أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0326-3
الصفحات: ٤٧٠

الفصل الأول

فى حقيقة العلة والمعلول (١)

أما العلة : فقد اختلف القائلون بالأحوال فى معناها :

فمنهم من قال : العلة ما أوجبت معلولها عقيبها على الاتصال إذا لم يمنع منه مانع (٢) ؛ وهو فاسد من جهة أنه عرف العلة بالمعلول ؛ وهو مشتق منها ؛ فيكون أخفى منها ؛ وتعريف الأظهر بالأخفى ممتنع.

وأيضا : فإن العلة فى أول زمان / وجودها : إن أوجبت معلولها ؛ فلا معنى للتعقب.

وإن لم توجبه إلا فى الوقت الثانى من وجودها ؛ فيلزم منه أن يكون العلم بالشيء قد قام بالشخص فى الزمن الأول ؛ وهو غير عالم ؛ وذلك محال ؛ وبه يبطل القول بالممانعة أيضا ، وكذلك فى كل علة مع معلولها.

ومنهم من قال : العلة ما كان المعتل به معللا ؛ وهو قوله : كان كذا لأجل كذا ؛ وهو أيضا فاسد ؛ لأنه عرف العلة بالمعتل ، والمعلل ؛ وهما أخفى من العلة (٣).

كيف : وفيه ردّ العلة إلى القول. والقول غير موجب لقيام حكم العلم بمحله ؛ على ما لا يخفى.

ومنهم من قال : العلة هى ما تغير حكم محلها ، أو تنقله من حال إلى حال (٤) ، ويبطل بالسّواد الحادث بحدوث الجسم [والعلم الحادث بحدوث الجسم] (٥) فى أول زمان وجود الجسم ؛ فإنه [علة كونه] (٦) عالما وأسود. وإن لم يكن معتبرا بحكم المحل ؛ إذ لا حكم له قبل ذلك ؛ لكونه معدوما.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما ورد هاهنا انظر من كتب السابقين :

الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص ٦٤٦ ـ ٦٥٠ ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي انظر المواقف للإيجي ص ٩٢ وشرح المواقف للجرجانى ٤ / ١٨٤ ـ ١٨٨ وشرح المقاصد ١ / ٣٣٨ وشرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص ٦٨ وما بعدها.

(٢) هذا التعريف للكعبى ، وهو تعريف فاسد كما حكم عليه الآمدي انظر الشامل للجوينى ص ٦٤٦.

(٣) هذا التعريف اختاره ابن الراوندى. انظر الشامل للجوينى ص ٦٤٦.

(٤) هذا التعريف نسبه إمام الحرمين الجوينى لمعظم المعتزلة انظر الشامل فى أصول الدين ص ٦٤٦.

(٥) ساقط من «أ».

(٦) ساقط من «أ».

٤٢١

ومنهم من قال : العلّة هى التى يتجدد الحكم بتجدّدها ؛ وهو باطل ، بما بيّنا من العلم القديم ؛ فإنه موجب كون البارى ـ تعالى ـ عالما ؛ وهو علة له من غير تجدد.

ومنهم من قال : العلة هى المؤثرة فى الحكم. وظاهر لفظ التأثير يستدعى سابقة وجود الحكم. حتى تؤثر العلّة فيه ؛ فيكون الحكم سابقا على تأثير العلة فيه ؛ وهو ممتنع.

وقال الأستاذ أبو بكر : (١)

العلة : هى التى توجب استحقاق حكم المحل ، وتسميته به وهو إن فسّر الحكم بالتّسمية.

فالتسمية راجعة إلى اللغة والوضع ؛ وقيام الأعراض بمحالها ؛ غير موجب لاستحقاق الوضع.

وإن فسّرها بالمعنى الحالى ، فهو غير قائل بالأحوال [إلا أن يكون ذاكرا ذلك على مذهب القائل بها] (٢).

وقد قيل فى ذلك عبارات أخرى غير وافية بالغرض إلا بنوع تكلّف ؛ فلذلك آثرنا الإعراض عنها

والأقرب فى ذلك ما ذكره القاضى أبو بكر :

من أن العلة هى : الصفة الموجبة لمن قامت به حكما (٣).

فقوله : الصفة : تميز العلة عن الذوات القائمة بأنفسها : كالجواهر ؛ فإنها لا تكون عللا للأحوال الإحكامية :

وهى عامة للصفات القديمة : كالعلم ، والقدرة لله ـ تعالى ، ونحوه

والصفات الحادثة : كعلم الواحد منّا ، وقدرته ، وسواده ، وبياضه ، ونحوه

__________________

(١) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص ٦٤٦.

(٢) ساقط من «أ».

(٣) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص ٦٤٦. فقد قال : «والصحيح فى حقيقة العلة ما ارتضاه القاضى ـ رضى الله عنه ـ حيث قال : العلة هى الصفة الموجبة لمن قامت به حكما».

٤٢٢

وقوله : الموجبة : بمعنى ملازمة الحكم لها لزوما يصدق معه قول القائل : وجد العلم ؛ فوجدت العالمية ، ولا عكس.

وقوله : لمن قامت به حكما : لبيان أن حكم الصفة لا يتعدى محل الصفة ؛ وسيأتى تحقيقه وذلك كالعالمية ، والقادرية الثابتة للذات التى قام بها العلم والقدرة.

وعلى هذا : فالعلم ، والقدرة ، والإرادة / ونحو ذلك لا توجب حكما ، ولا حالا للمعلوم ، والمقدور ، والمراد ؛ إذ هو غير قائم به.

ولو كان موجبا لذلك ؛ لكان المعدوم الممتنع الوجود إذا تعلق به العلم : متصفا بالصفة الثبوتية ؛ وهو محال.

وأما المعلول (١) : فكل قول قيل : فى العلة فيمكن أن يوجد من مقتضاه قول : فى المعلول ، وهو أن يقال :

المعلول : ما أوجبته العلة عقيبها ؛ إذا لم يمنع منه مانع ، أو المعتل المعلل بالعلة ، أو ما كان من الأحكام متغيرا بالعلة ، ومنتقلا من حال إلى حال. وكذا إلى آخر الحدود المذكورة.

وعلى مقتضى قول القاضى : المعلول : هو الحكم الواجب بالصفة القائمة بمحله.

__________________

(١) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص ٦٥٠.

٤٢٣

الفصل الثانى

فى بيان أن العلة لا بد وأن تكون وجودية (١)

نقول : اتفق القائلون بالأحوال

على أن العلّة لا بد وأن تكون وجودية ؛ غير أن طرقهم فى الدّلالة على ذلك مختلفة فلا بد من الإشارة إليها ، وتتبع ما فيها ، وما هو المختار فى ذلك.

وقد تمسك الأصحاب فى ذلك بمسالك :

المسلك الأول :

أنهم قالوا : لو جاز وجود تقدير علة معدومة ؛ للزم منه محال ؛ وبيان ذلك :

أنا إذا قلنا : العالم : عالم بعلم معدوم. جاز أن نقول : الجاهل : جاهل بجهل معدوم ، إذ لا مزية لأحدهما عن الآخر

ويلزم من ذلك أن يكون الشخص الواحد عالما ، وجاهلا بشيء واحد من جهة واحدة ؛ وذلك محال.

وهذا المحال : إنما يلزم من القول : بأن العلة يجوز أن تكون معدومة ؛ فيكون القول به محالا.

وهذا (١١) / / المسلك فى غاية الضعف.

لأن قول القائل :

لو جاز تقدير علة معدومة ؛ للزم عنه محال.

إما أن يريد به : أن ما قدر كونه علة معدوم : أى لا تحقق له ؛ فاللازم عن ذلك امتناع ثبوت الحكم المعلل به ؛ وليس ذلك محالا.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة :

انظر : الشامل فى أصول الدين للجوينى ص ٦٥١ وما بعدها والمواقف للإيجي ص ٩٣ ؛ وشرح المواقف للجرجانى ٤ / ١٩٥ ـ ١٩٨.

وشرح المقاصد للتفتازانى ج ١ ص ٣٤١ وما بعدها.

(١١)/ / أول ل ٦٣ / ب. من النسخة ب.

٤٢٤

وعلى هذا : فلا يلزم أن يكون العالم عالما بعلم مع انتفاء مسمى العلم ، وكذلك فى الجهل.

وأما إن أريد به : أن تقدير كون المعدوم علة محال ؛ وذلك هو محل النزاع.

قوله : لأنا إذا قلنا : العالم عالم بعلم معدوم ؛ جاز أن نقول : الجاهل (١) : جاهل بجهل (١) معدوم.

لا يخلو : إما أن يريد بقوله : العالم عالم بعلم معدوم : أى أن مسمى العلم معدوم :

أى لا تحقق لمسمى العلم ،

أو أن المعدوم هو نفس مسمى العلم.

فإن كان الأول : فالقول بأنّ العالم عالم بعلم معدوم / ؛ محال

وإن كان الثانى : فهو مسلم.

غير أنا لا نسلم أنه إذا كان مسمى العلم عدميا وكان العالم عالما به أنه يلزم ، أو يجوز أن يكون مسمّى الجهل عدميا : حتى يقال بصحة اجتماع العدمين.

وبتقدير التسليم لذلك : إنما يلزم أن يكون الشخص عالما ، وجاهلا بشيء واحد من جهة واحدة ؛

أن لو أمكن اجتماع العدمين : وهما المفهوم من العلم ، والجهل ؛ وهو مع ما بينهما من التقابل ؛ غير مسلم ؛ ولا سبيل إلى الدلالة عليه.

المسلك الثانى :

أنهم قالوا : لو جاز أن يكون العلم (٢) بكون العلم (٢) معدوما ؛ لخرج عن أن يكون علما ؛ وما لا يكون علما ؛ يمتنع أن يكون موجبا لكون العالم عالما ؛ وإلا لجاز أن توجب القدرة : كون محلها عالما ؛ وهو محال ؛ وهو أيضا ضعيف ؛

إذ لقائل أن يقول : كون العالم عالما ، إنما يتحقق بقيام صفة العلم بالمحل ، والعلم وصف وجودى.

__________________

(١) (جاهل بجهل) ساقط من ب.

(٢) (بكون العلم) ساقط من ب.

٤٢٥

فإذا قدر العلم معدوما ؛ فقد انتفت علّة العالمية ، وامتنع الحكم بها ؛ ولا يلزم من ذلك امتناع صحّة التعليل بالعلة ، إذا كان مسماها عدما ؛ وهو متحقق إلا أن يدلّ عليه الدليل.

وما ذكر : فإنما هو دليل على أن علة الحكم إذا انتفت ؛ انتفى الحكم ؛ ولا يلزم منه ، امتناع التعليل بالعدم.

المسلك الثالث :

أنهم قالوا : شرط العلة قيامها بمن له الحكم على ما يأتى بيانه ؛ والمعدوم غير قائم بمحل الحكم ؛ فلا يكون علة ؛ وفيه نظر أيضا.

فإنه إن أريد بأن شرط العلّة : قيامها بمن له الحكم. أن يكون صفة موجودة فيه ؛ فهو مبنى على اشتراط ، كون العلة وجودية ؛ وهو غير مسلم.

وإن أريد أنها لا بدّ وأن تكون صفة لمن له الحكم ؛ فلا نسلم امتناع صحة اتصاف محل الحكم بالصفات العدمية ، والأمور السلبية.

ولهذا : فإنه كما يصح وصف المحل بالصفات الوجودية. يصح وصفه بالصفات السلبية كما يقال : المحل ليس بعالم ، ليس بقادر ليس بأسود ، إلى غير ذلك من الصفات.

والمعتمد فى ذلك أن يقال : الحكم [علة موجبة لكون العالم عالما بالاتفاق من القائلين بالأحوال] (١) ؛ فلا بد وأن يكون ثبوتيا.

ويمتنع أن يكون عدميّا على ما يأتى تحقيقه فيما يعلل ، وما لا يعلل (٢) وإذا كان الحكم المعلل ثبوتيا : فالعلة الموجبة له يمتنع أن تكون عدمية ؛ لأن المعدوم منفى (٣) على ما عرف فى مسألة المعدوم (٣).

هل هو شيء ؛ والمنفى لا يكون موجبا لاثبات أمور وهو معلوم بالضرورة ، ولأن كونه موجبا للثابت صفة ثبوتية ، والصفة الثبوتية ، لا تقوم بالمنفى.

__________________

(١) ساقط من «أ».

(٢) انظر ما سيأتى فى الفصل الثامن : فيما يعلل وما لا يعلل ل ١٢٥ / ب.

(٣) (على ما عرف فى مسألة المعدوم) ساقط من ب ـ راجع ما سبق فى الفصل الرابع ل ١٠٨ / ب.

٤٢٦

وبيان أنها صفة ثبوتية : أن نقيضها / لا موجب للثابت ؛ وهو صفة للممتنع ؛ فيكون عدميا ، لما عرف فيما تقدم.

وإذا كان نقيضه عدما ؛ كان هو ثبوتا :

وهذه (١) الدلالة مما لا تستقيم على أصول المعتزلة القائلين : بكون المعدوم شيئا ، وذاتا ثابتة فى العدم (١)

فإن قيل : العلم علة موجبة ، لكون العالم عالما بالاتفاق من القائلين بالأحوال.

وعند ذلك : فالموجب لكونه عالما : إما (٢) ذات العلم (٢) ووجوده ، وإما حاله : وهو كونه عالما وإما وجوده وحاله :

لا جائز أن يكون الموجب وجوده. وإلا كان كل موجود موجبا لكون العالم عالما ؛ ضرورة اتّحاد مسمى الوجود كما تقدم تعريفه.

ولا جائز أن يكون الموجب هو الوجود والحال ؛ وإلا كان فيه تعليل الحكم الواحد بعلتين ؛ وهو محال ؛ كما يأتى تحقيقه (٣).

فلم يبق إلا أن يكون الموجب منه هو الحال ، والحال ليس بموجود.

قلنا : الموجب ليس هو المطلوب وجوده ، ولا الوجود والحال ليقال إن كل وجود موجب للعالمية ، أو بتعليل الحكم بعلتين ، بل الواجب الوجود الّذي له الحال ، وفرق بينه ، وبين القسمين الأولين.

[وإن كان الموجب هو الحال ؛ فليس عدمه ؛ بل ثبوته] (٤).

__________________

(١) من أول قوله : «وهذه الدلالة ... إلى قوله : ثابتة فى العدم» ساقط من ب.

(٢) (إما ذات العلم) ساقط من ب.

(٣) انظر ما سيأتى فى الفصل السابع : فى أن الحكم الواحد لا يثبت بعلتين مختلفتين ، ولا بعلة مركبة من أوصاف ل ١٢٥ / أ.

(٤) ساقط من «أ».

٤٢٧

الفصل الثالث

فى أن شرط العلة أن لا تكون خارجة عن المحل الّذي أوجبت له

الحكم ؛ بل قائمة به (١)

هذا هو مذهب أكثر أصحابنا.

وقال الأستاذ أبو بكر تفريعا على (١١) / / القول بالأحوال ؛ مع إنكاره لها : لا يشترط قيام العلة بمحل حكمها.

وبه قال البصريون من المعتزلة : حيث أنهم قالوا : الرب تعالى مريد : بإرادة قائمة لا فى ذاته ، ولا فى محل.

واجمعت المعتزلة : على أن العلّة التى يشترط فى قيامها بمحلها : الحياة إذا قامت بجزء من المحل ثبت حكمها كجملة ذلك المحل.

كما لو قام العلم بجزء من الجملة ؛ ثبت كون الجملة عالمة ؛ وعلى نحوه فى القدرة ، والإرادة.

وأما ما لا يشترط فى قيامها بمحلها الحياة ، وهى موجبة للحال ؛ فحكمها مختص بمحلها ، ولا تتعداه : كالأكوان.

واختلفوا فى صفة الحياة :

والّذي ذهب إليه الحذاق منهم : أن حكمها لا يتعدى المحل الّذي هى قائمة به ، وأنه إذا قامت الحياة بجزء من الجملة ؛ فالحى بها هو ذلك الجزء دون غيره ؛ إلحاقا لها بما لا يشترط فيه الحياة : كالأكوان ؛ إذ هى مما لا يشترط فى قيامها بمحلها الحياة ؛ وإلا لتسلسل الأمر إلى غير النهاية.

احتج الأصحاب : بأنه لو كانت العلّة خارجة عن محل حكمها ؛ للزم منه المحال [وما لزم منه المحال] (٢) ؛ فهو محال.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة :

انظر : الشامل فى أصول الدين للجوينى ص ٦٥٤ وما بعدها. ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي :

المواقف للإيجي ص ٩٢ ؛ وشرح المواقف للجرجانى ٤ / ١٨٨ ـ ١٩٥.

(١١)/ / أول ل ٦٤ / أ. من النسخة ب

(٢) ساقط من «أ».

٤٢٨

وبيان / الملازمة :

هو أن العلم علّة كون العالم عالما بالإجماع ؛ بناء على القول بالأحوال.

وعند ذلك : فلو جاز وجود العلم فى غير محل الحكم الّذي أوجبه :

فإما أن يكون قائما لا بمحل ، أو هو قائم بمحل.

الأول : ممتنع لوجهين :

الوجه الأول : أنه عرض والعرض مما يمتنع قيامه بنفسه ؛ على ما تقدم فى الأعراض (١).

الثانى : أنه وإن قدر قيامه لا بمحل ؛ فلا يخفى أن نسبته إلى جميع المحال ، والأشخاص نسبة واحدة.

وعند ذلك : فإما أن يكون موجبا للعالمية فى كل محل ، أو فى البعض ، دون البعض.

(الأول : محال. وإلا لزم بتقدير وجوده أن يكون كل شخص عالما به ؛ وهو ظاهر الإحالة.

والثانى أيضا محال ؛ فإنه ليس البعض أولى من البعض ؛ ضرورة التساوى فى النسبة. وكل ما يرد عليه ؛ فقد أبطلناه فى مسألة الإرادة (٢).

وإن كان الثانى : وهو أن يكون العلم قائما بمحل غير محل الحكم ؛ فذلك يجر إلى أن يكون العلم قائما بزيد ، والعالم به عمرو ، وهو أيضا ظاهر الإحالة. وهذا يعم جميع مذاهب المخالفين.

فإن قيل : [وإن سلمنا امتناع قيام العلم بنفسه ، وكثير من العلل ؛ ولكن لا نسلم امتناع ذلك مطلقا ، ولهذا فإن وجود الجوهر عندكم نفس ذات الجوهر وهو علة كون الجوهر مرئيا مع قيامه بنفسه] (٣)

__________________

(١) راجع ما سبق فى الأصل الثانى ـ الفرع الثانى : فى استحالة قيام العرض بنفسه ل ٤١ / ب وما بعدها.

(٢) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الثانى ـ المسألة الثالثة : فى إثبات صفة الإرادة ل ٦٤ / ب وما بعدها.

(٣) ساقط من «أ».

٤٢٩

وإن سلمنا امتناع قيام العلّة بنفسها مطلقا ؛ فما المانع من قيامها بمحل غير محل الحكم.

وقولكم : يمتنع أن يكون العلم قائما بمحل ، والعالمية الثابتة به فى غير محله متى إذا كان محل العلم هو جزء من المحل الّذي ثبت كونه عالما ، أو إذا لم يكن جزء منه.

الأول : ممنوع. والثانى مسلم.

ويدل عليه إطباق العلماء على نعت جملة الإنسان بكونه عالما ، قادرا ، مريدا.

وإن كان العلم ، والإرادة ، والقدرة ؛ لم يوجد إلا فى جزء منه.

وخرج عليه العلم القائم بزيد ؛ فإنه لا يوجب كون عمرو عالما به بحيث أن زيدا لم يكن جزء من عمرو

وإن سلمنا : امتناع قيام العلم بمحل ، وقيام العالمية الثابتة بمحل آخر ؛ ولكن لا يلزم منه امتناع ذلك بالنظر إلى كل علة ، وكل حكم وبيانه ما ذكره الأستاذ أبو بكر من أصحابكم

وذلك أن فعل البارى ـ تعالى ـ علة كونه فاعلا ، وفعله غير قائم بنفسه.

وكذلك العلم : فإنه علة كون المعلوم ، معلوما. والقدرة : علة كون المقدور مقدورا والإرادة علة كون [المراد ، مرادا ، والذكر علة كون] (١) المذكور ، مذكورا.

وإن لم يكن العلم ، والقدرة ، والإرادة ، والذكر : قائما بالمعلوم والمقدور ، والمراد ، والمذكور.

وكذلك النهى : علة كون الفعل محرما ، والأمر : علة كونه واجبا / والنهى والأمر ؛ ليسا من صفات الفعل الواجب ، والمحرم.

قلنا : أما الوجود : إن قلنا : إنه علة كون الجوهر مريدا ؛ فهو زائد على الذات الموصوفة به ، على رأى كثير من أصحابنا ؛ وهو قائم بها.

وإن قلنا : إن الوجود ليس هو علة كون الجوهر مركبا كما هو مذهب كثير من الأصحاب ، فقد اندفع الإشكال أيضا.

__________________

(١) ساقط من «أ».

٤٣٠

قولهم : متى يمتنع ذلك : إذا كان محل العلم هو جزء من محل الحكم ، أو إذا لم يكن.

قلنا : مطلقا أما إذا لم يكن جزء من محل الحكم ؛ فلما سبق.

وأما إذا كان جزء من محل الحكم : فلأنه لو جاز تعدى حكم العلة القائمة بجزء من الجملة [إلى الجملة] (١) للزم منه المحال ؛ وما لزم عنه المحال ؛ فهو محال.

وبيان الملازمة :

أنه لو جاز أن نحكم على الجملة بكونها (١١) / / عالمة : عند قيام العلم بجزء منها ؛ لجاز الحكم على الجملة بكونها جاهلة بما كانت عالمة به عند قيام الجهل بذلك الشيء المعلوم ، ببعض الجملة.

وكون الذات عالمة بشيء ، وجاهلة به ، من جهة واحدة ؛ محال.

وهذا المحال : إنما لزم من ثبوت حكم العلم ، والجهل بغير الجزء الّذي هو قائم به ؛ فيكون محالا.

فإن قيل : المحال إنما لزم من تصوير قيام العلم ، بجزء من الجملة ، والجهل بجزء آخر منها ؛ وهو محال عندنا ؛ لتضادهما باعتبار تضاد حكميهما : كما سبق فى التضاد (٢) فكان المحال لازما عن ذلك ؛ لا عن تعدّى حكم العلة عن محلها.

قلنا : عنه جوابان :

الأول : أن قيام العلم ، والجهل بجزءين من الجملة :

إما أن يكون ذلك محالا باعتبار ذاتيهما ، أو باعتبار أمر خارج

لا جائز أن يكون ذلك باعتبار ذاتيهما :

فإنا لو قطعنا النظر عن تعدية حكميهما إلى الجملة ، واجتماع الحكمين المتضادين ؛ لما كان وجود العلم فى جزء من الجهل ؛ ووجود الجهل فى جزء آخر ممتنعا.

__________________

(١) ساقط من «أ».

(١١)/ / أول ل ٦٤ / ب من النسخة ب.

(٢) راجع ما سبق فى الأصل الثالث ـ الفصل الخامس : فى تحقيق معنى المتضادين. ل ٧٨ / أوما بعدها.

٤٣١

فلم يبق إلا أن يكون امتناع وجودهما فى جزءين من الجملة باعتبار أمر آخر ؛ وكل ما كان امتناع وجوده بغيره ؛ فهو ممكن بذاته ؛ لأنه مع فرض عدمه باعتبار الغير :

إما أن يكون واجب الوجود بذاته ، أو ممتنع الوجود ، أو جائز الوجود.

الأول : محال ؛ وإلا لما كان معدوما.

والثانى : محال ؛ لأن الممتنع بذاته ، لا يكون ممتنعا بغيره ؛ فلم يبق إلا أن يكون ممكنا باعتبار / ذاته.

والممكن لا يلزم من فرض وقوعه المحال ؛ والمحال لازم ؛ فكان لازما من فرض التعدية لا غير.

وهذا التقرير فى غاية الدقة ، والحسن ؛ ولم يحوم عليه أحد من المتكلمين فى مثل هذا الموضع المشكل ؛ فعليك بتأمله ، والإحاطة به.

الجواب الثانى :

ويخص القائلين : بأن العجز معنى موجود مضاد القدرة : (١)

قلنا : هذا وإن استمر لهم في العلم ، والجهل ؛ فلا يستمر لهم فى القدرة ، والعجز.

فإن كل واحد منهما عندهم : مما يجوز أن يتعدى حكمه إلى الجملة. والواحد منا قد يجد من نفسه العلم الضرورى بقيام القدرة على تحريك الجسم باحدى يديه ، ومن يده الأخرى يعجز عن تحريكه

فلو جاز تعدى حكم كل واحد منهما إلى الجملة ؛ للزم أن تكون الجملة قادرة على تحريك الجسم ، وعاجزة عن تحريكه ؛ وهو محال.

ولا يمكن أن يقال بقيام القدرة باليد الأخرى ، وأن القائم بها إنما هو المنع المضاد للمقدور لا العجز المضاد للقدرة ولا منافاة بين كونه ممنوعا ، وبين كونه قادرا ؛ وإنما المنافاة بين كونه قادرا ، عاجزا.

__________________

(١) من أول (قلنا : عنه جوابان : ... إلى قوله ... مضاد القدرة) ساقط من ب.

٤٣٢

لأنا نفرض الكلام فيما إذا كان القائم باحدى اليدين ما لو قام مثله بالجملة ؛ لكان عجزا.

كيف وقد بينا فيما تقدم : أنه لا فرق بين العجز والمنع ، فاندفع ما ذكروه.

وما ذكروه من الاحتجاج بالإطلاق ؛ فعنه جوابان :

الأول : أنه إنما يكون حجة أن لو ثبت أن المراد به جهة الحقيقة دون جهة التجوز ؛ والقطع غير مساعد فيه ، والظن فغير ملتفت إليه فى العقليّات.

الثانى : أن ما ذكروه لازم عليهم فى العلل التى لا يتعدى حكمها إلى الجملة كما فى السّواد.

فإنه يقال : فى الإطلاق لمن قام السواد بأكثر أجزائه كالزنجى : أنه أسود ، مع الاتفاق على أن حكم السّواد لا يتعدى إلى غير الجزء الّذي هو قائم به [وسواء كان] (١) السّواد علة للأسود ، أو لم يكن ؛ فما هو عذرهم هاهنا ؛ هو عذرنا فى محل النزاع.

وأما ما ذكره الأستاذ أبو بكر : فى الإلزامات ؛ فغير لازمة.

أما الفعل : فلا نسلم أنه يوجب للفاعل حكما ؛ لما سبق تحقيقه فى الأفعال (٢).

فأما المعلوم ، والمقدور والمراد ، والمذكور فلا نسلم أنه حال ثابتة زائدة على نفس المعلوم ، والمقدور ، والمراد ، والمذكور ؛ بل المعلوم ، والمقدور ، وكل ما هو من هذا القبيل ؛ فهو قبل تعلق العلم به ، والقدرة ، والإرادة ، والذكر ، كهو بعد تعلقه / به ؛ لم يتغير حاله ؛ بخلاف من قام به العلم ، والقدرة ، وغير ذلك

فإن حاله بعد قيام هذه الصفات به ؛ مغاير لحاله قبل قيام الصفات به ؛ باتفاق القائلين بالأحوال.

والّذي يدل على أن كون المعلوم معلوما ؛ ليس حالا ثابتة له : أن المعدوم الممتنع الوجود ؛ معلوم كما تقدم (٣) وليست معلوميته حالا ثابتة له ؛ وإلا كانت الصفة الثبوتية ؛ قائمة بالعدم المحض ؛ وهو محال.

__________________

(١) ساقط من «أ».

(٢) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الثانى ـ الفرع السابع ـ الفصل العشرون : فى أن الفاعل لا يعود إليه من فعله حكم. ل ٢٥٤ / أوما بعدها.

(٣) راجع ما سبق فى الباب الثانى ـ الفصل الثانى. ل ١٠٧ / أ.

٤٣٣

ولا يخفى أن المقدور ، والمراد ، والمذكور : كالمعلوم ؛ فكان حكمه حكمه ؛ وسيأتى لهذا مزيد شرح وإيضاح فيما بعد (١).

وأما كون الفعل محرما ، أو واجبا ؛ فحكم شرعى

ولا نسلم أن الحكم الشرعى ، وصف وحال للفعل ؛ بل معنى كونه محرما : أن الشارع نهى عنه ، ومعنى كونه واجبا : أن الشارع أمر به.

وإن سلمنا ـ جدلا ـ أنه وصف ، وحال للفعل ؛ فلا نسلم صحة تعليله بالأمر والنهى ؛ فإن أمر الله تعالى ، ونهيه قديم عندنا وعنده ؛ على ما سبق فى تقرير مذهب الشيخ أبى الحسن ، وأصحابه (٢).

وكون الفعل محرما ؛ حادث ، ومتجدد ؛ ضرورة حدوث الفعل ، وتعليل الحكم الحادث ؛ بالعلة القديمة ؛ مما يوجب تخلف الحكم عن علته ؛ وهو محال ؛ كما سيأتى تقريره فى وجوب طرد العلة (٣).

وإذا عرف امتناع قيام العلة بغير محل حكمها : فيلزم منه أيضا أن لا تكون العلة الموجبة للحكم قائمة بنفسها ؛ لأن القائم بنفسه ؛ لا يكون موجودا فى محل الحكم ؛ فلا يكون علة لحكمه.

__________________

(١) راجع ما سيأتى فى الفصل السادس ل ١٢٣ / أوما بعدها.

(٢) راجع ما سبق ل ٧٢ / أوما بعدها من الجزء الأول.

(٣) انظر ما سيأتى فى الفصل الرابع : فى أن العلة العقلية لا بد وأن تكون مطردة منعكسة. ل ١٢١ / ب.

٤٣٤

الفصل الرابع

فى أن العلة العقلية لا بد وأن تكون

مطردة منعكسة (١)

والاطراد : هو أن يوجد الحكم بوجود العلة.

والانعكاس : هو أن ينتفى الحكم عند انتفاء العلة.

أما الاطراد (١١) / / فلا نعرف فيه خلافا بين القائلين بالأحوال.

وأما الانعكاس : فقد اتفقوا أيضا : على اشتراطه فى الأحوال المتجددة : ككون الواحد منا عالما ، وقادرا ونحوه

وأنه مهما انتفى العلم ، والقدرة ؛ فلا عالمية ؛ ولا قادرية واختلفوا فى الأحوال القديمة : ككون الرب ـ تعالى ـ عالما ، وقادرا ونحوه.

فمن قال بالأحوال من أصحابنا :

لم يجوز وجود عالمية البارى ـ تعالى ـ وقادريته ؛ دون العلم والقدرة

وجوزه المعتزلة : كما عرف فى الصفات (٢).

احتج الأصحاب على لزوم الاطراد ، والانعكاس

أما الاطراد : فهو أنّا نعلم بالضرورة : أن العلم إذا قام بمحل ؛ وجب كون ذلك المحل عالما.

وإنما النزاع فى أن كون المحل عالما. هل هو نفس قيام العلم به ، أو هو زائد عليه؟

فمن قال : بكونه زائدا / ؛ فقد اعترف أن قيام العلم بالمحل ؛ يلزمه كون المحل عالما ؛ ولا معنى للاطراد إلا هذا.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة انظر من كتب السابقين :

الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين ص ٦٦٠ وما بعدها. ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي المواقف للإيجي ص ٩٣ المسألة الرابعة. وشرح المواقف للجرجانى ٤ / ١٩٨ ـ ٢٠٠.

(١١)/ / أول ل ٦٥ / أ.

(٢) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الثانى ل ٥٣ / ب وما بعدها.

٤٣٥

وأما الانعكاس : فهو أنه إذا ثبت أنه يلزم من وجود العلم مثلا وجود العالمية فلو جاز وجود العالمية بدون العلم ؛ فلا يخلو : إما أن يقال : بإثبات العالمية ، بعلة أخرى ، أو لا بعلة.

فإن كان بعلة : فإما أن يكون مثلا للعلم ، أو لا يكون مثلا له.

فإن كان الأول : فمثل العلم علم. فلم تثبت العالمية بدون العلم.

وإن كان الثانى : فهو محال ؛ فإنه ما من صفة تقدرها مخالفة للعلم : كالقدرة ، والإرادة ، وغير ذلك من الصفات. وسواء كان من شرط قيامها بمحلها الحياة ، أم لا؟

فإنا نعلم أنها لا توجب كون المحل عالما ، وإلا لكان المحل عالما بقيام القدرة به ؛ وقادرا بقيام العلم به.

وكل ذلك خبط ، وتخليط ، ومخالف للمعقول.

وإن قيل : بثبوت العالمية من غير علة أصلا ؛ فذلك يوجب تجويز وجود العلم ؛ وهو غير موجب العالمية ؛ وهو خلاف ما بيناه فى وجوب طرد العلة ، وخلاف ما هو المسلم من الخصم فى هذا المقام.

وبيان الملازمة :

أنه إذا جاز وجود العالمية من غير علم ؛ فلا يمتنع مع وجود العلم أن تكون العالمية غير ثابتة به ، كما كانت ثابتة مع عدمه ؛ وذلك ممتنع مخالف للمعقول.

ولما كان اللازم من عدم الانعكاس ؛ جواز ثبوت الحكم مع وجود العلة غير ثابت بالعلة ؛ قال الأصحاب : كل علة لا تكون منعكسة ؛ فهى غير مطردة.

فإن قيل : ما ذكرتموه : إنما يصح فى الأحكام الجائزة المعللة ، وأما الأحكام القديمة : فهى واجبة. والواجب لا يعلل : سواء وجدت العلة ، أو عدمت.

فالجواب عنه بما تقدم فى الصفات (١).

وإذا ثبت اشتراط الطرد ، والعكس فى العلل العقلية ؛ فلا يلزم من وجود الشرط : وهو الطرد ، والعكس ؛ وجود العلة.

__________________

(١) راجع ما سبق فى الصفات ل ٥٣ / ب وما بعدها من الجزء الأول.

٤٣٦

حتى أن كل ما اطّرد ، وانعكس مع الشيء ؛ يكون علة له

وإلا كان الطرد ، والعكس : دليلا على العلة ؛ وهو محال ؛ لما بيناه فى أقسام الأدلة (١).

فإن قيل : فإذا كانت الملازمة بين العلم ، والعالمية ، واقعة حيث لا يفارق أحدهما الآخر ؛ فليس القول بأن العلم علة للعالمية ؛ أولى من العكس.

قلنا : معرفة كون الصّفة علة للحكم : إنما يستند إلى الحكم الضرورى بكونها موجبة للحكم إيجابا ؛ ليصدق معه قول القائل :

وجد كذا ؛ فوجب به كذا. كما يقال : وجد العلم ؛ فأوجب كون محله عالما.

ولا يقال : ثبتت العالمية ، فأوجبت العلم ؛ ولا نعنى بالعلة إلا هذا.

وسواء سمّاها الخصم بهذا الاعتبار علة ، أم لا

وقد قال القاضى أبو بكر / إذا وقع التلازم بين معلومين ، وأحدهما شيء والآخر ثابت ليس بشيء ؛ فنحن نطلق اسم العلّة : على الشيء ، والمعلول : على ما ليس بشيء ؛ ولا حرج فى الاصطلاح اللفظى.

__________________

(١) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الثالثة ـ الباب الثانى ـ الفصل السابع ـ الدليل الثالث. ل ٣٩ / أ.

٤٣٧

الفصل الخامس

فى أنه لا يجوز أن يكون إيجاب العلة العقلية لمعلولها

مشروطا بشرط معين فى نظر الناظر (١)

وهذا أيضا مما لا خلاف فيه بين القائلين بالأحوال

وقد ذكر بعض الأصحاب فى مستند الاتفاق على ذلك مسلكا ضعيفا ؛ وهو أن قال : العلة لا توجب معلولها بعلة ، وإلا لأمكن أن يقال : إن اقتضاء تلك العلة الثانية أيضا لعلة أخرى ؛ ويتسلسل الأمر إلى غير النهاية.

وإذا لم يكن إيجابها لمعلولها لعلة ؛ فكذلك لا يكون ايجابها له مشروطا بشرط وإلا لأمكن أن يقال فى الشرط ما قيل فى العلة ؛ وهو أن نصب الشرط شرطا بشرط آخر ؛ وهو تسلسل ممتنع.

ولقائل أن يقول : لا نسلم أنه يلزم من امتناع إيجاب العلة لمعلولها ؛ لعلة امتناع توقف (١١) / / إيجابها له على شرط

ولا يخفى أن ما ذكر فى ذلك مجرد دعوى ، وتمثيل من غير دليل ؛ فيكون باطلا.

والحق فى ذلك أن يقال : إن إيجاب العلّة لمعلولها ، وثبوته عند وجودها ؛ أمر معلوم بالضرورة كما سبق (٢)

وأنه لا يتصور قيام العلم بمحل ، ولا يكون ذلك المحل عالما به. وإذا كان كذلك ؛ فلو كان إيجاب العلم مثلا يكون محله عالما مشروطا بشرط خارج ، فلا يخلو ذلك الشرط : إما أن يقال : بجواز مفارقته للعلم ، أو لا يقال بجوازه.

فإن كان الأول : فبتقدير وجود العلم ، وانتفاء ذلك الشرط ؛ يلزم منه أن يكون العلم قائما بالمحل ؛ وهو غير عالم به ؛ وهو محال.

__________________

(١) من كتب الأئمة المتقدمين على الآمدي انظر : الشامل فى أصول الدين للجوينى ص ٦٦٩ وما بعدها. ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي المواقف للإيجي ص ٩٤ وشرح المواقف للجرجانى ٤ / ٢٠٠.

(١١)/ / أول ل ٦٥ / ب. من النسخة ب.

(٢) راجع ما سبق فى الفصل الثانى ل ١١٨ / ب.

٤٣٨

وإن كان الثانى : فمع أنه على خلاف المألوف من الشرط مع المشروطات ؛ فلا يخفى أن العلم بمقارنة ذلك الشرط ؛ لقيام العلم بالمحل ؛ غير لازم.

ولهذا : فإنه يمكن فرض [قيام العلم بالمحل مع (١) فرض] الجهل بكل ما ندعى من شروط التأثير.

وعند ذلك : فبتقدير الجهل بوجود ذلك الشرط ، مع تقدير وجود العلم فى المحل.

إما أن يقال : بأنه يوجب كون المحل عالما ، أو لا يوجب.

لا جائز أن يقال بالثانى : إذ هو محال ؛ لما تقرر قبل.

وإن كان الأول : فلا يخفى أن ما يجب اعتقاد ثبوت الحكم مع الجهل بوجود ذاته ؛ لا يكون شرطا ، وعليك بتفهم هذه الدلالة ، والتقرير وأن لا يستقل بغيرها مما قيل.

فإن قيل : اقتضاء العلم لكون المحل / عالما : إما أن يتوقف على هذه الأمور ، أو لا يتوقف على ذلك.

لا جائز أن يقال : بأنه لا يتوقف على هذه الأمور ؛ وإلا كان المحل عالما مع عدم قيام العلم به ، ولم يقولوا به. ومع أنه ليس بحى ؛ وهو محال.

وإن توقف فقد اعترفتم بالشرط ، وبطل ما ذكرتموه من الدلالة.

قلنا : هذه الأمور إنما هى شروط فى وجود العلم الّذي هو علة كون العالم عالما ؛ لا أنها شروط فى اقتضائه وايجابه للعالمية ، وفرق بين شرط وجود العلة ، وشرط اقتضائها بعد وجودها ؛ فلا مناقضة.

وهذه الدلالة غير مستمرة على أصول البصريين من المعتزلة ؛ حيث أنهم قضوا بثبوت العلم فى العدم ، غير موجب للعالمية إلا بعد وجوده ، وقيامه بالمحل ؛ وهما زائدان على ذاته ؛ ولا معنى للاشتراط إلا هذا.

وهو مناقض لما وافقوا عليه من عدم الاشتراط

هذا إن قالوا : إن ذات العلم هى الموجبة.

وإن قالوا : إن وجود العلم فى المحل ، هو العلة الموجبة ؛ فلا مناقضة أصلا ، ولا وجه لاطلاق المناقضة على أصولهم ؛ كما ذهب إليه الأصحاب.

__________________

(١) ساقط من «أ».

٤٣٩

الفصل السادس

فى أن العلة الواحدة هل توجب حكمين مختلفين أم لا؟ (١)

وهذا مما اختلفت فيه آراء القائلين بالأحوال : نفيا ، وإثباتا.

والحق فى ذلك أن يقال : تفريعا على القول بالأحوال : الأحكام المختلفة :

إما أن تكون بحيث يجوز تقدير ثبوت بعضها دون البعض : كالعالمية ، والقادرية ، والعالمية بالسّواد ، والعالمية بالبياض.

وإما أن تكون بحيث لا يجوز تقدير ثبوت بعضها دون البعض : كعالمية الإنسان بالسواد ، مع عالميته بعلمه بالسواد.

فإن كان من القسم الأول : فيمتنع أن تكون ثابتة بعلة واحدة ؛ وذلك لأنا إذا فرضنا حكمين مختلفين يجوز افتراقهما ؛ فلا يخلو : إما أن يقال بأنهما لا يثبتان إلا بعلة واحدة ، أو أنهما لا يثبتان إلا بعلتين ، أو أنهما يثبتان بعلة واحدة تارة ، وبعلل متعددة تارة.

فإن كان الأول : وهو أنهما لا يثبتان إلا بعلة واحدة

فلا يخلو إما أن يقال : بأنها لا توجد إلا وهى موجبة للحكمين معا ، أو أنها يجوز وجودها موجبة لأحد الحكمين دون الآخر.

لا جائز أن يقال بالأول : وإلا كان الافتراق بين الحكمين متعذرا ؛ وهو خلاف الفرض.

ولا جائز أن يقال بالثانى : إذ هو خلاف ما بيناه من وجوب طرد العلة.

وإن قيل : إنهما يثبتان بعلة / واحدة تارة ، وبعلل متعددة تارة فالعلة المتحدة لا بد وأن تكون موجبة للحكمين بتقدير وجودها ؛ ضرورة وجوب طرد العلة.

وعند ذلك : فإحدى العلتين المتعددتين (١١) / / الموجبة لأحد الحكمين :

__________________

(١) انظر الشامل فى أصول الدين للجوينى ص ٦٧٢ فصل : فى صحة إيجاب العلة أكثر من حكم. ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي انظر :

المواقف للإيجي ص ٩٤ المسألة السادسة.

وشرح المواقف للجرجانى المسألة السادسة ٤ / ٢٠٠ ـ ٢٠٢.

(١١)/ / أول ل ٦٦ / أمن النسخة ب.

٤٤٠