أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0326-3
الصفحات: ٤٧٠

وأما الحجة الأولى لأبى هاشم : فهى مبنية على فاسد أصولهم فى بقاء الألوان ، والطعوم ، وقد أبطلناه.

كيف وأنها لازمة على أبى هاشم فى الاعتمادات المختلفة ؛ إذ هى مشاهدة للاستمرار ؛ كمشاهدة اللازمة.

وأما الحجة الثانية : فمبنية أيضا على أن عود الحجر هاويا إلى جهة السفل ، إنما هو بالاعتماد السفلى ، وليس كذلك ؛ بل إنما ذلك بخلق الله ـ تعالى ـ للحركة السفلية من غير تأثير للاعتماد السفلى فيها ، وبتقدير تسليم توقف الحركة السفلية على الاعتماد السفلى.

فما المانع من تجدده فى كل وقت بخلق الله ـ تعالى ـ له كسائر الأعراض. وعند ذلك : فما وجدت الحركة السفلية عنده من الاعتماد السفلى ؛ لا يلزم أن يكون باقيا (١١) //.

الاختلاف الثالث (١) :

فى اشتراط الرطوبة ، واليبوسة فى الاعتمادات والّذي ذهب إليه أبو هاشم : أنه اشترط فى الاعتماد اللازم الرطوبة (٢) إذا كان سفليا ، واليبوسة إذا كان علويا ؛ دون الاعتمادات المجتلبة وخالفه الجبائى فى ذلك ؛ ولم يشترط الرطوبة ؛ واليبوسة فى شيء من الاعتمادات ؛ وهو الحق.

احتج أبو هاشم بأنه ما من شيء من ذوات الاعتمادات اللازمة السفلية من الأحجار وغيرها ، إذا أوقدت عليها النار مدة ؛ لا بد وأن تتكلس ، أو تذوب ؛ والتكلسى / يدل على تفرق ما كان فيه من الرطوبة.

والإذابة دليل الرطوبة السابقة حالة الجمود ، كالجليد المذاب بالنار ، وغيرها ؛ وهذه الحجة مدخولة من وجوه :

__________________

(١١)/ / أول ٣٤ / ب من النسخة ب.

(١) قارن بما ورد فى الشامل لإمام الحرمين الجوينى ص ٤٩٩ وهو متقدم على الأبكار ، وبما ورد فى شرح المواقف للجرجانى ٥ / ٢٢١ وهو متأخر عن الأبكار ومتأثر به إلى حد بعيد.

(٢) عرف الآمدي الرطوبة واليبوسة فقال : «أما الرطوبة : فما كان من الكيفيات بما يسهل قبول الجسم للانحصار ، والتشكل بشكل غيره وكذا تركه. وأما اليبوسة فمقابلة للرطوبة» [المبين للآمدى ص ٩٩ ، ١٠٠].

٢٤١

الأول : أن لقائل أن يقول : لا نسلم أن كل سفلى إذا أوقدت عليه النار ؛ لا بد وأن يتكلس أو يذوب بدليل اليواقيت.

وإن سلمنا ذلك ؛ ولكن لا نسلم دلالة ذلك على سابقة الرطوبة. أما فى التكلس : فلا نسلم أنه لا يكون إلا بتفريق الرطوبة ، بل بإزالة التأليف ، والانفصال بعد الاتصال بما يخلقه الله ـ تعالى ـ من الأكوان ويعدمه.

وأما الإذابة : فقد قال الاستاذ أبو اسحاق وغيره ؛ لا نسلم أن المذاب بعد الإذابة رطب ؛ بل هو باق على نفسه وليس إنكار الرطوبة مع الميعان أبعد من دعوى الرطوبة فى الأحجار المحمى عليها.

فلئن قيل : لا معنى للرطوبة غير معنى إذا قام بالجسم ؛ سهل به قبول ذلك الجسم للتشكل بشكل غيره ؛ والحجر بعد إذابته كذلك.

قلنا : فيلزم على هذا أن لا تكون الأحجار الصم المحسوسة الصلابة رطبة ؛ إذ ليست على هذه المثابة ، [وأن لا تكون النار يابسة ، ولا الهواء ؛ وهو خلاف مذهبهم] (١).

وإن سلمنا أن الحجر بعد الإذابة رطب ؛ ولكن ما المانع من أن تكون الرطوبة قد أحدثها الله ـ تعالى ـ بحكم جرى العادة ؛ فلا يكون فى ذلك دليلا على كونها مائعة وإن سلمنا ذلك ؛ ولكن ما ذكروه غير مطرد فى الأحجار المتكلسة التى أوقدت عليها النار مددا متطاولة ؛ حتى فرقت رطوبتها باعترافه بأنها من ذوات الاعتمادات السفلية اللازمة بدلالة الحس ، ولا رطوبة فيها بموافقة منه.

كيف وأنه قد ناقض أصله فى التأليف ، حيث أنه قال : لا تشترط الرطوبة فى التأليف ؛ لأنه لا يتعدى حكمه محله ، والاعتماد السفلى اللازم كذلك ؛ فالقول باشتراط الرطوبة ، والفرق ؛ تحكم لا حاصل له. على (٢) أنه لو قيل له ما الفرق بين الاعتماد السفلى اللازم ، وبين المجتلب حتى شرطت الرطوبة فى اللازم دون المجتلب ؛ لم يجد إليه سبيلا (٢).

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) من أول قوله : على أنه لو قيل ...... إلى قوله : سبيلا ساقط من ب.

٢٤٢

ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكر على اشتراط الرطوبة فى الاعتماد اللازم السفلى [فلم يدل على اشتراط اليبوسة فى الاعتماد اللازم] (١) العلوى.

الاختلاف الرابع (٢) :

فى سبب طفو الخشبة على الماء ، ورسوب الحديد فيه ؛ وقد اختلف الجبائى وابنه فى ذلك.

فقال الجبائى : سبب طفو الخشبة : تخلخل أجزائها ، وتعلق الهواء الصاعد بها. وسبب رسوب الحديد وغيره : اندماج أجزائه ، وعدم تشبث الهواء به.

وقال أبو هاشم : بل سبب ذلك إنما هو ثقل أحد الأمرين ، وخفة الآخر / فى نفسه ؛ ولا أثر للهواء فى ذلك.

ويلزم على الجبائى رسوب الذهب فى الزئبق ، وطفو الفضة عليه مع عدم تخلخل أجزاء الفضة ، وجرف الهواء لها.

ثم إن الهواء عنده صاعد بطبعه ، والخشب راسب بطبعه ، فكان يلزم من ذلك أن لا يمتنع رسوب الخشبة بانفصال الهواء عنها صاعدا.

ويلزم على أبى هاشم ما لو أخذت قطعة حديد ، أو غيره ، ووضعت على الماء ؛ فإنها تغوص فيه ، ولو رفعت وطويت أجنابها : كالطبق ، ووضعت على وجه الماء ؛ فإنها لا ترسب مع التساوى فى الثقل والخفة.

وكذلك لو وضعنا خشبة وزنها ألف رطل مثلا على الماء ؛ فإنها لا ترسب فيه ؛ ولو ألقينا عليه وزن حبة من حديد أو غيره ، فإنه يرسب فيه ؛ مع أن الطافى أثقل من الراسب ، بأضعاف مضاعفة.

وعلى هذا ، فالحق ما ذهب إليه أهل الحق من أن الطفو : إنما هو بسبب كون يخلقه الله موجب لتخصيصه بحيزه.

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) قارن بما ورد فى الشامل لإمام الحرمين الجوينى ص ٥٠١ وشرح المواقف للجرجانى ٥ / ٢٢٢ وما بعدها.

٢٤٣

والرسوب بسبب حركات خلقها الله ـ تعالى ـ فى الراسب ، ومباينات فى أجزاء الماء بحكم جرى العادة ؛ كما يخلق الرى عقيب الشرب [والشبع] (١) عقيب الأكل ، ونحوه.

الاختلاف الخامس (٢) :

الاختلاف فى اعتماد الهواء : فالذى صار إليه الجبائى : أن اعتماد الهواء ؛ لازم علوى.

وصار أبو هاشم إلى أنه : ليس له اعتماد لازم ، لا علوى ولا سفلى ، وإن وجد له اعتماد ؛ فلا يكون إلا مجتلبا بسبب محرك ، ويلزم على الجبائى أنه لو كان الهواء متصعدا ، لما طفت الخشبة على الماء ؛ لانفصال الهواء عنها صاعدا ؛ إذ لا سبب لطفوها عنده ؛ غير تشبث الهواء بها.

ويلزم على (١١) / / أبى هاشم ما لو وضع الزق (٣) المنفوخ الممتلئ هواء فى الماء ، وقسر راسيا ؛ ثم حل وكاؤه ؛ فإن الهواء يشق الماء ، ويفرق أجزاؤه صاعدا ؛ بل ولو تخلى القاسر عن الزق فى قعر الماء ؛ لتحرك صاعدا حاملا للأشياء الثقيلة من قعر الماء بتقدير تعلقها به.

وليس ذلك إلا بسبب ما فيه من الهواء.

والحق فى ذلك أن الهواء إن تحرك أو سكن ، إنما هو بسبب خلق الله تعالى فيه الحركة ، أو السكون ؛ كما ذهب إليه أهل الحق ؛ وليس ذلك طبيعيا له.

الاختلاف السادس (٤) :

فى أن الاعتماد هل يولد شيئا ، أم لا؟ والّذي صار إليه الجبائى أن الاعتماد لا يولد شيئا ؛ لا حركة ولا سكونا ، بل المولد للحركة والسكون ؛ إنما هو الحركة.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين الجوينى ص ٥٠٢ وشرح المواقف للجرجانى ٥ / ٢٢٦.

(١١)/ / أول ل ٣٥ / أمن النسخة ب.

(٣) الزّقّ : وعاء من جلد يجز شعره ولا ينتف للشراب وغيره جمع : أزقاق ، وزقاق. [المعجم الوسيط باب الزاى].

(٤) قارن بما ورد في الشامل للجوينى ص ٥٠٣ وهو متقدم على الأبكار ، وشرح المواقف للجرجانى ٥ / ٢٢٧ وما بعدها.

٢٤٤

وقال أبو / هاشم : الحركة والسكون ، لا يتولدان من غير الاعتماد.

وقال أبو إسحاق بن عياش من البصريين (١) : الاعتماد يولد الحركة والسكون ، والحركة أيضا ؛ تولد الحركة.

احتج الجبائى بأن قال : إذا رمى الرامى حجرا ؛ فإنه لا تتحرك فيه ما لم تتحرك يد الرامى فى جهة دفع الحجر.

وعند ذلك فلو جاز أن لا تكون حركة يده مولدة لحركة الحجر مع اطراد العادة بتعقب حركة الحجر لحركة اليد ؛ لجاز أن لا يكون النظر مولدا للعلم بالمنظور فيه مع تعقبه له.

واحتج أبو هاشم بحجتين.

الحجة الأولى : أنه قال : لو فرضنا خشبة ، يمكن نصبها قائمة على رأسها منفردة ؛ فنصبت مدعومة من ورائها بعماد ؛ بحيث لو اعتمد عليها معتمد في جهة العمود ؛ لما تحركت. ولو زال عنها العمود ؛ فإنها تتحرك فى الحالة الثانية ، من وجود الاعتماد وزوال العمود على التعاقب.

وإن لم يتحرك المعتمد في جهة زوالها ؛ فدل أن الحركة تولدت من الاعتماد لا غير.

الحجة الثانية : أن المعتمد على الحجر بيده ؛ لا تتحرك يده إلا بعد حركة الحجر فإنه ما لم يندفع الحجر عن حيزه ؛ فيمتنع انتقال يد المعتمد إلى حيز الحيز ؛ لاستحالة التداخل.

فإذن حركة يد المعتمد تكون متأخرة عن حركة الحجر ، والاعتماد يكون متقدما ؛ وما عنه التولد ، وهو السبب ؛ لا بد وأن يكون متقدما على المسبب ؛ فكان ما عنه تولد حركة الحجر ، نفس الاعتماد المتقدم ، لا نفس الحركة المتأخرة.

وما هو حجة المذهبين ، هو حجة ابن عياش ، في القول بتولد الحركة عن الاعتماد ومن الحركة.

__________________

(١) أبو إسحاق بن عياش : إبراهيم بن عياش البصرى ، من أساتذة القاضى عبد الجبار ، ورع ، زاهد ، كانت له مجالس علمية يحضرها أهل بغداد. من الطبقة العاشرة من المعتزلة.

٢٤٥

واعلم أن هذا الاختلاف فيما بينهم ؛ متفرع على القول بالتولد ، ونحن فقد أبطلناه (١) ، غير أنا نسلم لهم صحة التولد جدلا.

ونناقضهم فى حججهم بأصولهم فنقول :

أما حجة الجبائى : فلقائل أن يقول : وكما أن حركة الحجر متعقبة لحركة يد الرامى عادة ؛ فهى متعقبة لاعتماد يده عادة ؛ وليس القول مع ذلك بتولد حركة الحجر ؛ عن حركة يد الرامى ؛ أولى من القول بتولدها عن اعتماد يده.

فإن قال الجبائى : إضافة التولد إلى الحركة لازم ؛ ضرورة استقلالها بالتولد منها من غير اعتماد بخلاف الاعتماد ؛ فإنه لم يثبت استقلاله بتولد الحركة منه فى صورة من الصور.

وبيانه : أن من حرك / يده ؛ فحركة يده ؛ مقدورة مباشرة بالقدرة غير متولدة من شيء.

ويلزم من حركة يده ، حركة ما عليها من الشعر ، والأظفار ؛ والشعور ، والأظفار ، لا حياة فيها ؛ فلا يتعدى إليها حكم القدرة.

وإذا لم تكن متحركة بالقدرة مباشرة ؛ لزم أن تكون متولدة من الحركة المباشرة بالقدرة.

فلقائل أن يقول : وإن سلمنا جدلا على أصلكم ؛ أنه لا حياة فى الشعور ، والأظفار وأنها غير مباشرة بالقدرة ؛ ولكن لا يلزم أن تكون متولدة من الحركة المقدورة ؛ بل أمكن أن تكون متولدة من اعتماد اليد ، ومدافعتها ، لما عليها من الشعور ، والأظفار بسبب اتصالها.

وإن سلمنا استقلال الحركة بالتولد منها فى هذه الصورة ؛ فالاعتماد أيضا قد استقل بتولد الحركة عل أصل الجبائى حيث قال :

الحجر المرتفع ؛ لا أستبعد له مكثا فى منتهاه ؛ ثم الهوى بعد ذلك.

__________________

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الثانى ـ الفرع الثامن : فى الرد على القائلين بالتولد ل ٢٧٢ / ب وما بعدها.

٢٤٦

والموجود حالة المكث ؛ ليس هو الحركة ؛ بل الاعتماد.

فحركة الهوى على هذا يجب أن تكون عنده متولدة من الاعتماد.

وأما الحجة الأولى لأبى هاشم : فلقائل أن يقول : لا أسلم زوال الخشبة وحركتها ، عند زوال العمود بدون حركة المعتمد الدافع لها.

وأما الحجة الثانية : فلقائل أن يقول : لا أسلم أن حركة يد المعتمد لا تكون إلا بعد حركة الحجر ؛ بل حركة الحجر مترتبة على حركة يد المعتمد ؛ ولهذا يصح أن يقال : تحركت يده ؛ فتحرك الحجر ، ولا يحسن أن يقال تحرك الحجر ؛ فتحركت يده.

وإذا بطلت حجة المذهبين ؛ فقد بطل مذهب ابن عياش على ما لا يخفى.

الاختلاف السابع (١) :

اختلف الجبائى ، وابنه فى الحجر المقسور إلى جهة (١١) / / العلو إذا عاد هاويا إلى أسفل.

فقال الجبائى : بناء على أصله فى أن الحركة لا تتولد من غير الحركة : إن حركته هاويا ، متولدة من حركته الصاعدة.

وقال أبو هاشم : بناء على أصله أن تولد الحركة إنما يكون عن الاعتماد ، أن تولد حركته هاويا من الاعتماد اللازم السفلى.

وهذا الاختلاف أيضا بينهم مفرع على القول بالتولد ؛ وقد أبطلناه ، وأبطلنا حجة كل واحد منهما على معتمده (٢).

ولا بد من مناقضتهما فى خصوص ما نحن فيه.

أما الجبائى : فيلزمه من القول بإمكان تولد حركة الهوى من الحركة صعودا ؛ هوى الحجر عند ابتداء الحركة الصاعدة متولدا منها ، وأن لا ينتهى الحجر المقسور بالحركة إلي أكثر من منتهى الحركة الأولى.

__________________

(١) قارن بما ورد فى الشامل لإمام الحرمين الجوينى ص ٥٠٥ وهو متقدم على الأبكار ، وشرح المواقف للجرجانى ٥ / ٢٢٩ وما بعدها.

(١١)/ / أول ل ٣٥ / ب من النسخة ب.

(٢) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الأصل الثانى ، الفرع الثامن : فى الرد على القائلين بالتولد ل ٢٧٢ / ب وما بعدها.

٢٤٧

فإنه ليس تولد / الحركة السفلى من الحركة الأخيرة الصاعدة ؛ أولى من الأولى ؛ وهو خلاف الحس.

وأيضا : فإن كل حركة من الحركات المتعاقبة صعودا متولدة مما قبلها على أصله.

ويلزم من ذلك أن يتولد عن كل حركة صاعدة حركة صاعدة إلى غير النهاية ، فالقول بأنه لا يتولد عن الحركة الأخيرة ، إلا حركة هاوية دون غيرها : تحكم لا دليل عليه.

وأما أبو هاشم : فيلزمه فى تولد الحركة السفلية عن الاعتماد اللازم ، ما لزم لابيه فى القول بتولدها عن الحركة صعودا ؛ فإنه إذا كان تولد الحركة السفلية عن الاعتماد اللازم ؛ فهل لا تولدت عنه فى ابتداء حركته صعودا.

وأيضا : فإن الاعتمادات المتعاقبة المجتلبة فى جهة العلو كل واحد منها متولد عما قبله.

وعند ذلك فلو قيل : ما المانع من تولد كل اعتماد عن اعتماد قبله مهما وجد الحجر المرمى منفذا فى الهواء.

ولم اختص الاعتماد الأخير منها بعدم التولد منه دون ما قبله ؛ لم يجد إلى دفعه سبيلا.

فإن قيل : إنما لم تتولد الحركة السفلية عن الاعتماد اللازم السفلى فى ابتداء الحركة صعودا ؛ لكونه معلوما بقوة الاعتماد المجتلب.

وإنما انقطع التولد عن الاعتماد المجتلب فى جهة العلو ؛ لضعفه في آخر الأمر بمدافعة الهواء الراكد له ، ومقاومته له حالة نفوذه فيه ، بحيث يضعف عن الاعتماد اللازم السفلى ، ويقوى عليه ؛ فيتولد عنه الحركة السفلية.

قلنا : هذا إنما يلزم أن لو امتنع الخلاء فى مسافة الحركة صعودا ، وإلا فبتقدير الخلاء ، فلا ممانع ولا مقاوم.

وإن سلمنا امتناع الخلاء ، ولكن إنما يلزم ما ذكرتموه أن لو كان الهواء راكدا ومتحركا إلى جهة السفل ، وإلا بتقدير كونه أيضا متحركا إلى جهة العلو موافقا فى اعتماده للاعتمادات المجتلبة ؛ فلا ممانعة أيضا ، ولا مدافعة.

٢٤٨

فإن قيل : وإن لم يكن ذلك بسبب مدافعة الهواء ، إلا أن ما يتولد عن كل واحد من الاعتمادات المجتلبة ، تكون أضعف مما تولدت منه.

ولهذا : فإنا نحس بضعف آخر الاعتمادات المجتلبة بالنسبة إلى أولها إلى أن تمحق أو يترجح عليها الاعتماد اللازم بتولد الحركة السفلية عنه.

قلنا : إذا كان كل اعتماد تولد عن اعتماد يكون أضعف مما يتولد / عنه ؛ فما المانع أن تكون الاعتمادات اللازمة أيضا غير باقية ؛ بل متجددة ، وبعضها متولد من البعض.

وعلى هذا : فإن كان أول الاعتمادات المجتلبة مترجحا على باقى الحجر المتحرك صعودا من الاعتماد اللازم السفلى ، فيجب أن يكون ما يتولد عنه أيضا راجحا على ما يتولد عن الاعتماد اللازم ؛ وهلم جرا.

وعند ذلك : فلا يتحقق ضعف الاعتماد المجتلب بالنسبة إلى الاعتماد اللازم.

وإن قيل : إن الاعتماد اللازم باق غير متجدد ، كتجدد الاعتماد المجتلب ؛ فقد أبطلناه فيما تقدم (١).

الاختلاف الثامن (٢) :

قال أكثر المعتزلة : إنه يمتنع أن يكون بين وصول الحجر المرفوع فى جهة العلو إلى منتهاه وبين هويه : زمان سكون ، محتجين على ذلك بأنه لا موجود فى الحجر غير الاعتماد اللازم ، والاعتماد المجتلب وأحدهما يولد الحركة الفوقية ، والآخر الحركة السفلية.

وليس فيهما ما يتولد منه السكون ؛ فلا سكون.

وقال الجبائى : لا أستبعد ذلك.

وربما احتج من نصر مذهبه بأن الاعتمادات المجتلبة فى جهة العلو ، إذا غلبت الاعتماد اللازم فى جهة السفل ، تولد منها الحركة العلوية ، ولا تزال كذلك إلى أن

__________________

(١) راجع ما تقدم ل ٦٦ / أ.

(٢) قارن بما ورد فى الشامل فى أصول الدين للجوينى ص ٥٠٦ وهو متقدم على الأبكار ، وشرح المواقف للجرجانى ٥ / ٢٣١ وهو متأخر عنه ومتأثر به.

٢٤٩

تساوى الاعتمادات المجتلبة اللازمة ، ثم تضعف عنها ؛ فيعود الحجر هاويا ؛ ففى حالة رجحان المجتلبة ، يكون تولد الحركة العلوية ، وبعد رجحان الاعتماد اللازم ، يكون تولد الحركة السفلية ، وفيما بين ذلك. يجب القول بالسكون ؛ لاستحالة تولد الحركة العلوية عن الاعتماد المجتلب ؛ والحركة السفلية عن الاعتماد اللازم ؛ ضرورة المساواة.

وهذا الاختلاف وإن كان مبنيا على فاسد أصولهم فى القول بالتولد ؛ فقد (١١) / / أبطلناه (١) ، غير أنه لا بد من مناقضة حججهم على ما تقتضيه أصولهم فنقول :

أما حجة النفاة : فلقائل أن يقول :

وإن سلم أنه لا موجود يمكن التولد منه غير الاعتماد من اللازم والمجتلب ، ولكن ما المانع عند المساواة بينهما من تولد السكون عن أحدهما : إما اللازم ، أو المجتلب.

وإذا كان أحدهما مترجحا ، كان المتولد عنه الحركة. وأما حجة الجبائى ـ وإن كانت لازمة للنفاة من المعتزلة ـ غير أنه يلزم من ذلك أن يكون السكون متولدا من أحد الاعتمادين المتساويين ؛ وهو على خلاف أصله فى امتناع التولد عن الاعتماد على ما سبق (٢).

__________________

(١١)/ / أول ل ٣٦ / أ.

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الثانى ـ الفرع الثامن : فى الرد على القائلين بالتولد ل ٢٧٢ / ب وما بعدها.

(٢) راجع ما سبق فى أول الفصل الثالث ل ٦٥ / أوما بعدها.

٢٥٠

الأصل الثالث

فيما توصف به الجواهر والأعراض

ويشتمل على ثمانية فصول :

الفصل الأول (١) : فى أقسام الصفات.

الفصل الثانى : فى تحقيق معنى التماثل والمثلين وإثبات ذلك على منكريه

الفصل الثالث : فى تحقيق معنى الخلافين.

الفصل الرابع : فى أنه هل يتصور الاختلاف بين الشيئين مع اشتراكهما فى أخص صفة النفس.

الفصل الخامس : فى تحقيق معنى المتضادين.

الفصل السادس : فى أن كل عرضين متماثلين فهما ضدان.

الفصل السابع : فى تحقيق معنى الغيرين.

الفصل الثامن : فى تحقيق معنى المتقدم والمتأخر معا.

__________________

(١) فى نسخة ب استخدمت الحروف الأبجدية للدلالة على ترتيب الفصول ، أما فى النسخة (أ) فقد أورد الفصول بدون ترتيب أو ترقيم. وقد صححتها بناء على ما ورد فى ترتيب الفصول بالتفصيل ، وبما ورد فى نسخة (ب).

٢٥١
٢٥٢

الفصل الأول

فى أقسام الصفات

مذهب أهل الحق : أن الصفة الثبوتية تنقسم إلى صفة نفسية ومعنوية.

أما الصفة النفسية (١) : فعبارات الأصحاب فيها مختلفة ، بناء على اختلافهم فى الأحوال (٢).

فمن مال إلى نفى الأحوال ـ وهم الأكثرون ـ وهو الأصح على ما يأتى.

قالوا : الصفة النفسية : عبارة عن كل صفة ثبوتية راجعة إلى نفس الذات ، لا إلى معنى زائد عليها.

ومنهم من قال : صفة النفس : كل صفة دل الوصف بها على الذات دون معنى زائد عليها. ومآل العبارتين ، واحد ؛ ويدخل فيها كون الجوهر جوهرا وذاتا ، وشيئا وموجودا.

ولا يدخل فيها كونه حادثا ، وقابلا للأعراض ، ومتحيزا.

أما كونه متحيزا : فلأنا بينا أنه لا معنى له غير وجوده فى المكان ، أو تقدير المكان (٣).

ولا يخفى أن ذلك صفة زائدة على ذات الجوهر ملازمة له ؛ لا أنها نفسه وذاته.

وأما كونه حادثا : فلا معنى له غير كون وجوده مسبوقا بالعدم ؛ وذلك أيضا صفة زائدة على ذات الجوهر ، لا أنها نفسه ، وكذلك كونه قابلا للأعراض.

__________________

(١) سماها الآمدي بالصفة غير المعللة : وعرفها بقوله : «وأما الصفة غير المعللة» فلا يفتقر الحكم بها على الذات إلى قيام صفة أخرى بالذات : كالعلم والقدرة ونحوهما ، وقد يعبر عنها بالصفات النفسية» [المبين للآمدى ص ١٢١].

(٢) انظر ما سيأتى فى الباب الثالث ـ الأصل الأول : فى الأحوال ل ١١٣ / ب وما بعدها.

(٣) راجع ما مر فى النوع الأول : فى أحكام الجواهر مطلقا. الفصل الثانى : فى معنى الحيز ، والمتحيز ، والتحيز ل ٢ / ب وما بعدها.

٢٥٣

ومن مال إلى القول بالأحوال ؛ كالقاضى أبى بكر وغيره ، فعنده صفات النفس أحوال زائدة على وجود النفس ملازمة لها ، وأولى العبارات بهذا المذهب ما ذكره بعض الأصحاب. من أن الصفة النفسية عبارة عن : كل صفة ثبوتية زائدة على الذات لا يصح توهم انتفائها مع بقاء الذات الموصوفة بها ؛ وذلك كما ذكر من الأمثلة.

فإن كون الجوهر جوهرا وشيئا وذاتا ، ومتحيزا ، وقابلا للأعراض ، وحادثا بأحوال زائدة على وجود الجوهر عند القاضى ، وغيره من القائلين بالأحوال ، ولا يتصور توهم انتفائها مع بقاء ذات الجوهر.

وأما الصفة المعنوية : فعبارة عن كل صفة ثبوتية دل الوصف بها على معنى زائد على الذات [وتصديقا للذات دونها (١)] ثم اختلف أصحابنا.

فمن قال : / بالأحوال قسم الصفة المعنوية إلى معللة كالعالمية والقادرية ونحوهما ، وإلى غير معللة : كالعلم ، والقدرة ، ونحوه.

ومن أنكر الأحوال : أنكر الصفات المعللة ، ولم يجعل كون العالم عالما ، والقادر قادرا زائدا على قيام العلم ، والقدرة بذاته.

وأما المعتزلة : فإنهم قسموا الصفات إلى نفسية ، ومعنوية ، وإلى صفة حاصلة بالفاعل وليست نفسية ولا معنوية ، وإلى صفة تابعة للحدوث ، وليست حاصلة بفعل الفاعل ، ولا هى نفسية ولا معنوية.

أما الصفة النفسية : فهم فيها مختلفون.

والّذي صار إليه الجبائى : أن صفة النفس أخص وصف النفس ، وهو ما يقع به تماثل المثلين ، واختلاف المختلفين : ككون السواد سوادا ، والبياض بياضا ، ولم يجعل كونه لونا صفة نفسية ولم يجوز اجتماع صفتى نفس فى شيء واحد.

وقال أكثرهم : صفة النفس هى الصفة اللازمة للنفس ؛ وجوزوا على ذلك اجتماع صفتى نفس فى ذات واحدة ؛ لإمكان تعدد الصفات اللازمة للنفس ؛ ككون السواد سوادا ، ولونا ، وعرضا ، وشيئا ، ويدخل فيه كون الرب تعالى عالما ، وقادرا ؛ لكونه لازما

__________________

(١) ساقط من (أ).

٢٥٤

لنفسه. واتفقوا : على أن صفة النفس : هى التى يشترك فيها الموجود والمعدوم ، وتكون ثابتة للشىء فى حالة وجوده ، وفى حالة عدمه.

كما ذكروه من الأمثلة.

وأما الصفة المعنوية : فقد اختلفت عباراتهم فيها أيضا.

فمنهم من قال : الصفة المعنوية : كل صفة معللة بمعنى زائد على الموصوف ككون العالم عالما ، وكون القادر قادرا فى الشاهد.

ومنهم من قال : الصفة المعنوية كل صفة زائدة جائزة ، وأما الصفة الحاصلة بالفاعل ، وليست نفسية ، ولا معنوية ، فهى الحدوث عندهم.

وإنما (١١) / / قالوا الحدوث ليس صفة نفسية ، لأن المعدوم الممكن عندهم يتصف بكونه نفسا مع انتفاء صفة الحدوث عنه ، وليس صفة معنوية ؛ إذ هو غير معلل.

وأما الصفات التابعة للحدوث : فهى ما لا تحقق لها فى حالة العدم ، ولا يتصف بها الممكن المعدوم إلا بعد وجوده ؛ وكلها متفقة فى امتناع استنادها إلى فعل فاعل ، وقدرة قادر ، وهى منقسمة ، فمنها : ما هو واجب الحصول مع الوجوب ، والحدوث.

ومنها : ما لا يجب حصوله عند الحدوث كتحيز الجوهر ، وقبوله للأعراض ، وحلول الأعراض فى المحل ، وتضادها ، وإيجاب العلة معلولها ، وتقبيح القبيح.

وأما ما لا يجب حصوله / عند الحدوث.

فمنه ما هو تابع للإدارة : وذلك ككون الأمر أمرا.

فإن قول القائل لغيره : افعل ، قد يوجد ، ولا يكون أمرا على ما تحقق قبل ، وإنما يصير أمرا بالإرادة.

وككون الفعل تعظيما ، وإهانة ، وطاعة ، ومعصية.

فإنه قد يوجد الفعل ، ولا يوصف بشيء من ذلك دون القصد والإرادة ، وأما حسن

__________________

(١١)/ / أول ل ٣٦ / ب من النسخة ب.

٢٥٥

الحسن : فمنهم من جعله من الصفات التابعة للحدوث وجوبا كالقبح.

ومنهم من جعله تابعا للإرادة ، والقصد.

ومنه ما اختلفوا فى كونه تابعا للعلم أو الإرادة : كإحكام الفعل ، وإتقانه ، فمنهم من قال : إنه تابع للعلم دون غيره محتجا على ذلك. بأن من تدرب بصنعة ، وحصل له بها ملكة ؛ فقد يوجد منه في بعض الأحيان من تلك الصناعة ما هو على غاية الحكمة ، والإتقان ، من غير قصد وإرادة ؛ وهو دليل استقلال العلم به.

ومنهم من قال إن المؤثر فى إحكام الفعل ؛ إنما هو الإرادة مشروطا بكون العالم عالما به ، واتفقوا على أن ما يؤثر فيه العلم لا فرق فيه بين العلم الضرورى ، وغير الضرورى.

واختلفوا فيما تؤثر فيه الإرادة.

فمنهم من قال : المؤثر من الإرادات ما كان مقدورا مخترعا للمريد دون ما كان منها ضروريا ، بخلاف العلم.

ومنهم من لم يفرق بين الإرادتين ، كما لم يفرق بين العلمين ؛ وهو اختيار أبى هاشم.

وإذ أتينا على تفاصيل مذاهبهم فى الصفات ، واستقصائها على أحسن ترتيب ؛

فلا بد من تتبعها على ما هو المألوف من عادتنا.

فنقول : أما أولا : فهو أن ما ذكروه من نسبة الصفات ؛ فمبنى على فساد أصولهم أن المعدوم الممكن شيء وذات ، وأن الوجود زائد عليه وسنتبين إبطاله فيا بعده (١).

ونبين أن المعدوم ليس بشيء ، وأن كل صفات الإثبات لا تحقق لها إلا مع الوجود ، وأنه ليس منها ما يكون متقدما عليه. هذا من جهة الجملة ، وأما من جهة التفصيل فنقول:

__________________

(١) راجع ما سيأتى فى الباب الثانى : فى المعدوم وأحكامه ـ الفصل الرابع ل ١٠٨ / ب وما بعدها.

٢٥٦

أما قول الجبائى : فقد أكثر الأصحاب فى الرد عليه. بما لست قانعا به. والّذي نراه أن يقال : قوله : الصفة النفسية هى أخص وصف النفس ، وما يقع به الاختلاف بين الذوات ، إن أراد به ما يدل بالوصف به على نفس الذات ، لا على معنى زائد عليها ؛ فهو ما قاله أصحابنا.

وإن أراد به ما يدل الوصف به على معنى زائد على الذات ، خاص بها دون غيرها وبه يقع الافتراق بين تلك الذوات ، وغيرها.

وهو حال على ما هو مذهب ؛ فهو مبنى علي القول بالأحوال ؛ وسيأتى / إبطاله (١).

وأما من قال منهم الصفة النفسية : ما كانت ملازمة للنفس ؛ فقد وافقوا على أن صفة النفس لا تكون معللة.

ويلزمهم من ذلك أن تكون عالمية الرب تعالى وقادريته ، ومريديته ليست من الصفات النفسية مع كونها ملازمة لذات الله تعالى ، ضرورة أنها معللة بالعلم ، والقدرة والإرادة ، كما بيناه فى الصفات (٢) ، وعلى ما يأتى تحقيقه فى العلل ، والمعلولات (٣).

وأما قول من قال : الصفة المعنوية : كل صفة معللة بمعنى زائد على الموصوف بها.

فيلزمهم أن تكون عالمية الرب تعالى ـ صفة معنوية ، وأن لا تكون العالمية فى الشاهد صفة معنوية ، لما بيناه فى الصفات من امتناع تحقق الفرق بين العالمية شاهدا ، وغائبا (٤).

فإن ما هو اللازم لإحدى العالميتين ، يكون لازما للأخرى.

وعند ذلك : فإن كانت العالمية فى الشاهد معللة ؛ لزم مثله فى الغائب ؛ وخرجت العالمية فى الغائب عن أن تكون صفة نفسية.

__________________

(١) راجع ما سيأتى فى الباب الثالث : فيما ليس بموجود ولا معدوم ـ الأصل الأول فى الأحوال ل ١١٤ / أوما بعدها.

(٢) راجع ما مر من فى الجزء الأول ـ النوع الثانى : فى الصفات النفسانية لذات واجب الوجود ل ٥٣ / ب وما بعدها.

(٣) راجع ما سيأتى فى الباب الثانى ـ الأصل الثانى : فى تحقيق معنى العلل والمعلولات ل ١١٧ / ب وما بعدها.

(٤) راجع ما مر فى الجزء الأول ل ٧٢ / ب وما بعدها.

٢٥٧

وإن كانت العالمية فى الغائب غير معللة ؛ لزم مثله (١١) / / فى الشاهد ، وخرجت العالمية فى الشاهد عن أن تكون معنوية ، وكل واحد من الأمرين مخالف لأصولهم.

وأما قول من قال : الصفة المعنوية : كل صفة جائزة ؛ فهو منقوض عليهم بالحدوث فإنه من الصفات الجائزة للجواهر ، والأعراض ، وليس هو من الصفات المعنوية عندهم.

وإن قالوا : المراد بالصفة الجائزة ، ما كانت معللة ؛ فهو عود إلى العبارة الأولى ، وقد عرف ما فيها.

وأما ما ذكروه فى الصفة الحاصلة بالفاعل ؛ وليست نفسية ، ولا معنوية ؛ فهو مبنى على كون الوجود زائدا على الذات المتصفة ، بالوجود وأن المعدوم الممكن نفس ، وذات ؛ وسيأتى إبطاله (١).

وأما ما ذكروه من الصفات التابعة للحدوث.

أما ما قيل بوجوب ثبوته تابعا للحدوث ، فهو حال لا ثبوت له قبل الحدوث.

وعند ذلك ؛ فلا يخلوا إما أن يفرع على القول بثبوت الأحوال ، أو نفيها فإن فرعنا على القول بنفى الأحوال ، وهو الصحيح على ما يأتى (٢).

فلا ثبوت لشيء من هذه الصفات التى قيل بوجوب اتباعها للحدوث ، أو أن يكون من الصفات الوجودية ، وكل موجود حادث ؛ فلا بد له من فاعل بالاتفاق منا ، ومن الخصوم ؛ ولم يقولوا بكل واحد من القسمين. وإن فرعنا على القول بثبوت الأحوال ؛ فقد تردد قول القاضى فيها.

فقال تارة : كقول المعتزلة : إنها غير مقدورة ، بل مانعة / للحدوث متمسكا فى ذلك بما عساه أن يكون مأخذ للمعتزلة فيه ؛ على ما يأتى شرحه ، وإبطاله

وقال تارة : إنها وإن كانت أحوالا : فهى وما لازمته من الوجود بالفاعل حتى أنه قال : إن كون العالم عالما ، وكون القادر قادرا ، فى الشاهد ، وإن كان معللا بالعلم ، والقدرة ؛ فهو وعلته بالفاعل.

__________________

(١١)/ / أول ل ٣٧ / أمن النسخة ب.

(١) انظر ما سيأتى فى الباب الثانى ـ الفصل الرابع ل ١٠٨ / ب وما بعدها.

(٢) انظر ما سيأتى فى الباب الثالث ـ الأصل الأول : فى الأحوال ل ١١٤ / أوما بعدها.

٢٥٨

وليس معنى كون العلم علة للعالمية ، أن العلم مقتض للعالمية : كاقتضاء القدرة مقدورها ؛ بل معناه أن العالمية ملازمة في حدوثها لحدوث العلم لا غير ؛ وهذا هو الحق وعليه التعويل إذا فرعنا على القول بالأحوال ويدل على ذلك. أن هذه الصفات صفات إثباتية متجددة بعد أن لم تكن.

وعند ذلك : فلا يخلو إما أن تكون واجبة لذاتها ، أو ممكنة لذاتها.

لا جائز أن تكون واجبة الثبوت لذاتها لوجهين :

الأول : أنها لو كانت واجبة الثبوت لذاتها ، لما زالت ثابتة وقد قيل إنه لا ثبوت لها قبل الحدوث.

الثانى : أنها لو كانت واجبة الثبوت لذاتها ؛ لما كانت صفة للغير على ما عرف غير مرة.

وإن كانت ممكنة الثبوت لذاتها : فكل ما هو ممكن أن يكون ؛ فهو ممكن أن لا يكون.

وما هذا شأنه ؛ فلا بد له من مرجح لثبوته على نفيه ، وإلا لتحقق أحد الجائزين من غير مرجح ؛ وهو محال كما سبق (١).

وإذا لم يكن بد من المرجح ؛ فقد بينا أنه لا مؤثر إلا الله تعالى (٢).

ولا مثبت سواه ؛ فيلزم أن تكون مستندة إليه كاستناد الحدوث إليه ؛ هذا بالنظر إلى الدلالة.

وأما الإلزام : فهو أن الحدوث حال متجددة.

وما ذكروه من الصفات أحوال متجددة.

ولو قيل لهم ما الفرق بين الحدوث ، وباقى صفات الأحوال اللازمة للحدوث ، حتى كان الحدوث بفعل الفاعل ، دون غيره ، لم يجدوا إليه سبيلا.

__________________

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الأول ل ٤١ / أوما بعدها.

(٢) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الثانى : فى أنه لا خالق إلا الله ـ تعالى ـ ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه ل ٢١١ / ب وما بعدها.

٢٥٩

فإن قيل : الحدوث إنما افتقر إلى الفاعل ؛ لأنه جائز أن يكون ، وجائز أن لا يكون ؛ بخلاف ما ذكرناه من الصفات.

فإنها مع فرض الحدوث ليست جائزة أن تكون ، وجائزة أن لا تكون ؛ بل واجبة الوقوع مع الحدوث ؛ فلا يلزم من افتقار الحدوث إلى الفاعل ؛ افتقارها إليه.

قلنا : فيلزمكم من تسليم كون الحدوث مستندا إلى الفاعل ؛ لكونه جائزا ؛ أن يكون وقوع الكلام مقيدا ، ومصروفا إلى بعض جهات الإفادة وكذلك صرف الفعل إلى بعض جهاته من التعظيم ، والإهانة ، والطاعة والمعصية مستندا إلى / الفاعل ؛ لكونه جائزا بالاتفاق منهم ؛ ولم يقولوا به. ثم قد بينا أن ما ذكروه من الصفات أيضا جائزة ؛ فيلزم استنادها إلى الفاعل.

قولهم : إنها واجبة الوقوع مع الحدوث.

قلنا : الحدوث وما ذكروه من الصفات متلازمان وجودا ، وعدما ؛ فإنه كما أنه يلزم من الحدوث ما ذكروه من الصفات ، ومن عدمه عدمها.

فكذلك يلزم تحقق الحدوث عند فرض تحققها وعدمه ، عند فرض عدمها.

وعند ذلك : فليس القول بكون الحدوث جائزا ، واستناده إلى الفاعل وجعل باقى الصفات واجبة التبعية ؛ أولى من العكس.

وإن سلمنا أن الحدوث جائز ، وباقى الصفات المذكورة واجبة.

فلم قلتم بأنه لا يعلل ما كان من الأحكام واجبا ، وإنما (١١) / / يعلل منها ما كان جائزا؟

وعلى هذا : فكون العالم عالما فى الشاهد عند قيام العلم به : إما أن يكون واجبا ، أو جائزا

فإن قلتم : إنه واجب ؛ فيلزم أن لا يعلل طردا لأصلكم فى هذا الباب ؛ وقد قيل إنه معلل ؛ فلا يكون واجبا.

وإن كان جائزا : فيلزم استناده إلى الفاعل ؛ ضرورة كونه جائزا كما قلتم فى الحدوث.

__________________

(١١)/ / أول ل ٣٧ / ب.

٢٦٠