما سبق تقريره (٣).

وأما كون الباقى (١١) / / باقيا ، وقبول الجوهر للعرض ؛ فقد اختلف فى تعليلهما ، وقد بينا ما فى كل واحد منهما فى موضعه فيما سبق (٤).

وأما ما يعلل : فكل حكم ثبت للذات عن معنى قائم بها ؛ فهو معلل.

وسواء كان ذلك واجبا للذات : غير مفارق لها : ككون الرب تعالى ـ عالما ، وقادرا ، وحيا.

أو جائزا غير واجب للذات : ككون الواحد منا عالما وقادرا ، ومريدا ، إلى غير ذلك ، هذا هو مذهب أهل الحق.

__________________

(١) راجع ما تقدم فى الفصل الثانى : فى بيان أن العلة لا بد وأن تكون وجودية ل ١١٨ / ب.

(٢) راجع ما تقدم ل ١١٤ / أوما بعدها. الأصل الأول : فى الأحوال.

(٣) راجع ما سبق فى أول الفصل.

(١١)/ / أول ل ٦٨ / أمن النسخة ب.

(٤) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ١١٨ / ب وما بعدها بالنسبة لكون الباقى باقيا. أما بالنسبة لقبول الجوهر للعرض فارجع إلى ما سبق فى الجزء الثانى النوع الأول ـ الفصل السابع ل ٨ / ب وما بعدها.

٤٥٤

وأجمعت المعتزلة على امتناع تعليل الواجب من الأحكام ، وقد سبق الرد عليهم فى ذلك فى مسائل الصفات (١) ؛ فلا حاجة إلى إعادته.

__________________

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الثانى : فى الصفات ل ٥٣ / ب وما بعدها.

٤٥٥

الفصل التاسع

فى الفرق بين العلة ، والشرط (١)

وذلك من خمسة عشر وجها.

الأول : أن العلة لا بد وأن تكون مطردة منعكسة / على ما بيناه (٢) ؛ بخلاف الشرط ؛

فإنه وإن لزم من نفيه نفى المشروط ؛ فلا يلزم من وجوده وجود المشروط : كالحياة مع العلم ؛

فإنه لا يلزم من وجود الحياة العلم ؛ وإن لزم من نفيها نفيه.

الثانى : أن العلة لا بد وأن تكون وجودية (٣) ؛ بخلاف الشرط فإنه قد يكون وجوديا كما ذكرناه من مثال الحياة مع العلم ؛ وأما أنه هل يكون عدميا؟

فمذهب بعض الأصحاب أنه لا يكون عدميا

والمختار هو مذهب القاضى أبى بكر :

أنه لا يمتنع أن يكون عدميا : وذلك كانتفاء أضداد العلم بالنسبة إلى وجود العلم ، فإنه لا معنى للشرط إلا ما يتوقف المشروط فى وجوده عليه ؛ لا ما يؤثر وجوده فى وجود المشروط

ولا مانع من إطلاق لفظ الشرط لغة وشرعا عليه ، باعتبار هذا المعنى ، وانتفاء أضداد العلم بالنسبة إلى العلم كذلك ؛ فكانت شرطا بالنسبة إليه.

الثالث : أن العلة لا تكون إلا واحدة ؛ غير مركبة ؛ كما سبق تحقيقه (٤).

بخلاف الشرط فإنه لا مانع من تعدده. وأن يكون للمشروط الواحد شروطا يلزم نفيه ، من نفى كل واحد منها ؛ وذلك كالحياة وانتفاء أضداد العلم ؛ بالنسبة إلى العلم.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة راجع ما يلى : المواقف للإيجي المسألة الثامنة فى الفرق بين العلة والشرط ص ٩٥ وشرح المواقف للشريف الجرجانى ٤ / ٢٠٤ ـ ٢٠٧ فى الفرق بين العلة والشرط.

(٢) راجع ما مر فى الفصل الرابع ل ١٢١ / ب وما بعدها.

(٣) راجع ما مر فى الفصل الثانى ل ١١٨ / ب وما بعدها.

(٤) راجع ما مر فى الفصل السابع ل ١٢٥ / أ.

٤٥٦

الرابع : أن محل الحكم لا يكون علة للحكم ؛

لأنه لا يلزم من فهم محل الحكم ؛ فهم الحكم ، بخلاف العلة

ومحل الصفة يكون شرطا فى الصفة من جهة توقفهما عليه (١).

الخامس :

أن العلة الواحدة لا تكون علة لحكمين على ما تقرر

والشرط الواحد قد يكون شرطا لأمور : كالحياة : فإنها شرط للعلم ، والقدرة ، والإرادة ، وغير ذلك.

السادس :

أن معلول العلة : كالعالمية بالنسبة إلى العلم ؛ لا يكون علة للعلة.

وأما أن الشرط : هل يكون شرطا للشرط.

فمذهب بعض الأصحاب امتناعه.

واختيار القاضى ، والمحققين من أصحابنا : أنه لا امتناع فيه ؛ وذلك بأن يفرض شيئان مفترقان ، ولا تحقق لكل واحد منهما إلا مع الآخر

فلا مانع من جعل كل واحدة منهما شرطا للآخر من جهة توقف الآخر عليه. ومشروطا بالآخر من جهة توقفه عليه. وذلك كما لو قال القائل : لا أعطيك درهما إلا مع دينار ، ولا دينارا إلا مع درهم. وكما فى الجوهر مع العرض ؛ فإنه لا وجود للجوهر دون العرض ، ولا للعرض دون الجوهر وإنما يمتنع ذلك أن لو توقف كل واحد من الأمرين على تقدم الآخر عليه

وذلك كما لو قال القائل : لا أعطيك درهما إلا وقبله دينارا ، ولا أعطيك دينارا ، إلا وقبله درهم. (٢)

__________________

(١) راجع ما مر ل ١١٩ / ب وما بعدها.

(٢) راجع ما مر فى الفصل السادس ل ١٢٣ / ب وما بعدها.

٤٥٧

السابع : أن العلة لا بد وأن تكون صفة / قائمة بمحل الحكم ؛ كما تقرر ؛

بخلاف الشرط ؛ فإنه لا يكون صفة : وذلك كمحل الصفة بالنسبة إلى الصفة ؛ فإنه شرط لها ؛ وليس صفة لمحلها.

الثامن : أن العلة موجبة للمعلول ، ومؤثرة فيه : كالعلم مع العالمية بخلاف الشرط مع المشروط : كالحياة مع العلم ؛ فإنها غير مؤثرة فى العلم ، ولا موجبة له.

التاسع : أن العلة ملازمة للحكم ابتداء ، ودواما ؛ فإنه لا تحقق للعالمية دون العلم فى الحالتين

وكذا فى كل حكم بالنسبة إلى علته.

بخلاف الشرط مع (١) المشروط : كالحياة مع العلم ؛ فإنها غير مؤثرة فى العلم ولا موجبة (١).

فإنه قد يتوقف المشروط عليه ابتداء لا دواما. وذلك كما فى الحادث فإنه مشروط بتعلق القدرة به ابتداء لا دواما (١١) //.

العاشر : أن العلة لا تكون علة إلا لصفة حالية.

بخلاف الشرط ؛ فإنه قد يكون شرطا للذات ؛ كما فى الحياة مع العلم.

الحادى عشر : أن العلة لا تكون معلولة : كالعلم بالنسبة إلى العالمية ؛ فإنه علة لها وليس بمعلول فى نفسه ؛ إذ هو ذات ؛ والذوات غير معللة كما سبق (٢).

وكذلك فى كل علة مع معلولها.

بخلاف الشرط : فإنه قد يكون معلولا وذلك : ككون الحى حيا ؛ فإنه شرط لكونه عالما ؛ لتوقفه عليه ، والحى معلول بالحياة.

الثانى عشر : أن الشرط أعم من العلة ؛ فكل علة شرط لمعلولها من جهة توقفه عليها ؛ وليس كل شرط علة ؛ إذ ليس كل شرط مؤثرا : كما فى الحياة مع العلم.

__________________

(١) من أول : «مع المشروط ... إلى قوله : ولا موجبة» ساقط من ب.

(١١)/ / أول ل ٦٨ / ب من النسخة ب.

(٢) راجع ما مر فى الفصل الثامن : فيما يعلل وما لا يعلل ل ١٢٥ / ب.

٤٥٨

الثالث عشر : أن كل صفة مشروطة بشرط ؛ فإن كل صفة مشروطة بوجود محلها ، وانتفاء أضدادها ؛ وليس كل صفة معلولة لعلة ؛ وذلك كما فى سائر الصفات العرضية : كالعلم ، والقدرة ، والسواد ، البياض ، ونحوه.

الرابع عشر : أن الحكم الواجب لا يوجد دون شرطه بالاتفاق : كالعالمية لله ـ تعالى ـ بالنسبة إلى كونه حيا ؛ وفى توقفه على العلة ؛ خلاف كما سبق (١).

الخامس عشر : أن العلة مصححة للمعلول بالاتفاق.

وأما الشرط : فقد اختلف فى كونه مصححا للمشروط ، وعلة فى تصحيحه.

فقال القاضى أبو بكر : الحياة وإن لم تكن علة للعلم ؛ بل شرطا له ؛ [إذ هى غير مؤثرة فى وقوعه ، وتحققه] (٢).

فهى علة فى تصحيحه ، ومؤثرة فى صحته ؛ فمن حيث أنها علة تكون موجبة لمعلولها ، ولا تكون شرطا له.

ومن جهة كونها شرطا ؛ لا تكون موجبة لمشروطها ، ولا علة له

واختار غيره من المحققين خلافه محتجا على ذلك : بأن صحة العلم : إما أن تكون هى نفس العلم ، أو زائدا عليه.

فإن كان الأول : فالعلم ذات ، والذوات لا تكون معللة ؛ كما سبق بيانه (٣).

وإن كان الثانى : فإما أن تكون صفة عدمية أو هى حالة ثبوتية فإن كانت عدمية : فالأعدام غير معللة ؛ على ما سبق أيضا (٤).

وإن كانت حالة ثبوتية ؛ فلا يخفى أن صحة العلم كما تتوقف على الحياة ؛ فتتوقف على انتفاء أضداد العلم ، ووجود العلم ووجود محله.

__________________

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ المسألة الرابعة ل ٧٢ / ب وما بعدها.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) راجع ما مر فى الفصل الثامن ل ١٢٥ / ب.

(٤) راجع ما مر فى المصدر السابق.

٤٥٩

وعند ذلك : فلا يمكن أن تكون الحياة مستقلة بالتصحيح دون هذه الأمور ويلزم من ذلك تركب العلة ، وأن يكون بعض المؤثر ؛ وهو انتفاء الأضداد عدما ؛ وقد أبطلنا ذلك كله فيما سبق (١).

وهذا وإن كان فى غاية التنقيح إلا أنه يلزم على القسم الآخر منه العلم مع العالمية.

فإن هذا القائل موافق على كونه علة لها مع توقف العالمية على المحل ، وانتفاء الأضداد كما ذكر.

فكل ما هو جواب له هاهنا ؛ فهو جواب للقاضى فى الحياة مع صحة العلم.

وهذا آخر ما أوردناه من بيان العلل ، والمعلولات وأحكامها ، أتينا فيه على تلخيص جملة المعانى المذكورة فى العبارات المطولة المتعددة ، مع زيادات محققة كثيرة ؛ لا بد منها أهملها المتكلمون ، ولم يعرجوا عليها ؛ يعرفها الناظر المتبحر ، ومن له اطلاع على كتب المتقدمين ؛ ولله الحمد والمنة.

تم تحقيق الجزء الثالث

والحمد لله رب العالمين

ويليه إن شاء الله ـ تعالى ـ الجزء الرابع

وأوله : القاعدة الخامسة : فى النبوات

__________________

(١) راجع ما سبق فى الفصل السابع ل ١٢٥ / أ.

٤٦٠