أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0326-3
الصفحات: ٤٧٠

إذا التفرقة من غير دليل ؛ تحكم لا حاصل له.

فإن قيل : يلزم من حصول الحال بالفاعل محال ؛ وما لزم عنه المحال ؛ فهو محال ؛ وبيان لزوم المحال من وجهين :

الأول : أنه لو أحدث الله ـ تعالى ـ شيئا ، فعند حدوثه : إما أن يكون عالما بحدوثه أو غير عالم بحدوثه.

الثانى : محال وإلا كان البارى تعالى ـ جاهلا بحدوث الحوادث ؛ وهو محال وإن كان عالما بحدوثه : فإما أن يكون عالما بحدوثه قبل وقت حدوثه كما قالت السالمية (١) : أنه ـ تعالى ـ كان عالما فى الأزل بأن العالم موجود قبل وقت وجوده لو لم يكن.

الأول : محال فإنه يلزم من كون الرب ـ تعالى ـ عالما بحدوث ما ليس بحادث أن يكون أيضا جاهلا ؛ لكونه عالما بالشيء على خلاف ما هو عليه.

ويلزم من ذلك أن تكون عالميته بكونه حادثا متجددة ، بتجدد الحدوث.

وعند ذلك : إما أن يقال بحصولها بالفاعل ، أو لا يقال به.

لا جائز أن يقال بالأول : وإلا كانت عالمية الرب ـ تعالى ـ مخلوقة له ؛ وهو محال باتفاق المسلمين.

والثانى : يوجب أن لا تكون الأحوال حاصلة بالفاعل ؛ وهو خلاف الفرض.

أو أن يقال : بحصول بعض الأحوال بالفاعل دون البعض ؛ وهو تحكم لا حاصل له ؛ / وهو أيضا محال.

الوجه الثانى :

فى بيان لزوم المحال : أنه إذا جاز وقوع الأحوال بالفاعل ، أمكن أن يكون كون المتحرك متحركا حاصل بالفاعل ، ولا حاجة إلى الحركة وذلك يجر إلى إبطال القول بالأعراض ، وإبطال الأعراض ؛ يجر إلى إبطال القول بحدوث العالم ؛ وهو محال.

__________________

(١) السالمية : سبق الحديث عن هذه الفرقة فى هامش ل ١٢٣ / أمن الجزء الأول.

٢٦١

وهذه المحالات : إنما لزمت من كون الأحوال حاصلة بالفاعل ؛ فيكون محالا.

قلنا : أما الإشكال الأول : فمندفع لوجهين :

الأول : أنا بينا فيما تقدم من الصفات أن علم الله ـ تعالى ـ قديم (١) أزلى (١) وأنه متعلق بالمعلومات المتجددة المختلفة من غير تجدد فيه ، ولا اختلاف ؛ وعالمية الرب ـ تعالى ـ حكم لعلمه.

فكما لم يلزم ذلك فى علمه ؛ لم يلزم فى عالميته.

الثانى : أن ما ذكروه لازم عليهم حيث قالوا : إن القدرة لا تؤثر فى الذوات ؛ إذ هى قديمة فى حالة العدم. وإنما تؤثر فى الوجود والوجود عندهم صفة حال ؛ إذ لا ثبوت له قبل الحدوث.

وعند ذلك : فما هو جواب لهم فى حصول الوجود بالفاعل مع كونه حالا ؛ فهو جواب لنا.

وأما الإشكال الثانى : ففيه جوابان أيضا.

الأول : أن ما ذكروه ؛ إنما يلزم أن لو قيل الفاعل يؤثر فى الحال مطلقا ، وليس كذلك ، بل إنما يؤثر فى الحال دون الذات عند تأثيره فى إثبات الرابطة التى هى علة لها ؛ ولا يمتنع أن يكون تأثير الفاعل فيها مشروطا بتأثيره فى الذات ؛ لاستحالة ثبوت الحال ، دون الذات التى هى علة لها.

الثانى : أنه يلزمهم ما ألزمناه ، عليهم فى الإشكال الأول.

__________________

(١) (قديم أزلى) ساقط من ب.

٢٦٢

الفصل الثانى

فى تحقيق معنى التماثل والمثلين ، وإثبات ذلك على منكريه (١)

وقد ذهب بعض المتكلمين إلى امتناع تحقق التماثل بين شيئين أصلا محتجا على ذلك بأن كل شيئين : إما أن يتفقا من كل وجه ، أو يفترقا من كل وجه ، أو يتفقا من وجه ، ويفترقا من وجه.

فإن كان الأول : فلا تعدد ، ولا تمايز.

وإن كان الثانى والثالث : فلا مماثلة ؛ لأن المماثلة مع التباين محال ، وخالفه فى ذلك جماعة العقلاء من الأشاعرة ، والمعتزلة ، وغيرهم من الطوائف ، ثم اختلف القائلون بالتماثل فى العبارات الدالة على معنى المثلين.

أما أصحابنا : فالمثلان عندهم : عبارة عن كل موجودين مشتركين فى الصفات النفسية.

ومن لوازم الاشتراك فى الصفات النفسية بين كل شيئين مشاركة كل واحد منهما للآخر فيما يجب له ، ويجوز عليه ، ويمتنع ولا جرم قال : بعض الأصحاب (٢) : المثلان كل شيئين يسد أحدهما مسد الآخر فيما / يجب ، ويجوز من الصفات.

وقال آخر : المثلان هما الموجودان اللذان يجب لأحدهما ما يجب للآخر ، ويجوز عليه ما يجوز عليه ، ويمتنع عليه ، ما يمتنع عليه (٣) وعلى هذا : فمن قال من أصحابنا بعود الصفات النفسية إلى نفس الذات لا إلى معنى زائد عليها على ما عرف.

قال : التماثل بين الذوات لأنفسها (١١) / / وذواتها ؛ غير معلل بأمر زائد عليها.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما أورده الآمدي هاهنا.

انظر الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص ٢٩٢ وما بعدها ، والمواقف للإيجي ص ٨٢ وشرح المواقف للجرجانى ٤ / ٨٠ وما بعدها.

(٢) هو إمام الحرمين الجوينى. انظر الشامل ص ٢٩٢.

(٣) انظر المصدر السابق.

(١١)/ / أول ل ٣٨ / أمن النسخة ب.

٢٦٣

ومن قال بعود الصفات النفسية إلى الأحوال اللازمة : كالقاضى (١) أبى بكر ، فقد تردد فى التماثل : هل هو حال زائد على ما للذوات من الأحوال اللازمة من صفات الأجناس ، أم لا؟

فقال تارة : إنه غير زائد عليها ؛ لأنه لو كان زائدا عليها : فإما أن يكون ثابتا للواحد من الذوات بتقدير أن لا يخلق غيره ، أو لا يكون ثابتا له إلا بتقدير خلق غيره من الذوات المشاركة فى الصفات النفسية.

الأول : محال ؛ فإن الشيء لا يماثل نفسه ، وإنما يماثل غيره ، ولا غير.

والثانى : يلزم منه خلو الذات عن الحال الثابت لها من غير معنى ؛ وهو خلاف المتفق عليه.

وقال تارة : إنه لا يمتنع كونه زائدا عليها ، ويكون ثابتا لكل واحد من آحاد الذوات بتقدير انفراده.

وإن لم يتم تماثلها إلا بتقدير وجود ما يشاركه فى صفاته النفسية [فإنا وإن أعدنا التماثل إلى الصفات النفسية (٢)] ؛ فلا بد من تقرير هذا المعنى فيه.

فإن ما ليس من الصفات النفسية لا يختلف ، كان ذلك مفردا ، أو مع غيره ، ومع ذلك فإنه لا يطلق عليه التماثل بتقدير انفراده بالنظر إلى ما له من الصفات النفسية ؛ دون وجود ما يشاركه فيها.

وإذا أمكن ذلك بتقدير عود التماثل إلى الصفات النفسية ؛ أمكن مثله بتقدير أن يكون التماثل زائدا عليها.

وعلى هذا قال : إن أعدنا التماثل إلى صفات الأجناس امتنع تعليله ؛ لأن صفات الأجناس : ككون الجوهر جوهرا والسواد سواد ، غير معلل بالاتفاق ؛ وعلى ما سيأتى تحقيقه فيما بعد (٣). وإن أعدنا التماثل إلى أمر زائد ، على صفات الأجناس ، ففى تعليله تردد هذا :

__________________

(١) انظر الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص ٢٩٣.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) انظر ما سيأتى فى الباب الثالث ـ الأصل الثانى ـ الفصل الثامن ـ فيما يعلل وما يعلل ل ١٢٥ / ب وما بعدها.

٢٦٤

وأما نحن فنقول : الأشبه بالتفريع على القول بالأحوال ، أن لا يكون التماثل زائدا على صفات الأجناس.

فإن إثبات ما لم يدل الدليل عليه ، ولا العلم به ضرورى ؛ ممتنع ، وبتقدير أن يكون زائدا على صفات الأجناس ؛ فالأشبه أن يكون معللا بها وإذا عرف معنى التماثل ، وأنه اشتراك الموجودين فى الصفات النفسية ؛ فليس من ضرورة ذلك الاشتراك فى كل ما يعرض من / الصفات الخارجة عنها. [وعلى كلا التفسيرين (١)] فقد بطل معتمد المنكرين للتماثل.

وإذ أتينا على ما أردناه من تحقيق مذهب أهل الحق فى التماثل ؛ فلا بد من الإشارة إلى أقوال المعتزلة فى ذلك ، والتتبع لها ؛ وقد اختلفت عباراتهم فيه :

فقال ابن الجبائى (٢) ، وأكثر المعتزلة : المثلان هما المجتمعان فى أخص أوصاف النفس ، وأجمع هؤلاء على أن الاجتماع فى الأخص ، موجب للاجتماع فى سائر صفات النفس ، التى ثبتت لا لمعنى.

وقال الجبائى : المثلان هما المستويان فى صفة النفس.

وقال النجار : المثلان هما المجتمعان فى صفة من صفات الإثبات إذا لم يكن أحدهما بالتالى وهذه الأقوال كلها مدخولة.

أما قول من قال : المثلان هما المجتمعان فى أخص أوصاف النفس ، فهو باطل من أربعة أوجه.

الأول : أنه مبنى على القول بالأحوال ، وأن النفس لها صفات خاصة ، وعامة حالية وسيأتى ابطاله (٣).

الثانى : وإن سلمنا ذلك جدلا ، غير أنه يلزم مما ذكروه ؛ تعليل الحكم الواحد بعلل مختلفة ، وهو محال.

__________________

(١) فى (أ) (وعلى هذا).

(٢) المقصود به أبو هاشم انظر عنه ما مر فى هامش ل / ١١ ب من الجزء الأول.

(٣) انظر ما سيأتى فى الباب الثالث ـ الأصل الأول : فى الأحوال ل ١١٤ / أوما بعدها.

٢٦٥

وبيان اللزوم : هو أن حكم التماثل بين المتماثلات ، واحد من حيث هو تماثل ؛ فقد يوجد ذلك بين السوادين ، كما يوجد بين البياضين. وإذا جاز تماثل البياضين ؛ لاستوائهما فى أخص وصف البياض وتماثل السوادين ، لاشتراكهما فى أخص وصف السواد ؛ فلا يخفى أن أخص وصف السواد ، مخالف لأخص وصف البياض ؛ وبه وقع الاختلاف بين السواد ، والبياض.

ويلزم من ذلك أن يكون التماثل بين البياضين ، وبين السوادين مع اتحاد مفهومه معللا بخصوص وصف السواد ، وخصوص وصف البياض مع اختلافهما فيه ، وتعليل الحكم الواحد بعلل مختلفة ؛ وهو محال (١).

وإلا لجاز أن يكون حكم العالمية ؛ معللا بالعلم تارة ، وبالقدرة تارة ؛ وهو خلاف المعقول ، وحكم العالم من حيث هو عالم ، وإن لم يختلف عندنا شاهدا ولا غائبا بناء على قولنا بالأحوال ؛ فهو معلل بالعلم والعلم من حيث هو علم لا يختلف شاهدا ولا غائبا ؛ وإن اختلفا فى جهة العرضية ، والحدوث. وغير ذلك ؛ فكانت علة الحكم فى الشاهد ، والغائب واحدة ؛ بخلاف ما ذكروه.

فإن قيل : والتماثل بين السوادين ، وبين البياضين ، وإن كان واحدا إلا أنه معلل فى البياضين ، والسوادين ، بالاشتراك فى أخص وصفيهما ، وأخص وصف السواد من حيث هو أخص وصف ؛ لا يخالف أخص وصف البياض / من حيث هو (١١) / / أخص وصف وإن اختلفا من جهة السوادية ، والبياضية ؛ فتعليل التماثل فى الكل ؛ يكون أيضا بعلة واحدة.

قلنا : فاخص وصف النفس : إما أن يكون زائدا فى البياض ، والسواد على مفهوم كون السواد سوادا ، ومفهوم كون البياض بياضا ، أو لا يكون زائدا عليه.

فإن كان الأول : فهو باطل من وجهين :

__________________

(١) انظر ما سيأتى فى الباب الثالث ـ الأصل الثانى ـ الفصل السابع : فى أن الحكم الواحد لا يثبت بعلتين مختلفتين ، ولا بعلة مركبه من أوصاف ل ١٢٥ / أوما بعدها.

(١١)/ / أول ل ٣٨ / ب من النسخة ب.

٢٦٦

الأول : أن كون السواد سوادا ، وكون البياض بياضا. صفة حالية (١) عند هذا القائل وكونه أخص وصف لو كان صفة زائدة عليه ؛ لكان حالا. ويلزم منه قيام الحال بالحال ؛ وهو محال.

الثانى : أنه لو كان صفة زائدة ، على كون السواد سواد ، والبياض بياضا : فإما أن يكون أخص وصف له ، أو أعم.

لا جائز أن يكون أعم ؛ إذ الأعم لا يوجب كون ما اتصف به أخص ، وإن كان أخص ؛ فكونه أخص أيضا. صفة زائدة عليه ، والكلام فى هذه الصفة الزائدة» كالكلام فى الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

وإن كان الثانى : وهو أن لا يكون صفة زائدة على كون السواد سوادا ، وكون البياض بياضا ؛ فقد لزم المحذور ؛ وهو تعليل الحكم الواحد بالعلل المختلفة (٢).

الوجه الثالث :

هو أن الاشتراك فى أخص وصف النفس : إما أن يوجب الاشتراك فى الأعم ، أو لا يوجب.

فإن كان الأول : فالكلام عليه من وجهين.

الأول : أنه يلزم منه أن لا يقع الاشتراك فى الوصف الأعم بين المختلفات ؛ لأنه لو وقع الاشتراك بين المختلفات فى الأعم ، فإما أن يكون لموجب ، أو لا للموجب.

فإن كان الأول : فلا بد وأن يكون غيرها أوجه من الاشتراك فى الوصف الأخص ، وفيه تعليل الحكم الواحد بالعلل المختلفة ؛ وهو محال كما سبق (٣).

وإن كان الثانى : فهو أيضا محال ؛ لما تقدم فى الصفات العامة (٤).

__________________

(١) عرف الآمدي الصفة الحالية فقال : «وأما الصفة الحالية ، ويعبر عنها بالصفة المعللة : فما كانت فى الحكم بها على الذات تفتقر إلى قيام صفة أخرى بالذات ، ككون العالم عالما والقادر قادرا».

[المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدى ص ١٢٠].

(٢) انظر ما سيأتى فى الباب الثالث ـ الأصل الثانى ـ الفصل لسابع ل ١٢٥ / أوما بعدها.

(٣) المصدر السابق.

(٤) راجع ما تقدم فى الفصل الأول ل ٦٥ / أوما بعدها.

٢٦٧

الثانى : أنه إذا كان الاشتراك فى الأخص موجبا للاشتراك فى الأعم ؛ فالتماثل لا يتم بدون الاشتراك فى جميع صفات النفس ولا معنى لتخصيص ذلك ، بالاشتراك فى الأخص دون غيره وهذا هو مذهبنا.

وإن كان الثانى : وهو أن لا يكون موجبا للاشتراك فى الأعم ؛ فهو خلاف أصولهم.

الرابع : أنه لو كان تماثل المثلين ، معللا بالاشتراك فى أخص وصف النفس ؛ فالتماثل بين السوادين ، أو البياضين : إما أن يكون واجبا لهما ، أو جائزا.

فإن كان الأول : فهو ممتنع على أصلهم ؛ إذ من أصلهم امتناع تعليل الواجب.

/ ولهذا قالوا بأن عالمية الرب ـ تعالى ـ لما كانت واجبة له ؛ امتنع أن تكون معللة بالعلم (١).

ولو أمكن التعليل بغير الوجوب (٢) فما المانع من تعليل عالمية الرب تعالي مع وجوبها.

ولا يخفى أن الفرق تحكم غير معقول.

وإن كان الثانى : لزم جواز تماثل السوادين تارة ، واختلافهما تارة ؛ وهو ظاهر الإحالة.

وقد أورد الأستاذ أبو إسحاق (٣) اعتراضين آخرين لا بد من سردهما ، والتنبيه علي ما فيهما.

الأول أنه قال : الإرادات كلها تشترك فى معنى الإرادة من حيث هى إرادة ـ واختلافها ؛ إنما يكون بالنظر إلى متعلقاتها من الحركة والسكون ، وغيره.

فالإرادة المتعلقة بالسكون من حيث هى متعلقة بالسكون مخالفة للإرادة المتعلقة بالحركة من حيث هى متعلقة بالحركة ـ فأخص وصف هذه تعلقها بالحركة ، وهذه بالسكون ؛ والقدرة المتعلقة بالحركة مشاركة للإرادة المتعلقة بها فى التعلق بالحركة.

__________________

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الثانى ـ المسألة الرابعة ل ٧٢ / ب وما بعدها.

(٢) فى ب (ولو لم يكن التعليل مع الوجوب.

(٣) انظر عنه ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الأولى هامش ل ٥ / أ.

٢٦٨

وكذلك فى السكون [فقد شاركت القدرة المتعلقة بالحركة أو السكون] (١) للإرادة المتعلقة بالحركة أو السكون في أخص وصفهما ؛ وهما مختلفان.

الثانى : أنه قال : لو كان التماثل هو الاشتراك فى أخص وصف النفس ، لما عرف تماثل المثلين ، من جهل أخص وصف النفس الّذي هو علة التماثل ؛ وليس كذلك ؛ فإنا نعلم من حال كل عاقل ؛ أنه يعلم تماثل البياضين ، وتماثل السوادين ، وإن كان حاصلا بأخص وصف نفس كل واحد منهما ؛ وهما ضعيفان.

أما الأول : فلقائل أن يقول : لا نسلم أن أخص وصف الإرادة المتعلقة بالحركة أو السكون تعلقها بالحركة ، أو السكون مطلقا ، بل أخص وصفها تعلقها بتخصصه بحالة دون حالة ، أو زمان دون زمان ؛ وأخص وصف القدرة المتعلقة به ، كونها مخصصة لوجوده دون عدمه ، كما سبق تحقيقه فى الصفات (٢).

ولا يخفى اختلاف الأمرين.

وأما الثانى : فمع التفريع على القول بالأحوال.

إنما يلزم ما ذكر أن لو لم تتوقف معرفة الحكم على علته ؛ وهو غير مسلم ؛ بل معرفة العلة إنما يتوصل إليها عند الجهل بها من حكمها. وأما إن كان ذلك (١١) / / منه مع التفريع على القول بنفى الأحوال ؛ فلا علة ولا معلول عنده.

فكيف يصح القول بأن من لم يعلم العلة لا يعلم حكمها.

وأما قول الجبائى : المثلان هما المشتركان فى صفة النفس. إن أراد بصفة النفس ما يدل الوصف به على الذات لا على معنى زائد عليها ؛ فهو القول / المختار على أصلنا.

وإن أراد به ما يدل الوصف به ؛ على معنى زائد على الذات ، فإن أراد به جميع أوصاف النفس ؛ فهو قول القاضى من أصحابنا ، وهو مبنى على القول بالأحوال ؛ وسيأتى إبطالها (٣).

__________________

(١) ساقط من «أ».

(٢) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ لقسم الأول ـ النوع الثانى ـ المسألة الثالثة : فى إثبات صفة الإرادة ل ٦٤ / ب وما بعدها.

(١١)/ / أول ٣٩ / أ.

(٣) راجع ما سيأتى فى الباب الثالث ـ الأصل الأول : فى الأحوال ل ١١٤ / أوما بعدها.

٢٦٩

وإن أراد أخص وصف النفس ، كما ذهب إليه ابنه ؛ فيلزمه ما لزمه.

وأما قول النجار (١) : المتماثلان هما المشتركان فى صفة من صفات الإثبات إذ لم يكن أحدهما بالثانى.

إما أن يريد به أن الشيئين إذا اشتركا فى الصفة الإثباتية فهما متماثلان مطلقا من كل وجه ، كما قاله أرباب الخصوص ؛ وهما متماثلان فيما وقع الاشتراك به لا غير.

فإن كان الأول : فهو منتقض بالسواد والبياض ، فإنهما قد اشتركا فى صفة من صفات الإثبات : كالعرضية ، والكونية ، والحدوث وليس أحدهما من الثانى ؛ وهما غير متماثلين من كل وجه ؛ بل هما مختلفان.

وإن كان الثانى : فيلزمه جواز التماثل بين الشيئين من وجه دون وجه ، وقد وافق على أن الرب تعالى ـ مشارك لبعض الحوادث فى بعض الصفات الإثباتية : كالعالمية ، والقادرية.

ولم يجوز مع ذلك القول بكون الرب ـ تعالى ـ مماثلا للحوادث أصلا ، ولا من وجهة ما.

وعلى هذا : فلو قيل له : ما المانع أن يكون الرب ـ تعالى ـ مماثلا للحوادث من جهة دون جهة ، لم يجد إلى دفعه سبيلا.

__________________

(١) انظر رأى النجار والرد عليه فى الشامل للجوينى ص ٢٩٣ وما بعدها.

٢٧٠

الفصل الثالث

فى تحقيق معنى الخلافين (١)

وقد اختلفت عبارات أصحابنا فى معنى الخلافين ، تفريعا على القول بالأحوال ، ونفيها.

فمن قال : بالأحوال.

قال : المختلفان كل شيئين اختص كل واحد منهما عن الآخر ببعض صفات النفس الحالية دون البعض ؛ [لأن الاختلاف على هذا التفسير لا يكون إلا بين الذوات] (٢) وإنما (٣) كان كذلك ؛ لأن الاختلاف لا يكون بين الموجودات ، وذلك أن الاختلاف صفة إثبات ، فلا يكون لما ليس بثابت.

وبيانه أن نقيض الاختلاف ؛ لا اختلاف ، ولا اختلاف عدم محض ؛ لصحة اتصاف العدم المحض به.

ولو كان صفة ثبوتية : لامتنع أن يكون صفة العدم المحض.

وعلى هذا : فالتماثل ، والتضاد ، والتغاير ، صفة ثبوتية أيضا لمثل هذا البيان (٣).

وعلى القول بالأحوال فالوجود يكون مشتركا بين جميع الموجودات. والوجود صفة نفسية ؛ لكل ذات على أصولنا.

ولا يتصور اختصاص بعض الذوات به دون البعض. وعلى هذا : فيكفى فى الاختلاف اختصاص أحد الموجودين عن الثانى ببعض صفات النفس الحالية.

ولا يتصور أن يكون أحدهما / مختصا عن الآخر بجميع صفات النفس.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة انظر : الشامل في أصول الدين للجوينى ص ٢٩٢ وما بعدها.

والمواقف للإيجي ص ٨٢ وما بعدها ، وشرح المواقف للجرجانى ٤ / ٨٦ وما بعدها.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) من أول قوله : «وإنما كان كذلك .... إلى قوله : هذا البيان» ساقط من ب.

٢٧١

وذلك كالاختلاف بين الجوهر ، والعرض ، والسواد ، والبياض. فإن الجوهر قد اختص عن العرض بكونه جوهرا ، وقابلا للأعراض ومتحيزا ، والعرض عن الجوهر بكونه عرضا ، وقائما بالمحل ، فإن اشتركا فى الوجود والحدوث ، وكل ذلك من الصفات النفسية.

وكذلك السواد مختص عن البياض بكونه سوادا ، [والبياض عن السواد بكونه بياضا ، وهما من الصفات النفسية ، وإن اشتركا فى غير ذلك من الصفات النفسية] (١) كالعرضية ، والقيام بالمحل والوجود ، والحدوث.

وهل يصح إطلاق التماثل على المختلفين باعتبار ما اشتركا فيه من بعض صفات النفس : كالوجود ، وغيره.

فالمنقول عن القاضى ، والقلانسى (٢) من أصحابنا : أنه لا مانع من ذلك فى الحوادث لفظا ومعنى ، إذا لم يرد به التماثل فى غير ما وقع به الاشتراك ؛ ولهذا قال القلانسى كل مشتركين فى الحدوث ؛ فهما متماثلان فى صفة الحدوث.

وعلى هذا : فمن قال بأن البارى ـ تعالى ـ مماثل لغيره فى الوجود ؛ فهو غير ممتنع معنى ، وإن كان ذلك ممتنعا سمعا ؛ لعدم ورود السمع به.

وأما من قال بنفى الأحوال.

قال : المختلفان كل موجودين اختص أحدهما عن الثانى بما يدل الوصف به على نفسه ، وذاته ، دون معنى زائد.

وعلى هذا : فلا يتصور على هذا الأصل اشتراك المختلفين فى بعض الصفات النفسية (٣) ، دون البعض (٣) أصلا.

إذ الصفة النفسية على هذا عائدة إلى نفس الذات ، لا إلى صفة زائدة عليها ، وذات كل واحد من المختلفين ، لا تحقق لها فى الآخر.

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) القلانسى : أحمد بن عبد الله بن خالد. المتوفى سنة ٣٣٥ ه‍ سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل ١٢٤ / أ.

انظر الشامل للجوينى ص ٢٩٣ حيث قال : «وحكى الأستاذ أبو بكر عن القلانسى ... الخ».

(٣) (دون البعض) ساقط من ب.

٢٧٢

فلا يكون الاختلاف بين المختلفين معللا بصفة زائدة على ذاتيهما ؛ بخلاف ما إذا كان الاختلاف بالأحوال الزائدة على ذات المختلفين.

فإن قيل : فهل يجوز على هذين الأصلين إطلاق القول بأن الله ـ تعالى ـ مخالف لخلقه ، وأن ما له من الصفات مختلفة ، أم لا؟

قلنا : أما إطلاق كون الرب ـ تعالى ـ مخالفا لخلقه ، وخلاف خلقه ؛ فمتفق عليه عند أصحابنا ، وأكثر المتكلمين.

فلا مانع منه نظرا إلى (١١) / / المعنى ، ولا بالنظر إلى اللفظ ؛ إذ الإطلاق بذلك فى كل عصر شائع ، ذائع من غير نكير ؛ فكان ذلك مجمعا عليه.

ومن المعتزلة : من منع من إطلاق ذلك ، كالصيمرى (١) ، وأبى الهذيل (٢) محتجين على ذلك بأنه لو كان الرب ـ تعالى مخالفا لخلقه ؛ لكان ذلك من أسمائه ولكفر منكره ؛ وهو خلاف الإجماع ؛ وهو غير صواب.

إذ لقائل أن يقول : لا نسلم أن كل ما يعتقد أنه من صفاته ـ تعالى ـ يكون معدودا من أسمائه (٣).

وإن سلم ذلك ؛ فلا نسلم / أن كل ما كان معدودا من أسمائه يكفر منكره ؛ على ما سيأتى تحقيقه فيما بعد (٤).

وأما الصفات : فقد اختلف أصحابنا فيها.

فمنهم من قال : ليست متماثلة ، ولا مختلفة ؛ لأن التماثل والاختلاف ، بين الشيئين ، يستدعى المغايرة بينهما.

وصفات الرب ـ تعالى ـ غير متغايرة ؛ على ما سبق في الصفات (٥) وعلى هذا الأصل ، يجب أخذ الغيرية قيدا فى حد المثلين ، والخلافين.

__________________

(١١)/ / أول ل ٣٩ / ب من النسخة ب.

(١) الصيمرى : عباد بن سليمان الصيمرى المتوفى سنة ٢٥٠ ه‍ سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل ٦٤ / ب.

(٢) أبو الهذيل العلاف : سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل ٧٢ / ب

(٣) انظر ما سبق فى الجزء الأول ـ النوع السابع : فى أسماء الله الحسنى ل ٢٩٢ / أوما بعدها.

(٤) انظر ما سيأتى فى القاعدة السابعة ل ٢٤٠ / ب وما بعدها.

(٥) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ٥٤ / أوما بعدها.

٢٧٣

وقال القاضى أبو بكر : بالاختلاف نظرا إلى ما اختصت به كل صفة من الصفات النفسية من غير التفات إلي وصف الغيرية.

والحق فى ذلك أن من أنكر الاختلاف ؛ لا ينكر اختصاص كل صفة من صفات الرب ـ تعالى ـ بما لا ثبوت له فى باقى الصفات من الصفات النفسية. ومن أثبت الاختلاف لا ينكر انتفاء الغيرية عن صفات الرب ـ تعالى ـ بالتفسير السابق ذكره ، غير أن كل واحد منهما. يقول : أنا لا أعنى بالخلافين إلا ما ذكرته ، ولا منازعة فى الاصطلاحات بل المتبع فى ذلك إنما هو ورود السمع [فما ورد السمع] (١) بإطلاقه أطلق ، وإلا فلا.

وإذا عرف ما نعنى ، بمعنى التماثل ، والاختلاف فلا يخفى أن البياضين متماثلان ، وأن السواد ، والبياض مختلفان ، نظرا إلى ما ذكرناه من المعنى.

ولا مانع من إطلاق ذلك لغة.

فإن من قال : البياضان متماثلان ، والبياض ، والسواد مختلفان ؛ لم ينكر عليه أحد من أهل اللسان ، وبه يظهر فساد قول من قال من المتكلمين ، إن التماثل ، والاختلاف ؛ لا يكون إلا فى الجواهر بما قام فيها من الأعراض التى فى حكم التماثل : كبياضين ، أو الاختلاف كسواد ، وبياض مثلا ؛ وأن الأعراض لا تكون متماثلة ، ولا مختلفة ؛ لعدم قيام العرض بالعرض.

والّذي يؤكد بطلان مذهبه أنه إذا كان البياضان : كالسواد مع البياض فيما يرجع إلى سلب التماثل ، والاختلاف عنهما ؛ فيلزم أن لا يختلف حكم الجوهرين سواء قام بهما بياضان أو بأحدهما بياض ، وبالآخر سواد ، وهو محال.

فإن قيل : البياضان وإن لم يكونا متماثلين ؛ فهما فى حكم المماثلة ، والسواد ، والبياض ، وإن لم يكونا مختلفين ؛ فهما فى حكم المخالفة ، فافترقا.

قلنا : إما أن يراد بحكم المماثلة والمخالفة ، وجود خاصية المماثلة ، والمخالفة من الاشتراك فى الصفات النفسية ، والاختلاف فيها ، أو الافتراق فإن كان الأول : فهو المطلوب ، ولا حرج فى العبارة.

__________________

(١) ساقط من (أ).

٢٧٤

وإن كان الثانى : فلا بد من / تصويره ، والدلالة عليه ، ولا يقتنع بمجرد العبارة الخلية عن المعنى.

وقد سلك الأصحاب فى الرد على هذا المذهب (١) طريقين آخرين :

الأول : أنه لو كان تماثل الجواهر ، واختلافها بما قام بها من الأعراض التى هى فى حكم المماثلة ، والاختلاف ، للزم منه أن يقضى بالتماثل ، والاختلاف على الجوهرين معا عند ما إذا اتصفا بالبياض ، وأحدهما بالحركة والآخر بالسكون ، وهو محال.

الثانى : أنه يلزم منه أن يكون الجوهر الواحد مماثلا لنفسه أو مخالفا لنفسه ، عند ما إذا تعاقب عليه بياضان ، أو بياض وسواد ، فى وقتين مختلفين ؛ وهما ضعيفان.

أما الأول : فلأنه لا يمتنع بالتفريع على المذهب المذكور أن يقال بالتماثل بين الجوهرين من وجه ، والاختلاف من وجه.

وأما الثانى : فمن جهة أن التماثل ، والاختلاف ، وإن كانا على مذهب هذا القائل بالأعراض غير أنه مشروط بالتغاير ؛ ولا مغايرة بين الشيء ، ونفسه.

وإذا عرف معنى المثلين ، والخلافين.

فاعلم أن من قال المثلان : كل موجودين اشتركا فى جميع الصفات النفسية والخلافان : ما اختص كل واحد عن الآخر ببعض الصفات النفسية ؛ فلا يتصور عنده أن يقال بتماثل الشيئين من وجه ، واختلافهما من وجه ، إذ التماثل يوجب الاشتراك فى جميع الصفات النفسية ، والاختلاف مانع منه ؛ وهو متناقض محال.

ومن قال : بأن كل شيئين اشتركا في أى صفة كانت من صفات الإثبات لم يمنع أن يقال : باختلاف الشيئين من وجه ، وتماثلهما من وجه ؛ بناء على ما وقعت به المشاركة بينهما ، والاختلاف.

__________________

(١) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين للجوينى ص ٢٩٥ وما بعدها.

٢٧٥

الفصل الرابع (١١)

فى أنه هل يتصور الاختلاف بين الشيئين مع اشتراكهما

فى أخص صفة النفس (١)؟

نقول اختلف المتكلمون فى ذلك :

فاختار القاضي أبو بكر ، وجماعة من أصحابنا ، وجميع المعتزلة المنع من ذلك.

ومنهم من جوزه : وهو قول القاضى أيضا.

احتج النافون : بأنه لو جاز ذلك ؛ لجاز اشتراك السوادين في أخص وصفيهما ؛ وهو كون كل واحد منهما سوادا ؛ مع اختصاص أحدهما بصفة نفسية لا ثبوت لها فى الآخر ؛ بأن يكون أحدهما سوادا حلاوة ، والآخر سوادا ليس بحلاوة ؛ وذلك يجر إلى كون العرض الواحد سوادا حلاوة ؛ وهو محال وبيان الإحالة :

أما على القول : بنفى الأحوال ؛ فظاهر /.

إذ السواد والحلاوة وجودان ، وذاتان ؛ وليس لهما حال زائدة عليهما ويستحيل فى العقل أن يكون الموجود الواحد له وجودان ، والذات الواحدة ذاتان.

وأما على القول : بإثبات الأحوال.

فقد احتج الأصحاب عليه بمسالك :

__________________

(١١)/ / أول ل ٤٠ / أمن النسخة ب.

(١) لمزيد من البحث والدراسة انظر : الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص ٣٠٧ وما بعدها ، فقد تحدث عن هذا الموضوع بذكر مذهب أهل الحق كما ناقش المعتزلة بالتفصيل : قال : «ونحن الآن نذكر مذهب أهل الحق ، ثم ننعطف على ذكر مذاهب المخالفين» قال :

«إذا قال قائل : ما حقيقة صفة النفس عندكم؟

قلنا صفة النفس عندنا : كل صفة إثبات راجعة إلى ذات لا لمعنى زائد عليها ، وهذا الحد سديد مطرد ، منبئ عن الغرض والمقصد ؛ فيدخل تحت هذا ، كون الجوهر جوهرا ، وتحيزه ، وكونه شيئا وذاتا ، وقبوله للأعراض ، ووجوده وحدوثه ، وكذلك القول فى جملة صفات الأجناس» [الشامل للجوينى ص ٣٠٨].

٢٧٦

الأول : أنه لو جاز أن يكون العرض الواحد سوادا علما ؛ لكان من حيث هو علم مشروطا بالحياة ، ومن حيث هو سواد غير مشروط بالحياة ؛ وذلك فى العرض الواحد محال ؛ وهو ضعيف لانتقاضه بالعلم ، فإنه مشروط بالحياة من حيث هو علم.

وإن لم يكن مشروطا بها من حيث هو عرض.

وما هو الجواب عنه هاهنا ، به يكون الجواب فى محل النزاع.

المسلك الثانى :

أنه لو جاز أن يكون سوادا حلاوة وسوادا ليس بحلاوة ؛ لم يخل : إما أن يكونا مثلين (١) ، أو خلافين (٢).

لا جائز أن يقال بالأول : لأن المماثلة : إنما تتم بالاشتراك فى جميع صفات النفس ؛ وذلك غير محقق فيما نحن فيه ، وإن كانا خلافين ؛ فإما متضادان ، أو غير متضادين.

لا جائز أن يقال بالأول : وإلا لتضادا فى كل صفة اختلفا فيها : كالسواد والبياض ؛ وليس كذلك فيما نحن فيه.

وإن كان الثانى : لم يمتنع اجتماعهما.

وعند ذلك : فلو طرأ على محلهما بياض ، فلا شك فى كونه مضادا للسواد الّذي ليس بحلاوة ، والسواد الّذي هو حلاوة ، إن لم يضاده أمكن أن يجتمعا ؛ وهو محال.

وإن ضاده من حيث هو سواد ؛ وجب أن لا يضاده من حيث هو حلاوة ؛ ويلزم من ذلك أن يكون العرض الواحد مضادا لشيء ، وغير مضاد له ، وهو ممتنع.

وهذه المحالات ؛ إنما لزمت من القول بكون السواد حلاوة ؛ فيكون محالا ؛ وهو أيضا ضعيف من وجهين :

__________________

(١) راجع ما مر ل ٧٢ / ب وما بعدها.

(٢) راجع ما مر ل ٧٥ / أوما بعدها.

٢٧٧

الأول : أن لقائل أن يقول : المثلان ضدان على أصولكم وعند ذلك فلا مانع أن يقال : بتضاد السوادين المفروضين من جهة [ما تماثلا فيه لا من جهة (١)] ما اختلفا فيه.

وعلى هذا : فلا يلزم التضاد بينهما فى كل ما وقع به الاختلاف بينهما.

الثانى : وإن سلم الاختلاف بينهما من غير تضاد ؛ ولكن ما المانع منه؟

والقول : بأنه يفضى ذلك إلى أن يكون البياض مضادا له من حيث هو سواد ؛ ولا يكون مضادا له من حيث هو حلاوة ؛ فليس يمتنع ، وأنه إذا لم يمتنع عدم مضادة البياض للسواد من حيث هو عرض ، وحادث ، وموجود.

وإن كان مضادا له من حيث هو سواد ؛ فلا يمتنع أن يكون البياض مضادا للسواد من حيث هو سواد / ؛ ولا يكون مضادا له من حيث هو حلاوة.

المسلك الثالث : أنه لو جاز أن يكون السواد حلاوة ؛ لأمكن أن يكون أيضا علما ، وقدرة وإرادة ، وأن يجتمع فى العرض الواحد خصائص جميع الأعراض المختلفة مع اتحاده ؛ وهو ممتنع لثلاثة أوجه :

الأول : أن ما قام به من المحل يجب أن يكون عالما قادرا أسود ، وفيه تعليل الأحكام المختلفة بعلة واحدة (٢).

ولو جاز ذلك ؛ لجاز أن يكون العلم موجبا للقادرية ، والمريدية ، وهو ممتنع.

الثانى : أنا إذا علمنا كون المحل أسود ، ثم علمنا كونه عالما ، وقادرا ، ومريدا فإنه يدل على أمر زائد على ما دل عليه ما علمناه منه أولا من كونه أسود ؛ وذلك معلوم بالضرورة.

فلو جاز أن يكون السواد هو العلم ، والقدرة ؛ لبطلت دلالة ما علمناه من كونه عالما وقادرا على أمر زائد على ما دل عليه كونه أسود ؛ ويلزم منه نفى الأعراض ، وإبطال طريق التوصل إليها من أحكامها.

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) انظر ما سيأتى فى الباب الثالث ـ الأصل الثانى ـ الفصل السادس : فى أن العلة الواحدة هل توجب حكمين مختلفين أم لا؟ ل ١٢٣ / أ.

٢٧٨

وكل كلام في تفاصيل الأعراض ؛ إذا جر إلى نفى أصل الأعراض ؛ كان متناقضا (١).

الثالث : أنه يلزم من ذلك امتناع التمييز بين الأعراض وما جر إلى نفى ما هو معلوم بالضرورة ؛ فهو (١١) / / محال ؛ وهو ضعيف أيضا.

إذ لقائل أن يقول :

أما الأول : فإنما يلزم أن لو لم يكن للعرض الواحد أحوال متعددة موجبة لتلك الأحكام المختلفة ، وليس كذلك على ما هو أصل الخصم هاهنا.

وأما الثانى : فإنّا وإن سلمنا دلالة العالم على أمر زائد على ما دل عليه الأسود ؛ لكن من جهة أن العالم يدل على عرض أخص وصفه كونه عالما ، والأسود يدل على عرض أخص وصفه كونه سوادا ، وكونه عالما وكونه سوادا ، أحوال زائدة على نفس العرض المتصف بها ؛ وليس فيما ذكرتموه دلالة على امتناع اتحاد العرض مع اتصافه بهاتين الحالتين ؛ وهو محل النزاع.

وعلى هذا : فلا مانع من كون العرض الواحد سوادا حلاوة وبما قررناه هاهنا يكون دفع الثالث أيضا من حيث أن التمييز حاصل بالنظر إلى تمييز الأحوال ؛ وإن اتحد العرض المتصف بها.

وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على المطلوب ، غير أنه يلزم عليكم إشكال مشكل وذلك أن أخص وصف الحياة فى حقنا ، كونها حياة ، وأخص وصف الحياة فى حق القديم ؛ كونها حياة ، والحياتان مشتركتان فى هذه الصفة الخاصة ، وهما مختلفتان.

وعلى هذا : فالواجب إنما هو سلوك مسلك القائلين بنفى الأحوال على ما تقرر قبل (٢).

__________________

(١) راجع ما مر فى الأصل الثانى : فى الأعراض وأحكامها ـ الفرع الأول : فى إثبات الأعراض ل ٣٩ / ب.

(١١)/ / أول ل ٤٠ / ب من النسخة ب.

(٢) راجع ما مر فى أول الفصل أول ل ٧٧ / أ.

٢٧٩

الفصل الخامس

فى تحقيق معنى المتضادين (١)

وقد اختلفت عبارات الناس فيه

فقالت الفلاسفة : الضدان كل ذاتان متعاقبتان على موضوع واحد ؛ ويستحيل اجتماعهما فيه ؛ وبينهما غاية الخلاف ، والبعد.

فقولهم : ذاتان : احتراز عن العدم ، والوجود. والاعدام بعضها مع بعض.

وقولهم : متعاقبتان على موضوع احتراز عن الجواهر ؛ إذ هى غير متضادة ؛ لعدم دخولها فى الموضوع ؛ وقد عرف معنى الموضوع عندهم ، فيما تقدم (٢).

وقولهم : واحد احتراز عن المتعاقبات على الموضوعات المتعددة.

وقولهم : ويستحيل اجتماعهما فيه. احتراز عن الأعراض المختلفة التى ليست متضادة : كالسواد ، والحلاوة مثلا.

وقولهم : وبينهما غاية الخلاف ، والبعد. احتراز عن الوسائط مع الأطراف : كالسواد ، والبياض مع الحمرة ، والوسائط بعضها مع بعض : كالحمرة ، والصفرة ، ونحو ذلك.

فإنها غير متضادة عندهم ؛ فإنها وإن كانت من الذوات المتعاقبة على موضوع واحد ، ويستحيل اجتماعها فيه ؛ فليس بينهما غاية الخلاف. والبعد.

بل ذلك إنما هو للأطراف : كالسواد ، والبياض مثلا ؛ فهما ضدان.

وأما أصحابنا : فالضدان (٣) عندهم أعم من الضدين بهذا الاعتبار ، والعبارة عن ذلك

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة : انظر مقالات الإسلاميين للإمام الأشعرى ٢ / ٦٢ أوالشامل فى أصول الدين للجوينى ص ٤٥٠.

والمواقف للإيجي ص ٨٢ وشرح المواقف للجرجانى ٤ / ٧١ وما بعدها.

(٢) راجع ما تقدم فى المقدمة ل ٣٠٠ / ب من الجزء الأول.

(٣) عرف الجرجانى الضدان فقال : «الضدان : صفتان وجوديتان يتعاقبان فى موضع واحد ، يستحيل اجتماعهما : كالسواد والبياض ، والفرق بين الضدين والنقيضين. أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان : كالعدم والوجود والضدين لا يجتمعان ؛ ولكن يرتفعان : كالسواد والبياض [التعريفات ص ١٥٥].

٢٨٠