أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0326-3
الصفحات: ٤٧٠

وبتقدير تسليم حدوث ما أشير إليه من الصفات ؛ فلا يلزم أن تكون الأجسام ، والجواهر حادثة ، لجواز أن تكون هذه الصفات متعاقبة عليها إلى غير النهاية إلا بالالتفات إلى ما سبق من بيان امتناع حوادث متعاقبة لا أول لها تنتهى إليه (١).

المسلك الثالث (٢) :

فى بيان حدوث العالم :

أنه لو كان الجسم أزليا ؛ لكان فى الأزل حاصلا فى حيز معين : أى بحيث يمكن أن يشار إليه بأنه هاهنا ، دون هاهنا ؛ وهو معلوم بالضرورة ولو كان حصوله فى الحيز المعين أزليا ؛ لما تصور زواله عنه ؛ لأن الأزلى لا يزول على ما يأتى تقريره.

ولو كان كذلك : لامتنع عليه الحركة. والحركة غير ممتنعة على الجسم لوجهين :

الأول : أن كل جسم يفرض : إما أن يكون مركبا ، أو بسيطا وعلى كل تقدير فلا بد فيه من جزء بسيط متحد الطبيعة ؛ وذلك الجزء له جانبان ضرورة ، وكل واحد من الجانبين مساو في طبيعته للآخر ، وإلا كان مركبا ، وهو / خلاف الفرض.

ويلزم من ذلك أن يصح على كل واحد من الجانبين ، ما يصح على الآخر من الملاقاة وإنما يتصور ذلك بالحركة حتى يصير ما كان ملاقيا له من جهة اليمنة ، ملاقيا له من جهة اليسرة.

فإذن الحركة جائزة على كل جسم.

الوجه الثانى : أن الأجسام منقسمة : إلى علوية ، وسفلية والخصم فقد أوجب الحركة على العلوية ، وجوزها على السفلية وعلى كل واحد من التقديرين : فالحركة غير ممتنعة على الجسم.

__________________

(١) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٣ / ٣٥١ ـ ٣٥٤).

(٢) سماه ابن يتيمة مسلك الحيز المعين فقال : «الثالث : مسلك الحيز. المعين» [درء التعارض ٣ / ٤٤٨].

٣٢١

فقد بان أن لازم القول بأزلية الجسم منتف ؛ فلا أزلية ؛ وفيه نظر أيضا.

فإن الأول ليس هو عبارة عن زمان مخصوص ، ووقت مقدر ؛ حتى يقال بحصول الجسم فى الحيز فيه. بل الأزل لا معنى له ، غير كون الشيء لا أول له.

والأزلى على هذا يكون صادقا على ذلك الشيء في كل وقت يفرض كون ذلك الشيء فيه.

فقول القائل : الجسم فى الأزل موصوف بكذا : أى فى حالة كونه متصفا بالأزلية وما من وقت يفرض ذلك الجسم فيه ؛ إلا وهو موصوف بالأزلية ، وأى وقت قدر حصول ذلك الجسم فيه ، وهو فى حيز معين ؛ لم يلزم أن يكون حصوله فى ذلك الحيز المعين أزليا ؛ لأن نسبة حصوله فى ذلك الحيز المعين : كنسبة حصوله فى ذلك الوقت المعين ، وما لزم من كون الجسم الأزلى لا يخلو عن وقت معين ، أن يكون كونه في الوقت المعين أزليا ؛ فكذلك الحصول فى الحيز المعين. وفيه دقة مع ظهوره.

سلمنا أن حصول الجسم الأزلى فى الحيز المعين ؛ لا بد وأن يكون أزليا.

قولهم : لو كان أزليا لما زال.

لا نسلم امكان الزوال عنه. وما ذكر فى الوجه الأول ؛ فباطل ؛ إذ الجزء المفروض : إما أن يكون قابلا للتجزي ، أو غير قابل له. فإن كان قابلا للتجزي : فلا يلزم أن ما صح على أحد أجزائه أن يصح على الجزء الآخر ؛ لجواز أن يكونا مختلفين ، وإن لم يكن متجزئ : فالقول : بأن منه ما هو مماس لشيء ، ومنه ما ليس مماسا له موجب للتجزئة ، وهو خلاف الفرض. ثم وبتقدير أن لا يكون متجزئ ، أمكن حصول الملاقاة بكل جانب منه ، لا بالحركة عن حيزه ؛ بل بالحركة الدورية على مركز نفسه.

وأما الإلزام بالوجه الثانى : على اعتراف الخصم : فعير صحيح ؛ لما سبق فى المسلك الأول (١).

__________________

(١) راجع ما مر ل ٨٦ / أوما بعدها.

٣٢٢

المسلك الرابع (١) :

لبعض المتأخرين

أنه لو كان الجسم قديما ؛ لكان قدمه إما عين كونه جسما ، أو زائدا على كونه جسما ؛ والقسمان باطلان :

فالقول : بقدم الجسم يكون باطلا. أما أن القدم ليس هو نفس الجسم ؛ فلأنه يتصور العلم /. (١١) / / بالجسم مع الجهل بقدمه ، والمعلوم غير ما ليس بمعلوم ، وأما أنه غير زائد على الجسم : فلأنه لو كان زائدا : فإما قديم ، أو حادث ولا جائز أن يكون قديما ، وإلا فقدمه أيضا زائد عليه ؛ ويلزم التسلسل.

ولا جائز أن يكون حادثا : وإلا كان قدم القديم له أول. ويلزم أن يكون الموصوف به له أول ، والقديم لا أول له ؛ وذلك محال.

وهو ضعيف جدا لوجهين :

الأول : أنه ما المانع أن يكون قدمه زائدا عليه؟

قوله : إما أن يكون قديما ، أو حادثا. ما المانع أن يكون قديما؟

قوله : يلزم أن يكون أيضا قدمه زائدا عليه. ممنوع ، وما المانع من كون القديم قديما بقدم هو نفسه ؛ لا زائدا عليه بخلاف الجسم ، إذ ليس هو قدم حتى يكون كونه قديما بقدم هو نفسه.

الثانى : أن ما ذكروه فى امتناع كونه قديما بعينه ؛ لازم أيضا فى امتناع كونه حادثا وهو أن يقال : لو كان الجسم حادثا : إما أن يكون هو نفس الجسم ، أو زائدا عليه.

والأول : محال ؛ لما سبق :

__________________

(١) وهذا المسلك للإمام الرازى. وقد سماه ابن تيمية مسلك القدم فقال : «الرابع : مسلك القدم : أنه قديم» [درء التعارض ٣ / ٤٤٨].

(١١)/ / أول ل ٤٨ / أ.

٣٢٣

والثانى أيضا محال : لأن حدوثه : إما أن يكون هو (١) نفس الجسم أو زائدا عليه (١) قديما ، أو حادثا.

لا جائز أن يكون حادثا : وإلا فحدوثه زائد عليه ؛ وهو تسلسل.

ولا جائز أن يكون قديما : وإلا كان حدوث الحادث ، لا أول له ، ويلزم أن يكون الموصوف به لا أول له. وقد كان له أول ؛ وهو محال.

فإن قيل : فى الفرق : إن الحادث عبارة عن مجموع الوجود الحاصل فى الحال ، والقدم السابق.

ولا يعد العلم بالوجود الحاصل ، والجهل بالعدم السابق بخلاف القديم ، فإنه لا معنى له : إلا نفس وجوده ؛ فهو خطأ ظاهر ، فإنه كما أن الحادث : هو الوجود الحاصل ، والعدم السابق.

فالقديم هو الوجود الحاصل ، وسلب الأولية.

ولا يخفى أن سلب الأولية : زائد على نفس الوجود ؛ ولهذا يصح العلم بالوجود ، مع الجهل بسلب الأولية عنه.

أما أن يكون المفهوم من القدم ، هو نفس الوجود ؛ فلا.

المسلك الخامس :

لبعض الفضلاء

أن العالم ممكن الوجود بذاته ، وكل ممكن الوجود بذاته حادث ؛ فالعالم حادث بيان المقدمة الأولى : ما سبق في المسلك الأول (٢).

وأما المقدمة الثانية : فبيانها من وجهين :

الأول : أن الممكن لا بد له من مرجح لوجوده على عدمه ؛ لما تقدم فالعالم مفتقر فى وجوده إلى المرجح ، وإذا كان مفتقرا إلى المرجح ؛ فلا بد وأن يكون / وجود المرجح متقدما على وجوده.

__________________

(١) قوله : (هو نفس الجسم أو زائدا عليه) ساقط من ب.

(٢) راجع ما سبق ل ٨٦ / أوما بعدها.

٣٢٤

إذ المفيد لوجود الشيء يستحيل أن يقارن وجوده ؛ لوجود المستفيد من حيث هما كذلك.

وإذا لم يكن مقارنا له فى الوجود ؛ وهو معه بالوجود ، وليس هو معه بالزمان ، ولا المكان ؛ وإلا كان وجود المفيد للزمان ، والمكان ، زمانيا ومكانيا ؛ وهو محال.

ولا بالفضيلة ، والشرف : وإلا كان الناقص المفتقر إلى غيره فى وجوده مساويا في الفضيلة ؛ لما وجوده لذاته غير مفتقر إلى غيره.

ولا بالطبع : وإلا كان وجوده مقارنا لوجوده ، وقد فرض متقدما فإذن قد انتفت المعية لجميع الأقسام السابقة المذكورة وثبت أن البارى ـ تعالى ـ كان ولم يكن معه شيء ، وأن كل ما وجوده عن وجوده ؛ فلا يكون إلا عن سبق عدم عليه.

الوجه الثانى : أنه إذا كان العالم ممكنا باعتبار ذات : فهو إنما يستحق الوجود له باعتبار غيره ، ولو لا ذلك الغير ؛ لكان مستحقا للعدم باعتبار ذاته ، فالوجود له عرضى مأخوذ من الغير ، والعدم له ذاتى مأخوذ من ذاته ، وما هو ذاتى للشىء : يكون سابقا على ما هو عرضى بالنسبة إليه.

فالعالم إذن فى وجود مسبوق بموجود هو واجب الوجود بذاته ، وبعدم هو ثابت لذاته ؛ وما له أول ، والعدم سابق على وجوده سبقا ذاتيا ، لا يكون وجوده مع وجود ما لا أول لوجوده ، ولا عدم يسبقه ؛ وفيه نظر أيضا.

أما ما قيل فى تقرير المقدمة الأولى : فقد سبق ما فيه المسلك الأول (١).

وأما ما قيل من الوجه الأول فى تقرير المقدمة الثانية : من أن المفيد لا بد وأن يتقدم وجوده على وجود المستفيد ، فدعوى مجردة ، ومصادرة على المطلوب من غير دليل.

إذ قد عرف من مذهب الخصم : إمكان المعية بالوجود بين العلة والمعلول ، ووجوب تقدمها بالذات ، والعلية ، والفضيلة.

وعند ذلك : فله أن يقول : لا أسلم أنه لا بد من تقدم وجود المفيد ، على وجود المستفيد وامتناع المعية بينهما فى الوجود ، وليس ذلك من البديهيات ؛ فلا بد له من دليل.

__________________

(١) راجع ما سبق ل ٨٦ / أوما بعدها.

٣٢٥

وإن اكتفى فى ذلك بمجرد دعوى (١١) / / الضرورة : فقد لا تؤمن المقابلة بمثله في طرف النقيض.

فإن قيل : دليل وجوب التقدم فى الوجود : صحة قول القائل : وجدت العلة ؛ فوجد المعلول ، ولو كانا معيتين فى الوجود ؛ لما حسن هذا الترتيب.

فللخصم أن يقول : ما نحن فيه قضية عقلية ، وما به / الاستدلال فأمر عرفى ، وضعى.

فلا يصلح للدلالة على الأمر العقلى. وإن صح ذلك ، ولزم الترتيب بين الوجودين : فإنما هو بالذات : بمعنى أن وجود المعلول مستفاد من وجود العلة ، ومترتب عليه لا بمعنى أن وجود المعلول متأخر عن وجود العلة على وجه يسبقه العدم مع وجود العلة.

ثم وإن سلم دلالة ما ذكرتموه على سبق العدم على وجود المعلول ؛ فهو معارض بما يدل على أنه غير واجب ، ولا لازم.

وبيانه : ما ذكرناه فى المسلك الأول : من وجوب المعية بين العدم الأزلى وعلته (١).

فإن قيل : العدم الأزلى وإن كان [ممكنا ، وله مرجح ؛ فالمرجح له] (٢) : إنما هو عدم علة الوجود ؛ لأن علته أمر وجودى.

فللخصم أن يقول : وإن كان المرجح إنما هو عدم علة الوجود ؛ فلا يخفى أن نسبته فى كونه مرجحا إلى ما رجحه : كنسبة علة الوجود فى كونها مرجحة إلى ما رجحته.

والمرجح للوجود إنما قيل بوجوب تقدمه ؛ ضرورة كونه مرجحا ، ولا فرق بين الطرفين فى هذا المعنى ؛ فما ثبت لأحدهما ؛ وجب أن يكون ثابتا للآخر.

وأما ما قيل : من الوجه الثانى : فقد أبطلناه فى أول المسألة (٣).

__________________

(١١)/ / أول ل ٤٨ / ب.

(١) راجع ما مر ل ٨٦ / أوما بعدها.

(٢) فى أ(له مرجح له)

(٣) راجع ما مر ل ٩٠ / أ.

٣٢٦

المسلك السادس

لبعض المتأخرين من أصحابنا (١) فى الدلالة على إثبات

حدوث الأجسام

وهو أنه لو كانت الأجسام أزلية ؛ لكانت فى الأزل :

إما أن تكون متحركة ، أو ساكنة : والقسمان باطلان.

فالقول : بأزلية الأجسام باطل. أما بيان الحصر فى القسمين : فهو أن الأجسام متحيزة ، وكل متحيز ؛ فلا بد وأن يكون مختصا بحيز معين بمعنى : أنه لا بد وأن يكون : بحيث يصح أن يشار إليه ، بأنه هاهنا. أو هناك.

وعند ذلك : فلا يخلوا فى الأزل : إما أن يكون باقيا فى حيز واحد ، أو لا يكون كذلك ، بل يكون منتقلا من حيز ، إلى حيز.

فإن كان الأول : فهو الساكن.

وإن كان الثانى : فهو المتحرك.

وأما بيان امتناع كون الجسم فى الأزل متحركا وجوه :

الأول : أن الحركة عبارة عن الانتقال من حالة إلى حالة ؛ وذلك يوجب كون الانتقال مسبوقا بحصول الحالة المنتقل عنها.

فإذن حقيقة الحركة تستدعى المسبوقية بالغير ؛ وذلك ينافى الأزلية.

الوجه الثانى : فى الدلالة أنا إذا فرضنا أن كل دورة من دورات الفلك كانت مسبوقة بدورة أخرى إلى غير النهاية ؛ فتكون كل واحدة من تلك الدورات ؛ مسبوقة بعدم لا أول له [فتلك العدمات بجملتها مجتمعة في الأزل ، والترتيب إنما هو فى الوجودات ، لا فى العدمات (٢)].

__________________

(١) هو الإمام الرازى كما ذكر ذلك ابن تيمية حيث وضح أن الرازى أخذه عن المعتزلة (درء التعارض ٤ / ٢٧٣. وقد نقل ابن تيمية هذا المسلك فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٣ / ٣١. ٣٢) قال : فأما المسلك : الأول الّذي ذكره الرازى فقال الآمدي : المسلك السادس : لبعض المتأخرين من أصحابنا فى الدلالة على إثبات حدوث الأجسام ... إلخ» ثم رد عليه من وجهه نظره. ثم كرر ابن تيمية مناقشة هذا المسلك فى المجلد الرابع ص ٢٧٣ وما بعدها ، واعترض عليه بعد أن نقل من كلام الآمدي نقولا متعددة سأشير إليها فى الهوامش.

(٢) ساقط من (أ).

٣٢٧

وعند ذلك / : فإما أن يحصل مع مجموع تلك العدمات الحاصلة في الأزل شيء من الوجودات ، أو لم يحصل.

والأول : باطل ، وإلا لزم أن يكون السابق مقارنا للمسبوق ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى : فمجموع الموجودات لها أول ، ومسبوقة بالعدم ؛ وهو المطلوب.

وباقى الوجوه : فى الدلالة ما ذكرناها فى امتناع حوادث غير متناهية فى إثبات واجب الوجود ، وقد عرفت ؛ فلا حاجة إلى إعادتها (١).

وأما بيان امتناع كون الأجسام ساكنة فى الأزل ؛ فهو أن السكون أمر وجودى ، ودليله : أنا نرى الجسم الواحد يصير ساكنا بعد أن كان متحركا ، وبالعكس وبتبدل هاتين الحالتين على الذات مع بقاء الذات ، يقتضي كون إحدى الحالتين أمرا وجوديا.

وإذا كانت إحداهما أمرا وجوديا ؛ لزم أن تكون كل واحدة منها. وجودية. وبيان ذلك:

أن الحركة عبارة : عن الحصول فى الحيز ، بعد أن كان فى حيز آخر.

والسكون عبارة : عن الحصول فى الحيز ، بعد أن كان فى نفس ذلك الحيز.

فالحركة ، والسكون متساويان ، فى تمام الماهية وإنما الاختلاف بينهما ، فى كون الحركة مسبوقة بحالة أخرى ، وكون السكون ليس كذلك ، وكون الشيء مسبوقا بغيره ، وصف عرضى ، والأوصاف العرضية. لا تقدح فى اتحاد الماهية.

وإذا ثبت اتحاد الحركة ، والسكون فى الماهية ، وثبت أن أحدهما أمر وجودى ؛ لزم أن يكون الآخر كذلك.

وإذا ثبت أن السكون أمر وجودى فلو كان أزليا ؛ لامتنع زواله ؛ واللازم ممتنع.

بيان الملازمة :

أنه لو كان أزليا : فإما أن يكون واجبا لذاته ، أو ممكنا لذاته. فإن كان الأول : لزم امتناع زواله.

__________________

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الأول : فى إثبات واجب الوجود بذاته ، وبيان حقيقته ووجوده ل ٤١ / أوما بعدها.

٣٢٨

وإن كان الثانى : فالمؤثر في وجوده : إما أن يكون فاعلا مختارا ، أو موجبا بالذات.

الأول : محال ؛ لأن الفاعل المختار : إنما يفعل بالقصد ، والقصد إلى إيجاد الشيء ، لا يكون ، إلا فى حال حدوثه (١١) / / أو عدمه كما سبق تقريره في المسلك الأول (١) ؛ فلا يكون أزليا.

وإن كان موجبا بالذات : فإما أن يكون ممكنا لذاته ، أو واجبا لذاته.

فإن كان الأول : فالكلام فيه : كالكلام فى الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

وإن كان الثانى : فإما أن لا يتوقف تأثيره في ذلك القديم على شرط ، أو يتوقف.

فإن كان الأول : لزم من وجوب وجوده ؛ وجوب وجود معلوله ، ويلزم من ذلك ، امتناع العدم على ذلك المعلول القديم ، ضرورة وجوب وجوده بعلته الواجبة.

/ وإن كان الثانى : فذلك الشرط لا بد أن يكون موجبا بالذات. وواجبا بالذات ؛ وإلا عاد المحال المذكور.

وعند ذلك : فيلزم من امتناع التغيير على العلة ، وعلى شرط العلة ؛ امتناع التغيير على المعلول.

فقد ثبت أن السكون لو كان أزليا ؛ لما زال.

وبيان امتناع اللازم :

وذلك لأن كل ساكن يمكن أن يتحرك عن مكانه. وبتقدير حركته يبطل سكونه.

وبيان ذلك : بما سبق من الوجهين ، فى المسلك الأول (٢). فقد ثبت : أنه لو كان الجسم أزليا ؛ لكان فى الأزل : إما ساكنا ، وإما متحركا ، وثبت بطلان كل واحد من اللازمين ؛ فلا يكون الجسم أزليا.

__________________

(١١)/ / أول ل ٤٩ / أ.

(١) راجع ما سبق ل ٨٦ / أوما بعدها.

(٢) راجع ما سبق ل ٨٦ / أوما بعدها.

٣٢٩

(١) وفيه وفى تقريره نظر ؛ وذلك أن لقائل. أن يقول : إما أن تكون الحركة : عبارة عن الحصول فى الحيز بعد الحصول فى حيز آخر والسكون : عبارة عن الحصول فى الحيز بعد أن كان فى ذلك الحيز ، أو لا تكون كذلك.

فإن كان الأول : فقد بطل الحصر بالجسم فى أول زمان حدوثه ، فإنه ليس متحركا ؛ لعدم حصوله فى الحيز بعد أن كان فى حيز آخر.

وليس ساكنا : لعدم حصوله فى الحيز بعد أن كان فيه. وإن كان الثانى : فقد بطل ما ذكره فى تقرير كون السكون أمرا وجوديا ؛ ولا مخلص عنه.

فإن قيل : الكلام إنما هو فى الجسم في الزمن الثانى. والجسم فى الزمن الثانى ، ليس يخلوا عن الحركة ، أو السكون بالتفسير المذكور ، فهو ظاهر الإحالة.

فإنه إذا كان الكلام فى الجسم : إنما هو فى الزمن الثانى من وجود الجسم.

فالزمن الثانى : ليس هو حالة الأزلية.

وعند ذلك : فلا يلزم أن يكون الجسم أزليا لا يخلوا عن الحركة ، أو السكون.

وإن سلمنا الحصر :

فلم قلتم : بامتناع كون الحركة أزلية؟

وما ذكروه من الوجه الأول فى الدلالة ؛ فإنما يلزم أن لو قيل : بأن الحركة الواحدة بالشخص أزلية ، وليس كذلك.

بل المعنى بكون الحركة أزلية أن أعداد أشخاصها المتعاقبة لا أول لها.

وعند ذلك : فلا منافاة بين كون كل واحدة من آحاد الحركات المشخصة حادثة ومسبوقة بالغير ، وبين كون جملة آحادها أزلية : بمعنى أنها متعاقبة إلى غير النهاية.

وما ذكروه فى الوجه الثانى : فباطل أيضا.

فإن كل واحدة من الحركات الدورية ، وإن كانت مسبوقة بعدم لا بداية له.

__________________

(١) نقل ابن تيمية رأى الآمدي في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٣ / ٣٢ ـ ٣٤) من أول قول الآمدي ردا على مسلك الرازى «وفيه وفى تقريره نظر ... وفيه دقة فليتأمل» ثم علق على كلام الآمدي قائلا : قلت .. الخ.

٣٣٠

فمعنى اجتماع بداية الأعدام السابقة على كل واحدة واحدة من الحركات فى الأزل ، أنه لا أول لتلك الأعدام ولا بداية.

ومع ذلك فالعدم / السابق على كل حركة ، وإن كان لا بداية له ؛ فيقارنه وجود حركات قبل الحركة المفروضة ، لا نهاية لها على جهة التعاقب ، وليس فيه مقارنة السابق للمسبوق.

وعلى هذا : يكون الكلام فى العدم السابق على كل حركة حركة.

وعلى هذا : فحصول شيء من الوجودات الأزلية ، مع هذه الأعدام أزلا على هذا النحو ؛ لا يكون ممتعا ، إذ ليس فيه مقارنة السابق للمسبوق ، على ما عرف ، وفيه دقة ؛ فليتأمل (١).

وأما الوجوه الأخرى : فقد عرفت ما فيها فيما تقدم فى إثبات واجب الوجود (٢).

وربما قيل فى إبطال القول : بامتناع وجود الحركة أزلا هو أن الحركة : لو امتنع وجودها أزلا :

فإما أن يكون ذلك الامتناع لذاتها ، أو لأمر خارج.

فإن كان الأول : لزم أن لا يزول ذلك الامتناع ، وأن لا توجد الحركة أصلا ؛ لأن ما بالذات لا يزول ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى : فذلك الخارج : إما أن يكون واجبا لذاته ، أو لا يكون واجبا لذاته.

فإن كان واجبا لذاته : وجب أن لا يزول أيضا ، وأن لا يزول امتناع وجود الحركة.

وإن كان الثانى : فلا بد وأن ينتهى إلى واجب الوجود لذاته قطعا للتسلسل ، ويلزم من دوامه ، دوام معلوله ، وهلم جرا. ويلزم من ذلك امتناع وجود الحركة أبدا ؛ وهو محال.

وهذه المحالات : إنما لزمت من القول بالامتناع ؛ فلا امتناع للحركة أزلا.

__________________

(١) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية عن الآمدي ويمثل فى كتاب (درء تعارض العقل والنقل من ج ٤ ص ٣٢ ـ ٣٤). ثم علق عليه وناقشه بالتفصيل فى ص ٣٤ وما بعدها.

(٢) راجع ما تقدم فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الأول : فى إثبات واجب الوجود ل ٤١ / أوما بعدها.

٣٣١

وجوابه : أن يقال : لا يلزم من امتناع الوجود الأزلى على الحركة لذاتها امتناع الوجود الّذي ليس بأزلى.

فإذن ما هو غير الممتنع غير زائل : وهو الوجود الأزلى. وما هو الجائز ؛ لم يكن ممتنعا.

سلمنا امتناع أزلية الحركة ؛ ولكن ما المانع من كون السكون أزليا.

قوله : السكون أمر وجودى ؛ لا نسلم.

قوله : إن الجسم قد يتحرك بعد السكون ، وكذلك بالعكس ، وتبدل إحدى الحالتين بالأخرى يوجب أن يكون أحدهما أمرا (١١) / / وجوديا ؛ ممنوع.

فإن الحالتين المتعاقبتين : قد تكونان وجوديتين : كالسواد ، والبياض ، وقد تكون : إحداهما وجودية ، دون الأخرى : كوصف المحل تارة بأنه : أسود ، وتارة بكونه لا أسود. وقد يكونان عدميين فإن المحل : إذا كان متصفا بالسواد ؛ فهو غير متصف بغيره من الألوان. وإذا كان متصفا بغيره من الألوان ؛ فهو غير أسود وهما عدميان متعاقبان.

فكما يتعاقب عليه الوجوديان / يتعاقب عليه العدميان.

فإن قيل : الحالة السابقة إن كانت أمرا وجوديا ؛ فهو المطلوب وإن كانت عدمية : فالحالة الثانية ؛ رافعة لها. ورفع العدم وجود ؛ وهو معلوم بالضرورة ؛ وهو المطلوب.

قلنا : فكون المحل ليس بأسود ، عند كونه أبيض ، وكونه ليس أبيض ، عند كونه أسود :

إما أن يكون كل واحد من السلبين ؛ هو عين الوجود الآخر بأن يكون ليس بأسود : هو كونه أبيض ، وكونه ليس أبيض : هو كونه أسود ، أو هما متغايران.

الأول محال : بالضرورة وإلا كان كل واحد من البياض ، والسواد ؛ هو عدم الآخر وسلبه ؛ وهو ممتنع ضرورة.

وإن كان الثانى : فقد تعاقبت الأعدام ؛ ولم يلزم أن يكون سلب العدم السابق ؛ هو عين الوجود اللاحق [كهذان لرفع العدم. وإن كان وجودا ، فهو غير الرافع.

__________________

(١١)/ / أول ل ٤٩ / ب من النسخة ب.

٣٣٢

وعلى هذا : فلا يلزم أن تكون الحالة الرافعة وجودية] (١) ، وقد أورد صاحب الطريقة على ما ذكر نقوضا أخرى ، ولم يجب عنها تفصيلا لا بد من الإشارة إليها ، وإلى أجوبتها تكميلا للفائدة.

الأول منها : أنه قال : الحوادث ممتنعة الوجود فى الأزل عند أهل الحق وقد انقلبت جائزة الحدوث فى لا يزال فقد تبدل الامتناع بالإمكان ؛ والامتناع ليس وصفا وجوديا ، وإلا كان المتصف به وهو الممتنع ثبوتا ؛ وهو محال.

والإمكان ليس وصفا ثبوتيا : أيضا ؛ لأنه لو كان أمرا ثبوتيا : فإما واجب لذاته ، أو ممكن. لا جائز أن يقال بالأول : وإلا لما كان صفة لغيره ، ولا جائز أن يقال بالثانى : وإلا كان ممكنا بإمكان زائد عليه والكلام فى ذلك الإمكان : كالكلام فى الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

الثانى : وهو إن قيل : حصول الحادث المعين ، لا يصدق على الرب ـ تعالى ـ أنه عالم بوجوده ؛ بل هو غير عالم بوجوده. وبعد الوجود يصدق عليه أنه عالم بوجوده ، والحالة السابقة : عدمية والحالة الثانية : عدمية ؛ لأنها لو كانت مع تجددها أمرا ثبوتيا ؛ لكان الرب ـ تعالى ـ محلا للحوادث ؛ وهو محال عندكم.

الثالث : أن الجسم قبل حلول العرض المعين فيه ؛ لم يكن محلا لذلك العرض. ثم بعد حصول ذلك العرض فيه صار محلا له. وكونه ليس محلا حالة عدمية والحالة الثانية : وهى كونه محلا : حالة عدمية.

لأنها لو كانت ثبوتية ؛ وهى صفة زائدة على الذات الموصوفة بها ؛ لكانت صفة عرضية أيضا.

والكلام في كون المحل محلا لها : كالكلام فى الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

والجواب : عن الأول : / منع انقلاب الممتنع جائزا ، إذ الممتنع إنما هو الوجود الأزلى ؛ ولم يزل ممتنعا ، والجائز إنما هو الوجود الحادث ؛ ولم يزل جائزا.

وإن سلمنا انقلاب الممتنع جائزا ؛ فلا نسلم أن الإمكان وصف عدمى.

قوله : لو كان أمرا وجوديا : وكان ممكنا ؛ لكان ممكنا بإمكان.

قلنا : بإمكان هو نفسه ، أو بإمكان زائد عليه.

الأول : مسلم والثانى : ممنوع ؛ وعلى هذا : فلا تسلسل.

__________________

(١) ساقط من (أ).

٣٣٣

وعن الثانى : منع تجدد العالمية ؛ بل عالمية الرب ـ تعالى ـ قديمة أزلية. غير أنها تسمى قبل حصول الحادث المعين : عالمية بأن سيوجد ، وبعد الحصول : عالمية بالموجود. فالاختلاف ليس فى نفس العالمية ؛ بل فى الاسم بسبب تجدد الحادث

وعن الثالث : منع كون المحل محلا صفة عدمية.

قوله : لو كان صفة ثبوتية : فيجب أن يكون كونه محلا لها أيضا صفة عرضية ؛ وهو تسلسل.

فنقول : إنما يلزم التسلسل : أن لو كان ذلك بمحلية زائدة عليها ، وهو ممنوع ، على ما عرف فى الإمكان.

وإن سلمنا أنه لا بد من كون إحدى الحالتين ثبوتية : ولكن لا نسلم لزوم كون الحالتين ثبوتية ؛ وما المانع من كون الحركة ثبوتية والسكون عدميا.

قوله : لأن السكون مساو للحركة فى تمام ماهيتها لو كان كذلك ؛ لكان السكون ، وهو الحصول فى الحيز فى الزمن ، الثانى حركة ؛ وهو محال.

وإن سلمنا : أن السكون أمر ثبوتى ؛ ولكن ما المانع من زواله؟ وما المانع من كون الموجب له بالذات مشروطا بشرط عدمى أزلى.

وإذا كان كذلك : فالعدم الأزلى غير ممتنع الزوال ، وإلا لما زال العدم الأزلى السابق على وجود العالم ، وعند زوال الشرط (١١) / / يلزم منه ؛ زوال المشروط.

فإن قيل : تأثير العلة فى معلولها ، أمر ثبوتى : فلو كان متوقفا على أمر عدمى ؛ لكان العدم علة للوجود ؛ وهو محال.

فنقول : لا نسلم أنه يلزم من توقف تأثير العلة فى معلولها على الأمر العدمى ، أن يكون ذلك العدم علة للتأثير.

فإن ما يتوقف عليه الشيء أعم من كون الموقوف عليه علة مؤثرة.

ولهذا : فإن تأثير العلة فى اتحاد السواد فى المحل ، متوقف على عدم البياض فيه ؛ لاستحالة الجمع بينهما.

__________________

(١١)/ / أول ل ٥٠ / أمن النسخة ب.

٣٣٤

وعدم البياض : لا يقال : أنه علة مؤثرة ، فى وجود السواد.

وإن سلمنا : امتناع الزوال على الأزلى ؛ ولكن لا نسلم ، إمكان الزوال على كل جسم عن حيزه.

وما ذكره من الوجهين ، فقد سبق إبطالهما فى المسلك الأول (١).

المسلك السابع

المسلك المشهور للأصحاب ، وعليه الاعتماد (٢)

هو أنا نقول : العالم مؤلف من أجزاء حادثة ؛ والمؤلف من الأجزاء الحادثة حادث فالعالم حادث.

وبيان المقدمة الأولى : هو أن أجزاء العالم منحصرة في الجواهر والأعراض ، والجواهر والأعراض حادثة ؛ فأجزاء العالم حادثة.

__________________

(١) راجع ما مر فى المسلك الأول ل ٨٦ / أوما بعدها.

(٢) نقل ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٣ / ٤٥٠ ـ ٤٥١ هذا المسلك وعلق عليه وناقشه.

وقد قدم لهذا المسلك فقال «وذكر (الآمدي) أنه المسلك المشهور للأشعرية والرازى ونحوه لم يعتمد على هذا المسلك ؛ لأنه مبنى على أن الأعراض ممتنعة البقاء ، وقدح الآمدي فى الطرق التى اعتمد عليها الرازى».

(درء تعارض العقل والنقل ٣ / ٤٥٠).

وفى ص ٤٤٨ قال ابن تيمية : «قلت : وهذا الّذي اعتمده الآمدي فى هذه المسألة فإنه ذكر فى حدوث الأجسام سبعة مسالك وزيف ستة منها :

الأول : مسلك الإمكان ، وأنه ممكن ، وكل ممكن محدث.

والثانى : مسلك الاختصاص.

الثالث : مسلك الحيز المعين.

الرابع : مسلك القدم : أنه قديم.

والخامس : مسلك الإمكان ؛ لكن فيه تقدير الحدوث بطريقة أخرى.

والسادس : مسلك الحركة والسكون الّذي قدمه الرازى.

وقد تقدم ما اعترض به هو والأرموى وغيرهما على هذه المسالك وبينوا به فسادها.

(درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية ٣ / ٤٤٨ ، ٤٤٩).

أما كتب الأصحاب التي اعتمد عليها الآمدي : فانظر التمهيد فى الرد على الملحدة المعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة للإمام الباقلانى ص ٤٤ ، والشامل لإمام الحرمين الجوينى. ونهاية الأقدام للشهرستانى. وأصول الدين للبغدادى ص ٥٩ ، ٦٠.

٣٣٥

وبيان المقدمة الأولى : ما سبق فى حصر الموجود الممكن (١).

وبيان المقدمة الثانية ، أما أن الأعراض حادثة ؛ فلأنا بينا أن الأعراض ممتنعة البقاء ، وكل ممتنع البقاء ؛ فهو حادث مسبوق بعدم نفسه ، فكل واحد من الأعراض حادث ؛ مسبوق بعدم نفسه.

وعند ذلك : فإما أن تكون متعاقبة فى وجودها ، إلى غير النهاية أو هى منتهية إلى عرض ليس وراءه عرض آخر.

الأول : محال : لما بيناه من امتناع حوادث لا أول لها تنتهى إليه فى إثبات واجب الوجود (٢) ؛ فلم يبق إلا القسم الثانى : وهو أن تكون جملتها متناهية ، ومسبوقة بالعدم ؛ فتكون حادثة.

وأما أن الجواهر حادثة : فلأنا بينا فيما تقدم : امتناع عرو الجواهر عن الأعراض (٣). وإذا كانت الأعراض التى لا عرو للجواهر عنها حادثة ، ومسبوقة بالعدم ؛ فالجواهر كذلك ؛ لأن ما لا يعرى عما له أول ، وهو حادث ؛ فله أول ؛ وهو حادث ، وإلا فلو كان قديما ؛ للزم منه :

إما عروه عن العرض فى حال قدمه ، وإما أن تكون الأعراض لا أول لها ، وكل واحد من الأمرين محال ، لما تقدم (٤).

وأما بيان المقدمة الثانية :

من أصل الدليل : فهو أن ما كانت أجزاؤه حادثة ، ولها أول تنتهى إليه : فالهيئة الاجتماعية الكائنة عنها ؛ تكون حادثة مسبوقة بالعدم ؛ وهو معلوم بالضرورة (٥).

وإذا ثبتت المقدمتان ؛ لزم أن يكون العالم حادثا مسبوقا بالعدم ضرورة.

__________________

(١) راجع ما مر من المسلك الأول ل ٨٦ / أوما بعدها

(٢) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الأول : فى إثبات واجب الوجود بذاته وبيان حقيقته ، ووجوده ل ٤١ / أوما بعدها.

(٣) راجع ما مر فى النوع الأول ـ الفصل السابع : فى امتناع تعرى الجوهر عن الأعراض ، وتعليل قبوله لها. ل ٨ / ب وما بعدها.

(٤) راجع ما مر فى الأصل الثانى ـ الفرع الرابع : فى تجدد الأعراض ، واستحالة بقائها ل ٤٤ / ب وما بعدها.

(٥) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٣ / ٤٥٠ ، ٤٥١) ثم علق عليه «فهذا تمام تقريره لهذا المسلك الّذي ارتضاه» ثم ناقشه بالتفصيل فى ص ٤٥١ وما بعدها.

٣٣٦

فإن قيل : وإن سلمنا صحة إفضاء النظر إلى العلم (١) مع ما سبق عليه من الإشكالات المشكلة ، والإلزامات الملزمة.

ولكن لا نسلم صحة هذا النوع من النظر : لا بالنظر إلى صورته ، ولا بالنظر إلى معناه.

أما بالنظر إلى صورته : فمن خمسة أوجه :

الأول : هو أن قولكم : العالم مؤلف من أجزاء حادثة ؛ والمؤلف من الأجزاء الحادثة حادث. إما أن يكون المراد به : أن حقيقة الموضوع فى كل واحدة من المقدمتين ، هى حقيقة المحمول عليه ، أو أنه موصوف به ، أو غير ذلك.

فإن كان الأول : وهو أن المفهوم من قولنا : العالم هو نفس المفهوم / من قولنا : مؤلف من أجزاء حادثة.

والمفهوم من قولنا : والمؤلف من الأجزاء الحادثة ، هو نفس المفهوم من قولنا : حادث ، فلا حمل ، ولا وضع في غير الألفاظ المترادفة ، ويرجع حاصل المقدمتين إلى معنى واحد مفرد ؛ ولا إنتاج عنه.

وإن كان الثانى : فحاصل النظم يرجع إلى القول : بأن العالم موصوف بأنه مؤلف من أجزاء حادثة. والمؤلف من الأجزاء الحادثة حادث.

وعند ذلك : فما هو المحمول فى المقدمة الأولى. إنما هو مجموع قولنا : موصوف بأنه مؤلف من أجزاء حادثة والموضوع فى القضية الثانية بعضه وهو القول : والمؤلف من الأجزاء الحادثة ؛ فلا يكون الحد الأوسط بينهما مشتركا فلا إنتاج.

وإن كان الثالث : فهو غير متصور فى النفس ؛ فلا بد من تصوره والدلالة عليه.

الثانى : قولكم : والمؤلف من الأجزاء الحادثة حادث.

إما أن يريدوا به بعض المؤلفات من الأجزاء الحادثة ، أو كل مؤلف من أجزاء حادثة ؛ بحيث يدخل فيه العالم.

__________________

(١) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الثانية ـ الفصل الثالث : فى أن النظر الصحيح يفضى إلى العلم بالمنظور فيه ل ١٨ / ب وما بعدها.

٣٣٧

فإن كان الأول : فلا إنتاج (١١) / / لجواز أن يكون ذلك البعض غير البعض المحكوم به على العالم.

وإن كان الثانى : فقد صادرتم على المطلوب (١).

الثالث : أن ما مثل هذا النظم وإن كان صادق المقدمات غير منتج لصورته ؛ وإلا لاطّرد ؛ وهو غير مطرد.

ولهذا فإنه لو قال القائل : زيد إنسان ، والإنسان نوع ؛ فإنه لا ينتج زيد نوع ، وكذلك لو قال : زيد حيوان ، والحيوان جنس. لا ينتج زيد جنس ، وكذلك أيضا لو قال : الإنسان وحده ناطق ، والناطق حيوان ؛ فإنه مع صدق المقدمتين [لا ينتج الإنسان وحده حيوان ، وهو كاذب.

الرابع : أنه لا يخلو : إما أن يتوقف الإنتاج من مثل هذا النظم على العقل ارتباط إحدى المقدمتين] (٢) بالأخرى ، ودخول الصغرى تحت الكبرى ، أو لا يتوقف.

فإن كان الأول : فالارتباط بين المقدمتين مقدمة ثالثة ؛ والكلام فى ارتباطها بالمقدمتين الأخريين أيضا : كالكلام فى الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

وإن كان الثانى : فالإنتاج غير لازم فى الذهن. ولهذا : فإن من علم أن هذه بغلة ، وعلم أن كل بغلة لا تلد ؛ فإنه إذا غفل عن الارتباط بين المقدمتين ، لا يمتنع عليه توهم ما يراه من البغلة المنتفخة البطن حبلى ؛ وهو مقابل للنتيجة فى نفس الأمر.

الخامس : قولكم : والمؤلف من الأجزاء الحادثة حادث إما أن يراد به أن المؤلف من الأجزاء التى كل واحد منها حادث ؛ فهو حادث ، أو المؤلف الّذي جملة أجزائه حادثة ؛ فهو حادث.

فإن كان الأول : فلا يخفى كذب القضية ؛ فإن / الحكم الثابت لكل واحد من آحاد الجملة ؛ غير لازم الثبوت للجملة ؛ لما تقدم تحقيقه غير مرة.

__________________

(١١)/ / أول ل ٥٠ / ب من النسخة ب.

(١) المصادرة : المصادرة على المطلوب هى التى تجعل النتيجة جزء القياس أو يلزم النتيجة من جزء القياس ، كقولنا الإنسان بشر ، وكل بشر ضحاك ، ينتج أن الإنسان ضحاك ، فالكبرى هاهنا والمطلوب شيء واحد ، إذ البشر والإنسان مترادفان ، وهو اتحاد المفهوم ؛ فتكون الكبرى والنتيجة شيئا واحدا. [كتاب التعريفات للجرجانى ص ٢٤٥].

(٢) ساقط من (أ).

٣٣٨

وإن كان الثانى : فلا يخفى أن جملة الأجزاء ؛ هى نفس المؤلف.

وعند ذلك : فيرجع حاصل القضية إلى أن المؤلف الحادث حادث ؛ وهو تهافت ساقط.

وأما بالنظر إلى المعنى :

فمنه ما يتعلق بالبحث عن محل النزاع من القدم ، والحدوث ، ومنه ما يتعلق : بتصحيح المقدمات ، وتقريرها من حصر العالم فى الجواهر ، والأعراض. وحدوث الأعراض ، وانتهائها إلى ، أول وقيامها بأنفسها. وامتناع عرو الجواهر عنها ، إلى غير ذلك من الأمور التى لا تتم دلالة الدليل المذكور دونها.

وكل ذلك ؛ فقد سبق وجه إبطاله ، وما يرد عليه من الاعتراضات المتعددة ، والإلزامات المتكثرة في كل موضع على حسبه بحيث كفينا مئونة إفرادها هاهنا ؛ فعلى الناظر بالالتفات إليها ، والتنبيه عليها.

وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على حدوث العالم ؛ لكنه معارض بما يدل على نقيضه.

وبيانه من أربعة عشر وجها (١) :

الوجه الأول (٢) :

أنه لو كان العالم حادثا ، وموجودا بعد العدم : فإما أن يكون قبل وجوده واجب الوجود لذاته ، أو ممتنع الوجود ، أو الممكن الوجود.

لا جائز أن يكون واجب الوجود لذاته : وإلا لما تصور عليه العدم ؛ فإنه لا معنى لواجب الوجود لذاته. إلا ما لو فرض معدوما عرض عنه المحال لذاته ، وقد قيل : إنه كان معدوما.

__________________

(١) حصر الآمدي شبه الخصوم القائلين بقدم العالم فى الشبه التالية وعرضها بأمانة كما ذكروها : «وبيانه من أربعة عشر وجها ابتداء من ل ٩٥ / ب إلى ل ٩٨ / ب. ثم قال : «فهذه خلاصة ما يمكن أن تجد من الشبه المشبهة أوردناها بأحسن تحرير وتقرير ـ ثم بين أنه تغاضى عن ذكر بعض الشبه لعدم قيمتها فقال : «وأما ما وراء ذلك مما أورده (برقلس) وغيره بأمور لا حاصل لها يمكن معرفة فسادها بأوائل النظر لمن لديه أدنى حظ من الفطانة آثرنا الأعراض عن ذكرها ، وتسويد الأوراق بها شحا على الزمان بتضييعه فى ذكر ما لا يفيد».

ثم أجاب عن هذه الشبه بالتفصيل ابتداء من نهاية ل ٩٨ / ب إلى ل ١٠٣ / أوأبطلها بحججه الدامغة وبراهينه الساطعة.

(٢) الشبهة الأولى للخصوم القائلين بقدم العالم والمنكرين لحدوثه ، وانظر الرد على هذه الشبهة فيما يأتى ل ٩٩ / ب.

٣٣٩

ولا جائز أن يكون ممتنع الوجود لذاته : وإلا لما تصور عليه الوجود ؛ إذ لا معنى لممتنع الوجود لذاته ، إلا ما لو فرض موجودا ؛ عرض عنه المحال لذاته ؛ وقد قيل : إنه موجود ؛ فلم يبق إلا أن يكون ممكنا لذاته ، وإذا كان ممكنا لذاته : فإما أن يفتقر فى وجوده إلى مرجح ، أو لا يفتقر.

لا جائز أن يقال : بأنه لا يفتقر إلى المرجح ؛ لما سبق فى إثبات واجب الوجود (١).

وإن افتقر فى وجوده إلى المرجح : فالمرجح : إما أن يكون حادثا ، أو قديما.

فإن كان حادثا : فالكلام فيه : كالكلام فى الأول.

وعند ذلك : فإما أن يقال بأن كل حادث ، يفتقر إلى حادث أو يقال : بالانتهاء إلى مرجح قديم ؛ لا أول له.

فإن كان الأول : لزم التسلسل ، أو الدور ؛ وهو ممتنع.

وإن كان الثانى وهو أن مصدر جميع الحوادث موجود ، قديم لا أول له ؛ فذلك القديم المرجح للحادث :

إما أن يكون مرجحا لوجود الحادث لذاته ، أو بالقدرة ، والإرادة. / فإن كان مرجحا بذاته : فإما أن يكون عند حدوث الحادث : كهو قبله ، أو أنه تجدد له أمر لم يكن ؛ ويكون حدوث ذلك الحادث متوقفا عليه.

فإن كان الأول : لزم استمرار العالم على العدم ، أو أن يكون وجوده ملازما لوجود علته القديمة ؛ فيكون قديما ؛ ضرورة عدم الفرق بين حالة حدوث الحادث ، وحالة عدمه. والأول : محال مخالف للمشاهدة.

(١١) / / والثانى : هو المطلوب. وإن تجدد له أمر لم يكن : فالكلام فى تجدد ذلك الأمر كالكلام فى الأول ؛ ويلزم منه التسلسل ، أو الدور ؛ وهو ممتنع.

وإن كان المرجح مرجحا بالقدرة ، والإرادة ؛ فهو ممتنع ؛ لأربعة أوجه :

__________________

(١) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الأول : فى إثبات واجب الوجود ل ٤١ / أوما بعدها.

(١١)/ / أول ل ٥١ / أمن النسخة ب.

٣٤٠