أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0326-3
الصفحات: ٤٧٠

الفصل الثانى

فى أن المعدوم هل هو معلوم ، أم لا (١)؟

اتفق أكثر العقلاء على أن المعدوم معلوم خلافا لبعض شذوذ المبتدعة فى قوله : إن المعدوم غير معلوم.

وفصل أبو هاشم ، ومتبعوه بين المعدوم الممكن ، والمستحيل. فقال : المعدوم الممكن : معلوم. والمعدوم المستحيل : ليس بمعلوم ؛ مع اعترافه بتعلق العلم به.

وزعم أن العلم المتعلق بالمستحيل ؛ علم لا معلوم له.

وقد احتج المثبتون بأن قالوا : المعدوم : إما أن يقال بجواز تعلق العلم به. أو لا يقال بجوازه. لا جائز أن يقال بالثانى لوجوه ثلاثة :

الأول : أنا نجد من أنفسنا العلم الضرورى بأن النفى والإثبات لا يجتمعان فى شيء واحد من جهة واحدة.

ولو لم يكن العلم متعلقا بكل واحد من المفردين ؛ لاستحال القضاء بالنسبة التصديقية بينهما. وأحد المفردين النفى ؛ فكان العلم متعلقا به.

الثانى : أنا نجد من أنفسنا العلم الضرورى بأنه ليس بين أيدينا جبل شاهق ، ولا بحر زاخر ، وأن الشمس فى الليل غير طالعة ، وأنه لا ألم لنا ولا جوع ، ولا غم ، ولا عناء ، إلى غير ذلك بتقدير عدم كل واحد منها ؛ وذلك مع عدم تعلق العلم به محال.

الثالث : هو أنه قبل حدوث الحادث : إما أن يقال بأن الله ـ تعالى ـ لم يكن عالما بعدمه قبل حدوثه ، أو يقال إنه كان عالما به.

لا جائز أن يقال بالأول : إذ هو كفر صراح.

وإن قيل بالثانى : فهو المطلوب.

وإن قيل بتعلق العلم بالمعدوم : فإما أن يقال : بأن المعدوم من جهة ما تعلق به العلم غير معلوم : كما قاله أبو هاشم فى المعدوم المستحيل الوجود ، أو أنه معلوم.

__________________

(١) انظر الشامل فى أصول الدين للجوينى ص ١٣٧ وما بعدها.

والمواقف للإيجي ص ٥٣ وشرحها للجرجانى ٢ / ١٨٤ وما بعدها.

وشرح المقاصد للتفتازانى ١ / ١٩٢ وما بعدها.

٣٨١

لا جائز أن يقال بالأول : فإنه لا معنى لكون المعلوم معلوما ؛ غير تعلق العلم به.

فالقول بكونه غير معلوم مع الاعتراف بتعلق العلم به موافقة على / المعنى ، ونزاع فى العبارة ؛ ولا حاصل له.

فلم يبق إلا أن يكون معلوما ؛ وهو المطلوب.

فإن قيل : ما ذكرتموه وإن دل على كون المعدوم معلوما ؛ فهو معارض بما يدل على أنه غير معلوم ؛ وهو أنه غير معلوم.

وهو أنه لو كان المعدوم معلوما : فإما أن يكون متميزا فى التعقل عن الموجود ، أو لا يكون متميزا عنه.

فإن كان الأول : فالتمييز صفة ثبوتية ؛ لأن نقيض التمييز لا تمييز ولا تمييز عدم ؛ فالتمييز ثبوت ؛ ويلزم من ذلك أن يكون المعدوم ثبوتيا ؛ ضرورة اتصافه بالصفة الثبوتية ؛ وكون المعدوم ثبوتيا محال كما يأتى.

وإن كان الثانى : فهو غير معلوم.

قلنا : المعدوم متميز عن الموجود فى نفس الأمر سواء كان معلوما ، أو لم يكن معلوما.

ويدل عليه : أنه لو لم يكن متميزا عنه فى نفس الأمر ؛ للزم أن من علم بالوجود ، أن يكون عالما بالعدم ؛ ضرورة عدم التمايز بينهما ؛ وهو محال.

قولهم :

التمييز صفة ثبوتية ، لا نسلم ذلك بل تمييز المعلوم عن غيره تارة يكون بأمر عدمى ، وتارة بأمر ثبوتى.

وعلى هذا : فالتمييز إن كان وجوديا ؛ كان سلبه عدميا ، وإن كان بأمر عدمى : كان سلبه ثبوتيا ؛ لأن سلب السلب إثبات.

٣٨٢

الفصل الثالث

فى تحقيق معنى الشيء ، واختلاف الناس فيه (١)

مذهب أهل الحق من الأشاعرة :

أن لفظ الشيء : عبارة عن الموجود لا غير ؛ فكل شيء عندهم موجود وكل موجود شيء. ووافقهم على ذلك الكعبى من المعتزلة.

وذهب الجاحظ والبصريون من المعتزلة :

إلى أن الشيء هو المعلوم والتزموا على ذلك كون المعدوم الممكن شيئا وحقيقة.

وذهب أبو العباس الناشئ (٢).

إلى أن الشيء هو القديم. وإن اطلق اسم الشيء على الحادث ؛ فلا يكون حقيقة ؛ بل تجوّزا.

وذهبت الجهمية : إلى أن الشيء : هو الحادث ، دون القديم.

وذهب هشام بن الحكم : إلى أن الشيء : هو الجسم ولا شيء فى الحقيقة سواه.

وذهب أبو الحسين البصرى ، والنصيبى (٣) من معتزلة البصريين :

إلى أن الشيء حقيقة فى الموجود مجاز فى المعدوم الممكن.

واعلم أن النزاع هاهنا نفيا ، وإثباتا ؛ إنما هو فى الإطلاق اللفظى دون المعنى.

وعلى هذا : فما كان على وفق اللغة واللغة شاهدة له ؛ فهو الحق.

وما (٤) كان على (٤) خلاف اللغة : فمردود ولا مجال للعقل فى إثبات اللغات.

وعند هذا : فلا بد من تحقيق مذهب أهل الحق أولا ، والانعطاف على إبطال مذهب الخصوم ثانيا.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة ارجع إلى المواقف للإيجي ص ٥٣ ـ ٥٧ وشرح المواقف للجرجانى ٢ / ١٨٩ ـ ٢١٩ فقد استفاد المؤلف والشارح من الآمدي ، ووضحا أقواله بشرحها والتعليق عليها.

(٢) أبو العباس الناشئ : هو على بن عبد الله بن وصيف البغدادى المعروف بالناشئ الأصغر. متكلم شاعر. له تصانيف منها كتاب فى الإمامة وشعر مدون فى أهل البيت توفى ببغداد سنة ٣٦٦ ه‍ [روضات الجنات للخوانسارى ص ٤٨٠ ، معجم المؤلفين ٧ / ١٤٢].

(٣) النصيبى : هو أبو إسحاق النصيبى. من معتزلة البصرة (انظر عنه الوافى بالوفيات ٣ / ٧).

(٤) (وما كان على) ساقط من ب.

٣٨٣

فنقول : أما إطلاق لفظ الشيء / بإزاء الموجود (١١) / / فعلى وفق اللغة واصطلاح (١) أهل اللسان (١) وسواء كان الموجود قديما ، أو حادثا.

ولهذا فإنا وجدنا اصطلاح أهل اللسان فى كل عصر وأوان ، متناطقين بلفظ الشيء بإزاء الموجود.

وأنه لو قال قائل الموجود شيء لم ينكر عليه منكر من أهل اللغة والأصل فى الإطلاق الحقيقة. ثم لو كان ذلك مجازا لصح نفيه

ونسلم أنه لو قال القائل : الموجود ليس بشيء لبادر إلى الإنكار عليه كل من شد طرفا من العربية ، وكان عارفا باصطلاح أهل اللسان حتى العوام.

ومن لم يتوغل فى العربية. توغل الأئمة من أهل اللغة من غير فرق بين أن يكون الموجود قديما ، أو حادثا ، أو جسما ، أو عرضا ؛ فمن ادعى الفرق بين القديم والحادث ، أو الجسم والعرض حتى أنه جعل ذلك حقيقة فى البعض ، دون البعض مع تحقق الوجود فى الكل ؛ فلا بد له من دليل نقلى عن أهل الوضع ، أو الشرع يدل على التفرقة ، لتعذر استفادة ذلك من العقل ، ولا سبيل إليه.

ويخص القائل : بأن الشيء هو الجسم : صحة إطلاق الشيء على ما ليس بجسم ، ويدل عليه قوله ـ تعالى ـ (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) (٢) وأراد به ادعاؤهم لله ـ تعالى ـ ولدا.

وقوله ـ تعالى ـ (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) (٣) وأراد به تبديلهم وتحريفهم.

وأما من زعم أن الشيء هو المعلوم : فيلزمه تسمية المعدوم المستحيل الوجود شيئا ؛ ضرورة كونه معلوما ؛ على ما تقرر فى الفصل المتقدم (٤).

ومن أطلق اسم الشيء على المعدوم حقيقة ، أو تجوزا فلا بد له من مستند. والمستند فى ذلك إنما هو النقل دون العقل على ما تقدم. والأصل عدمه ؛ فمن ادعاه يحتاج إلى بيانه.

__________________

(١١)/ / أول ل ٥٧ / ب.

(١) (واصطلاح أهل اللسان) ساقط من ب.

(٢) سورة مريم ١٩ / ٨٩.

(٣) سورة القمر ٥٤ / ٥٢.

(٤) راجع ما سبق ل ١٠٧ / أ.

٣٨٤

كيف : وأنه على خلاف المألوف المعروف من أهل اللغة فى قولهم : المعلوم : ينقسم إلى شيء ، وإلى ما ليس بشيء.

ولو استوى الموجود والمعدوم فى إطلاق لفظ الشيء ؛ لما صحت هذه القسمة ؛ لاستحالة وجود واسطة بين الموجود والمعدوم على ما يأتى فى إبطال الأحوال (١).

ولا يمكن أن يقال : إنما صحت القسمة بالنظر إلى المعدوم المستحيل الوجود (٢) ؛ فإنه ليس بشيء بالاتفاق.

وعند هذا : فلا يمتنع إطلاق لفظ الشيء على الموجود والمعدوم الممكن ، وما ليس بشيء على المعدوم المستحيل الوجود (٢).

لأن المعدوم الممكن إن قيل إنه شيء فى نفس الأمر حقيقة ؛ فسيأتى إبطاله عن قرب (٣). وإن / قيل بتسميته شيئا تجوزا واستعارة ، مع كونه ليس شيئا حقيقة ؛ فالأصل عدم التجوز والإطلاق إلا أن يدل الدليل عليه ، والأصل عدمه ؛ فعلى مدعيه بيانه.

فإن قيل : دليل صحة إطلاق اسم الشيء على المعدوم الممكن قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (٤) وقوله ـ تعالى ـ (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) (٥) سمى زلزلة الساعة والفعل قبل وقوعهما شيئا.

وذلك لا يخرج عن الحقيقة أو التجوز.

قلنا : أما تسمية زلزلة الساعة شيئا : إنما كان بتقدير وقوعها ؛ وهذا على رأى من لا يعترف من البصريين بكون الحركة ثابتة فى العدم أولى من جهة أن الزلزلة حركة على ما لا يخفى.

ومعنى قوله ـ تعالى ـ (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) (٦) أى فاعل غدا شيئا.

__________________

(١) انظر ما سيأتى من الباب الثالث ـ الأصل الأول : فى الأحوال. ل ١١٤ / أوما بعدها.

(٢) من أول قوله : (فإنه ليس بشيء بالاتفاق ... وما ليس بشيء على المعدوم المستحيل الوجود) مكرر فى النسخة «أ».

(٣) انظر ما سيأتى ل ١٠٨ / ب وما بعدها.

(٤) سورة الحج ٢٢ / ١.

(٥) سورة الكهف ١٨ / ٢٣.

(٦) سورة الكهف ١٨ / ٢٣.

٣٨٥

ثم هذه الظواهر معارضة بما يدل على أن المعدوم ليس بشيء وهو قوله تعالى (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (١) وقوله تعالى (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢) فإنه يدل على أن المعدوم ليس بشيء ؛ لأنه لو كان شيئا ؛ لكان الرب تعالى قادرا عليه.

وشيئية المعدوم عندهم غير مقدورة ؛ بل واجبة لازمة لنفس المعدوم وذاته أيضا.

فإن شيئية المعدوم : إما أن تكون حادثة ، أو قديمة.

لا جائز أن تكون حادثة : فإنه معدوم قبل حدوث شيئيته ، وأحوال المعدوم متشابهة.

فالقول بكونه شيئا فى بعض أحواله دون البعض ؛ تحكم لا حاصل له.

كيف : وأن ذلك خلاف أصلهم. وإن كانت شيئيته قديمة ؛ فالقديم ليس بمقدور ؛ على ما تقدم ذكره.

ولا يخفى ما فيه من ترك العمل بالظاهر ، وليس العمل بأحد الظاهرين أولى من الآخر.

__________________

(١) سورة مريم ١٩ / ٩.

(٢) سورة المائدة ٥ / جزء من الآيات ١٧ ، ١٩ ، ٤٠.

٣٨٦

الفصل الرابع

فى أن المعدوم هل هو شيء وذات ثابتة فى العدم ، أم لا؟ (١)

وإذ بينا انقسام المعدوم إلى ممتنع الوجود لذاته ، وممكن الوجود لذاته.

فقد اتفق العقلاء قاطبة : على أن المعدوم الممتنع ليس بشيء فى نفسه ، ولا يطلق عليه الشيء لفظا.

وأما المعدوم الممكن : فقد اختلفوا فيه :

فذهب أهل الحق من الأشاعرة : إلى أنه ليس بشيء فى ذاته ، ولا له حقيقة ثابتة حالة عدمه ، كما فى المعدوم الممتنع الوجود.

وأنه لا حقيقة له وراء وجوده ؛ بل وجوده ذاته (١١) / / وذاته وجوده ووافقهم على ذلك جماعة من المعتزلة ، كالنصيبى (٢) من البصريين. والكعبى ، ومتبعوه من البغداديين. وأبى الحسين البصرى ، وغيرهم.

وذهب / جماعة من البصريين : كالجبائى ، وابنه ، والشحام (٣) ، وأتباعهم إلى أن المعدوم الممكن فى حالة عدمه شيء ، وذات ثابتة وحقيقة مقررة ، وأنه موصوف بخصائص النفس : ككونه جوهرا وعرضا وسوادا وبياضا ، أو لونا ، أو طعما ، أو رائحة ، إلى غير ذلك من خصائص الأجناس : كوصفه بها حالة الوجود.

ثم اختلف هؤلاء :

فذهب الجبائى ، وابنه وجماعة منهم : إلى أنه لا يوصف المعدوم فى حالة عدمه إن كان جوهرا بقبوله للأعراض ولا بالتحيز ، ولا بقيامه بالجوهر إن كان عرضا.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما أورده الآمدي هاهنا :

انظر الشامل لإمام الحرمين الجوينى ص ١٢٤ ـ ١٣٩ فقد تحدث عن هذا بالتفصيل وأيد المذهب الحق ، وهو مذهب الأشاعرة ومن وافقهم ورد على مخالفيهم بالتفصيل. ومن المتأثرين بالآمدي انظر من كتبهم :

المواقف لعضد الدين الإيجى ص ٥٣ ـ ٥٧ وشرح المواقف للشريف الجرجانى ٢ / ١٨٩ ـ ٢١٩ وشرح المقاصد لسعد الدين التفتازانى ١ / ٦٨ وما بعدها.

(١١)/ / أول ل ٥٨ / أ.

(٢) النصيبى : هو أبو إسحاق النصيبى. من معتزلة البصرة (انظر عنه ما سبق فى هامش ل ١٠٧ / ب).

(٣) الشحام : هو أبو يعقوب يوسف بن عبد الله إسحاق الشحام ، من أصحاب أبى الهذيل العلاف ، انتهت إليه رئاسة المعتزلة فى البلدة فى وقته (طبقات المعتزلة ص ٧٢).

٣٨٧

ومنهم من أثبت الكون فى العدم ، ولم يصفه بكونه حركة.

وذهب الشحام ، ومتبعوه إلى أن الجواهر فى العدم قابلة للأعراض ، وأن الأعراض قائمة بالجواهر فى الأكوان.

وزعم أن الجواهر فى العدم مجتمعة ، ومتركبة على هيآتها وصفاتها ؛ وهى موجودة (١).

وإذ أتينا على شرح المذاهب بالتفصيل ؛ فلا بد من تقرير مسالك أهل الحق أولا ، وتتبع ما فيها ، وما هو المختار منها ، والانفصال عن شبه الخصوم ثانيا.

وقد تمسك الأصحاب بمسالك ضعيفة :

الأول : أنه لو كانت الذوات ثابتة فى العدم ؛ فذات الجوهر أو السواد مثلا : إذا قطعنا النظر عن جميع الأسباب الخارجة ؛ فلا بد وأن تكون متحدة ، أو متكثرة. وأى الأمرين قدر فهو ثابت لها لذاتها ؛ والوحدة والكثرة عليها محال.

وهذه المحالات : إنما لزمت من فرض الذوات ثابتة فى العدم ؛ فلا ثبوت لها فيه.

وبيان امتناع كل واحد من الأمرين :

أما أنها لا تكون متحدة لذاتها ؛ [لأنها لو كانت متحدة لذاتها] (٢) ؛ لما تصور عليها التكثر فى حالة الوجود.

لأن ما ثبت للذات : إما أن يكون لازما للذات ، أو غير لازم لها.

فإن كان لازما لها : امتنع بقاء الملزوم مع انتفاء لازمه.

وإن لم يكن لازما للذات : كانت الذات فى حالة العدم موردا لتعاقب الصفات عليها ، وذلك هو الطريق المعروف للمحسوسات ، فلو جاز ذلك فى المعدوم ؛ لأمكن أن يكون ما نشاهده فى تبدل الصفات عليه من الأجسام المحسوسة معدوما ؛ وهو محال.

وأما أنها لا تكون متكثرة فى حالة العدم ؛ فمن وجهين :

__________________

(١) أول من أحدث هذا القول الشحّام ، ثم تابعه معتزلة البصرة (الشامل لإمام الحرمين ص ١٢٤).

(٢) ساقط من «أ».

٣٨٨

الأول : أنها لو كانت متكثرة : فإما أن تكون متمايزة ، أو غير متمايزة ، ولا جائز أن يقال : إنها لا تكون متمايزة ؛ وإلا لما وقع الفرق بين الواحد والكثير.

وإن كانت متمايزة : / فلا بد من أمر يقع به التمايز بينهما ؛ وهو إما أن يكون من لوازم الذوات ، أو غير لازم.

فإن كان الأول : فلا امتياز ؛ لأن ما كان لازما للذات ؛ يجب أن يكون لازما لكل فرد منها ؛ ضرورة تحقق ملزومه.

وإن كان الثانى : استدعى مخصصا يخصص كل واحد من الأفراد بما يتميز به عن غيره

ولا يتصور أن يخصصه المخصص بذلك المميز دون تميزه فى نفسه فلو توقف تميزه على ذلك الوصف ؛ لكان دورا ممتنعا.

ولأنه يلزم أن تكون الذات المعدومة موردا لتعاقب الصفات عليها ؛ وهو محال ؛ لما تقدم (١).

الوجه الثانى : فى بيان امتناع التكثر

أنها لو كانت الذوات متكثرة فى حالة العدم لم يخل : إما أن تكون متناهية ، أو غير متناهية.

لا جائز أن يقال بالأول : ضرورة الاتفاق على أن الجائزات غير متناهية.

وعند ذلك : فليس القول بثبوت بعضها ، دون بعض ؛ أولى من العكس. وإذا كانت غير متناهية : فعددها قبل خروج شيء منها إلى الوجود يكون أكثر مما بقى منها بعد ما خرج منها إلى الوجود ؛ وإلا كان الشيء مع غيره : كهو لا مع غيره ؛ وهو محال.

وما خرج منها إلى الوجود ؛ فمتناه ؛ فالتفاوت بين الجملتين المعدومتين بأمر متناه ؛ فكل واحد من الجملتين متناهية ؛ على ما سبق تقريره فى إثبات واجب الوجود (٢).

ولقائل أن يقول : ما المانع من أن تكون متحدة فى حالة العدم ، والقول : بأن ذلك إما أن يكون ذلك لازما للذات ، أو غير لازم لها.

__________________

(١) راجع ما سبق ل ١٠٧ / أوما بعدها.

(٢) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الأول : فى إثبات واجب الوجود ل ٤١ / أوما بعدها.

٣٨٩

فنقول : ما المانع أن يكون لازما لها مشروطا بالعدم. وعند ذلك : فلا يلزم من نفيه عند فوات الشرط ، وهو العدم فوات الذات ، ولا أن تكون الذات فى حالة العدم موردا لتعاقب الصفات عليها.

وإن سلم كون الذات فى حالة العدم موردا لتعاقب الصفات عليها ؛ فما المانع منه؟

والقول بأن ذلك هو الطريق المعرف للوجود دعوى مجردة ، وليس ذلك من الضروريات والنظرى ؛ فلا بد له من دليل ، ولا دليل عليه غير السبر والتقسيم ؛ وهو غير مفيد لليقين (١)

وإن سلم (١١) / / امتناع الاتحاد ؛ فما المانع من التكثر؟ وما ذكر فى الوجه الأول ؛ فهو بعينه لازم فى الذوات الموجودة مع تكثرها وكل ما هو جواب فى الذوات الموجودة فهو جواب فى الذوات الثابتة فى العدم ؛ ولا مخلص منه.

والقول : بأنه يلزم أن تكون الذوات حالة العدم موردا لتعاقب الصفات عليها ؛ وهو محال ؛ فقد أبطلناه فيما تقدم (٢)

وما ذكر من الوجه الثانى : فقد أبطلناه فيما / تقدم أيضا فى ما سبق إثبات واجب الوجود (٣).

المسلك الثانى : أنه لو كانت الذوات متحققة ، ومتقررة خارج الذهن فى حالة العدم ؛ لكانت موجودة فى حالة العدم.

ومحال أن يكون العدم موجودا. ولأنه يلزم منه القول بعدم وجود العالم ؛ وهو محال على ما سبق (٤)

وبيان الملازمة : أنه لو كانت الماهيات متقررة حالة العدم ، فتقررها وتحققها زائد على ماهيتها.

ولهذا فإنا لو قلنا : السواد كان مفهومه تصورا.

__________________

(١) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الثالثة ل ٣٩ / أ.

(١١)/ / أول ل ٥٨ / ب من النسخة ب.

(٢) راجع ما سبق ل ١٠٧ / أ.

(٣) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ٤١ / أوما بعدها.

(٤) راجع ما سبق ل ١٠٧ / ب.

٣٩٠

وإذا قلنا : السواد متحقق ومتقرر : كان مفهومه تصديقا. ولا يخفى الافتراق بين المفهومين.

ولو لا أن المفهوم من تقرر الذات يزيد على المفهوم من نفس الذات ؛ لما حصل هذا الفرق

وإذا كان تقرر الذات ، وتحققها خارج الذهن زائدا على الذات ؛ فلا معنى للوجود إلا هذا.

ولهذا : فإنا إذا رأينا جسما ، أو عرضا ؛ علمنا وجوده علما ضروريا وما علمناه منه ؛ لا يزيد على حصوله وثبوته.

ولو كان وجود ما أثبتوه من الصفة الزائدة الحالية ؛ لم يكن تصورها والتصديق بنسبتها إلى الذات ضروريا ؛ بل مكتسبا وهو محال.

وهذا المسلك ضعيف أيضا.

إذ لقائل أن يقول : لا نسلم أن تقرر الذات وتحققها فى العدم يزيد على نفس الذوات.

وما ذكرتموه من الفرق بين التصور ، والتصديق (١) فى قولنا : السواد والسواد ثابت :

إنما هو بحسب اللفظ ؛ دون المعنى.

وإن سلمنا جدلا مع الإحالة : أن ثبوت الذات زائد على نفس الذات ؛ فلا نسلم أن الثبوت هو الوجود ؛ بل الثبوت أعم من الوجود ؛ فكل وجود ثبوت ؛ وليس كل ثبوت وجودا.

قولكم : بأن المدرك بالضرورة من الأجسام ، والألوان الموجودة ؛ إنما هو ثبوتها ، وحصولها.

لا نسلم ذلك ؛ بل المدرك بالضرورة إنما هو الوجود.

__________________

(١) أما التصور : فعبارة عن حصول صورة مفردة ما فى العقل : كالجوهر والعرض ، ونحوه.

وأما التصديق : فعبارة عن حكم العقل بنسبة بين مفردين إيجابا أو سلبا ، على وجه يكون مفيدا : كالحكم بحدوث العالم ووجود الصانع ، ونحوه. [المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين لسيف الدين الآمدي ص ٦٩].

٣٩١

قولكم : لو كان كذلك لكان تصور الوجود والتصديق بنسبته كسبيا.

لا نسلم ذلك ، فإن تصور الوجود والحكم على الذات بكونها موجودة ؛ ليس كسبيا ؛ بل الكسبى كون الوجود زائدا على الذات ، أو غير زائد عليها ؛ ولا منافاة بين الأمرين.

المسلك الثالث : أن الذوات الثابتة فى العدم ممكنة لذواتها ، وكل ممكن محدث فالماهيات المفروضة محدثة مسبوقة بالعدم الصرف ؛ وهو المطلوب.

وبيان أنها ممكنة لذواتها : هو أنها لو لم تكن ممكنة ؛ لكانت واجبة التقرر لذواتها فى الخارج وممتنعة الزوال ، ولو كانت كذلك ؛ لكانت واجبة الوجود ، إذ لا معنى لواجب الوجود إلا ما كان تقرره / واجبا لذاته ؛ فيلزم التعدد فى واجب الوجود ؛ وهو محال على ما سبق (١). فلم يبق إلا أن تكون ممكنة.

وأما أن كل ممكن محدث : فعلى ما تقرر فى حدوث العالم ؛ وهو فاسد أيضا ؛ فإن لقائل أن يقول : لا نسلم أن الذوات ممكنة الثبوت فى حالة العدم ؛ بل هى واجبة الثبوت لنفسها ، وذاتها.

ولا يلزم من ذلك أن تكون واجبة الوجود لذاتها إلا أن نبين أن المفهوم من الثبوت هو نفس المفهوم من الوجود. وإلا فعلى تقدير أن يكون المفهوم من الثبوت أعم من الوجود كما يقوله الخصم ؛ فلا.

فإنه لا يلزم من الأعم الأخص ومجرد الدعوى فى ذلك غير كافية.

وإن سلمنا جدلا ـ مع الاستحالة ـ وجوب وجودها فلا نسلم امتناع وجود واجبين. وما قيل فى ذلك فقد أبطلناه فيما تقدم (٢).

المسلك الرابع : أنه لو كانت ذات الجوهر ثابتة فى العدم لكانت متحيزة ، وتحيز المعدوم محال (٣).

__________________

(١) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الأول ل ٤١ / أوما بعدها.

(٢) راجع ما سبق فى المصدر السابق.

(٣) راجع ما سبق ل ٣ / أوما بعدها.

٣٩٢

وبيان الملازمة :

أنه لو لم تكن ذات الجوهر فى العدم متحيزة ؛ لكان التحيز صفة زائدة على ذات الجوهر ، وحالة فيها ، [بتقدير الوجود] (١) ؛ وذلك محال. لأن المختص بالجهة الحجمية ، وذات الجوهر غير مختصة بالجهة ؛ وحلول ما يكون مختصا بالجهة فيما لا يكون مختصا بالجهة محال. وأما أن تحيز المعدوم محال : فمعلوم بالضرورة ؛ وهو أيضا من النمط الأول.

إذ لقائل أن يقول : لا نسلم لزوم التحيز لذات الجوهر فى حالة العدم.

وقولكم : لو لم تكن كذلك ؛ لكان (١١) / / التحيز صفة زائدة على ذات الجوهر مسلم ولكن ما المانع منه؟

قولكم : بأن الحجمية مختصة بالجهة لا نسلم ذلك ؛ بل المختص بالجهة بتقدير الوجود : إنما هو ذات الجوهر مشروطا بالوجود ومع عدم الوجود ؛ فلا تحيز لفوات شرط التحيز.

وعلى هذا : فلا يلزم منه حلول المختص بالجهة فيما لا اختصاص له بالجهة ؛ ولا مخلص منه.

المسلك الخامس : هو أن القول : بكون الذوات ثابتة فى العدم ، يلزم منه كون المنفى ثابتا وهو محال ؛ وما لزم عنه المحال ؛ فهو محال.

بيان المقدمة الأولى :

هو أن العدم صفة نفى لا محالة.

إذ هو عبارة عن لا وجود ولا وجود نفى للوجود ؛ والمتصف بصفة النفى يكون منفيا ؛ كما أن المتصف بصفة الإثبات ؛ يكون ثابتا ، والذوات فى العدم متصفة بصفة العدم ، والعدم صفة نفى ؛ فتكون منفية ؛ فلو كانت ثابتة لكان المنفى ثابتا.

وأما أن ذلك محال : فلأنه تقرر فى أوائل العقول أن المنفى والثابت ، متقابلان تقابل التناقض / وكذلك النفى والإثبات وهو ضعيف أيضا.

__________________

(١) ساقط من أ.

(١١)/ / أول ل ٥٩ / أ. من النسخة ب.

٣٩٣

فإنه وإن كان موصوفا بالعدم والعدم صفة نفى فلا يلزم أن ما اتصف بصفة نفى أن يكون منفيا.

وأما المتصف بصفة الإثبات : إنما كان ثابتا لاستحالة قيام الثابت بالمنفى

والمعتمد من ذلك ، مسالك :

المسلك الأول : أنه لو كانت الذوات ثابتة فى العدم فعند وجودها وحدوثها : إما أن يتجدد لها أمر لم يكن لها [فى حال عدمها] (١) أو لم يتجدد.

فإن كان الأول : فهو إما جوهر أو عرض أو حال زائدة عنهما. لا جائز أن يكون جوهرا ولا عرضا : إذ قد فرضت ذواتهما ثابتة حالة العدم فى الأزل.

ولا فرق فى ذلك بين جوهر وجوهر ولا بين عرض وعرض. وإن كان حالا زائدة عليهما ؛ فهو مبنى على القول بالأحوال ؛ وسيأتى ابطاله (٢).

وإن كان الثانى : فلا فرق بين حالة الوجود وحالة العدم ؛ وهو محال.

وهذه المحالات إنما لزمت من القول : بكون الذوات ثابتة فى حال العدم ؛ فلا ثبوت لها.

المسلك الثانى : وهو المسلك المشهور للأصحاب هو أن القول : بكون الذوات ثابتة فى العدم مما يمنع كون الرب ـ تعالى ـ موجدا ومخترعا ؛ وهو كفر.

وبيان الملازمة :

هو أن قادرية الرب ـ تعالى ـ أو قدرته (٣) لا بد وأن تكون مؤثرة فى مقدوره المخترع له.

وعند ذلك : فإما أن تكون مؤثرة فى ذات الجوهر والعرض أو فى صفة حالية زائدة على نفس ذات الجوهر ، والعرض.

الأول : محال ؛ لأن الذوات واجبة الثبوت حالة العدم إلا عندهم.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) راجع ما سيأتى فى الباب الثالث ـ الأصل الأول : فى الأحوال ل ١١٤ / أوما بعدها.

(٣) ورد فى نسخة ب بعد قوله : «هو أن قادرية الرب ـ تعالى ـ أو قدرته»

(وهذه الطريقة مما ألهمنى الله إليها ولم أجدها لأحد غيرى).

٣٩٤

والثانى أيضا محال ؛ لأن القائل منهم بذلك إما أن يكون قائلا بنفى الأحوال ، أو هو قائل بها.

فإن كان قائلا بنفى الأحوال : فتأثير القدرة فى الحال ؛ ولا حال محال.

وإن كان قائلا بثبوت الأحوال : كأبي هاشم ، ومن نصر مذهبه ؛ فهو معترف بأن الحال ليست معلومة ولا مجهولة ولا مقدورة ولا معجوز عنها. وإذا بطل تأثير القدرة أو القادرية فى الذات وفى حال زائدة على الذات ؛ فقد بطل الاختراع والحدوث وهو محال.

المسلك الثالث : أنه لو كانت ذات السواد والبياض ثابتة فى العدم فإما أن تكون بذاتها مستغنية عن محل تقوم به ، أو هى غير مستغنية.

فإن كان الأول : كما قاله البصريون من المعتزلة ؛ فيلزم أن تكون أيضا بذاتها مستغنية عن المحل حالة الوجود ؛ ضرورة اتحاد الذات. وأن ما ثبت للذات لذاتها ؛ يكون ملازما لها.

ويلزم من ذلك امتناع الفرق بين الجواهر والأعراض ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى / وهو أن تكون مفتقرة إلى المحل لذاتها كما قاله الشحام (١) من المعتزلة.

فلو فرضنا سوادا وبياضا متعاقبين على محل واحد فى طرف الوجود. فإما أن يكونا قبل وجودهما قائمين بذلك المحل ، أو بغيره أو أحدهما قائم به ، والآخر قائم بغيره.

لا جائز أن يقال : بالثانى والثالث

وإلا لزم الانتقال عليهما [أو على أحدهما] (٢) عند فرض حلولهما فى المحل المفروض ؛ والانتقال على الأعراض محال : كما سبق (٣).

فلم يبق إلا القسم الأول :

وهو أن يكونا قائمين به بصفة الاجتماع فيه فى حالة العدم ولو كان كذلك لما

__________________

(١) انظر الشامل فى أصول الدين للجوينى ص ١٢٤.

(٢) ساقط من أ.

(٣) راجع ما سبق ل ٤٤ / ب وما بعدها.

٣٩٥

امتنع الاجتماع بينهما فيه فى حالة الوجود ؛ لأن استحالة الجمع بينهما فيه حالة الوجود :

إما أن تكون لما به الاتفاق بينهما ؛ وهو الوجود أو ما به الافتراق. [وما به الافتراق] (١) : إما الذات أو وجود أحدهما وذات الآخر.

لا جائز أن يقال بأن التضاد باعتبار ما به الاشتراك من الوجود ، أو هو قضية واحدة فيهما.

ولا جائز أن يكون التضاد بين ذات أحدهما ، ووجود الآخر وإلا لاستحال اجتماع ذات (١١) / / السواد ووجوده فى نفسه وكذلك ذات البياض ووجوده فى نفسه.

لأن الوجود فى البياض والسواد عندهم بمعنى واحد لا اختلاف بينهما فيه.

فإذا كانت ذات السواد مضادة لوجود البياض وذات البياض مضادة لوجود السواد ؛ كانت ذات السواد مضادة لوجوده فى نفسه ؛ لمضادتها له فى البياض.

وذات البياض مضادة لمضادتها له فى السواد ضرورة الاتحاد فى المعنى.

ولا جائز أن يكون باعتبار ذاتيهما ؛ إذ قد فرضتا غير متضادتين لذاتيهما حالة العدم.

وعلى هذا فيمتنع أن يكون التضاد لما به الاتفاق والافتراق معا.

وهذه المحالات إنما لزمت من القول بثبوت الذوات فى العدم ؛ فلا ثبوت لها فيه.

وللخصوم عشر شبه.

الشبهة الأولى :

أنهم قالوا : قد بينا فيما تقدم فى تحقيق وجود واجب الوجود (٢) أن الوجود زائد على نفس الذات المتصفة بالوجود ، وحدوث الممكنات هو نفس وجودها ؛ فحدوثها زائد على ذواتها. فلو كانت ذواتها حادثة ولها أوّل ؛ لكانت حادثة أيضا بحدوث زائد عليها ،

__________________

(١) ساقط من أ.

(١١)/ / أول ل ٥٩ / ب. من النسخة ب.

(٢) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول : النوع الأول : فى إثبات واجب الوجود ل ٤١ / أوما بعدها.

٣٩٦

والكلام فيها كالكلام فى الأوّل ؛ وهو تسلسل ممتنع. فلم يبق إلا أن تكون أزلية الثبوت فى حالة العدم وهو المطلوب.

الشبهة الثانية :

أن العلم متعلق بالمعدومات المتمايزة على ما سبق فى الفصل الثانى من هذا الباب (١).

والتمايز بين المعدومات يستدعى تقرير ماهياتها وذواتها فى العدم ، وبيانه من وجهين:

الأوّل : أنه يصح الحكم على كل واحد من المعدومات بأنه متميز عن الباقى ، وهو حكم / إيجابى والحكم الإيجابي يستدعى تقرر ذات المحكوم عليه.

الثانى : أنها إذا كانت متمايزة فلا بد أن تكون أمورا ثابتة ، أو البعض ثابت والبعض منفى ؛ لاستحالة وقوع التمايز فى المنفيات المحضة ، والاعدام الصرفة.

وعلى هذا : فإن كان القسم الأول ؛ فهو المطلوب.

وإن كان القسم الثانى : فقد سلم أن ذات بعض المعدومات ثابتة ، ويلزم منه ثبوت الباقى ؛ لاستحالة الفرق بين معدم ومعدوم من الجائزات.

الشبهة الثالثة :

هو أن المعدومات الممكنة متصفة بصفة الإمكان قبل حدوثها ، والإمكان صفة ثبوتية فكان المتصف به ثبوتيا ، وتقرير الأمرين كما تقدم فى مسألة حدوث العالم (٢).

الشبهة الرابعة :

أن المعدومات منقسمة : إلى ممتنع وغير ممتنع ؛ ونقيض الممتنع ليس ممتنعا.

والممتنع نفى محض فنقيضه يجب أن يكون ثبوتيا ؛ وذلك يعم الواجب الوجود لذاته وممكن الوجود لذاته.

__________________

(١) راجع ما سبق فى الفصل الثانى : فى أن المعدوم هل هو معلوم ، أم لا؟ ل ١٠٧ / أ.

(٢) راجع ما سبق فى الأصل الرابع : فى حدوث العالم. ل ٨٢ / ب وما بعدها.

٣٩٧

الشبهة الخامسة :

أنه لو كانت الذوات الممكنة متجددة لكانت مفتقرة إلى مرجح يرجحها ؛ ولو كان كذلك لخرجت ذات الجوهر وحقيقته ، وذات السواد وحقيقته عن كونه جوهرا وسوادا عند فرض عدم ذلك المرجح. والقول بخروج الجوهر والسواد عن حقيقته محال ؛ لأن الحكم الخبرى يستدعى اجتماع المحكوم به ، والمحكوم عليه فى الذهن واجتماع المحكوم عليه ، وهو الجوهر مع الحكم عليه ، وهو بطلان الجوهر وخروجه عن حقيقته محال ؛ وما لزم عنه المحال ؛ فهو محال.

فإذن ذوات الممكنات غير متجددة بل أزلية حالة العدم.

الشبهة السادسة :

أنه لو لم تكن الذوات ثابتة فى حالة العدم ، متميزة فى العدم لم يتصور من الفاعل إيجادها ، ولا القصد إلى إحداثها. وإلا لكان القصد إلى إيجاد ما لا يعرف عينه ، وهو غير معين فى نفسه. ولعله يقع جوهرا أو عرضا ؛ وهو محال.

الشبهة السابعة :

أن المعدوم الممكن فى الأزل : إما أن لا يكون غير الله تعالى ، أو يكون غير الله تعالى.

فإن كان الأول : لزم أن يكون هو الله ـ تعالى ـ وهو محال.

وإن كان الثانى : لزم أن يكون شيئا لأن التغاير لا يكون إلا بين شيئين على ما سبق فى تحقيق معنى المتغايرين (١) ؛ وهو المطلوب.

الشبهة الثامنة :

أن المعدوم معلوم ؛ فلو جاز أن يكون معلوما وليس بشيء ؛ لجاز أن يكون مدركا وليس بشيء ؛ إذ الإدراك عندكم نوع من العلم ؛ وذلك محال.

الشبهة التاسعة :

وهو أن / الصفات تنقسم إلى الواجبة والجائزة ؛ كما سبق تحقيقه (٢)

__________________

(١) راجع ما سبق ل ٨٠ / أوما بعدها.

(٢) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ٥٣ / ب وما بعدها.

٣٩٨

وكون الجوهر جوهرا ، والسواد سوادا من الصفات (١١) / / النفسية الواجبة ، وكل ما كان واجب الثبوت لا يكون مفتقرا فى إثباته إلى قادر ، ولا فعل فاعل ؛ وما كان كذلك لا يتوقف ثبوته على الحدوث المقدور.

الشبهة العاشرة :

التمسك بقوله ـ تعالى ـ (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (١) وقوله ـ تعالى ـ (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٢)

ووجه الاحتجاج به

أنه سمى زلزلة الساعة والفعل قبل وقوعها شيئا ، والأصل فى الإطلاق الحقيقة.

والجواب عن الشبهة الأولى :

لا نسلم أن الوجود والحدوث زائد على ذات الموجود.

وما ذكروه فى الدلالة عليه ؛ فقد أبطلناه أيضا فى موضعه (٣).

وإن سلمنا : جدلا أن الحدوث زائد على ذات الحادث ؛ فلا نسلم أزلية ذاته.

قولهم : لو كانت الذات حادثة لزم التسلسل.

قلنا : متى إذا كانت حادثة بحدوث [هو نفس ذلك الحدوث الأول أو بحدوث آخر. الأول ممنوع ، والثانى مسلم.

فلم قالوا : إنها تكون حادثة بحدوث] (٤) غير ذلك الحدوث. ولا يخفى أن ذلك مما لا سبيل إلى بيانه.

وعن الشبهة الثانية :

لا نسلم أن تعلق العلم بالمعدومات المتمايزة ؛ يوجب تقرر ذواتها وثبوتها فى العدم.

__________________

(١١)/ / أول ل ٦٠ / أمن النسخة ب.

(١) سورة الحج ١٢ / ١.

(٢) سورة الكهف ١٨ / ٢٣ ـ ٢٤.

(٣) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ٤١ / أوما بعدها.

(٤) ساقط من «أ».

٣٩٩

وما ذكروه من الوجه الأول ؛ فهو باطل من أربعة أوجه :

الأول : هو أنا نحكم على الممتنع الوجود بأنه متميز عن الممكن الوجود ؛ وهو حكم إيجابى.

وما لزم منه ثبوت ذات الممتنع باتفاق العقلاء.

الثانى : أنا نحكم على الوجود ، بأنه متميز عن عدمه ونعقله كذلك

وليس الوجود من حيث هو وجود ذات متقررة قبل الحدوث باتفاق منّا ومنهم.

[الثالث] (١) هو أن الإضافات التابعة لحدوث الجوهر والعرض : ككون الجوهر فى هذا المكان دون هذا المكان وكونه علة ومعلولا ، وكون العرض فى هذا المحل دون هذا المحل ؛ أمور معلومة التمايز قبل الحدوث ، ومحكوم على كل واحد منها أنه متميز عن الآخر ؛ وليس لها ذوات متقررة حالة العدم بالاتفاق أيضا.

الرابع : وهو لازم على من اعترف منهم بأن ما للجواهر من التركيبات المختلفة فى أنواع الحيوانات ، والنباتات والجمادات وغير ذلك من الهيئات الواقعة بعد الحدوث ؛ ليس لها ذوات ثابتة فى حالة العدم مع أنها معلومة ومتمايزة ، ومحكوم على كل واحد منها أنه متميز عن الآخر قبل الحدوث.

وما ذكروه من الوجه الثانى ؛ فباطل من وجهين :

الأول : أن ما ذكروه / إنما يلزم فى المعدومات المطلقة ، وأما المعدومات المضافة فلا.

الثانى : أن ما ذكروه باطل بالمعدومات الممتنعة الوجود : كالجمع بين الضدين وكون الواحد أكثر من الاثنين ، وكون الواحد فى آن واحد فى مكانين إلى غير ذلك ؛ فإنها متمايزة فى العقل ، وفى نفس الأمر ضرورة.

وما لزم أن يكون لها ، ولا لبعضها ثبوت أصلا ، وكذلك الإضافة التابعة لحدوث الجوهر كما بيناه قبل ، وكذلك التركيبات ، واختلاف الهيئات متمايزة ؛ وليست ولا بعضها ثابتا قبل الحدوث.

__________________

(١) ساقط من «أ».

٤٠٠