أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٣

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0326-3
الصفحات: ٤٧٠

فلو اشترط فى التأليف الرطوبة ، واليبوسة ، والبيّنة المخصوصة ؛ لكان على خلاف هذا الأصل :

وأمّا من قال بالاشتراط : فقد احتج بأن التأليف المتولد عن المجاورة مما يصعب فكه ، وتحويره.

والمجاورة من غير رطوبة ، ولا يبوسة مما لا يتحقق معها هذا التأليف ويتحقق مع الرطوبة ، واليبوسة ؛ فقد دار التأليف معها وجودا وعدما ؛ فكانت شرطا فيه.

وهذا تفريع منهم على أن التأليف ، غير المجاورة ، وأنه متولد عن المجاورة ؛ وهو فاسد على ما سبق.

وبتقدير تسليم ذلك جدلا ؛ فما ذكروه من الحجج مدخوله.

أما الحجة الأولى : للنافين

فلقائل أن يقول : وما المانع أن يكون ذلك شرطا فى الابتداء دون الدوام ؛ كما فى القدرة مع المقدور ؛ فإنه يشترط / تعلقها به عندكم قبل وجوده من ابتداء وجوده ، وأنه يشترط ذلك فى دوامه.

وأما الحجة الثانية : فهى باطلة بالمجاورة.

فإنها مشترطة فى التأليف عندهم ؛

ومع هذا فإن المجاورة القائمة بكل واحد من الجوهرين لا تتعداه إلى مجاوره.

وأما الحجة الثالثة : فيلزمهم عليها سائر الأعراض ، التى شرطوا فيها البيّنة المخصوصة.

قولهم : إنما شرطوا ذلك فيما يثبت حكمه للجملة التى محله منها ؛ فمبنى على فاسد أصولهم ، فى جواز تعدى حكم العرض إلى غير محله ؛ وهو محال كما يأتى.

وإن سلم جواز ذلك ؛ ولكن ما المانع من اشتراط ذلك أيضا فى بعض الأعراض التى لا يتعدى حكمها محلها كما فى التأليف (١).

__________________

(١) التأليف : والتأليف هو جعل الأشياء الكثيرة بحيث يطلق عليها اسم الواحد. سواء كان لبعض أجزائه نسبة إلى البعض بالتقدم والتأخر أم لا. فعلى هذا يكون التأليف أهم من الترتيب. [التعريفات للجرجانى ص ٥٩].

٢٢١

ويكون ذلك مستثنى من الأعراض التى [لا يتعدى حكمها محلها كما استثنيتم الأكوان من الأعراض التى] (١) لا يشترط فيها الحياة وحيث قلتم : بكونها موجبة للأحوال ؛ دون غيرها من الأعراض التى لا يشترط فيها الحياة.

وأيضا : فإنه كما امتنع قيام سواد واحد بمحلين.

وجاز ذلك فى التأليف الواحد ؛ فلا يمتنع اشتراط الرّطوبة ، أو اليبوسة فى التأليف وإن لم يشترط ذلك فى غيره من الأعراض التى لا يتعدى حكمها محلها.

وأما حجة القائلين بالاشتراط ، وإن كانت لازمة على أصول المعتزلة.

غير أن لقائل أن يقول! ما المانع من أن يكون سبب صعوبة التفكيك لا (١) من الرطوبة (٢) واليبوسة ؛ بل لعدم خلق الله تعالى القدرة على ذلك فى بعض الأجسام ؛ بحكم جرى العادة ، أو بأن يخلق الله ـ تعالى ـ فى أجزاء الأجسام أكوانا تخصّصها ؛ لجهاتها أكثر ممّا يحاوله العبد بقدرته ؛ فلا يوجد فعل العبد لذلك أبدا ، ولهذا فإنه لو تجاذب رجلان بينهما حبلا ؛ وكان أحدهما أشد من الآخر ، وانجذب الحبل من جهته ، وصار غالبا لاعتمادات الأضعف مع أنهّا لو انفردت ؛ لاستقلت بجذب الحبل ، أو أن التفاوت فى ذلك بسبب اختلاف أجناس التأليفات كما قاله الجبائى.

الاختلاف السابع (٣) :

ذهب الجبائى : إلى أن التأليفات مختلفة باختلاف أشكال المؤتلف بها وباختلاف جهاته.

وقال أبو هاشم. التأليفات كلها متجانسة.

احتج الجبائى : بأن النّاظر يدرك التفرقة بين أشكال الأجسام واختلافها ؛ ضرورة كما يدرك اختلاف الألوان ، والطعوم ، والأراييح

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) (لا من الرطوبة) ساقط من ب.

(٣) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص ٤٨٤. وانظر المواقف للإيجي ص ١٦٧. وشرح المواقف للجرجانى ٦ / ١٩٧.

٢٢٢

وليس ذلك إلا باختلاف التأليف ؛ فإنه لو قدر التساوى فى تأليفاتها ، والتشابه فيها ، لما اختلفت أشكالها.

واحتج أبو هاشم : على التجانس بأن أخصّ صفة نفس / التأليف ، قيامه بمحلين ؛ وذلك مشترك فيه بين جميع التأليفات ؛ فكانت متجانسة ؛ وهذه الحجج مدخولة :

أما حجة الجبائى : فما ذكرناه على حجته فى كون التأليف مدركا باللمس ، والبصر ؛ فلا يخفى وجهه.

وأما حجة أبى هاشم : فمبنية على قيام التأليف الواحد بمحلين ؛ وهو باطل بما سبق وإن سلمنا ذلك جدلا ؛ فلا مانع أن تكون التأليفات ، مختلفة وقد اشتركت فى عارض واحد ، لازم لها.

وإنما ثبت كون ذلك أخصّ وصف التأليف أن لو لم تكن التأليفات مختلفة ، وامتناع كونها مختلفة ؛ يتوقف على كون ما ذكره من أخصّ وصف التأليف ؛ وهو دور.

الاختلاف الثامن : (١)

ذهب الجبائى : إلى أن التأليف يجوز وقوعه مباشرا بالقدرة ، ويجوز وقوعه متولدا عن المجاورة.

وخالفه أبو هاشم فى ذلك. وقال : لا يجوز وقوع التأليف إلا متولدا ؛ لأن شرط المباشر بالقدرة جواز وقوعه (١١) / / بدون ما تولده وليس التأليف كذلك ؛ لاستحالة وقوعه دون المجاورة المولدة له.

وما ذكره أبو هاشم ؛ فهو لازم على أبيه ؛ لما عرفناه فى أصل التّولّد من اتّفاق المعتزلة على أن المتولّد من السبب لا يكون إلا مباشرا بالقدرة الحادثة ، دون توسط السبب. غير أنه فاسد على أصولنا ؛ لما حققناه فى التولّد ، وبيناه ومن إبطال كل ما تمسكوا به من الحجج فيه (٢).

__________________

(١) قارن بما ورد فى المواقف للإيجي ص ١٦٧. وشرح المواقف للجرجانى ٦ / ١٩٧.

(١١)/ / أول ل ٣٢ / أ.

(٢) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الثانى ـ الفرع الثامن : فى الرد على القائلين بالتولد ل ٢٧٢ / ب وما بعدها.

٢٢٣

الفرع السادس : فى الزمان (١)

وقد اختلف الناس فيه.

فمنهم من قال : إنه لا وجود له أصلا (٢).

ومنهم من قال : إنه موجود (٣).

ثم اختلف القائلون بالوجود :

فمنهم من قال : إنه لا وجود له : فى غير الأذهان ، ومنهم من قال : إنه موجود فى الأعيان.

ثم اختلف القائلون بوجوده فى الأعيان :

فمنهم من قال : إنه جوهر (٤) ، ومنهم من قال : إنه عرض ،

ومنهم من قال : إنه ليس بجوهر ، ولا عرض.

فأما القائلون بكونه جوهرا :

فمنهم من قال : إنه متجدد غير باق.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة انظر من كتب المتقدمين على الآمدي :

انظر : مقالات الإسلاميين للإمام الأشعرى ٢ / ١٣٠ ، ١٣١. والملل والنحل للشهرستانى ٢ / ٢٠٥.

ومن كتب المتأخرين عن الآمدي :

انظر : المواقف للإيجي ص ١٠٨ ـ ١١٢ وشرح المواقف للجرجانى ٥ / ٨٠ ـ ١١٥.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٣٨ ـ ٥٢ المبحث الثانى : فى الزمان.

وشرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص ٨٧ المبحث الرابع : فى الزمان.

وقد عرف الآمدي الزمان فقال : «وأما الزمان : فعبارة عما به تقدير الحركات.

وأما الآن : فعبارة عن نهاية الزمان. وإن شئت قلت : هو ما يتصل به الماضى بالمستقبل». [المبين للآمدى ص ٩٦].

(٢) هم المتكلمون : قال الإيجى والجرجانى : «المقصد السابع : إنكار المتكلمين للزمن (أنهم) أعنى المتكلمين كما أنكروا العدد والمقدار الّذي هو الكم المتصل القار أنكروا أيضا الزمان الّذي هو الكم المتصل غير القار ... الخ.

[المواقف للآيجى ص ١٠٨ ـ ١١٢ وشرحها للجرجانى ٥ / ٨٠ ـ ١١٥].

(٣) القائلون بوجود الزمان هو الفلاسفة.

وقد تحدث التفتازانى عن هذا الموضوع بالتفصيل فى شرح المقاصد ٢ / ٣٨ ـ ٥٢ فذكر أدلة الفلاسفة على وجود الزمان ، ثم تحدث عن اختلاف المتكلمين والفلاسفة فى حقيقة الزمان ، ثم تحدث عن نقض أدلة الفلاسفة ، ثم قال : وذهب القدماء إلى أنه جوهر مستقل».

(٤) القائلون بأن الزمان جوهر مستقل هم قدماء الفلاسفة. فمنهم من زعم أنه واجب الوجود ، ومنهم من اعترف بإمكانه : وإليه ذهب أفلاطون وأتباعه [شرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٥١ ، ٥٢].

٢٢٤

ومنهم من قال : إنه باق غير متجدد ؛ وهو جرم الفلك.

وأما القائلون : بكونه عرضا.

فمنهم من قال : الزمان نسبة لموجود ، لم يزل ، ولا يزال ؛ إلى ما ليس بأزلى ويزول.

ومنهم من قال : إنه مقارنة موجود لموجود.

ومنهم من قال : إنه حركة الفلك.

ومنهم من قال : إنه مقدار الحركة الفلكية.

وإذا أتينا على شرح المذاهب بالتفصيل ؛ فلا بد من تحقيق الحق ، وإبطال الباطل منه ؛ فنقول :

أما القائلون بوجود / الزمان ؛ فقد زعموا أن العلم بوجود الزمان ضرورى وذلك لما استقر فى الأذهان ، وترسّخ فى النفوس من الزمان ، وتقسيم العقلاء له إلى أعوام ، وأشهر ، وأيام ، وساعات ، ودقائق إلى غير ذلك مما لا يمكن معه منع وجود الزمان.

قالوا : وإذا ثبت أنه موجود ؛ فبيان أن وجوده فى الأعيان ؛ هو أن موجودات الأعيان تضاف إليه بأنها فيه. ولو لم يكن وجوده ، وجودا عينيا ؛ لما كان الموجود العينى فيه.

قالوا : وإذا ثبت أن وجوده عينى.

قال أفاضل الفلاسفة : هو مقدار الحركة الدوريّة الفلكية لا غير.

وبيان ذلك : أنّا لو فرضنا حركتين ، متساويتين فى السرعة والبطء ، وهما متفاوتتان فى الأخذ ، متساويتان فى القطع ؛ فإنا نعلم أن بين ابتداء كل واحدة منهما ، وانتهائها إمكان قطع مسافة ، وأن ما بين ابتداء الحركة الأولى ، وانتهائها من إمكان قطع المسافة لديه مما بين ابتداء الحركة الثانية ، وانتهائها

ولهذا تفاوتا فى قطع المسافة حتى كانت المسافة المقطوعة بالحركة الأولى أزيد من مسافة الثانية منهما.

فإذن هذه الإمكانات الواقعة بين ابتداء الحركات ، وانتهائها مما يدخلها التقدير ، والتجربة.

٢٢٥

فإنه يمكن تجزئتها ، وتقدير بعضها ببعض ؛ فهى من المقادير وليست من غير المقادير المتصلة ؛ لمطابقتها للحركات المتصلة ، وما طابق المتصل متصل.

ثم قالوا : وهذه الإمكانات المتصلة ، التى بين ابتداء الحركات ، وانتهائها : إما أن تكون هى نفس الحركة ، أو المتحرك ، أو المحرك لها ، أو المسافة ، أو ما هو مقدار لأحد هذه الأمور ، أو الحالة فيها.

لا جائز أن تكون هى نفس الحركة لوجوه أربعة :

الأوّل : ـ هو أنا إذا فرضنا وقوع حركة من الحركات ؛ فالإمكان الّذي بين ابتدائها ، وانتهائها متّحد لا يختلف. وما يمكن أن تقع فيه من الحركات المختلفة بالسرعة ، والبطء متفاوتة ولذلك كانت متفاوتة فى قطع المسافة.

الثّاني : ـ أن ما مثل هذا الإمكان ، قد يقدر فرض توهمه مع عدم توهم وقوع الحركات ، ولو كان هو نفس الحركة ؛ لكان متناقضا.

الثالث : ـ أن هذه الإمكانات لا توصف بالسرعة والبطء ، بخلاف الحركات ؛ فلا تكون هى نفس الحركة ، وإلّا كان متصفا بما لا يكون متصفا به ؛ وهو محال.

الرابع : ـ هو أن هذا الإمكان ، قد يكون متحدا ، وما يطابقه من الحركات متعددا ؛ والمتحد غير المتعدد.

وعلى هذا : / فقد بطل أن يكون الزمان مسببا من الحركات. ولا يلزم من كونه على التقضى ، والتجدد ، ومن كون الحركات كذلك ؛ أن يكون هو الحركة.

فإنه لا مانع من اشتراك شيئين مختلفين ، فى عارض واحد.

ولا جائز أن يكون هو المحرّك ، ولا المتحرك ، ولا المسافة ولا شيء (١١) / / من الأجسام ، لأن ما من جسم يفرض من الأجسام ، إلّا ويمكن فرضه باقيا ؛ مع تجدد هذه الإمكانات ، وتعاقبها ؛ والمتجدد غير ما ليس بمتجدد.

فإن قيل : كل جسم فهو موجود فى الزمان ، وما يشاهد فيه وجود جميع الأجسام ليس غير الفلك ؛ فكان هو الزمان ؛ فهو خطأ ؛

__________________

(١١)/ / أول ل ٣٢ / ب.

٢٢٦

لأنه ليس كل جسم فى الفلك ؛ فإن الفلك من جملة الأجسام ، وليس هو فى نفسه وبتقدير أن يكون كل جسم فى الفلك ، وكل جسم فى الزمان ؛

فليس فى إثبات هذه الصفة لها ما يوجب الاتحاد بينهما ، ولا الاختلاف فإنه على نمط الشكل الثانى من موجبتين ؛ وهو غير منتج (١).

فإذن لا بد وأن يكون مقدارا لأحد هذه الأمور ، أو الحالة فيها ؛ وليس هو مقدار المحرك ، ولا المتحرك ؛ وإلا كان ما هو متفاوت كغيره ، وفى مقداره مفاوتا له فى قطع المسافة ولا هو مقدار المسافة.

وإلا لما تفاوتت الحركة السريعة ، [والبطيئة] (٢) مع اتحاد المسافة فى هذا الإمكان ، وهو محال.

كيف وأن هذا الإمكان مما يمكن فرض توهمه مع عدم توهم كل ما يفرض من هذه الأمور ، وكذا كل ما يفرض لها من الأحوال ؛ فلا يكون شيئا منها لما تحقق قبل.

ولأن هذه الإمكانات على التقضى ، والتجدد ، وكل ما يفرض من هذه الأمور ؛ فباقية غير متجددة ؛ والمتجدد غير ما ليس بمتجدد.

ولا جائز أن يكون هو نفس ما يقع به التفاوت بين الحركات من السرعة ، والبطء (٣).

فإنه مما يقع الاختلاف فيه ، مع تساوى الحركات المفروضة فى السرعة والبطء المتفاوتة للأخذ أو القطع.

فإذن هو ليس إلا مقدار الحركة ، وهى ما تطابقه الحركة ، وتقع فيه ؛ وهو مساو لها فى الوجود ، وهو على التقضى ، والتجدّد.

__________________

(١) لأن شرط إنتاج الشكل الثانى : اختلاف مقدمتيه فى الإيجاب والسلب.

انظر ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الثالثة ـ الباب الثانى ـ الفصل الخامس : فى أصناف صور الدليل وتنوع تأليفه. الشكل الثانى ل ٣٥ / ب.

(٢) ساقط من أ.

(٣) عرف الآمدي السرعة والبطء فقال : «أما السرعة فعبارة عن اشتداد الحركة فى نفسها.

وأما البطء : فهو عبارة عن ضعفها. وربما ظن أن البطء : عبارة عن تخلل السكنات ، والسرعة : عبارة عن تقللها» [المبين للآمدى ص ٩٥ ، ٩٦].

٢٢٧

وبين كل جزءين منه آن ، وهو نهاية الزمان ، ومقطعه ، وهو ما يتصل به الماضى بالحال.

وليس بجوهر ؛ لأنه لو كان جوهرا : لم يخل : إما أن يكون من الجواهر المحسوسة ، أو لا (١) من المحسوسة (١) :

فإن كان الثانى : خرج عن أن يكون فيه الجوهر المحسوس ، والزمان ؛ ففيه الجواهر المحسوسة.

وإن كان محسوسا : فلا بد وأن يكون فى زمان.

فإن كان / فى نفسه ؛ فهو محال.

وإن كان فى غيره : لزم التسلسل.

فقد ثبت أن الزمان عرض ، ومن جملة الأعراض مقدار ، ومن المقادير متصل ، ومع اتصاله فعلى التقضى والتجدد ؛ فهو أحد أنواع الكم ، وبطل كل ما قيل من المذاهب فيه.

وأعلم أن هذا هو أشبه ما قيل فى الزمان ؛ ومع هذا ففيه نظر.

إذ لقائل أن يقول : لا نسلم أن المفهوم من الزمان ، أمر وجودى.

وما ذكرتموه من دعوى الضرورة لها. إما أن تدعو العلم الضرورى بوجود مفهوم الزمان ، أو بمفهوم الزمان.

فإن كان الأول : فهو غير مسلم.

وإن كان الثانى : فهو مسلم ؛ ولكن لا يلزم أن يكون وجوديا ؛ فإن العلم بالمفهوم أمر أعم من العلم بكونه وجوديا.

ثم الدليل على أنه غير وجودى من وجهين :

الأول : أنه لو كان موجودا : فهو إما واجب ، وإما ممكن.

لا جائز أن يكون واجبا : وإلا لما كانت أبعاضه على التقضى والتجدد.

وإن كان ممكنا : فإما جوهر ، أو عرض ؛ لما سبق من الحصر.

__________________

(١) (من المحسوسة) ساقط من ب.

٢٢٨

لا جائز أن يكون جوهرا : لما ذكرتموه.

ولا جائز أن يكون عرضا :

وإلا فلا بد له من موضوع ؛ وذلك الموضوع ، لا بد وأن يكون جوهرا ، أو قائما بالجوهر وذلك إما محسوس أو غير محسوس.

فإن لم يكن محسوسا : استحال أن يقوم به الزمان الّذي هو طرف المحسوسات.

وإن كان محسوسا : فجميع الجواهر المحسوسة فى الزمان ، ونسبة الزمان لها نسبة واحدة.

وعند ذلك : فإما أن يكون قائما بكلها ، أو ببعضها :

الأول : محال ؛ لأن الزمان الحاضر متحد ؛ وقيام المتحد بالمتعدد محال.

وإن كان الثانى : فليس قيامه بالبعض مع اتحاد النسبة أولى من البعض.

الثانى : ويخص مذهب الفلاسفة : أنه لو كان الزمان موجودا : فإما أن يكون منقسما ، أو غير منقسم.

فإن كان منقسما : فإما أن يوجد لجميع أجزائه معا ، أو أنه لا يوجد منه فى الحاضر إلا البعض.

الأول : محال وإلا كان الماضى منه مع الحاضر ؛ وهو ممتنع.

وإن كان الثانى : فذلك البعض : إما أن يكون منقسما ، أو غير منقسم.

فإن كان الأول : عاد التقسيم ؛ وهو تسلسل ممتنع.

(١١) / / وإن كان الثانى : فهو محال على أصلهم ؛ لأن الزمان مطابق بأجزائه لأجزاء الحركة ، والحركة مطابقة بأجزائها لأجزاء المسافة ، وأجزاء المسافة عندهم متجزئة عقلا إلى غير النهاية.

والمطابق لما طابق المتجزئ ؛ لا بد وأن يكون متجزئ. وهذه المحالات إنما لزمت من القول بوجود الزمان ؛ فلا / وجوده له.

__________________

(١١)/ / أول ل ٣٣ / أمن النسخة ب.

٢٢٩

وعلى هذا : فلا بعد فى قول القائل : إن الزمان ، وما يقدره المقدر ويفرضه الفارض من مقارنة موجود لموجود ، وما هو بعينه من العوارض ، وهو ما يعبر عنه بقولهم : كان كذا فى وقت طلوع الشمس ، أو غروبها : أى أنه قارن وجوده لطلوعها ، أو غروبها.

وإن سلمنا أنه موجود ؛ لكن ما المانع أن يكون وجوده فى الأذهان لا فى الأعيان.

قولكم : إن موجودات الأعيان تضاف إليه ؛ بأنها فيه.

قلنا : بمعنى أنه صفة لها ، ومقارن لوجودها ، أو بمعنى أنه طرف لها.

الأول : مسلم ؛ ولكن لا يلزم من مقارنته للموجودات العينية ، ولا من كونه صفة لها أن يكون وجوديا.

فإنه لا امتناع فى مقارنة الموجودات بالصفات العدمية ، واتصافها بها.

والثانى : ممنوع ، ولا يلزم من إضافتها إلى الزمان ؛ نفى أن يكون الزمان طرفا لها ؛ ولهذا فإنه يصح قول القائل : زيد فى الراحة والخصب ، وإن لم يكن ذلك طرفا له.

وإن سلمنا أنه موجود عينى ؛ فلا نسلم أنه مقدار الحركة. وما ذكرتموه من الإمكانات التى بين ابتداء الحركات ، وانتهائها ؛ فلا نسلم أنه أمر وجودى ؛ بل عدمى : فإن حاصله يرجع إلى مكان قطع المسافة بالحركة ؛ والإمكان فوصف عدمى على ما سبق تقريره.

قولهم : إنه يمكن تقدير بعضه ببعض ؛ غير مسلم.

قولهم : إن ما بين ابتداء الحركة السابقة ، وانتهائها من الإمكان أكثر مما بين ابتداء الثانية ، وانتهائها.

ليس كذلك ؛ بل التفاوت بالزيادة والنقصان ، إنما هو عائد إلى المسافة التى يمكن قطعها بالحركة ؛ إن كانت المسافة متفاوتة ، أو إلى سرعة الحركة ، وبطئها ؛ إن كانت المسافة متحدة.

وعلى هذا : فلا نسلم أنه يمكن فرض التفاوت مع قطع النظر عن التفاوت فى المسافة ، والبطء ، والسرعة ؛ ليصح ما ذكروه.

٢٣٠

الفرع السابع

فى الثقل ، والخفة ، والاعتمادات ، وأحكامها

ويشتمل على ثلاثة فصول :

الفصل الأول (١) : فى تحقيق معنى الثقل والخفة

الفصل الثانى : فى تحقيق معنى الاعتماد.

الفصل الثالث : فى اختلافات بين المعتزلة فى أحكام الاعتمادات ، ومناقضتهم فيها.

__________________

(١) فى نسخة ب استخدمت الحروف الأبجدية للدلالة على ترتيب الفصول.

٢٣١
٢٣٢

الفصل الأول

فى تحقيق معنى الثقل والخفة (١)

أما أصحابنا فقد اختلفوا

فمنهم من قال : الثقل ليس عرضا زائدا على نفس الجواهر ؛ بل ثقل الجوهر لنفسه وذاته.

وأن كل جوهر ثقيل ، ولا يتصور / التفاوت بين الجواهر الفردة فى الثقل.

وأن ما يجده من التفاوت فى الثقل بين الأجسام المركبة ؛ فعائدة إلى كثرة أجزاء الثقيل ، وقلتها فى الخفيف ، وهو اختيار الأستاذ أبى إسحاق فى أكثر أقواله.

ومنهم من صار إلى أن الثقل والخفة من الأعراض الزائدة على نفس الجوهر : كالقاضى أبى (٢) بكر ، ومن نصر مذهبه ؛ وهو مذهب المعتزلة والفلاسفة ، وهو الأظهر ، وحجّته أنا لو ملأنا إناء معينا ماء وضبطنا وزنه ثم فرغنا الاناء ، وملأناه زئبقا. فإما أن نجد زيادة الزئبق على الماء فى الثقل بأضعاف كثيرة ربما تزيد على عشرين مرة مع تساوى أجزائها عددا ؛ ضرورة اتحاد الحاصر لهما ولو تساوت أعداد الجواهر فى الثقل ؛ لما كان كذلك.

فعلم أن الثقل والخفة من الأعراض الزائدة على نفس الجوهر.

فإن قيل : ما نجده من التفاوت بين الماء والزئبق فى الثقل والخفة ، إنما هو راجع إلى كثرة أجزاء الزئبق ، وقلتها فى الماء ؛ بسبب انضمام أجزاء الزئبق وتراصها ، وتخلخل (٣) أجزاء الماء وانفراج بعضها عن بعض ؛ ويدل على ذلك : أنه لو وجد الماء ؛ فإنه ينحط عن فم الإناء بسبب اكتنازه وتضام أجزائه بعضها إلى بعض.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما ورد هاهنا :

انظر مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين للإمام الأشعرى ٢ / ١٠٥ ، ١٠٦ والشامل في أصول الدين للجوينى ص ٤٩٠ وما بعدها.

وشرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص ٨٧ ، ٨٨.

(٢) انظر الشامل فى أصول الدين للجوينى ص ٤٩٠.

(٣) التخلخل : ازدياد حجم من غير أن ينضم إليه شيء من خارج وهو ضد التكاتف [التعريفات للجرجانى ص ٦٣].

٢٣٣

ولهذا فإنا لو ملأنا الإناء ماء مرتين ؛ لم نجد بين الماءين تفاوتا ؛ لما وقع التساوى بينهما فى التخلخل ، والاكتناز ؛ وكذلك لو ملأناه زئبقا مرتين.

قلنا : هذا بيان منكم على إمكان الخلاء ، وهو ممنوع على ما سبق تحقيقه (١) وإن سلمنا إمكان تحقق الخلاء ؛ ولكن ما المانع أن يكون نقصان الماء عن فم الإناء بالجمد ؛ لنقصان بعض أجزائه. إما باعدام الله ـ تعالى ـ لها ، أو بسبب اختطاف الهواء لها.

فإن قيل : لو كان ذلك بسبب نقصان بعض أجزائه ؛ لظهر ذلك فى التفاوت فى الوزن ، وليس كذلك ؛ فإن وزن الماء لا يزيد على وزنه بعد جموده.

قلنا : ولو كان التفاوت بين الأجسام فى الثقل والخفة ، بسبب التخلخل ، والانفراج ، فنحن نعلم أن الإناء المفروض إذا (١١) / / ملأناه زئبقا وملأناه بعد ذلك ماء ، أن ثقل الزئبق يزيد على الماء بأضعاف ربما زادت على عشرين مرة.

ولو كان ذلك لكثرة الأجزاء فى الزئبق ، واكتنازها ، وقلتها فى الماء بسبب الانفراجات التى بينها ؛ للزم أن تكون أجزاء الزئبق أكثر من أجزاء الماء بعشرين ضعفا (٢) وعلى حسب زيادة أجزاء الزئبق تكون زيادة الفرج فى الماء على أجزائه / ؛ ويلزم من ذلك أن تكون الفرج بين أجزاء الماء تزيد على أجزاء الماء بعشرين ضعفا (٢) ، أو أزيد.

ولو كان كذلك ، للزم أن نرى الأحياز التى لا ماء فيها فى الإناء المفروض ملأه ماء أكثر من الأحياز المشغولة بالأجزاء المائية ؛ وهو محال ؛ لكونه خلاف الحس ، والشاهد.

__________________

(١) راجع ما سبق فى الفرع الخامس ـ الفصل الرابع ل ٥٢ / أوما بعدها.

(١١)/ / أول ل ٣٣ / ب من النسخة ب.

(٢) من أول (وعلى حسب زيادة أجزاء الزئبق ... بعشرين ضعفا) ساقط من ب.

٢٣٤

الفصل الثانى

فى تحقيق معنى الاعتماد (١)

وقد اختلف المتكلمون فيه :

فذهب بعض أصحابنا : إلى نفيه كالأستاذ أبى إسحاق ، وغيره (٢).

وذهب القاضى أبو بكر ، وكثير من أصحابنا ، والمعتزلة إلى إثباته (٣).

وذلك هو ما يحس به فى كل جسم من المدافعة ، والممانعة ، والميل إلى الجهات المختلفة. فإن من حمل حجرا ثقيلا ؛ فإنه بجد من نفسه من الحجر ميلا إلى جهة السفل.

وكذلك أيضا لو تجاذب اثنان حبلا ؛ فإن كل واحد يجد من نفسه ميلا من الآخر مقاوما لميله إلى خلاف جهة جذبه ، وعلى حسب التساوى فى الاعتمادين ، أو الترجيح لأحدهما ، يكون التقاوم بينهما ، حتى لا ينجذب الحبل إلى جهة أحدهما أو الغلبة لأحدهما حتى يتحقق الانجذاب فى جهته ، دون جهة الآخر.

وهذا أمر محسوس لكل عاقل ؛ لا سبيل إلى جحده ، ومناكرته ، ولو ساغ إنكاره مع كونه محسوسا ، لساغ إنكار ما يحس به من حرارة الجسم وبرودته ، وسواده وبياضه إلى غير ذلك من الأعراض المحسوسة ؛ وهو محال.

وهذا هو الحق ، وعليه الاعتماد ، وإذا تحقق معنى الاعتماد ، وثبت أنه عرض زائد على الجسم فما من جسم إلا وله ست جهات.

وعلى هذا فيمكن أن يكون له بحسب كل جهة اعتماد ؛ فتكون الاعتمادات ستا [وعند هذا اتفق أصحابنا القائلون بالاعتمادات ، أن الاعتمادات] (٤) لا تخصص

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة انظر الشامل فى أصول الدين لإمام الحرمين ص ٤٩٣ ـ ٥٠٦.

والمواقف للإيجي ص ١٢٥ وما بعدها. وشرح المواقف للجرجانى ٥ / ١٩٢ وما بعدها وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٧٨ وما بعدها.

(٢) قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص ٤٩٣ والمواقف للإيجي ص ١٢٥.

(٣) انظر الشامل للجوينى ص ٤٩٣ ، والمواقف للإيجي ، ص ١٢٥.

(٤) ساقط من أ.

٢٣٥

الأجسام بجهاتها ، وأحيازها ، بل المخصص لها بذلك ؛ إنما هو الأكوان : والاعتمادات ؛ فزائدة على الأكوان.

ويدل على ذلك أن الأكوان لا تخرج عن الحركة والسكون ، والاجتماع ، والافتراق كما سبق (١).

وليس ما نحس به من الاعتمادات شيئا من ذلك.

وعلى هذا فلا يلزم اختلاف الاعتمادات بسبب اختلاف الأحياز ؛ لعدم تأثيرها فيها.

ثم اختلفوا ، فمنهم من قال : الاعتماد فى كل جهة غير الاعتماد فى الجهة الأخرى ، وأنها متضادة ، ولا يتصور قيام اعتمادين لجسم واحد بالنسبة إلى جهتين ، حتى يكون الجوهر الواحد ثقيلا خفيفا معا.

ولا بالنسبة إلى جهة واحدة ؛ إذ هما متماثلان. والمثلان ضدان أيضا على ما سيأتى (٢).

وعلى هذا : فالاعتماد أعم من الثقل والخفة ؛ فكل ثقل وخفة ، اعتماد ؛ وليس كل اعتماد ثقلا ، وخفة.

ومنهم من / قال : الاعتماد فى كل جسم واحد ؛ وأن اختلفت أسماؤه بالثقل ، والخفة بالنسبة إلى العلو ، والسفل وغيره من الجهات.

وأن التعدد إنما هو التسمية دون المسمى ؛ فالاعتماد بالنسبة إلى جهة السفل يسمى ثقلا.

وبالنسبة إلى جهة العلو يسمى خفة.

وعلى هذا يجوز اجتماع الاعتمادات الست فى جسم واحد من غير تضاد ؛ وهو اختيار القاضى أبى بكر (٣).

__________________

(١) راجع ما سبق ل ٤٨ / أوما بعدها.

(٢) راجع ما سيأتى فى الأصل الثالث ـ الفصل السادس : فى أن كل عرضين متماثلين فهما ضدان ل ٧٩ / أوما بعدها.

(٣) انظر الشامل للجوينى ص ٤٩٣ وما بعدها.

٢٣٦

وهذا هو الأشبه بأصول أصحابنا القائلين بالاعتمادات ؛ فإنا لو قلنا بتضاد الاعتمادات مع تعددها ؛ لما اجتمعت ، وقد اجتمعت.

وبيانه من وجهين : الأول : أن من جذب حجرا ثقيلا إلى جهة العلو ؛ فإنه يحس فيه اعتمادا وميلا إلى جهة السفل. ولو دافعه غيره إلى جهة السفل ؛ فإنه يحس منه اعتمادا إلى جهة فوق ، وميلا مغالبا له إليها.

الثانى : أنه لو تجاذب اثنان حبلا كل واحد إلى جهته على التقاوم ؛ فإن كل واحد يحس فى الحبل اعتمادا فى خلاف جهته.

ولو كانت الاعتمادات متعددة ، متضادة لما كان كذلك. هذا ما ذكره الأصحاب.

وأما نحن فنقول : لو قال قائل إن الاعتمادات متعددة ، مختلفة من غير تضاد ؛ لما كان ذلك ممتنعا ؛ ولس القول بذلك مع الإحساس فى كل جهة باعتماد ما يعد من القول باتحاد الاعتماد ، وعود الاختلاف إلى التسميات مع الاحساس باعتماد فى الجهات المتقابلة ؛ كما حققناه.

وأما المعتزلة : فلهم في الاعتمادات تفاصيل ، واختلافات مبنية على أصولهم ، لا بد من إفرادها بفصل ، ومناقضتهم فيها.

٢٣٧

الفصل الثالث

فى اختلافات بين المعتزلة فى الاعتمادات ومناقضتهم فيها (١)

الاختلاف الأول : فى تضاد الاعتمادات.

وقد اتفقت المعتزلة على أن الاعتمادات منقسمة : إلى اعتمادات لازمة طبيعية وهى اعتماد الثقيل فى جهة السفل. والخفيف فى جهة العلو.

وإلى اعتمادات مجتلبة : وهى اعتماد الثقيل (١١) / / فى جهة العلو عند ما إذا رمى إلى جهة فوق ، أو سحب ، واعتماد الخفيف فى جهة السفل عند ما إذا حرك إليها ، أو إلى غير ذلك من الجهات.

وعند هذا اختلفوا :

فقال الجبائى (٢) ، ومن نصر مذهبه : الاعتمادات كلها متضادة.

وقال أبو هاشم (٢) : التضاد بين الاعتمادات اللازمة ، والمجتلبة وهل تتضاد الاعتمادات اللازمة بعضها مع بعض ، وكذلك الاعتمادات المجتلبة ؛ فقد اختلف قوله فيها.

فتارة / قال بالتضاد ، وتارة بعدمه.

واحتج الجبائى بأن قال : الحركات فى الجهتين متضادتان ؛ فكذلك الاعتماد في الجهتين.

واحتج أبو هاشم على امتناع التضاد بين الحركات [اللازمة المجتلبة بما ذكرناه من جذب الحبل إلى فوق ، وعلى امتناع التضاد بين الحركات (٣)] المجتلبة بما ذكرناه من صورة الحبل المجذوب من طرفيه ؛ وتقريره بما سبق (٤).

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة انظر :

الشامل فى أصول الدين للجوينى ص ٤٩٤ وما بعدها.

والمواقف للإيجي ص ١٢٨ وما بعدها ، وشرح المواقف للجرجانى ٥ / ٢١٧ ـ ٢٣٢.

(١١)/ / أول ل ٣٤ / أ.

(٢) عن رأى الجبائى وابنه فى تضاد الاعتمادات قارن بما ورد فى الشامل للجوينى ص ٤٩٤ وهو متقدم على الآمدي ، وبما ورد فى المواقف وشرحها ، شرح المواقف ٥ / ٢١٧ وما بعدها وهو متأخر عن الآمدي. ليتضح لنا مدى التأثر والتأثير ؛ فأبكار الأفكار ـ بحق ـ قد حوى آراء المتقدمين واعتمد عليه معظم من أتى بعده من المتأخرين.

(٣) ساقط من (أ).

(٤) راجع ما سبق ل ٦٤ / ب

٢٣٨

هذا وأما نحن فنقول : ما ذكروه فى انقسام الاعتمادات [فمبنى على فاسد أصولهم بالاقتضاء الطبيعى ؛ وقد أبطلناه ؛ بل الاعتمادات (١)] كلها أعراض متجددة بخلق الله ـ تعالى ـ.

وأما حجة الجبائى : فحاصلها يرجع إلى دعوى المماثلة بين الحركات ، والاعتمادات من غير دليل ؛ فكانت فاسدة.

كيف وأنه لو قال قائل : إن الحركة موجبة لتخصيص الجوهر بالحيز على ما سبق (٢) فلو اجتمع فى الجوهر الواحد حركتان من جهتين مختلفتين لكانت كل واحدة مخصصة له بتلك الجهة ، ويلزم منه أن يكون الجوهر الواحد فى حالة واحدة ؛ فى حيزين معا ؛ وهو محال.

وعند ذلك : فإن لم نبين أن الاعتمادات كالحركات فى هذا المعنى فلا يلزم التضاد ؛ كما لزم فى الحركات ؛ والبيان لذلك مما لا سبيل إليه. وأما ما ذكره أبو هاشم من الحجج ؛ فهى لازمة على أصول المعتزلة ، وعلى كل من قال بتضاد الاعتمادات.

الاختلاف الثانى : فى بقاء الاعتمادات (٣) :

مذهب الجبائى ، ومن تابعه : أن الاعتمادات غير باقية من غير تفصيل.

وقال أبو هاشم : ما كان منها لازما ؛ فهو باق ، وما كان منها مجتلبا ؛ فهو غير باق.

احتج الجبائى بحجتين :

الأولى : أنه قال لو بقى الاعتماد اللازم فى جهة السفل ؛ لبقى الاعتماد المجتلب فيها ؛ وذلك عند ما إذا تحامل إنسان على حجر ثقيل فى جهة السفل ؛ فأوجب فيه اعتمادا سفليا مجتلبا ؛ لأن الاعتماد المجتلب فيها مشارك للاعتماد اللازم فى أخص أوصافه ؛ وهو كونه اعتمادا فى جهة السفل ، والمشاركة في أخص وصف النفس عند أبى هاشم القائل بالتفصيل موجبه للاشتراك فيما عداه.

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) راجع ما سبق ٥٣ / ب وما بعدها.

(٣) قارن بما ورد فى الشامل لإمام الحرمين الجوينى ص ٤٩٧ وهو متقدم على الأبكار ، وبما ورد فى شرح المواقف ٥ / ٢١٩ وما بعدها وهو متأخر عنه ومتأثر به.

٢٣٩

الحجة الثانية : أنه قال : ما دل الدليل على استحالة بقائه من أجناس الأعراض : كالأصوات ، وغيرها ، لم يفرق فيه بين ما هو مقدور لنا ، أو غير مقدور لنا ؛ فكذلك فى الاعتمادات.

واحتج أبو هاشم بحجتين أيضا :

الأولى : أنه قال الدليل الدال على بقاء الألوان ، والطعوم ؛ كونها مشاهدة بالاستمرار والاتصال ؛ وهو بعينه متحقق فى الاعتمادات اللازمة.

الثانية : أنه قال : الثقيل إذا اجتلبت فيه اعتمادات علوية ؛ فإنا نعلم / رجوعه هاويا ، ولو لم تكن الاعتمادات السفلية باقية ؛ لما عاد هاويا.

وهذه الحجج وإن كانت مبنية على أصولهم الفاسدة ؛ فلا بد من التنبيه على فسادها.

أما الحجة الأولى للجبائى : فحاصلها يرجع إلى التمثيل بين الاعتماد اللازم والمجتلب من غير دليل.

قوله : إن المجتلب مشارك للازم فى أخص أوصافه ؛ ممنوع.

وما المانع من أن يقال أخص أوصاف اللازم ؛ كونه اعتمادا سفليا لازما وبتقدير المشاركة له فى أخص أوصافه ؛ لا يلزم الاشتراك فى كل صفة ، وإلا لما وقع التمايز بين متماثلين أصلا.

وبتقدير التسليم لذلك ؛ فحاصله يرجع إلى تخطئة الخصم فى أحد قوليه ؛ ضرورة تصويبه فى القول الآخر.

وعند تعذر الجمع ، فليست التخطئة فى أحد القولين ، والتصويب فى القول الآخر ؛ أولى من العكس.

وعلى هذا : فلو قال : أخطأت فى قولى باستحالة بقاء المجتلب ، لخرج الدليل المذكور عن أن يكون صحيحا.

وأما الحجة الثانية : فحاصلها أيضا راجع إلى التمثيل ، والجمع بين صورتين مما ثبت لإحداهما من غير دليل جامع ؛ فلا يقبل.

٢٤٠