أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0326-3
الصفحات: ٤٧٠

إلا أن يدل الدليل على إرادة التجوز ، والأصل عدمه ؛ فمن ادعاه يحتاج إلى الدليل ، وإذا كان حقيقة فيجب أن يكون حد القديم جامعا لما لا أول لوجوده ، وما لوجوده أول [ولذلك قال الشيخ أبو الحسن الأشعرى : القديم هو المتقدم فى الوجود على شرط المبالغة ـ وهو وإن كان أعم من الّذي قبله لتناوله ما لا أول لوجوده ، وما لوجوده أول] (١) ، إلا أنه غير جامع بالنظر إلى العدم القديم بما أسلفناه.

فالأولى أن يقال : القديم هو ما (٢) تقدم تحقيقه ، وتقادم فى نفسه (٢) فإنه يعم الوجود ، والعدم ، وما لا أول لوجوده ، وما لوجوده أول.

وأما الحادث (٣) : فقد اختلفت عبارات الناس فيه أيضا فقال بعض المتكلمين : الحادث : هو الّذي كان بعد أن لم يكن ، وقال آخر : هو ما لم يكن ثم كان. وقال آخر : هو الموجود بعد العدم.

ويرد على هذه العبارات إشكالات :

الأول : ما أورده ابن الراوندى (٤) ، وهو أن (١١) / / قال : هذه العبارات تتضمن ترتيب شيء بعد شيء. والقائل بها لا يخلو : إما أن يكون قائلا : بأن المعدوم الممكن شيء ، أو ليس بشيء.

فإن كان الأول : فقد أوجب حدوث الحادث ، بعد نفسه ، والشى لا يكون بعد نفسه.

وإن كان الثانى فهو عدم صرف ، ونفى محض ، وما هو بهذه المثابة لا يتحقق ترتيب شيء عليه.

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) من أول قوله : «ما تقدم تحقيقه .. إلى قوله : في نفسه» ساقط من ب.

(٣) عرف الآمدي الحادث في كتابه المبين ص ١١٩ فقال : و «وأما الحادث : فقد يطلق ويراد به ما يفتقر إلى العلة ، وإن كان غير مسبوق بالعدم : كالعالم ، وعلى ما لوجوده أول وهو مسبوق بالعدم. فعلى هذا : العالم إن سمى عندهم قديما : فباعتبار أنه غير مسبوق بالعدم ، وإن سمى حادثا : فباعتبار أنه مفتقر إلى العلة فى وجوده».

(٤) ابن الراوندى : سبقت ترجمته فى هامش ل ٢٣١ / أمن الجزء الأول.

(١١)/ / أول ل ٤٤ / أمن النسخة ب.

٣٠١

ولا فرق بين قول القائل : الحادث : ما كان بعد ما لم يكن ، وبين قوله : بعد لا شيء.

الثانى : وربما أورده بعض متفلسفة الإسلام وقال / هذه العبارات مشعرة بتقدم العدم على الوجود ، وقد بان فيما تقدم (١) أن أقسام التقدم خمسة وهى : التقدم بالعلية ، والطبع والشرف ، والرتبة ، والزمان وليس تقدم العدم على الوجود بالعلية.

إذ العدم لا يكون علة للوجود ؛ ولأن العلة لا بد وأن تكون مع المعلول ، وعدم الشيء لا يكون مع وجوده.

ولا بالشرف : وإلا كان عدم الشيء أشرف من وجوده ؛ وهو محال.

ولا بالرتبة : فإنا لو قطعنا النظر عن مبدأ محدود يكون العدم أقدم من الوجود بالنسبة إليه ، لما خرج عن كونه متقدما.

ولأنه لا شيء أسبق من العدم القديم حتى يكون أقرب إليه من الوجود.

فلم يبق إلا التقدم بالطبع ، والزمان.

فإن كان الأول : فتفسير حدوث العالم بتقدم العدم عليه بالطبع ؛ مسلم.

فإن العالم ممكن الوجود بذاته ، [وممكن الوجود بذاته] (٢) ؛ لا يكون مستحقا للوجود من ذاته ؛ بل من غيره.

بخلاف العدم. وما يكون مستحقا بالذات ، يكون أقدم بالطبع مما هو مستحق بالغير.

ولا يلزم من ذلك أن يكون متحققا بالفعل.

وإن كان الثانى : وهو التقدم بالزمان ؛ فقد بينا (٣) أن المتقدم بالزمان ما كان فى زمان متقدم ، على زمان المتأخر.

ويلزم من ذلك أن يكون زمان العدم السابق أزليا ؛ ضرورة كون العدم أزليا.

ويلزم من قدم الزمان ، قدم الحركة ؛ إذ هو من عوارضها.

__________________

(١) راجع ما مر ل ٨١ / أوما بعدها.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) راجع ما مر ل ٨١ / ب.

٣٠٢

ومن قدم الحركة ؛ قدم الجسم ؛ إذ هى من عوارضه ؛ وذلك يجر إلى قدم العالم ؛ ولم يقولوا به.

والجواب عن الأول : أنا لا نسلم أن الترتيب المشار إليه يستدعى إثبات شيئين معلومين.

ولا يخفى أن العدم السابق معلوم. كما أن الوجود اللاحق معلوم.

وعن الثانى من وجهين :

الأول : منع الحصر فى الأقسام الخمسة على ما تقدم (١).

والثانى : وإن سلمنا الانحصار جدلا.

فما المانع من كونه متقدما بالطبع ، وأن يكون الحادث من حيث هو حادث ، لا يتم دون سبق العدم.

وإن لم يكن العدم علة له كما فى الواحد مع الاثنين ، كما سبق تحقيقه (٢).

والقول : بأن الممكن مستحق العدم بذاته غلط من قائله ؛ فإن ما هو ممكن الوجود ؛ هو بعينه ممكن العدم.

وكما لا يستحق الوجود بذاته ، وإلا كان واجبا لذاته ؛ وخرج عن أن يكون ممكنا.

فكذلك فى طرف العدم ، وإلا كان ممتنع الوجود بذاته وخرج عن أن يكون ممكنا.

كيف : وأن ما ذكروه من الإشكال ؛ فهو لازم عليهم حيث قالوا : إن الحادث يطلق باعتبارين.

أحدهما : الوجود المسبوق بالعدم.

والثانى : الوجود المفتقر إلى / غيره ، فما ذكروه لازم على التفسير الأول بعينه ، وعند اتحاد الإلزام ، فالجواب أيضا يكون متحدا.

وقال بعض المتكلمين :

__________________

(١) راجع ما مر ل ٨١ / ب ، ٨٢ / أ.

(٢) راجع ما مر ل ٨١ ب.

٣٠٣

الحادث : هو الموجود الّذي له أول.

وقال ابن الراوندى (١) : أول الحادث إما أن يكون هو نفس الوجود ، أو غيره.

فإن كان الأول : لزم أن يكون الشيء أول نفسه ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى : فذلك الأول أيضا حادث ؛ ضرورة كونه صفة للحادث ، والكلام فيه : كالكلام فى الأول ؛ ويلزم منه وجود حوادث لا أول لها تنتهى إليه.

وجوابه أن يقال : المراد من كون الحادث له أول أن وجوده مسبوق بوجود الأولى كما قال : الشيخ أبو الحسن الأشعرى.

وعلى هذا ؛ فلا تسلسل.

ويمكن أن يقال : معنى الأولية أنه ليس بأزلى والتسلسل أيضا لا يكون لازما.

وعلى هذا : فلو قيل الحادث هو الموجود الّذي ليس بأزلى ؛ لكان أولى وأدل على الغرض ، وأنفى لما قيل من التشكيكات.

فإن قيل : مسمى الحادث : إما أن يكون هو نفس مسمى الوجود ، أو زائد عليه.

فإن كان الأول : فهو محال لوجهين :

الأول : أنه يلزم منه أن يكون كل موجود حادثا ، وليس كذلك.

الثانى : أنه يلزم منه أن من علم (١١) / / كون الشيء موجودا ، أن يعلم كونه حادثا ؛ ضرورة اتحاد المعنى ؛ وهو خلاف الموجود من أنفسنا.

وإن كان زائدا عليه : فإما أن يكون وجودا ، أو عدما.

فإن كان وجودا : فإما قديم ، أو حادث.

لا جائز أن يكون قديما : إذ هو صفة لما ليس بقديم. وإن كان حادثا : فالكلام فيه : كالكلام فى الأول ، وذلك يجر إلى حوادث لا أول لما تنتهى إليه.

وإن كان عدما : فهو محال.

__________________

(١) سبقت ترجمته فى هامش ل ٢٣١ / أمن الجزء الأول.

(١١)/ / أول ل ٤٤ / ب.

٣٠٤

فإن نقيض الحادث ؛ لا حادث. ولا حادث ؛ وصف عدمى ؛ لصحة اتصاف العدم القديم به.

وإذا كان لا حادث عدما : كان الحادث وجودا ، وهذه المحالات : إنما لزمت من فرض كون الشيء حادثا ؛ فيكون محالا.

قلنا : نحن لا نشك فى وجود أمور بعد أن لم تكن : كالحركات والسكنات لأنواع الحيوانات ، والجمادات ، وما يتكلم به الإنسان من آحاد الحروف ، والكلمات ، وما ينشئه أرباب الحرف ، والصناعات.

وما قيل : فتشكيك على البديهيات ؛ فلا يقبل. كيف : وأن مثل هذا لازم فى القديم أيضا.

إذ لقائل أن يقول مسمى القديم : إما أن يكون هو نفس مسمى وجوده ، أو زائد عليه.

فإن كان الأول فهو محال ؛ لما سبق (١).

وإن كان الثانى : فإما وجود ، أو عدم.

فإن كان وجودا : فإما قديم ، أو حادث.

لا جائز أن يكون حادثا : وإلا (٢) كان المتصف به أولى أن يكون حادثا (٢).

فإن كان قديما : لزم / التسلسل ؛ لما سبق فى الحادث.

وإن كان عدما : فهو محال ؛ لأن نقيضه ، لا قديم. ولا قديم عدم ؛ لاتصاف العدم المتجدد به ، ويلزم من ذلك أن يكون الموجود الواحد ، لا قديما ، ولا حادثا ؛ وهو محال بالبديهة ، وما لزم عنه المحال ؛ فلا يكون مقبولا.

وإذا عرف معنى القديم ، والحادث ؛ فلا يمتنع وصف العالم عندنا بكونه حادثا باعتبار كونه مسبوقا بالعدم ، وقديما باعتبار تقادمه ، وطول زمانه [يمتنع وصف العالم] (٣) من غير مناقضة.

__________________

(١) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الثانى ـ المسألة الأولى ل ٥٤ / أوما بعدها.

(٢) من أول «وإلا كان .... إلى قوله : حادثا» ساقط من ب.

(٣) ساقط من (أ).

٣٠٥

وإذا قلنا : العالم قديم ؛ بهذا الاعتبار لا يناقضه.

قولنا : العالم غير قديم بمعنى أنه ليس بأزلى.

وعلى هذا : فلا بد من تحقيق محل النزاع ، ومورد الخلاف فى هذه الأصل ، وهو أن العالم حادث ، أو قديم [بمعنى أن وجوده مسبوق بالعدم ، أو غير مسبوق به.

وإذا أتينا على ما أردناه من تحقيق محل النزاع] (١) فنقول : مذهب أهل الحق من المتشرعين : أن كل موجود سوى الواجب بذاته ؛ فوجوده بعد العدم ، وكائن بعد ما لم يكن ، وأن الله ـ تعالى ـ كان ولا كائن ، وأن ما أبدعه لم يكن معه.

ووافقهم على ذلك جماعة من الحكماء المتقدمين ، والأساطين السبعة من أهل ملطية ، وساميا ، وأثينة (٢).

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) الأساطين السبعة هم :

١ ـ تاليس الملطى : (٦٢٤ ق. م ـ ٥٥٠ ق. م. تقريبا). وهو أول من تفلسف فى ملطية. قال : إن للعالم مبدعا لا تدرك صفته العقول من جهة هويته ، وإنما يدرك من جهة آثاره. (انظر : الملل والنحل ٢ / ٦١ ـ ٦٤ والفلسفة الإغريقية د. محمد غلاب ١ / ٣٣ ـ ٤٠ فقد خالف الشهرستانى فيما ذهب إليه).

٢ ـ انكساغورس (٦١١ ق. م. ـ ٥٤٧ ق. م. تقريبا). وهو أيضا من أهل ملطية. كان تلميذا لتاليس ورأى رأيه فى الوحدانية ، ولكنه خالفه من المبدأ الأول. (انظر الملل والنحل للشهرستانى ٢ / ٦٤ ـ ٦٦).

٣ ـ انكسيمانس : (٥٨٨ ق. م ـ ٥٢٤ ق. م تقريبا) وقيل : [أناكسيمين] وهو من الملطيين المعروف بالحكمة.

قال : إن البارى ـ تعالى ـ أزلى لا أول له ولا أخر (الملل والنحل للشهرستانى ٢ / ٦٦ ـ ٦٨ وانظر أيضا الفلسفة الإغريقية د ، غلاب ، فقد خالفه فيما ذهب إليه (١ / ٤٧ ـ ٥١)

٤ ـ أنباذقليس (٤٩٥ ق. م. ـ ٤٣٥ ق. م) وقيل : أمبيدوكل ، ولد فى جزيرة (صقلية) وتأثر بمبادئ (فيثاغورس) [انظر عنه : الملل والنحل ٢ / ٦٨ ـ ٧٣ وانظر الفلسفة الإغريقية د. محمد غلاب ص ٩٥ ـ ١٠٦ فقد خالف الشهرستانى فيما ذهب إليه].

٥ ـ فيثاغورس : ولد بين سنتى ٥٨٠ ، ٥٧٠ ق. م. [نسبت إليه المدرسة الفيثاغورية] هو من أهل ساميا (وهى جزيرة ساموس). [انظر عنه الملل والنحل ٢ / ٧٤ ـ ٨٣ : وانظر الفلسفة الإغريقية. د. غلاب ص ٥٢ ـ ٦٦ فقد نقد الشهرستانى وخالفه فى معظم أقواله].

٦ ـ سقراط : [٤٧٠ ق. م ولد فى أثينا سنة ٤٧٠ ق. م ، ثم أعدم بعد أن بلغ السبعين من عمره [انظر الملل والنحل ٢ / ٨٣ ـ ٨٨ وانظر الفلسفة الإغريقية ص ١٤٥ ـ ١٧١. فقد نقد الشهرستانى وخالفه فى معظم آرائه].

٧ ـ أفلاطون (يرجع أنه ولد بين سنتى ٤٢٩ ـ ٤٢٧ ق. م.) انظر ترجمته فيما سبق فى ه ل ٥٢ / أ ـ الفصل الثالث : فى تحقيق معنى المكان. وانظر عن آرائه : [الملل والنحل للشهرستانى ٢ / ٨٨ ـ ٩٥ والفلسفة اليونانية د. محمد غلاب ١ / ١٨٦ ـ ٢٩٧ فقد وفى الموضوع حقه كما أثنى على الشهرستانى وقال عنه «قد فهم مذهب أفلاطون) على أصله وأدرك من خفاياه وأسراره ما لا يزال كثير من الباحثين يعتقدون أنه نتيجة البحوث العلمية الحديثة ، وفخر العصور الحاضرة ، وما هم فى ذلك إلا واهمون إذ قد سبق الشهرستانى المحدثين بعدة قرون إلى فهم آراء (أفلاطون) [الفلسفة الإغريقية ص ٢٩٢].

٣٠٦

وإن كان لهم اختلاف فى المعلول الأول لواجب الوجود ، وكيفية صدور الكائنات عنه ، وفى أصول الموجودات المركبة ، وكميتها ، وكيفيتها وقد أومأنا إليه فى كتابنا الموسوم بدقائق الحقائق (١) ، ورموز الكنوز (٢)

وذهبت (٣) الدهرية : إلى القول بوجوب وجود ما وجد عن الواجب بذاته مع وجوده ، وإن قيل له حادث : فليس إلا بمعنى أن وجوب وجوده بغيره ، وأن له مبدأ يستند إليه ، ويتقدم عليه تقدما بالذات على نحو تقدم حركة اليد على حركة الخاتم.

ثم اختلف هؤلاء فيما وجب عن الواجب بذاته فذهب أرسطاطاليس (٤) ، ومن نصر مذهبه من اليونانيين ، وفلاسفة الإسلاميين كأبي نصر الفارابى (٥) ، وأبى عبد الله الحسين ابن سينا (٦). إلى أن الواجب عن الواجب بذاته عقل مجرد عن المادة وعلائقها.

وبتوسطه وجدت الأجرام العلوية ، ونفوسها ، والعقول التى هى مبادئها منتهية إلى الجسم المشترك بين العناصر ، التى فى مقعر فلك القمر ، الصادر عن العقل الفعال لنفوسنا.

وأما ما وراء ذلك من الكائنات المتجددة : كالنفوس الإنسانية ، والصور الجوهرية للأجسام العنصرية ، وغير ذلك من الحركات ، والأمور العرضية المتوقفة على الاتصالات الكوكبية ، المستندة إلى الإرادات النفسية للأجرام الفلكية.

__________________

(١) دقائق الحقائق : وهو فى الفلسفة ويقع فى ثلاث مجلدات ، وهو من أهم كتب الآمدي الفلسفية ، وأقدمها تأليفا فكثيرا ما يحيل عليه فى كتابه أبكار الأفكار [أنظر عن هذا الكتاب ص ٩٤ ـ ٩٨ من دراستى عن الآمدي ، رسالة دكتواره سنة ١٩٧٤].

(٢) رموز الكنوز : وهو فى الفلسفة كما ذكر تلميذه ابن أبى أصيبعة وهو يقع فى مجلد واحد [انظر عن هذا الكتاب المصدر السابق ص ٩٣ ، ٩٤].

(٣) ساقط من ب.

(٤) أرسطاطاليس : ولد فى مدينة اسطاخيرا سنة ٣٨٤ قبل ميلاد المسيح عليه‌السلام ، وتتلمذ على يد (أفلاطون).

ولقب بالمعلم الأول وكان له تأثير كبير فى العالم ، وترجمت مؤلفاته إلى معظم لغات العالم ، ومن أشهر مؤلفاته : الطبيعة ، والكون والفساد والأخلاق. ومن أشهر تلاميذه الاسكندر الأكبر المقدونى من أشهر الفاتحين ، ولأرسطو تأثير هائل فى فلاسفة الإسلام وفى فلاسفة أوربا بعد ذلك ، وتوفى سنة ٣٢٢ ق. م.

[انظر أخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطى ٢٧ ، والفلسفة الإغريقية للدكتور محمد غلاب ٢ / ٨٠].

(٥) الفارابى : [٢٦٠ ه‍ ـ ٣٣٩ ه‍ / ٨٧٤ م ـ ٩٥٠ م] محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرفان (الفارابى) ويلقب بالمعلم الثانى (أبو نصر) حكيم ، رياضى ، طبيب ، موسيقى. عارف بكثير من اللغات. ولد فى فاراب ، وسافر إلى حران ومصر ودمشق فسكنها وتوفى بها سنة ٣٣٩ ه‍ له مؤلفات كثيرة : من أهمها : آراء أهل المدينة الفاضلة ، إحصاء العلوم ، وتحصيل السعادة [الفهرست لابن النديم ١ / ٢٦٣ وعيون الأنباء لابن أبى أصيبعة ٢ / ١٣٤ وما بعدها وفيات الأعيان ٢ / ١٠٠ وما بعدها].

(٦) ابن سيناء : سبقت ترجمته فى هامش ل ٧٢ / ب من الجزء الأول.

٣٠٧

فإنه وإن كان كل واحد منها حادثا ، غير أنها لا أول لها تنتهى إليه ؛ بل هى لا / تتناهى لا شدة ولا عدة ، وما من (١١) / / كائن إلا وقبله كائن آخر ، إلى ما لا يتناهى ، على ما أوضحناه من تفصيل مذهبهم ، وتحقيق معتقدهم ، فى ترتيب العلل ، والمعلولات وضبط مذهبهم فيما يتناهى ، وما لا يتناهى.

وزعموا : أن العالم ، وما فيه من الأجرام العلوية ، والسفلية ولواحقها ؛ لم يزل على هذه الهيئة والتدبير من الأزل وكذلك لا يزال.

وذهب بعض قدماء الفلاسفة : إلى أن أصل العالم ، وجوهره قديم وأحال وجود كائنات متعاقبة غير متناهية وهؤلاء اختلفوا :

فمنهم من قال : أصل العالم أجزاء جسمانية ، كرية ، مثبتة فى أبعاد خلائية ، غير متناهية ، وجدت عن واجب الوجود ، إما بواسطة ، أو غير واسطة ، وأنها لم تزل متحركة ، ضرورة تشابه أجزاء الخلاء. وأنه ليس القول بسكونها فى بعض أجزائه ، دون البعض أولى من العكس.

فاتفق أن تصادمت ؛ فحصل منها كرات الأفلاك على الأشكال المخصوصة ، ولزم أن تكون متحركة ضرورة كريتها ، وأنه ليس القول ببقائها على بعض الأوضاع ؛ لتشابه أجزائها وأوضاعها ؛ أولى من البعض.

فاتفق أن ما قرب منها مما فى مقعرها إن سخن بسبب حركتها غاية السخونة ؛ فكان منه ألطف الأجسام العنصرية : وهو النار (١) ثم ما يليه دونه فى اللطافة : وهو الهواء ، ثم ما يليه ، فدونه فى اللطافة : وهو الماء ، وما بعد عنها غاية البعد ، وهو التراب ففى غاية الغلظ ، والكثافة. وعن هذه العناصر الأربعة تكون أنواع المركبات.

ومنهم من قال كان أصل العالم وهو هيولاه فى حكم الموجود الواحد لا انقسام فيه.

__________________

(١١)/ / أول ل ٤٥ / أمن النسخة ب.

(١) عرف الآمدي النار والهواء والماء والتراب فقال : وأما النار : فعبارة عن جرم بسيط حار يابس».

وأما الهواء : فعبارة عن جرم بسيط حار رطب.

وأما الماء : فعبارة عن جرم بسيط بارد رطب.

وأما التراب : فعبارة عن جرم بسيط بارد يابس».

[المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين ص ٩٩].

٣٠٨

وكان عاريا عن الأعراض المتجددة ، المتعاقبة. ثم انقسم وتجزأ ، وتركب ، وتشكل ، ثم قامت به الأعراض.

ومن الدهرية : من زعم أن أصل العالم النور. والظلمة ، وهم الثنوية (١).

وقد استقصينا مذاهبهم ، وبينا اختلافهم ، واضطراب عقائدهم بما فيه مقنع ، وكفاية ؛ فلا حاجة لإعادته. ومن الحكماء من توقف فى القدم ، والحدوث : كجالينوس (٢) ، ومن نصر مذهبه.

وإذ أتينا على ما أردناه من شرح المذاهب ؛ فلا بد من البحث عن مطرح نظر الفريقين ، والكشف عن معتمد معتقد الطائفتين.

وليكن البداء بتقديم النظر فى طرق أهل الحق أولا ، وإبطال شبه أهل الضلال ، والانفصال عنها ثانيا.

وقد (٣) احتج الأصحاب بمسالك :

المسلك الأول (٤) :

أنهم قالوا : العالم ممكن الوجود بذاته ، وكل ما / هو ممكن الوجود بذاته ؛ فهو محدث ؛ فالعالم محدث.

وبيان المقدمة الأولى من ثلاثة أوجه :

الأول :

أنه لا يخلو : إما أن يكون واجبا لذاته ، أو ممتنعا لذاته ، أو ممكنا لذاته.

لا جائز أن يكون ممتنعا لذاته : وإلا لما وجد ؛ وهو موجود

ولا جائز أن يكون واجبا لذاته : لوجهين :

__________________

(١) راجع عنهم ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ النوع السادس الأصل الثانى ـ الفرع السادس : فى الرد على الثنوية والمجوس ل ٢٢٥ / أوما بعدها.

(٢) انظر ترجمته فيما مر هامش ل ١٠٤ / أ.

(٣) نقل ابن تيمية قول الآمدي «وقد احتج الأصحاب بمسالك ... الخ» في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٤ / ٢٤٧) وعلق عليه وناقشه.

(٤) وقد نقله ابن تيمية وناقشة وسماه مسلك الإمكان فقال : «الأول : مسلك الإمكان ، وأنه ممكن وكل ممكن محدث» [درء التعارض ٣ / ٤٤٨].

٣٠٩

الأول : أن أجزاءه متغيرة عيانا ، وواجب الوجود لذاته ؛ لا يتغير بحال ، فلم يبق إلا أن يكون ممكنا.

الثانى : أنه لو كان واجبا لذاته : فهو لا محالة مركب ، ومؤلف.

وعند ذلك : فإما أن يكون كل واحد من مفرداته واجبا ، أو كل واحد ممكنا ، أو البعض واجبا ، والبعض ممكنا.

لا جائز أن يقال بالأول : والإلزام منه التعدد فى مسمى واجب الوجود لذاته ؛ وهو ممتنع على ما سبق فى الوحدانية (١).

وإن كان الثانى : فما أجزاؤه ممكنة ، أولى أن يكون ممكنا.

وإن كان الثالث : فما بعض أجزائه ممكن ؛ لا يكون واجبا لذاته كيف وأنه لو كان بعض أجزائه واجبا ، والإله ـ تعالى ـ واجب ؛ للزم منه اجتماع واجبين ؛ وهو محال.

الوجه الثانى : فى بيان الإمكان : أن وجود العالم يزيد علي ماهيته [وبيان ما تقدم فى إثبات واجب الوجود (٢).

وإذا كان وجوده زائد على ماهيته] (٣) فإما أن يكون واجبا ، أو جائزا.

لا جائز أن يكون واجبا : إذ هو صفة لماهية العالم ، والصفة مفتقرة إلى الموصوف ؛ وواجب الوجود لا يكون مفتقرا إلى غيره ؛ فلم يبق إلا أن يكون ممكنا.

[الثالث : هو أن أجسام (٤) العالم مؤلفة مركبة ؛ لما سبق بيانه فى الأجسام ، وكل ما كان مؤلفا ، ومركبا ؛ فهو مفتقر إلى أجزائه وكل مفتقر إلى غيره ؛ لا يكون واجبا لذاته.

فالأجسام ممكنة لذواتها ، والأعراض قائمة بالأجسام ، ومفتقرة إليها ، والمفتقر إلى الممكن ؛ أولى أن يكون ممكنا ، والعالم غير خارج عن الأجسام ، والأعراض ؛ فكان ممكنا (٥)].

__________________

(١) انظر الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول : النوع الخامس : فى وحدانية الله ـ تعالى ل ١٦٦ / أوما بعدها.

(٢) راجع ما تقدم فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ل ٤١ / أوما بعدها.

(٣) ساقط من (أ).

(٤) نقل ابن تيمية فى كتابه (درء التعارض ٤ / ٢٤٧) من أول قول الآمدي «أجسام العالم مؤلفة إلى قوله : أولى أن يكون ممكنا» ثم علق عليه وناقشه.

(٥) ساقط من (أ).

٣١٠

وأما (١١) / / بيان المقدمة الثانية ، فهو أن كل ممكن مفتقر إلى المرجح لأحد طرفيه على الآخر ؛ لما تقدم فى إثبات واجب الوجود (١).

فالعالم مفتقر إلى المرجح ، وإذا كان مفتقرا إلى المرجح ، لزم أن يكون حادثا لوجهين:

الأول : أن ذلك المرجح : إما أن يكون مرجحا له بذاته ، أو بالقدرة والاختيار.

لا جائز أن يكون مرجحا له بذاته : لثلاثة أوجه :

الأول : هو أن الوجود لا اختلاف فيه بين الذوات الموجودة ؛ بل هو من الواجب ، والجائز بمعنى واحد ؛ كما تقدم تحقيقه.

وعند ذلك : فليس القول بترجيح وجود العالم ، بما ترجح به أولى من العكس.

الثانى : أن الجائزات بأسرها متماثلة ، من حيث هى جائزة وهى فلم تكن مفتقرة إلى المرجح إلا من حيث اشتركت فى صفة الإمكان.

والواجب بالذات ، لا يخصص مثلا عن مثل : لأن نسبته إلى جميع المتماثلات ؛ نسبة واحدة.

الثالث : أن الموجب بذاته مهما لم يكن بينه ، وبين ما أوجبه مناسبة ، وتعلق لم يقض العقل بصدور أحدهما عن الآخر أصلا ، ولا يخفى أن البارى ـ تعالى ـ متفرد بحقيقته غير مناسب لشيء من / الجائزات فلا يكون بذاته موجدا لشيء منها.

فلم يبق إلا أن يكون مرجحا له بالقدرة والاختيار ، وإذا كان كذلك : فلا بد وأن يكون قاصدا للإيجاد ، والقصد إلى إيجاد الشيء ، إما أن يكون فى حال دوام وجوده ، أو فى حال حدوثه ، أو قبل حدوثه.

لا جائز أن يقال بالأول : لما فيه من قصد تحصيل الحاصل ، وإيجاد الموجود ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى ، والثالث : فقد لزم الحدوث.

__________________

(١١)/ / أول ل ٤٥ / ب.

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الأول : فى إثبات واجب الوجود بذاته وبيان حقيقته ووجوده ل ٤١ / أوما بعدها.

٣١١

الوجه الثانى : فى بيان أن ما افتقر إلى المرجح لا يكون إلا حادثا ، وإن لم يكن المرجح مختارا. وهو أن احتياج الممكن إلى المرجح ، إما أن يكون أيضا فى حال وجوده ، أو فى حال عدمه.

فإن كان فى حال وجوده : فإما فى حالة دوامه ، أو فى ابتداء وجوده.

لا جائز أن يكون ذلك فى حال دوامه ؛ لما تقدم ، فلم يبق إلا القسمان الآخران ، ويلزم منه الحدوث ، وفى هذا المسلك نظرا ؛ إذ لقائل أن يقول : ما المانع من القول بالوجوب.

قولهم : إن أجزاء العالم [متغيره عيانا. إنما يصح أن لو كانت جميع أجزاء العالم] (١) مشاهدة بالعيان. وما المانع من وجود أجزاء غير مشاهدة : كما يقوله الخصوم من العقول ، والنفوس الفلكية ؛ على ما سبق تعريفه (٢).

ولا يخفى أن الدلالة على انتفاء ذلك صعب جدا ، وبتقدير انتفاء هذه الأجزاء فلا نسلم أن جملة أجزاء العالم مشاهدة بالعيان حتى لا يخرج منها شيء من العالم العلوى ، والسفلى.

وعلى هذا : فجاز أن يكون حكم ما لم نشاهد على خلاف ما شوهد ، وبتقدير التسليم بمشاهدة الكل عيانا ـ فالمتغير عيانا كل واحدة من الأجزاء ، أو البعض دون البعض.

الأول : ممنوع ولا سبيل إلى دعواه مهما نشاهد من بقاء أجرام الأفلاك وبعض أعراضها : كأشكالها ، وأنوار كواكبها ، إلى غير ذلك.

والثانى مسلم.

وعلى هذا : فما هو دليل الإمكان ، غير عام لجملة أجزاء العالم.

قولهم (٣) : إن العالم مركب. مسلم.

ولكن ما المانع أن تكون أجزاؤه واجبة؟

وما ذكروه من الدلالة ؛ فقد بينا ضعفها فى مسألة الوحدانية (٤).

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) راجع ما سبق ل ٣٢ / أوما بعدها.

(٣) من أول «قولهم : إن العالم مركب إلى قوله : «فى مسألة الوحدانية» نقله ابن تيمية فى (درء التعارض ٤ / ٢٤٧ ، ٢٤٨) ثم علق عليه وناقشه بالتفصيل.

(٤) راجع ما سبق فى الجزء الأول : النوع الخامس : فى وحدانية الله ـ تعالى ـ ل ١٦٦ / أوما بعدها.

٣١٢

قولهم : إن وجود العالم زائد على ماهيته ، فقد سبق الوجه فى إبطال كل ما قيل من الدلالة عليه.

قولهم : إن أجسام العالم مؤلفة. مسلم.

قولهم : وكل مؤلف فهو مفتقر إلى أجزائه. لا نسلم أن الجسم يزيد على الأجزاء المجتمعة ؛ بل هو نفسها ؛ فلا يكون الجسم مفتقرا إلى نفسه ، وبتقدير كون الجسم غير أجزائه التى منها تركيبه فغايته أن يكون الجسم غير واجب لذاته ، ولا يلزم من ذلك إمكان أجزائه.

وعلى / هذا : فلا يكون دليل الإمكان عاما لكل أجزاء العالم.

سلمنا أن أجزاء جميع العالم ممكنة وأن كل ممكن مفتقر إلى المرجح.

ولكن لا نسلم أن كل مفتقر إلى المرجح يكون حادثا.

قولهم : المرجح إما أن يكون مرجحا بذاته ، أو بالقدرة ، والاختيار. ما المانع أن يكون مرجحا بذاته.

قولهم : الوجود فى الواجب ، والجائز بمعنى واحد وقد أبطلناه فيما تقدم (١).

قولهم : إن الجائزات (١١) / / متساوية بالنسبة إلى الموجب بالذات. دعوى مجردة.

وما المانع أن تكون الممكنات مع اختلاف حقائقها مختلفة النسبة بالنسبة إلى اقتضاء الموجب لها بالذات وإن تساوت فى الإمكان حتى أن يكون مقتضيا بذاته للبعض دون البعض ، ولا يخفى أن ذلك مما لا سبيل إلى دفعه.

قولهم : لا بد وأن تكون بين الموجب بذاته ، وما أوجبه مناسبة ، وتعلق إن أرادوا به أن يكون لحالة يلزم من وجود أحدهما ، وجود الآخر عنه ؛ فذلك مما لا نزاع فيه.

وإنما الشأن فى بيان أنه لم يثبت ذلك للعالم بالنسبة إلى موجده ؛ ولا سبيل إليه.

وإن أريد بالمناسبة المساواة ، والمشابهة فى الذات أو صفة من صفاتها ، فهو ممنوع.

__________________

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الأول ـ المسألة الرابعة ل ٥٣ / أوما بعدها.

(١١)/ / أول ل ٤٦ / أمن النسخة ب.

٣١٣

كيف : وأنه لو كان المرجح إنما يرجح لمعلوله باعتبار ما وقعت به المساواة بينهما.

لم يكن جعل أحدهما مرجحا للآخر ؛ أولى من العكس.

إن قدر أنه لا بد من المساواة بينهما في أمر من الأمور فقولهم : إن البارى ـ تعالى ـ غير مشارك لشيء من الجائزات في أمر ما ؛ مناقض لما قرر فى الوجه الأول. من وجوب الاشتراك بين الواجب ، والجائز ، فى معنى الوجود ولا مدلوله.

وإن سلمنا : أنه موجد بالقدرة ، والاختيار ؛ ولكن لا نسلم لزوم الحدوث ، وما ذكروه من تقريره ، إنما يلزم أن لو انحصرت الأقسام فيما ذكروه.

وما المانع أن يقال بقسم آخر وهو أن يكون قصده له مقارنا لوجوده ، مع قدمه ، ولا بد من إبطال هذا القسم ، لصحة الدلالة على الحدوث. ولم يتعرضوا له.

وبهذا يبطل قولهم إن افتقار الممكن إلى المرجح ، لا يكون إلا فى حالة حدوثه ، أو عدمه.

والّذي يدل على إمكان ما ذكرناه من القسم هو أن عدم العالم قبل حدوثه قديم أزلى ، وإلا كان العالم موجودا قبل عدمه ، ولو كان موجودا قبل عدمه فإما أن يكون قديما أو حادثا ، فإن كان قديما : فهو ما يقوله الخصوم.

كيف ، وأنه لو كان قديما ؛ لما عدم على أصول أهل الحق ؛ وقد فرض عدمه.

وإن كان حادثا : فالكلام فى العدم السابق عليه كالكلام فى الأول وهو تسلسل ممتنع. فلم يبق إلا يكون عدمه السابق عليه أزليا.

وإذا كان عدمه أزليا : فإما أن يكون واجبا لذاته ، أو ممكنا لذاته. لا جائز أن يقال بالأول : وإلا لما تصور دفعه ، وزواله ؛ لأن الواجب لذاته لا يزول.

ولو أمكن ذلك فى العدم الواجب ؛ لأمكن فى الوجود الواجب ؛ ضرورة عدم الفرق ؛ وهو محال ، وإذا كان جائزا : فلا بد من مرجح ؛ ضرورة إمكانه ، وجوازه وسواء كان المرجح مرجحا بذاته ، أو بالاختيار ، ويلزم من ذلك إبطال القول بأن المفتقر إلى المرجح ؛ لا بد وأن يكون حادثا ؛ إذ الأزلى ليس بحادث ؛ وهذا مما لا جواب عنه.

وقد أورد بعض الأصحاب على القول بأن المفتقر إلى المرجح لا بد وأن يكون حادثا إشكالات مشكلة ، لا بد من الإشارة إليها ، وإلى جهة دفعها تكثيرا للفائدة.

٣١٤

الإشكال الأول : قولكم إن القصد لا يتعلق بالمقصود فى حالة دوامة ، ليس كذلك ، فإن كل أحد يجد من نفسه وجدانا ضروريا أنه يريد دوام الشيء وبقائه على وجوده ولا معنى لبقائه غير حصوله فى الزمن الثانى ، وليس ذلك زائدا على نفس الباقى ، وإلا لكان ذلك الزائد حاصلا فى ذلك الزمان ، والكلام فى حصوله كالكلام فى الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

فثبت أن القصد قد تعلق بالشيء حال بقائه.

وقولكم : بأن الاحتياج إلى المؤثر لا يكون فى حال بقائه ينتقض بالعلة ، والمعلول : كالعلم مع العالمية ، وبالشرط مع المشروط ؛ كالحياة مع العلم ، ونحوه.

وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه : غير أنه معارض بما يدل على أن الاحتياج إلى المؤثر لا يشترط فيه أن يكون فى حالة العدم أو الحدوث.

وبيانه من وجوه :

الأول : أن الحادث حال بقائه إما أن يكون واجبا لذاته ، أو ممكنا.

لا جائز أن يكون واجبا : وإلا لما تصور عليه العدم.

فلم يبق إلا أن يكون ممكنا : والممكن لا بد له من مؤثر ؛ فالشيء حالة بقائه يفتقر إلى المؤثر.

الثانى : أن عدم الشيء ينافى وجوده ؛ وما يكون منافيا لوجود الشيء ؛ لا يكون شرطا فى احتياج ذلك لشيء إلى (١١) / / المؤثر ولا يكون الفعل فعلا ، ولا الفاعل فاعلا.

الثالث : أنه لا معنى للحدوث غير كون وجود الشيء مسبوقا بالعدم ، [وكونه مسبوقا بالعدم] (١) صفة له. وصفة الشيء مفتقرة إلى ذلك الشيء ومتأخرة إما بالذات ، أو الوجود ، ووجود ذلك الشيء مفتقر إلى تأثير المؤثر فيه ؛ فتأثير المؤثر فيه يكون متقدما عليه ، وتأثير المؤثر فيه يتوقف على احتياج ذلك الأثر / إليه فلو افتقر احتياج الأثر إلى المؤثر إلى كونه مسبوقا بالعدم ، لكان المتقدم على الشيء بمرات ؛ متأخرا عنه بمرات ؛ وهو محال.

__________________

(١١)/ / أول ل ٤٦ / ب من النسخة ب.

(١) ساقط من (أ).

٣١٥

الرابع : هو أن الممكن لا بد ، وأن ينتهى في الحاجة ، إلى واجب الوجود. فواجب الوجود إن توقف تأثيره ، على تجدد أمر لم يكن ؛ فالكلام فى ذلك المتجدد : كالكلام فى الأول ، وهو تسلسل.

وإن لم يتوقف : فيلزم من قدمه ؛ قدم أثره ، وخرج الاحتياج إلى المؤثر ، عن أن يكون مشروطا بالحدوث ، أو العدم.

الخامس : أنا لو تصورنا محدثا حدث لذاته ؛ لخرج عن أن يكون مفتقرا إلى مؤثر ؛ لأن ما ثبت للذات ؛ لا يكون ثابتا بأمر خارج.

ولو تصورنا قديما نسبة الوجود ، والعدم إليه على السوية ، قطعنا بافتقاره إلى المرجح ؛ فثبت أن احتياج الأثر إلى المؤثر ، غير مشروط بالعدم ، أو الحدوث.

السادس : هو أن الحادث له وجود حاصل ، وعدم سابق. وكونه مسبوقا بذلك العدم ، وليس المحتاج إلى المؤثر ، هو العدم السابق ؛ لما سبق أن الأثر لا يكون عدما ، ولا كونه مسبوقا بالعدم ، فإن ذلك من الصفات الواجبة للحادث ؛ فلا يكون مفتقرا إلى المؤثر ؛ فلم يبق إلا الوجود.

وليس المحتاج هو مطلق وجود. وإلا لكان وجود واجب الوجود ؛ محتاجا إلى المؤثر فلم يبق إلا أن يكون المحتاج إلى المؤثر الوجود الممكن.

وخرج الحدوث عن أن يكون مشترطا فى الاحتياج إلى المؤثر.

السابع : هو أن كون الأربعة زوجا ؛ والخمسة فردا ، من الصفات اللازمة لها. وهى ممكنة فى أنفسها ، ضرورة كونها صفة لغيرها وليست معلولة لخارج عن ماهية الأربعة والخمسة [وإلا لأمكن لفرض عدم الزوجية للأربعة ، مع فرض وجود الأربعة عند فرض عدم العلة الموجبة للزوجية. وكذلك الفرد للخمسة ، وهو محال.

وإذا كانت الزوجية ، والفردية معلولة بالأربعة ، والخمسة] (١) فلا يخفى. مع ملازمتها لها ، إمكان تأثير المؤثر فى الأثر مع دوامه ، بدوامه.

الثامن : هو أن صفات الرب ـ تعالى ـ من علمه ، وقدرته قديمة. فإن كانت واجبة ، فقد بطل ما ذكرتموه فى تقرير الإمكان ، من امتناع وجود واجبين.

__________________

(١) ساقط من (أ).

٣١٦

وإن كانت ممكنة : فيلزم أن يكون لها مؤثر ، ومع ذلك ليست حادثة.

والجواب : أما قوله : بأن الواحد منا قد يريد بقاء الشيء : إن أراد به نفس الباقى ، فممنوع ؛ لما فيه من إرادة تحصيل الحاصل.

وإن أراد به البقاء ؛ فالبقاء ، عند القائل به عرض متجدد ؛ وهو زائد على نفس الباقى ؛ وليس باقيا.

قوله : لا معنى للبقاء غير حصول الباقى فى الزمن الثانى ؛ باطل بذات الله ـ تعالى ـ فإنها باقية.

وإذا قيل : إن الباقى باق ببقاء ؛ فليس بقاؤها نفس حصولها فى الزمن الثانى.

وإلا كان / وجود الرب ـ تعالى ـ زمانيا ؛ وليس كذلك.

وإن سلمنا : أنه لا معنى للبقاء ، غير حصول الشيء فى الزمن الثانى.

ولكن لا نسلم أنه غير زائد على نفس الباقى.

قوله : لو كان زائدا ؛ لكان له أيضا حصول فى الزمان.

قلنا : حصول فى الزمان هو نفس [ذلك الحصول] (١) أو حصول زائد عليه.

الأول : مسلم. والثانى : ممنوع ؛ وعلى هذا ؛ فلا تسلسل.

وأما النقض بالعلم ، والعالمية : فمبنى على القول بالأحوال ؛ وسيأتى إبطاله (٢).

وأما النقض بالشرط ، والمشروط : فغير متجه ؛ إذ الشرط غير مؤثر فى وجود المشروط ، لا ابتداء ، ولا دواما ، والكلام إنما وقع فى الاحتياج إلى المؤثر.

قوله : إن الباقى حال بقائه مفتقر إلى المؤثر ، لكونه ممكنا.

قلنا : الباقى وإن كان ممكنا في حال بقائه ؛ فهو مفتقر إلى المؤثر فى وجوده ، ووجوده الثانى فى حال بقائه عين الوجود الأول ، وقد أثرت فيه العلة أولا ، فلا تكون مؤثرة فيه ثانيا.

قوله عدم لشيء ينافى وجود الشيء.

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) راجع ما سيأتى ل ١١٤ / أوما بعدها.

٣١٧

قلنا : العدم السابق ، أو العدم المقارن ، الأول : ممنوع ، والثانى : مسلم.

وعند ذلك : فلا يمتنع أن (١١) / / يكون شرطا فى الاحتياج.

قوله : بأن كون الوجود مسبوقا بالعدم صفة للوجود ؛ فلا يتوقف عليه الاحتياج إلى المؤثر.

فإنما يلزم أن لو قلنا : بأن شرط الاحتياج : إنما هو العدم المتقدم ، وليس ذلك صفة للوجود ، لا نفس كونه مسبوقا بالعدم ؛ وفرق بين الأمرين.

قوله : إن الممكن لا بد أن ينتهى فى الحاجة إلى واجب الوجود ، مسلم.

قوله : إن لم يتوقف تأثيره فيه على شيء ؛ فيلزم قدم أثره من قدمه.

إنما يلزم أن لو لم يكن التأثير بالقدرة ، والإرادة ؛ كما سبق فى الصفات (١).

قوله : لو تصورنا محدثا حدث لذاته ؛ لخرج عن أن يكون مفتقرا إلى المؤثر.

فإنما يلزم امتناع اشتراط الحدوث فى الاحتياج إلى التأثير أن لو لم يكن فرض هذا التصور مع الاستحالة فى نفس الأمر. [وأما إذا كان مع الاستحالة فى نفس الأمر] (٢) فلا يمتنع اشتراط الحدوث فى الاحتياج إلى المؤثر فى نفس الأمر. وهذا كما لو قال القائل : لو تصورنا اجتماع الضدين لخرج اجتماع الضدين عن أن يكون ممتنعا.

وما لزم من ذلك خروج اجتماعهما عن الامتناع في نفس الأمر لما (٣) كان فرض تصور الاجتماع مع الإحالة فى نفس الأمر (٣) ؛ وفيه دقة فليتأمل.

قوله : الحادث له وجود حاصل ، وعدم سابق ، إلى آخره إنما يلزم أن لو قلنا : إن العدم / أو كون الوجود مسبوقا بالعدم أثر للمؤثر ؛ وليس كذلك ؛ بل الوجود المشروط بالعدم السابق ، ولا منافاة بين كونه شرطا فى الحدوث ، وبين كونه ليس أثرا للمؤثر.

وما قيل : من الزوجية : للأربعة ، والفردية : للخمسة ؛ فإنما يلزم أيضا أن ، لو كانت علة الزوجية ، والفردية نفس ماهية الأربعة ، والخمسة ؛ وليس كذلك ؛

__________________

(١١)/ / أول ل ٤٧ / أ.

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ل ٥٨ / ب وما بعدها.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) من أول : «لما كان ... إلى قوله : فى نفس الأمر» ساقط من ب.

٣١٨

بل المؤثر المرجح لها ؛ هو المرجح لموضوعها ؛ وإن كان موضوعها شرطا فى وجودها.

وعند ذلك : فلا يلزم أن يكون المؤثر فيها مقارنا لها وما ذكره من الإلزام بصفات الرب ـ تعالى ـ ، فإنما يلزم من أثبت الصفات الوجودية الزائدة على ذات الرب ـ تعالى.

ولعل المستدل فى حدوث العالم بهذه الطريقة غير قائل بها ؛ فلا يكون الإلزام لازما عليه.

وبتقدير أن يكون المستدل بها أشعريا قائلا بالصفات الزائدة الوجودية ؛ فإنما يلزمه ذلك ؛ أن لو تعين امتناع وجود واجبين فى إثبات إمكان العالم ؛ وليس كذلك علي ما تقدم.

وبتقدير تعينه طريقا فى إثبات الإمكان ، فلا يخفى أن من مذهبه حدوث كل ممكن ، وثبوت الصفات الوجودية للرب تعالى.

وإذا تعذر الجمع بين هذين [الأمرين] (١) ؛ فليس تخطئته فى أحدهما ضرورة تصويبه في الآخر أولى من العكس ؛ بل له أن يقول : أخطأت فى إثبات الصفات ، وأصبت فى حدوث الممكنات.

المسلك الثانى (٢) :

هو أن أجزاء العالم مفتقرة إلى ما يخصصها بما لها من الصفات الجائزة لها.

وكل ما كان كذلك ؛ فهو محدث ؛ فالعالم محدث.

أما المقدمة الأولى : فقد انتهج الأصحاب فيها طريقين :

الأول : أنهم قالوا : كل جسم من أجسام العالم ؛ فهو متناه ، وكل متناه فله شكل معين ، ومقدار معين ، وحيز معين.

أما المقدمة الأولى : فلما سبق تقريره.

وأما المقدمة الثانية : فلأن كل جسم متناه فلا بد له من مقدار معين ، وأن يحيط به

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) هذا المسلك سماه ابن تيمية «مسلك افتقار الاختصاص إلى مخصص» وبدأ النقل بقوله : قال الآمدي : المسلك الثان : ثم نقله بتمامه في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٣ / ٣٥١ ـ ٣٥٤) ثم علق عليه وناقشه ابتداء من ص ٣٥٤.

٣١٩

حد واحد : كالكرى ، أو حدود : كالمضلّع وهو المعنى بالشكل وأن يكون فى حيز بحيث يمكن أن يشار إليه : بأنه هاهنا ، أو هاهنا ؛ وهذا كله معلوم بالضرورة ، وكل ما له شكل ، ومقدار ، وحيز معين ؛ فلا بد له من مخصص يخصصه به.

وبرهانه : أنه ما من جسم إلا ويعلم بالضرورة ، أنه يجوز أن يكون على مقدار أكبر ، أو أصغر مما هو عليه ، أو شكل غير شكله ، وحيز غير حيزه. إما متيامنا عنه ، أو متياسرا.

فإذا كان كذلك : فلا بد / له من مخصص يخصصه بما تخصص به وإلا كان أحد الجائزين واقعا من غير مخصص ، وهو محال.

الطريق الثانى : أن جواهر العالم : إما أن تكون مجتمعة ، أو مفترقة ، أو مجتمعة ومفترقة معا ؛ أو لا مجتمعة ولا مفترقة ، أو البعض مجتمعا ، والبعض مفترقا.

لا جائز أن يقال بالاجتماع ، والافتراق معا ، ولا أنها غير مجتمعة ، ولا مفترقة معا ؛ إذ هو ظاهر الإحالة ؛ فلم يبق إلا أحد الأقسام الأخرى.

وأى قسم قدر منها ، أمكن فى العقل فرض الأجسام على خلافه ؛ فيكون ذلك جائزا لها ولا بد لها من مخصص يخصصها (١١) // ؛ لما تقدم فى الطريق الأول.

وأما بيان المقدمة الثانية : وهى أن كل مفتقر إلى المخصص محدث ؛ فهو أن المخصص لا بد وأن يكون فاعلا مختارا ، وأن يكون ما يخصصه حادثا ؛ لما سبق فى المسلك الأول :

وإذا ثبت أن أجزاء العالم من الجواهر ، والأجسام لا تخلوا عن الحادث ؛ فتكون حادثة ، وإذا كانت أجزاء العالم من الجواهر ، والأجسام حادثة ، فالأعراض كلها حادثة ؛ ضرورة عدم قيامها بغير الجواهر ، والأجسام ، والعالم لا يخرج عن الجواهر والأعراض ؛ فيكون حادثا ؛ وهو ضعيف أيضا.

إذ لقائل أن يقول : المقدمة الأولى : وإن كانت مسلمة غير أن المقدمة الثانية : وهى أن كل مفتقر إلى المخصص محدث ممنوعة وما ذكر فى تقريرها باطل ؛ بما سبق فى المسلك الأول.

__________________

(١١)/ / أول ل ٤٧ / ب.

٣٢٠