أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0326-3
الصفحات: ٤٧٠

أن يقال : الضدان كل معنيين يستحيل اجتماعهما فى محل واحد لذاتيهما من جهة واحدة.

فقولنا : معينان : احتراز عن الوجود ، والعدم والأعدام بعضها مع بعض ، والجواهر بعضها مع بعض ، والجواهر مع الأعراض والقديم مع الحادث ؛ فإنها غير متضادة.

وقولنا : ويستحيل اجتماعهما : احتراز عن الأعراض المختلفة التى ليست متضادة ؛ كما ذكرناه فى مثال السواد مع الحلاوة.

وقولنا : فى محل واحد ؛ لأن التضاد لا تحقق له عندنا دون قيام المعنيين بمحل واحد ؛ وفيه احتراز عن مذهب أكثر المعتزلة حيث أنهم لم يشترطوا فى التضاد قيام المعنيين بمحل واحد ؛ بل قالوا : إن العلم بالسواد مثلا إذا قام بجزء من القلب فإنه يضاد الجهل بالسواد ، وإن قام بجزء آخر من ذلك القلب ؛ لأنهما لو اجتمعا لوصفت الجملة بأنها عالمة بالسواد ، وجاهلة به فى حالة واحدة ؛ وهو محال. بناء على أصلهم أن الصفات التى من شرطها الحياة إذا قامت ببعض الجملة يثبت حكمها للجملة [بل زادوا على ذلك ولم يشترطوا فى بعض المتضادات ، قيامها بالمحل أصلا حيث أنهم قالوا : الإرادة الربانية فى محل] (١) مضادة للكراهية الربانية لا فى محل ، نظرا / إلى امتناع اجتماع حكميهما لله ـ تعالى ـ هو كونه مريدا لشيء واحد ، وكارها له.

ونحن سنتبين امتناع تعدى حكم الصفة عن محلها الّذي هى قائمة به ، وقد أبطلنا القول : بقيام إرادة لا فى محل فى مسائل الصفات (٢).

كيف وأنه لو قيل لهم من أصلكم أنه يستحيل الجمع بين الموت والحياة ؛ مع عدم التضاد.

فما المانع لو سلم لكم امتناع الجمع بين العلم بالسواد ، والجهل به فى جزءين من القلب.

أن يكون ذلك لا بجهة التضاد ؛ بل بضرورة امتناع اجتماع (١١) / / الحكمين كما قاله بعض المتأخرين منهم ؛ لم يجدوا إلى دفعه سبيلا.

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) راجع ما مر من الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ النوع الثانى ل ٦٥ / أوما بعدها.

(١١)/ / أول ل ٤١ / أمن النسخة ب.

٢٨١

وقولنا : لذاتيهما : احتراز عن علم الإنسان بسكونه ، مع حركته ؛ فإنهما وإن تعذر اجتماعهما ؛ فليسا متضادين ؛ لأن امتناع الجمع بينهما ، لم يكن لذاتيهما ؛ بل بواسطة ؛ وذلك لأن العلم بالسكون يلزمه السكون ، وإلا كان العلم بالشيء على خلاف ما هو عليه ، وهو ممتنع. والسكون مضاد [للحركة ؛ لاستحالة الجمع بينهما لذاتيهما ؛ فكان امتناع الجمع بين العلم بالسكون ونفس (١)] الحركة بواسطة مضادة السكون اللازم للعلم به للحركة.

فلم يكن امتناع الجمع بين العلم بالسكون ، والحركة لذاتيهما ؛ بل بواسطة ؛ فلا يكونان متضادين ، وسواء اتحد محل العلم بالسكون والحركة أو اختلف : كعلم الواحد منا بسكون غيره ، وحركة ذلك الغير ؛ فإنهما لا يجتمعان ؛ لما ذكرناه. وإن اختلف محلهما.

وعلى هذا : فلا تضاد بين العجز ، والحركة الاختيارية.

فإنّ تعذر الجمع بينهما ليس لذاتيهما ، بل بواسطة مضادة العجز للقدرة وامتناع وجود الحركة الاختيارية ؛ لعدم القدرة عليها.

فلم يكونا متضادين ، وعليك بالتنبيه لكل ما يرد من هذا القبيل.

فإن قيل : فالموت عند معظم أصحابكم ، وعلى ما قررتموه فى أضداد العلوم ؛ مضاد للعلم ، وعلى ما قررتموه فى تحقيق التضاد من استحالة الجمع بين المعنيين لذاتيهما ؛ فيمتنع أن يكون الموت ضدا للعلم.

فإنه لا مانع من أن يقال : بأن امتناع الجمع بين الموت ، والعلم لا لذاتيهما ؛ بل لفوات شرط العلم بالموت ؛ وهو الحياة كما قاله المعتزلة ، وبعض أصحابكم.

قلنا : لو امتنع التضاد بين الموت ، والعلم بناء على ما ذكروه ؛ لامتنع بذلك أيضا التضاد مطلقا ؛ وهو خلاف اجماع العقلاء ؛ وذلك لأنه ما من شيئين يقدر التضاد بينهما إلا ويمكن أن يقال : لا تضاد بينهما ، وامتناع وجود أحدهما مع الآخر ، لم يكن لتضادهما ، بل لفوات شرطه.

__________________

(١) ساقط من (أ).

٢٨٢

وهو عدم الآخر ، ولا يلزم من كون الموت ضدا للعلم والقدرة ، التضاد بين العلم ، والقدرة ؛ كما لزم التضاد بين الحمرة والصفرة / عند مضادتهما للسواد ، والبياض ؛ إذ هو تمثيل من غير جامع مؤثر.

ثم إن كان المورد له معتزليا ؛ فيلزمه أن يقول بمضادة البياض للبياض المماثل له ؛ لمضادتهما. باعترافه للسواد ، وما هو جوابه هاهنا هو جوابنا فيما نحن فيه ، وهو قولنا من جهة واحدة ؛ احترازا عن القرب ، والبعد ، والصغر ، والكبر والطول ، والقصر ، ونحو ذلك بالنسبة إلى شيئين.

فإنهما لا يتضادان ، وإن كانا فى محل واحد ، إلا بالنسبة إلى شيء واحد.

وعلى ما حققناه فى معنى التضاد ؛ فيمتنع أن يكون الفعل من حيث هو فعل ؛ ضدا لشيء ؛ لأن ذلك الشيء المضاد للفعل : إما أن يكون فعلا ، أو لا يكون فعلا. فإن كان فعلا : فإما أن يكون مضادا له من جهة كونه فعلا ، أو لا من جهة كونه فعلا.

فإن كان الأول : فهو محال ، وإلا لما اجتمع عرضان مختلفان فى محل واحد من حيث هما فعلان ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى : فكل ثابت ليس بفعل غير خارج عن ذات الله تعالى ـ وصفاته ، وهى غير مضادة للأفعال ، وإلا لما تصور وجود الأفعال معها ؛ وهو محال.

وعلى هذا أيضا : فكل ما لا يرجع إلى صفات أجناس الموجودات ؛ لا يكون موجبا للتضاد : كالأمور المستندة إلى موافقة الشرع ، ومخالفته ، وإلى الإضافات ، والاعتبارات : ككون الفعل ظلما وجورا ، وحراما وحلالا وحسنا ، وقبيحا ، إلى غير ذلك.

٢٨٣

الفصل السادس

فى أن كل عرضين متماثلين ضدان (١)

مذهب الشيخ أبى الحسن ، ومتابعيه : أن كل عرضين متماثلين كسوادين ، وبياضين ، ونحو ذلك ؛ فهما ضدان ، يمتنع اجتماعهما في محل واحد.

وأجمعت المعتزلة على خلافه إلا ما نقل عن بعضهم

أنه قال : بامتناع اجتماع حركتين متماثلتين بمحل واحد.

وقد استدل الأصحاب بمسالك.

المسلك الأول :

لو جاز قيام الأعراض المتماثلة ، بمحل واحد ؛ لأمكن قيام سوادين متماثلين بمحل واحد.

ولا شك أن وجود السوادين فى المحل ؛ يوجب كونه أسود. فعند وجود سواد آخر فيه : فإما أن يوجب له حكما ، أو لا يوجب له حكما.

فإن كان الأول : فإما أن يكون ذلك الحكم هو ما أوجبه السواد الأول ، أو غيره.

لا جائز أن يكون هو ما أوجبه السواد الأول ؛ لأن إيجاب ما أوجب ، وتحصيل ما حصل محال.

ثم لو جاز ذلك ؛ لجاز وقوع مقدور (٢) بقدرتين (١١) / / وهو خلاف الإجماع منا ومنهم.

وإن كان غيره ؛ فهو ممتنع لوجهين :

الأول : / أنه لو جاز قيام حالين متماثلين بمحل واحد ، بناء على شيئين متماثلين ؛ لجاز أن يقوم بالذات الواحدة وجودان بناء على قدرتين متماثلتين ؛ لأن الوجود عندهم حال ؛ ولم يقولوا به.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة ارجع إلى المراجع التالية :

الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص ٤٥١ وما بعدها ، والمواقف للإيجي ص ٨٣ وشرح المواقف للجرجانى ٤ / ٨٠ وما بعدها.

(٢) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ل ٢٤٣ / ب

(١١)/ / أول ل ٤١ / ب من النسخة ب.

٢٨٤

الثانى : أن ما قام به علم بشيء ، فإنه يعلم من نفسه كونه عالما به ؛ فلو قام به علم آخر بذلك الشيء مماثل للعلم الأول ، وأوجب له عالمية أخرى ؛ لكان الشخص عالما بعالميته الثانية ، فإنه من المستحيل أن يكون الإنسان عالما ، ولا يعلم كونه عالما. وإن كان الثانى : وهو أن لا يوجب لمحله حكما ، فهو ممتنع ؛ إذ يلزم منه تخلف الحكم مع وجود علته وسنبين أن العلة لا بد وأن تكون مطردة منعكسة (١).

وعلى هذا : إن قلنا : بأن كل صفة توجب لمحلها حكما ؛ فقد اطردت الدلالة فى جميع الأعراض المتماثلة.

وإن خصصنا ذلك ببعض الصفات : كصفات الحى ، والأكوان ، كما قالت المعتزلة : طردنا هذه الدلالة فيها دون غيرها ، هذا كله إذا قلنا بالأحوال ، وإلا فحاصل المسلك يرجع إلى الإلزام.

المسلك الثانى : أن من قام بنفسه علم نظرى بشيء : فإما أن يقال بجواز قيام علم آخر نظرى به ؛ فذلك الشيء مماثل للعلم الأول أو لا يقال بجوازه.

فإن كان الأول : فيلزم منه صحة القول بالنظر فى تحصيل العلم بما هو معلوم ؛ وذلك محال باتفاق العقلاء.

وإن كان الثانى : فقد قيل : بامتناع اجتماع المتماثلين فى المحل الواحد (٢) وتحصيل العلم بما هو معلوم (٢) ؛ وهو المطلوب ؛ وهو قوى جدا.

فإن قيل : وإن امتنع الجمع بين هذين العلمين ؛ فليس ذلك لذاتيهما ؛ بل لاستحالة طلب تحصيل الحاصل ؛ فلا يكون كذلك ؛ لما ذكرتموه.

قلنا : المقصود إنما هو بيان امتناع الجمع بين المثلين ، وإن لم يسم ذلك تضادا] (٣).

__________________

(١) انظر ما سيأتى في الباب الثالث ـ الأصل الثانى ـ الفصل الرابع : فى أن العلة العقلية لا بد وأن تكون مطردة منعكسة ل ١٢١ / ب وما بعدها.

(٢) (وتحصيل العلم بما هو معلوم) ساقط من ب.

(٣) ساقط من أ.

٢٨٥

المسلك الثالث :

أنهم قالوا : لو جاز قيام عرضين متماثلين فى المحل الواحد ؛ لكان المحل إذا قام به سواد واحد ، قابلا لسواد آخر ؛ فكل عرض يقبله المحل ، لا يخلو عنه ، أو عن ضده فبتقدير عدم السواد الثانى ، وجب أن لا يخلو المحل عن ضده ، وضد السواد المفروض عدمه ؛ وهو أيضا ضد السواد المفروض وجوده ويلزم من ذلك اجتماع السواد ، وضده فى محل واحد ؛ وهو محال ، غير أن هذا المسلك مبنى على القول بأن المحل إذا قبل حكما لا يعرى عنه ، أو عن ضده ، وقد أومأنا إلى إبطاله فى امتناع عرو الجواهر عن الأعراض (١).

وإن سلم ذلك غير أن المسلم امتناع / خلو ذلك المحل عن جنس ذلك العرض ، أو عن ضده ، لا عن ذلك العرض.

والمحل غير خال عن جنسه ؛ وهو السواد الآخر.

فإن قيل : ما ذكرتموه وإن دل على امتناع قيام المتماثلين بمحل واحد ؛ فهو معارض بما يدل على نقيضه.

وهو أنا قد نشاهد الجسم يغمص فى الصبغ ؛ فيعلوه كدرة (٢) ثم كهبة (٣) ، ثم سواد حالك وليس ذلك غير تضاعيف أجزاء السواد.

والجواب : أنا نمنع أن الكدرة ، والكهبة سواد ، بل هى ألوان أجزاء مضادة للسواد ، ولا يتصور بقاء الأول منها مع وجود الثانى.

__________________

(١) راجع ما مر فى الأصل الأول ـ النوع الأول ـ الفصل السابع : فى امتناع تعري الجوهر عن الأعراض وتعليل قبوله لها ل ٨ / ب.

(٢) (الكدرة) : اللون ينحو نحو السواد [المعجم الوسيط باب الكاف].

(٣) الكهبة) : الدهمة ، أو غبرة مشربة سوادا.

٢٨٦

الفصل السابع

فى تحقيق معنى الغيرين (١)

والعبارة الجامعة المانعة لذلك على أصول أصحابنا.

قول الشيخ أبى الحسن الأشعرى فى آخر قوليه (٢) ، الغيران كل موجودين تصح مفارقة أحدهما للآخر بالعدم أو الحيز (٣) وإنما قيد الحد بالموجودين : لأن المتغاير صفة إثبات على ما تقدم فى الخلافين ؛ فلا تكون صفة العدم (٣).

وإنما ردد المفارقة بين العدم والحيز ، ولم يوجب المعية بينهما ، ولم يقتصر على أحدهما ؛ لأنه لو أوجب المعية بينهما ؛ لما وقعت المغايرة مع انتفاء أحدهما ، وثبوت الآخر.

وليس كذلك ؛ فإن الأعراض المختلفة ، والمتماثلة متغايرة ؛ وهى غير متفرقة بالحيز ، بعدم تحيزها. ولو اقتصر على أحدهما فى التحديد ؛ لم يكن الرسم جامعا. ولهذا فإنه لو اقتصر على المفارقة بالعدم وقال كما قاله أولا الغيران : كل موجودين يصح عدم أحدهما مع وجود الآخر ، للزمه السؤال المشهور الوارد عليه فى هذه العبارة ، وهو أن لا تعلم المغايرة بين الأجسام بتقدير اعتقاد قدمها ؛ لاستحالة عدم القديم ؛ وليس كذلك ؛ بل المغايرة معلومة ، ولو قدر امتناع العدم عليها.

ولو اقتصر على القول : بأن الغيرين كل موجودين يصح مفارقة أحدهما للآخر فى الحيز ، لامتنع التغاير بين الأعراض ؛ لعدم تحيزها ؛ وليس كذلك.

وعلى هذا : بنى الأصحاب امتناع التغاير بين ذات القديم ، وصفاته والصفات القديمة بعضها بالنسبة إلى بعض ؛ لكونهما وجوديان يمتنع مفارقة البعض (١١) / / منهما للبعض ، لا بالعدم ضرورة قدمها ، واستحالة عدم القديم.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما ورد هاهنا : انظر الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص ٣٣٢ وما بعدها ، القول فى حقيقة الغيرين.

والمواقف للإيجي ص ٨٠ ، ٨١ ، وشرح المواقف للجرجانى ٤ / ٥١ وما بعدها.

(٢) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين ص ٣٣٢ وما بعدها.

(٣) من أوال «وإنما قيد .... إلى قوله : صفة العدم» ساقط من ب.

(١١)/ / أول ل ٤٢ / أمن النسخة ب.

٢٨٧

ولا بالتحيز ـ إذ هى غير غير متحيزة وربما زيد فى الترديد الزمان ، ولا حاجة إليه وعلى هذا : / فالغيران أعم من المثلين ، والخلافين ، متضادين أو غير متضادين.

فإن قيل : ما ذكرتموه منقوض ، ومعارض.

أما النقض : فمن ثلاثة أوجه :

الأول : النقض على أصلكم بالقدرة الحادثة مع مقدورها ، فإنهما غيران ، وليس أحدهما مفارقا للآخر لا فى العدم ؛ لضرورة وجوب اقترانهما ، ولا فى الوجود فى الحيز ؛ لعدم تحيزهما ؛ إذ هما عرضان.

الثانى : أنه ينتقض بالأعراض المتلازمة : كالأبوة ، والبنوة ، والعلية ، والمعلولية وكذلك أجناس الأعراض التى لا خلو للجوهر عنها ؛ فإنها متغايرة فإن لم تصح مفارقة بعضها لبعض لا فى العدم ، لتلازمهما ، ولا فى الحيز ؛ لعدم تحيزهما.

الثالث : أنه إذا اعتبر فى الغيرية جواز المفارقة بالعدم ، أو الحيز فيلزم أن لا يكون البارى ـ تعالى ـ مغايرا للحوادث.

وإن كانت الحوادث مغايرة له ؛ لاستحالة مفارقته لها بالعدم ضرورة وجوب وجوده وقدمه ولا بالحيز لاستحالة تحيزه.

وأما المعارضة ؛ فبحدود أخرى اختلفت فيها عبارات المعتزلة : منها : أن الغيرين هما الشيئان.

ومنها : أنهما الشيئان اللذان يجوز العمل بأحدهما ، مع الجهل بالآخر.

ومنها : الغيران ما صحت فيه عبارة التثنية (١).

ومنها : أنهما اللذان ، واللتان قامت بهما الغيرية ؛ وليس ما ذكرتموه أولى مما ذكرناه.

والجواب عن النقض الأول : أن ما قدر مقدورا بالقدرة الحادثة ؛ لا يمتنع عندنا فرض وقوعه ، لا مقدورا بها ؛ بل بغيرها مع عدمها ، وغيره مقدورا بها مع عدمه.

__________________

(١) هذا القول لأبى هاشم الجبائى ، قال الجوينى فى الشامل ص ٣٣٣ «وقال أبو هاشم فى بعض مقالاته : الغيران : كل ما صحت فيه عبارة التثنية».

٢٨٨

وعن النقض الثانى : أما الأمور المتضايفة : كالأبوة ، والبنوة والعلية ، والمعلولية ، ونحوها.

فليست عندنا أمورا وجودية ؛ بل وهمية على ما سبق تقريره والمتغايران وجوديان.

وأما الأعراض الملازمة للجوهر : فما من عرض منها وجد مع غيره إلا ويجوز تقدير وجوده مع عدم ذلك الغير ، ووجود غيره.

وعن الثالث : أنا لم نشترط فى الغيرين جواز مفارقة كل واحد منهما للآخر بعدمه ، أو لحيزه ؛ ليلزم ما قيل (١).

وعن المعارضة :

أما القول بأن الغيرين (٢) هما الشيئان : فلا يخفى أن كل واحد من الغيرين يصح أن يقال له غير.

فلو كان مفهوم الغيرين الشيئين ؛ لكان مفهوم كل واحد من الغيرين هو الشيء ؛ وليس كذلك.

وبيانه : أن كل واحد من الغيرين يصح أن يقال له إنه غير الآخر ولا يصح أن يقال لكل واحد من الشيئين أنه شيء للآخر وفيه دقة / فليتأمل ، وليقتنع به عما طول به بعض الأصحاب ، وهو مدخول لا تثبت له.

وأما القول : بأن العرض (٢) ما صحت فيه عبارة التثنية ؛ فباطل بالاعدام المضافة.

فإنه يصح فيها عبارة التثنية ، والجمع فيقال : عدمان وإعدام ، وليست متغايرة بالإجماع منا ، ومنهم لعدم شيئيتها.

وأما القول : بأن الغيرين هما اللذان ، واللتان قامت بهما الغيرية فمبنى على القول : بالأحوال ؛ وهو محال على ما يأتى (٣).

__________________

(١) قارن بما ورد فى الشامل ص ٣٣٣ وما بعدها.

(٢) من أول «هما الشيئان ... إلى قوله : بأن العرض» ساقط من ب.

(٣) راجع ما سيأتى فى الباب الثالث ـ الأصل الأول : فى الأحوال ل ١١٤ / أوما بعدها.

٢٨٩

وأما القول : بأن الغيرين هما الشيئان اللذان يصح العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر ؛ فباطل بالمتضايفين الحقيقيين ؛ فإنهما (١) غيران (١) ؛ ولا يصح العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر.

وبالجملة : فالنزاع فى الغيرين ، والخلافين ، والمثلين ، والضدين من حيث أن كل واحد من الخصمين يفسر اللفظ المتنازع فيه. بمعنى غير معنى الآخر ، بل إلى الاصطلاح اللفظى ، ولا حظ له من المعنى ، ولا هو من الأمور القطعية والقضايا اليقينية.

__________________

(١) (فانهما غيران) ساقط من ب.

٢٩٠

الفصل الثامن

فى معنى المتقدم والمتأخر ومعا (١)

أما المتقدم : فقد قالت الفلاسفة : لا يخرج عن خمسة أقسام (٢) وهى :

المتقدم بالذات ، والمتقدم بالطبع ، والمتقدم بالشرف والمتقدم بالرتبة ، والمتقدم بالزمان.

أما المتقدم بالذات :

وهو المتقدم بالعلية (٣) : فهو إما فاعل ، أو مادة ، أو صورة ، أو غاية.

أما الفاعل : فهو ما وجود غيره مستفاد من وجوده ؛ ووجوده غير مستفاد من ذلك الغير.

وهو إما أن يكون فاعلا لذاته ، أو لصفة زائدة على ذاته.

فإن كان الأول : فيسمى الفاعل بالطبع.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة راجع ما يلى :

الملل والنحل للشهرستانى ٢ / ١٧٩ المسألة الرابعة : فى المتقدم والمتأخر. والمواقف للإيجي ص ١٧٩. وشرح المواقف للجرجانى ٦ / ٢٧٨ ـ ٢٨٤ وشرح مطالع الانظار للأصفهانى ص ١٠٨.

(٢) وقد جمعها بعض العلماء في بيتين من الشعر فقال :

وخمسة أنواع التقدم يا فتى

أقربها بيت من الشعر واعترف

تقدم طبع والزمان وعلة

ورتبة أيضا والتقدم بالشرف

[توضيح حاشية الباجورى على السلم فى المنطق تحقيق الدكتور أحمد المهدى ص ٢٥].

(٣) وقد عرف الآمدي المتقدم بالعلية فقال : «أما المتقدم بالعلية : فعبارة عما وجود غيره مستفاد من وجوده ، ووجوده غير مستفاد من ذلك الغير ولكنه لا يكون إلا معه فى الوجود : كحركة اليد بالنسبة إلى حركة الخاتم». ثم عرف العلة فقال : «وأما العلة : فقد تطلق ويراد بها العلة الفاعلية ، أو العلة المادية أو العلة الصورية ، أو العلة الغائية.

فأما العلة الفاعلية : فعبارة عما وجود غيره مستفاد من وجوده ووجوده غير مستفاد من وجود ذلك الغير : كالنجار بالنسبة إلى السرير ، وأما العلة المادية : فقد عرفناها من قبل ؛ وهى كالخشب بالنسبة إلى السرير فإن كانت لم تقترن بها الصورة الممكنة لها ؛ سميت إذ ذاك موضوعا. وأما الصورة : فقد بيناها من قبل ؛ وهى بمنزلة شكل السرير بالنسبة إلى السرير» [المبين فى شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين لسيف الدين الآمدي ص ١١٦ ـ ١١٨].

٢٩١

وهو منقسم إلى ما لا يتصور تأخر معلوله عنه فى (١) الوجود (١). وإلى ما يتصور فالأول : كما فى حركة اليد مع حركة الخاتم ؛ فإنهما وإن وجدا معا ؛ فنعلم أن حركة الخاتم ، مستفادة من حركة اليد.

ولهذا يصح أن يقال : تحركت اليد ؛ فتحرك الخاتم ، ولا يقال تحرك الخاتم ؛ فتحركت اليد.

ولأن المبدأ المحرك إنما هو فى اليد. لا فى الخاتم ، وحركة اليد فى مكانها ، وإن كان موقوفا على حركة الخاتم عن مكانها ؛ لاستحالة التداخل (٢) بين الأجسام.

فليس مما يوجب جعل حركة الخاتم ، علة لحركة اليد ، لما علم أن مبدأ الحركة ؛ إنما هو فى اليد ؛ فهو تحرك اليد والخاتم معا فى الوجود ؛ لكن اليد أولا بالذات ، والخاتم بواسطة حركة اليد.

فحركة اليد علة متوسطة ، بين المبدأ المحرك ، وبين حركة الخاتم.

وأما الثانى : فإنما يكون عند ما إذا كان المعلول ماديا. والمادة غير متهيئة بعد لقبوله.

وذلك كما فى الصور الجوهرية ، والنفوس الإنسانية ، الصادرة عن العقل الفعال الموجود مع جرم فلك القمر عند / تهيؤ المادة لقبوله ، ووجود الشرائط وانتفاء الموانع ؛ فلا بد من صدور معلوله عنه.

وأما إن كان فاعلا لصفة زائدة على ذاته ؛ فهو الفاعل بالقدرة والاختيار ، وهذا الفاعل مما لا يمتنع تأخر معلوله عنه. وإن قدر عدم التوقف على أمر خارج عنه وذلك كالبناء بالنسبة للحائط ، والنجار بالنسبة إلى السرير ، ونحوه.

وأما المادى : فكالخشب بالنسبة إلى السرير.

والصورى : فكشكل السرير بالنسبة إليه وأما الغاية فكالانتفاع بالسرير.

__________________

(١) (فى الوجود) ساقط من ب.

(٢) راجع ما مر ل ٦ / ب الفصل الخامس : فى أن الجواهر لا تتداخل.

(١١)/ / أول ل ٤٢ / ب.

٢٩٢

فإنه وإن كان متأخرا عن السرير فى الوجود العينى ؛ فلا بد وأن يكون متقدما بالذات فى الوجود العقلى.

وأما المتقدم بالطبع (١) :

فهو ما لا يتم وجود غيره دون وجوده ، ووجوده غير متوقف على ذلك الغير ، ولا هو علة لذلك الغير بأحد الأقسام السابقة ، وبه يفارق القسم الأول : وذلك كالواحد بالنسبة إلى الاثنين ونحوه.

وأما المتقدم بالشرف (٢) :

فهو ما تقدمه على غيره لاختصاصه

إما بأصل وفضيلة ، لا وجود لها فى ذلك الغير : كتقدم الإنسان بالنطق على غيره من الحيوانات العجماوات.

أو بزيادة فى تلك الفضيلة : كتقدم الأعلم ، على العالم ، ونحوه.

وأما المتقدم بالرتبة (٣) :

فهو ما كان أقرب إلى مبدأ محدود من غيره.

إما عقلا : كتقدم النوع على الشخص بالنسبة إلى الجنس

وإما حسيا : كتقدم الإمام على من خلفه من المأمومين بالنسبة إلى المحراب.

__________________

(١) التقدم الطبعى : هو كون الشيء الّذي لا يمكن أن يوجد آخرا إلا وهو موجود ، وقد يمكن أن يوجد هو ، ولا يكون الشيء الآخر موجودا ، وأن لا يكون المتقدم علة للمتأخر.

فالمحتاج إليه إن استقل بتحصيل المحتاج كان متقدما عليه تقدما بالعلة ، كتقدم حركة اليد على حركة المفتاح ، وإن لم يستقل بذلك كان متقدما عليه تقدما بالطبع ، كتقدم الواحد على الاثنين ، فإن الاثنين يتوقف على الواحد ، ولا يكون الواحد مؤثرا فيه [كتاب التعريفات للجرجانى ص ٧١].

(٢) وقد عرفه الآمدي فقال : «وأما المتقدم بالشرف : فهو اختصاص أحد الشيئين على الآخر بكمال لا وجود له فيه :

كتقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على العالم. (المبين ص ١١٧).

(٣) وقد عرفه الآمدي فقال : «وأما المتقدم بالرتبة : فعبارة عما كان أقرب إلى مبدأ محدود من غيره : كتقدم الإمام على المأموم بالنسبة إلى المحراب. وعلى هذا تكون أقسام المتأخر ومعا».

[المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدى ص ١١٧].

٢٩٣

وأما المتقدم بالزمان (١) :

فهو ما كان زمانه قبل زمان غيره : كتقدم موسى على عيسى ونحوه ، فهذه أقسام المتقدم ، وعلى نحوه أقسام المتأخر ، ومعا.

[(٢) وكل رتبة من هذه الرتب] فما كان منها أصلا لا يتصور أن يكون مع ولا بعد من تلك الرتبة بالنسبة إلى شيء واحد فما كان متقدما بالذات على غيره ؛ لا يكون مع ذلك الغير بالذات ، ولا متأخرا عنه.

وعلى هذا فى جميع الأقسام.

ولا يمتنع اجتماعها ، أو اجتماع جملة منها فى شيء واحد بالنسبة إلى شيء واحد : كالبناء بالنسبة للحائط.

فإنه متقدم عليه بالعلية ، والزمان ، والشرف ، والرتبة بالنسبة إلى العلة الأولى.

وقد يتفق أن ما كان متقدما على شيء ، متأخرا عنه بالنظر إلى جهة أخرى بأن يكون مثلا متقدما على شيء بالشرف ، وهو متأخر عنه بالرتبة وعلى (٣) هذا النحو (٣).

وربما أثبتوا الحصر فى الأقسام الخمسة بقولهم :

ما وصف بكونه متقدما : إما أن يتوقف وجود المتأخر عليه ، أو لا يتوقف.

فإن توقف وجود المتأخر عليه / فالمتقدم إما أن يكون علة للمتأخر ، أو لا يكون علة له.

فإن كان الأول : فهو المتقدم بالعلية.

وإن كان الثانى : فهو المتقدم بالطبع.

وإن كان المتأخر لا يتوقف وجوده ، على وجود المتقدم. فتقدم المتقدم : إما أن يكون بالنظر إلى كمال له ، أو لا.

فإن كان الأول : فهو المتقدم بالشرف.

__________________

(١) وقد عرفه الآمدي فقال : وأما المتقدم بالزمان : فما بينه وبين غيره فى الوجود إمكان قطع مسافة : وهو قبلى : كتقدم موسى على عيسى ـ عليهما‌السلام ـ (المبين ص ١١٧).

(٢) ساقط من أ.

(٣) (وعلى هذا النحو) ساقط من ب.

٢٩٤

وإن كان الثانى : فإما أن يكون تقدمه بالنظر إلي مبدأ محدود ، أو لا؟

فإن كان الأول : فهو المتقدم بالرتبة.

وإن كان الثانى : فهو المتقدم بالزمان.

هذا ما قالوه.

وأما نحن فنقول : لا ننازع فيما ذكروه من الحصر ، والقسمة إلى اخرها وإنما ننازع فى تفسير القسم الأخير بالمتقدم بالزمان فقط ؛ فإنه يدخل فيه تقدم الزمان على الزمان : كتقدم الزمن الماضى على الزمن الحالى.

وليس تقدم الماضى منه على الحال بالعلية.

إذ الماضى معدوم مع الحاضر ، والمعدوم لا يكون علة للموجود ، ولا بالطبع فإن الحاضر غير متوقف فى وجوده على وجود الماضى.

ولهذا : فإنا لو قدرنا وجود الزمن الحاضر غير مسبوق بزمن سابق ؛ لم يكن ذلك ممتنعا بالنظر إلى وجود الحاضر.

ولا بالشرف : إذ الأزمنة متشابهة ، وليس البعض منها أكمل من البعض.

ولا بالرتبة : ولهذا فإنا لو فرضنا عدم مبدأ آخر يكون للزمن الماضى أقرب إليه من الزمن الحالى ؛ لما خرج عن أن يكون متقدما على الزمن الحالى.

ولا بالزمان ؛ لأن المتقدم بالزمان (١١) / / ما كان وجوده فى الزمان أقدم من زمان وجود غيره.

فلو كان الزمان متقدما بالزمان ؛ لكان الزمان فى زمان ، وهو محال لوجهين.

الأول : أن الأزمنة متشابهة ، وليس جعل أحد الزمنين فى الآخر ، أولى من العكس.

الثانى : هو أن الزمان الّذي فيه الزمان : إما أن يكون فى زمان ، أو لا يكون فى زمان.

__________________

(١١)/ / أول ل ٤٣ / أمن النسخة ب.

٢٩٥

فإن كان الأول (١) : لزم التسلسل ، أو الدور ؛ وهو محال.

وإن لم يكن فى زمان : فليس أحد الزمانين بأن يكون فى زمان دون الآخر ؛ أولى من العكس ؛ ضرورة التشابه ، واتحاد النوع كيف وفيه تسليم المطلوب؟

فإذن الزمان متقدم على الزمان ؛ لا بأحد الأقسام الخمسة ؛ فهو قسم سادس وهو المتقدم بالوجود ، وليس مع بالوجود. وعليك بمراعاة هذا التقسيم واعتباره ؛ فإنه أصل عظيم ، وعليه مدار أكثر الكلام فى حدوث العالم ، كما ستعرفه بعد (٢).

ثم إن سلمنا الحصر فيما ذكروه جدلا ؛ ولكن لا نسلم أن المتقدم بالعلية يمكن أن يكون طبيعيا ؛ على ما أسلفناه (٣).

وإن سلمنا إمكان كونه طبيعيا ؛ فلا نسلم إمكان وجود المعلول مع وجوده ؛ / فإن وجود المعلول مترتب على وجود العلة ، والمترتب وجوده على وجود غيره ، يجب أن يكون متأخرا عنه فى الوجود.

ولهذا يصح أن يقال : وجدت العلة ؛ فوجد المعلول والفاء فى اللغة للترتيب ؛ لا للمعية.

وأما حركة الخاتم : وإن كانت موجودة مع حركة اليد ؛ فلا نسلم أن حركة اليد علة لها ؛ بل هما معلولان لعلة خارجة عنهما ، وإن تلازما فى الوجود : إما عادة : كملازمة الحرارة بالنار. أو اشتراطا : كملازمة الحياة للعلم ، ونحوه.

__________________

(١) فى ب (فى زمان).

(٢) انظر ما سيأتى فى الأصل الرابع : فى حدوث العالم ل ٨٢ / ب.

(٣) راجع ما مر فى أول الفصل ل ٨١ / أوما بعدها.

٢٩٦

الأصل الرابع

فى حدوث العالم (١)

وقبل الخوض فى الحجاج ، نفيا وإثباتا.

لا بد من تحقيق معنى العالم ، والقديم ، والحادث ؛ ليكون التوارد بالنفى والإثبات ، على محز واحد ، ولأن قول القائل : العالم قديم ، أو محدث ، قضية تصديقية يتوقف الحكم بها على تصور مفرداتها.

ومفرداتها غير خارجة عن العالم ، والقديم ، والحادث ، فوجب أن تكون متصورة أولا.

أما العالم : فإنه وإن أطلق على جملة من المخلوقات كما يقال : العالم العلوى ، والعالم السفلى ، وعالم الحيوانات ، وعالم الجمادات ونحوه.

ففى مصطلح المتكلمين : إنما يراد به كل موجود غير الله ـ تعالى ـ لا كل واحد واحد ، بل الكل جملة.

وعلى هذا : فالمعدومات ، والأحوال ، والصفات الوجودية للرب ـ تعالى ـ غير داخلة فيه.

أما المعدومات (٢) ، والأحوال (٣) : فلكونها غير موجودة.

وأما الصفات الوجودية للرب ـ تعالى ـ فلأنها ليست غير الله ـ تعالى ـ على ما تقدم (٤).

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة : انظر التمهيد للإمام الباقلانى ص ٤٤ والشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين ص ١٠٥ وما بعدها ، ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٥ وما بعدها ، وأصول الدين للبغدادى الأصل الثانى : فى بيان حدوث العالم ص ٣٣ وما بعدها ومن كتب المعتزلة : شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ١١٣ وما بعدها.

(٢) عن المعدومات : انظر ما سيأتى فى الباب الثانى : فى المعدوم وأحكامه ل ١٠٦ / ب وما بعدها.

(٣) وعن الأحوال : انظر ما سيأتى فى الباب الثالث ـ الأصل الأول : فى الأحوال ١١٤ / أوما بعدها.

(٤) وأما الصفات الوجودية للرب ـ تعالى ـ فانظر ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الثانى ل ٥٣ / ب وما بعدها.

٢٩٧

والمعدومات الممكنة ، وإن كانت عند المعتزلة ذوات ثابتة فى القدم ، فى حالة العدم.

فليست عندهم من العالم ، وإلا كان العالم قديما ؛ ولم يقولوا به. ومن جعل الأحوال المتجددة من العالم ؛ لزمه أن يقول فى رسم العالم : كل ثابت متجدد.

فإنه يدخل فيه مع الموجودات ، الأحوال ؛ لعموم الثبوت للكل ، ويخرج عنه الذوات الثابتة فى العدم ؛ على رأى المعتزلة ؛ إذ هى غير متجددة.

وإذا عرف معنى العالم فى المصطلح ؛ فقد بينا أقسامه من الجواهر والأعراض على الرأى الإسلامى ، والفلسفى فى القسم الثانى من الكتاب ، ونبهنا على ما فيها من المزيف ، والمختار (١).

وأما القديم فقد اختلف المتكلمون فيه : فذهب معمر (٢) ، وعباد الصيمرى (٣) ، إلى أن القديم من أسماء الإضافة ، وكذلك الحادث (٤).

وأنه لا يعقل القديم إلا بالنسبة إلى الحادث ، ولا الحادث إلا بالنسبة إلى القديم.

حتى أن البارى ـ تعالى ـ لا يوصف بكونه قديما قبل حدوث / الحوادث ولا المصحح للوجود يوصف بكونه حادثا ، إلا بالنسبة إلى سبق القديم عليه ؛ وهو باطل.

فإنا إذا فرضنا موجودا طالت مدته ، وقطعنا النظر عن حادث آخر ؛ وجد بعد العدم ؛ فالقول : بتوقف قدمه ، على حدوث الحادث : إما بمعنى أنه لا دوام لمدته دون حدوث الحادث ، أو بمعنى أنه لا يطلق عليه اسم القديم لغة ، دون حدوث الحادث.

فإن كان الأول : فهو خلاف المعقول ، والمحسوس.

__________________

(١) راجع ما مر فى آخر الجزء الأول ـ القسم الثانى ـ فى الموجود الممكن الوجود ل ٣٠٠ / أوما بعدها.

(٢) سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل ١٨٢ / ب.

(٣) سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل ٦٤ / ب.

(٤) عرف الآمدي القديم والحادث فقال : «أما القديم : فقد يطلق على ما لا علة لوجوده : كالبارى ـ تعالى ـ وعلى ما لا أول لوجوده ، وإن كان مفتقرا إلى علة : كالعالم على أصل الحكيم».

وأما الحادث : فقد يطلق ويراد به ما يفتقر إلى العلة وإن كان غير مسبوق بالعدم : كالعالم. وعلى ما لوجوده أول وهو مسبوق بالعدم فعلى هذا : العالم إن سمى عندهم قديما ؛ فباعتبار أنه غير مسبوق بالعدم وإن سمى حادثا :

فباعتبار أنه مفتقر إلى العلة فى وجوده.

(المبين للآمدى ١١٨. ١١٩).

٢٩٨

وإن كان الثانى : فلا بد من نقله بطريقة عن أهل اللغة ؛ (١١) / / وهو غير مسلم.

ولو ساغ ذلك من غير نقل ؛ لما امتنع القول : بأن الحى مضايف ، للميت ، والعالم مضايف للجاهل ، ونحوه ، وليس كذلك. كيف : والنقل على خلاف ذلك؟

ولهذا يصح أن يقال : لغة لما عتق ، وطالت مدته ؛ قديما وإن قطع النظر عن غيره.

ومنه قولهم : دار قديمة ، وبناء قديم : إذا كان عتيقا طويل المدة ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (١) وقوله تعالى : (هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) (٢).

وذهب الجبائى : ومتبعوه إلى أن القديم : هو الإله ـ تعالى ـ وأن القدم أخص وصف الإله ـ تعالى ـ وأن حقيقة الإله قدمه (٣).

ولا يتصور أن يكون غيره قديما ، وإلا كان إلها ؛ وهو محال. وهذا أيضا باطل من خمسة أوجه.

الأول : ما أسلفناه فى الصفات (٤).

الثانى : هو أن الإله تعالى ذات ، ووجود بالإجماع ، وبما دل عليه الدليل ، فيما سبق (٥). والقدم ؛ فراجع إلى سلب الأولية.

فيمتنع أن يكون هو نفس حقيقة الإله تعالى.

الثالث : أنه لو كانت الإلهية هى نفس القدم ، لتجارت اللفظتان مجرى واحد فى الإضافة ، وحسن أن يقال : قديم الخلق. كما يقال له الخلق ؛ وهو محال.

[ويمكن أن يقال : إنما لم يتفقا فى الإضافة نظرا إلى لفظيهما ، لا إلى معنييهما] (٦).

__________________

(١١)/ / أول ل ٤١ / ب من النسخة ب.

(١) سورة يس ٣٦ / ٣٩.

(٢) سورة الأحقاف ٤٦ / ١١.

(٣) انظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ١٢٨ ، ١٢٩.

(٤) راجع ما سبق فى الجزء الأولى ـ القاعدة الرابعة ـ النوع الثانى : فى الصفات النفسانية لذات واجب الوجود ل ٥٤ / أوما بعدها.

(٥) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ النوع الأول : فى إثبات واجب الوجود بذاته وبيان حقيقته ووجوده ل ٤١ / أوما بعدها.

(٦) ساقط من (أ).

٢٩٩

الرابع : أنه لو كان مدلول اسم الإله ، والقديم واحدا ؛ لكان من اعتقد كون العالم قديما ؛ معتقدا كونه إلها ؛ وهو محال.

الخامس : أنه لو كان القدم أخص وصف الإله ـ تعالى ـ للزم على أصلهم أن يكون القديم مخالفا للحادث بأخص وصفه ؛ وهو القدم.

ولا بد وأن يكون الحادث مخالفا له أيضا ؛ لأن ما خالف شيئا ؛ فذلك الشيء مخالف له أيضا.

ويلزم من ذلك أن يكون الحادث ، مخالفا للقديم بحدوثه كما كان القديم مخالفا للحادث بقدمه ، ويلزم أن يكون الحدوث أخص وصف للحادث ، كما كان القدم أخص وصف القديم.

ويلزم من ذلك تماثل جميع الحوادث ؛ ضرورة اشتراكها فى الوصف الأخص وهو الحدوث ؛ وهو / محال.

وهذا المحال إنما لزم من القول بأن القدم أخص وصف الإله ـ تعالى ؛ فهو محال.

ولا يمكن أن يقال بأن مخالفة الجوهر الحادث للقديم يقال بكونه جوهرا ؛ لا حادثا ؛ لأنه يلزم منه أن من اعتقد قدم بعض الجواهر ، وحدوث البعض أن لا يحكم بالاختلاف بين القديم ، والحادث منها ، ضرورة التماثل فى الجوهرية ؛ وهو محال.

ولا الاختلاف بين الإله ـ تعالى ـ والجوهر القديم ؛ ضرورة اشتراكهما في أخص وصف الإله ـ تعالى.

وذهبت الفلاسفة ، وبعض قدماء أصحابنا : إلى أن القديم هو الموجود الّذي لا أول لوجوده ؛ وهو مدخول من وجهين : الأول : أن القديم (١) قد يطلق حقيقة على الوجود والعدم ، فإن الحوادث الموجودة فى وقتنا هذا معدومة فى الأزل وعدمها قديم أزلى.

وإذا كان كذلك فالقول : بأن القديم هو الموجود الّذي لا أول له ؛ لا يكون جامعا.

الثانى : وإن كان القديم مختصا بالوجود ، إلا أنه أيضا غير جامع. فإن القديم قد يطلق أيضا على ما عتق ، وطالت مدته بطريق المبالغة بدليل ما ذكروه من الإطلاقات ، والنصوص والأصل فى الإطلاق الحقيقة.

__________________

(١) عرف الآمدي القديم فقال : «وأما القديم : فقد يطلق على ما لا علة لوجوده ؛ كالبارى ـ تعالى.

وعلى ما لا أول لوجوده ؛ وإن كان مفتقرا إلى علة : كالعالم على أصل الحكيم» [المبين للآمدى ص ١١٩].

٣٠٠